الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

وقد وردت كلّ هذه المعاني في روايات منقولة عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة من أهل بيتهعليهم‌السلام.

ففي تفسير «الدرّ المنثور» عن النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي كتاب «معاني الأخبار» عن الإمام السجّاد أنهما قالا : «كتاب الله حبل ممدود من السماء».

وروى عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنه قال : «آل محمّد عليهم‌السلام هم حبل الله الذي أمرنا بالاعتصام به فقال : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).

ولكنه ليس هناك ـ في الحقيقة ـ أي اختلاف وتضارب بين تلك الأقوال والأحاديث لأن المراد من الحبل الإلهي هو كلّ وسيلة للارتباط بالله تعالى سواء كانت هذه الوسيلة هي الإسلام ، أم القرآن الكريم ، أم النبي وأهل بيته الطاهرين.

وبعبارة اخرى فإن كلّ ما قيل يدخل بأجمعه في مفهوم ما يحقق «الارتباط بالله» سبحانه ـ الواسع ـ والذي يستفاد من معنى حبل الله.

التعبير بـ «حبل الله» لماذا؟

إن النقطة الجديرة بالاهتمام في هذه الآية هو التعبير عن هذه الأمور بحبل الله ، فهو إشارة إلى حقيقة لطيفة وهامة ، وهي أن الإنسان سيبقى في حضيض الجهل ، والغفلة ، وفي قاع الغرائز الجامحة إذا لم تتوفر له شروط الهداية ، ولم يتهيأ له الهادي والمربي الصالح فلا بدّ للخروج من هذا القاع ، والارتفاع من هذا الحضيض من حبل متين يتمسك به ليخرجه من بئر المادية والجهل والغفلة ، وينقذه من أسر الطبيعة ، وهذا الحبل ليس إلّا حبل الله المتين ، وهو الارتباط بالله عن طريق الأخذ بتعاليم القرآن الكريم والقادة الهداة الحقيقيين ، التي ترتفع بالناس من حضيض الحضيض إلى أعلى الذرى في سماء التكامل المادي والمعنوي.

٦٢١

أعداء الأمس وإخوان اليوم :

ثمّ إن القرآن بعد كلّ هذا يعطي مثالا حيّا من واقع الأمة الإسلامية لأثر الارتباط بالله وهو يذكر ـ في نفس الوقت ـ بنعمة الاتحاد والأخوة ـ تلك النعمة الكبرى ـ ويدعو المسلمين إلى مراجعة الماضي المؤسف ، ومقارنة ذلك الاختلاف والتمزق بهذه الوحدة القوية الصلبة ويقول : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً).

والملفت للنظر هو تكرار كلمة نعمة في هذه الآية مرتين وهو إشعار بأهمية الوحدة هذه الموهبة الإلهية التي لا تحقّق إلّا في ظل التعاليم الإسلامية والاعتصام بحبل الله.

والنقطة الأخرى الجديرة بالاهتمام أيضا هي أن الله نسب تأليف قلوب المؤمنين إلى نفسه فقال (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) أي أن الله ألف بين قلوبكم ، وبهذا التعبير يشير القرآن الكريم إلى معجزة اجتماعية عظيمة للإسلام ، لأننا لو لاحظنا ما كان عليه العرب والمجتمع الجاهلي من عداوات واختلافات وما كان يكمن في القلوب من أحقاد طويلة عميقة وما تراكم فيها من ضغائن مستحكمة ، وكيف أن أقل شرارة صغيرة أو مسألة جزئية كانت تكفي لتفجير الحروب ، واندلاع القتال في ذلك المجتمع المشحون بالأحقاد ، وخاصة بالنظر إلى تفشي الأمية والجهل الملازم عادة للإصابة باللجاج والعناد والعصبية ، فإن أفرادا من هذا النوع من الصعب أن يتناسوا أبسط أمورهم فكيف بالأحداث الدامية الكبرى؟ ومن هنا تتجلى أهمية المعجزة الاجتماعية التي حققها الإسلام حيث وحد الصفوف ، وألف بين القلوب ، وأنسى الأحقاد ، تلك المعجزة التي أثبتت أن تحقيق مثل هذه الوحدة وتأليف تلك القلوب المتنافرة المتباغضة ، وإيجاد أمة واحدة متآخية من ذلك

٦٢٢

الشعب الممزق الجاهل ما كان ليتيسر في سنوات قليلة بالطرق والوسائل العادية.

اعتراف العلماء والمؤرخين :

وقد كانت أهمية هذا الموضوع (أي وحدة القبائل العربية المتباغضة بفضل الإسلام) إلى درجة أنها لم تخف على العلماء والمؤرخين ، حتّى غير المسلمين منهم ، فقد اتفق الجميع في الإعجاب بهذه المسألة ، وإظهارها في كتاباتهم ، وها نحن نذكر نماذج من ذلك : يقول «جان ديون پورت» العالم الإنجليزي المشهور : «لقد حول محمّد العربي البسيط ، القبائل المتفرقة والجائعة ، الفقيرة في بلدة إلى مجتمع متماسك منظم ، امتازت ، فيما بعد ـ بين جميع شعوب الأرض بصفات وأخلاق عظيمة وجديدة ، واستطاع في أقل من ثلاثين عاما وبهذا الطريق أن يتغلب على الامبراطورية الرومانية ، ويقضي على ملوك إيران ، ويستولي على سوريا وبلاد ما بين النهرين ، وتمتد فتوحاته إلى المحيط الأطلسي وشواطئ بحر الخزر وحتى نهر سيحان (في جنوب شرقي آسيا الوسطى) (١).

ويقول توماس كارليل : «لقد أخرج الله العرب بالإسلام من الظلمات إلى النور وأحيى به منها أمة خاملة لا يسمع لها صوت ولا يحس فيها حركة حتّى صار الخمول شهرة ، والغموض نباهة ، والضعة رفعة ، والضعف قوّة ، والشرارة حريقا ، وشمل نوره الأنحاء ، وعم ضوؤه الأرجاء وما هو إلّا قرن بعد إعلان هذا الدين حتّى أصبح له قدم في الهند ، وأخرى في الأندلس ، وعم نوره ونبله وهداه نصف المعمورة» (٢).

__________________

(١) من كتاب عذر تقصير به پيشگاه محمّد وقرآن (بالفارسية) ص ٧٧.

(٢) الإسلام والعلم الحديث ص ٣٣ ، والمخططات الاستعمارية لمكافحة الإسلام للصواف ص ٣٨.

٦٢٣

ويقول الدكتور «غوستاف لوبون» : معترفا بهذه الحقيقة : «... وإلى زمان وقوع هذه الحادثة المدهشة (يعني الإسلام) الذي أبرز العربي فجأة في لباس الفاتحين ، وصانعي الفكر والثقافة لم يكن يعد أن جزء من أرض الحجاز من التاريخ الحضاري ولا أنه كان يتراءى فيها للناظر أي شيء أو علامة للعلم والمعرفة ، أو الدين» (١).

ويكتب «نهرو» العالم والسياسي الهندي الراحل في هذا الصدد قائلا : «إن قصة انتشار العرب في آسيا وأوروبا وأفريقيا والحضارة الراقية والمدنية الزاهرة التي قدموها للعالم أعجوبة من أعجوبات التاريخ ، ولقد كان محمّد واثقا بنفسه ورسالته ، وقد هيأ بهذه الثقة وهذا الإيمان لأمته أسباب القوّة والعزّة والمنعة» (٢).

لقد كان وضع العرب سيئا إلى أبعد الحدود حتّى أن القرآن يصف تلك الحالة بأنهم كانوا على حافة الانهيار والسقوط إذ يقول : (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها).

وتعني «شفا» في اللغة حافة الهاوية وطرف الحفرة أو الخندق وما شابه ذلك ، ومن ذلك «الشفة» ، كما وتستعمل لفظة «شفا» هذه في البرء من المرض ، لأن الإنسان بسببه يكون على حافة السلامة والعافية.

ويريد سبحانه من قوله هذا : أنكم كنتم على حافة السقوط والانهيار في الهاوية ، وأن سقوطكم كان محتملا في كلّ آن ومتوقعا في كلّ لحظة ، لتصبحوا بعد السقوط رمادا ، وخبرا بعد أثر ، ولكن الله نجاكم من ذلك السقوط المرتقب ، وأبدلكم بعد الخوف أمنا ، وبدل الانهيار اعتلاء ومجدا ، وهداكم إلى حيث الأمن

__________________

(١) حضارة العرب لغوستاف لوبون.

(٢) لمحات من تاريخ العالم ص ٢٣ ـ ٢٤.

٦٢٤

والأمان في رحاب الأخوة والمحبة.

والنار في هذه الآية : هل هي نار الجحيم ، أو نيران هذه الدنيا؟ فيها خلاف بين المفسّرين ، ولكن النظر في مجموع الآية يهدي إلى أن النار كناية عن نيران الحروب والمنازعات التي كانت تتأجج كلّ لحظة بين العرب في العهد الجاهلي بحجج واهية ، ولأسباب طفيفة.

فإن القرآن يصور بهذه العبارة الوضع الجاهلي المتأزم ويصور أخطار الحروب المدمرة التي كانت تتهدد حياة الناس في كلّ لحظة بالفناء والدمار والانهيار ، وما من به الله سبحانه عليهم من النجاة والخلاص من ذلك الوضع في ظل الإسلام وبفضل تعاليمه ، والذي بسببه تخلّص المسلمون أيضا من نار جهنم ، وعذابه الأليم.

ولمزيد من التأكيد على ضرورة الاعتصام بحبل الله مع الإعتبار بالماضي والحاضر ، يختم سبحانه الآية بقوله (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

إذن فالهدف الأساسي هو خلاصكم ونجاتكم وهدايتكم إلى سبل الأمن والسلام ، وحيث إن في ذلك مصلحتكم فإن عليكم أن تعيروا ما بيناه لكم مزيدا من الاهتمام ، ومزيدا من العناية.

دور الاتحاد في بقاء الأمم

رغم كلّ ما قيل عن أهمية الاتحاد وآثاره العظيمة في التقدّم الاجتماعي عند الشعوب والأمم فإن من الممكن القول والادعاء بأن الآثار الواقعية لهذه المسألة لا تزال مجهولة ، وغير معروفة كما ينبغي.

إن العالم يشهد اليوم سدودا كثيرة وكبيرة أقيمت في مختلف المناطق ، وقد أصبحت منشأ لإنتاج أضخم القوى الصناعية ، فقد استطاعت هذه السدود بفضل ما

٦٢٥

أنتجت من طاقات وحفظت من مياه كانت تذهب قبل ذلك هدرا ، أن تغطي مساحات كبيرة شاسعة بالري والإضاءة.

فلو أننا فكرنا قليلا لوجدنا أن هذه القوّة العظيمة لم تنشأ إلّا من تجمع القوى الصغيرة، الجزئية ـ أي تجمع قطرات المطر ، وحبات الغيث الحقيرة ـ ومن هنا تدرك أهمية اجتماع القوى البشرية وتلاحم الطاقات الإنسانية ، وتجمعها ، وما يرافقها من جهود جماعية.

ولقد عبرت النصوص والأحاديث المأثورة عن النبي الكريم وأهل بيته الطاهرين ـ عليهم صلوات الله أجمعين ـ عن أهمية الاتحاد والاجتماع بعبارات متنوعة مختلفة.

فتارة يقول النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» وشبك بين أصابعه (١).

واخرى يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «المؤمنون كالنفس الواحدة» (٢).

وثالثة يقول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى بعضه تداعى سائره بالسهر والحمى» (٣).

* * *

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ج ٢ ص ٤٥٠ نقلا عن البخاري كتاب المظالم باب ٥.

(٢) المصدر السابق.

(٣) المصدر السابق.

٦٢٦

الآيتان

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥))

التّفسير

الدعوة إلى الحقّ ومكافحة الفساد :

بعد الآيات السابقة التي حثت على الأخوة والاتحاد جاءت الإشارة ـ في الآية الأولى من الآيتين الحاضرتين ـ إلى مسألة «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» اللذين هما ـ في الحقيقة ـ بمثابة غطاء وقائي اجتماعي لحماية الجماعة وصيانتها ، إذ تقول (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

لأن فقدان «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» يفسح المجال للعوامل المعادية للوحدة الاجتماعية بأن تنخرها من الداخل ، وتأتي على كلّ جذورها

٦٢٧

كما تفعل الأرضة ، وأن تمزق وحدة الأمة وتفرق جمعها ، ولهذا فلا بدّ من مراقبة مستمرة ورعاية دائمة لهذه الوحدة ، ولا يتم ذلك إلّا بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر.

وهذه الآية تتضمن دستورا أكيدا للأمة الإسلامية بأن تقوم بهاتين الفريضتين دائما ، وأن تكون أمة آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر أبدا لأن فلاحها رهن بذلك : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

يبقى أن نعرف أن «الأمة» مأخوذة لغة من «الأم» وهو كلّ ما انضم إليه الأشياء الأخرى ، أو كلّ شيء ضم إليه سائر ما يليه ، والأمة كلّ جماعة يجمعهم أمر جامع إما دين واحد ، أو زمان واحد ، أو مكان واحد لهذا لا تطلق لفظة الأمة على الأفراد المتفرقين ، والأشخاص الذين لا يربطهم رباط واحد.

سؤال

وهنا يطرح سؤال وهو : أن الظاهر من جملة «منكم أمة» هو جماعة من المسلمين لا كافة المسلمين ، وبهذا لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجبا عامّا ، بل وظيفة دينية تختص بفريق من المسلمين ، وإن كان انتخاب هذا الفريق الخاصّ من مسئولية المسلمين جميعا.

وبعبارة أخرى أن جملة «منكم أمة» ظاهرة في أن هذين الأمرين ، واجبان كفائيان لا عينيان.

في حين أن آيات أخرى تفيد بأنهما عامان غير خاصين بجماعة دون اخرى ، كما في آية لا حقة وهي قوله سبحانه (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ).

أو ما جاء في سورة «العصر» : (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) فإن

٦٢٨

الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، والتواصي بالحقّ ، والتواصي بالصبر في هذه الآيات وما شابهها عامة غير خاصّة.

والجواب :

إن الإمعان في مجموعة هذه الآيات يوضح لنا الجواب ، فإنه يستفاد منها أن «الأمر بالمعروف» و «النهي عن المنكر» مرحلتين : «المرحلة الفردية» التي يجب على كلّ واحد القيام بها بمفرده ، إذ يجب عليه أن يراقب تصرفات الآخرين ، و «المرحلة الجماعية» وهي التي تعتبر من مسئولية الأمة بما هي أمة ، حيث يجب عليها أن تقوم بمعالجة كلّ الاعوجاجات والانحرافات الاجتماعية ، وتضع حدّا لها ، بالتعاون بين أفرادها وأعضائها كافة.

ويعتبر القسم الأول من وظيفة الأفراد ، فردا فردا ، وحيث إن إمكانات الفرد وقدراته محدودة ، ولذلك فإن إطار هذا القسم يتحدد بمقدار هذه الإمكانات.

وأمّا القسم الثاني فإنه يعتبر واجبا كفائيا ، وحيث إنه من واجب الأمة بما هي أمة فإن حدوده يتسع ولهذا يكون من واجبات الحكومة الإسلامية ، وشؤونها بطبيعة الحال.

إن وجود هذين النوعين من مكافحة الفساد ، والدعوة إلى الحقّ يعتبران ـ بحقّ ـ من أهم التعاليم التي تتوج القوانين الإسلامية ، كما ويكشف عن سياسة تقسيم الواجبات والوظائف وتوزيع الأدوار في الدولة الإسلامية ، وعن لزوم تأسيس «فريق المراقبة» للنظارة على الأوضاع الاجتماعية والمؤسسات المختلفة في النظام الإسلامي.

وقد جرت العادة فيما سبق بوجود أجهزة خاصّة تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المستوى الاجتماعي في البلاد الإسلامية ، وقد كانت تسمى هذه الأجهزة تارة باسم «دائرة الحسبة» ويسمى موظفوها بالمحتسبين ، وتارة

٦٢٩

باسم الآمرين بالمعروف ،. وقد كانت هذه الأجهزة بسبب موظفيها تقوم بمكافحة كلّ فساد في المجتمع ، أو كل فساد وظلم في أجهزة الدولة ، إلى جانب ما تقوم به من تشجيع الناس على الخير والحثّ على المعروف.

ومع وجود مثل هذه الجماعة بما لها من القوة الواسعة لا يوجد أي تناف بين شمول فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها وعلى الفرد بما له من القدرة المحدودة. إذ يكون الأمر والنهي الواسعان من واجب الدولة الإسلامية لا الفرد.

وحيث إن هذا البحث يعتبر من أهم الأبحاث القرآنية وقد أشارت إليه آيات كثيرة في الكتاب العزيز لذلك يلزم أن نذكر أمورا في هذا المجال :

١ ـ ما هو «المعروف» وما هو «المنكر»؟

«المعروف» هو كلّ ما يعرف وهو مشتق من عرف ، و «المنكر» كلّ ما ينكر وهو مشتق من الإنكار ، وبهذا النحو وصفت الأعمال الصالحة بأنها امور معروفة ، والأعمال السيّئة والقبيحة امور منكرة ، لأن الفطرة الإنسانية الطاهرة تعرف القسم الأول وتنكر القسم الثاني.

٢ ـ هل الأمر بالمعروف واجب عقلي أو تعبدي؟

يعتقد جماعة من علماء المسلمين أن وجوب هاتين الفريضتين لم يثبت إلّا بالدليل النقلي ، وأن العقل لا يحكم بوجوب النهي عن منكر لا يتعدى ضرره إلى غير فاعله.

ولكن نظرا إلى العلاقات الاجتماعية ، وما للمنكر من الآثار السيئة التي لا تنحصر في نقطة وقوعها ، بل تتعداها إلى العلاقات الاجتماعية إذ يمكن سراية شرارته إلى كلّ نواحي المجتمع تتضح الأهمية العقلية لهاتين الوظيفتين.

وبعبارة أخرى : ليس هناك في المجتمع ما يكون «ضررا فرديا» ينحصر

٦٣٠

نطاقه على الفرد خاصة ، بل كلّ ضرر فردي يمكن أن ينقلب إلى «ضرر اجتماعي» ولهذا يؤكد العقل والمنطق السليم لأفراد المجتمع بأن لا يألوا جهدا في الإبقاء على سلامة البيئة الاجتماعية وطهارتها من كلّ دنس. وقد أشير إلى هذا في بعض الأحاديث.

فعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «مثل القائم على حدود الله والمرهن فيها كمثل قوم استهمّوا على سفينة في البحر فأصاب بعضهم أعلاها وأصاب بعضهم أسفلها ... فقال الذين في أسفلها : إننا ننقبها من أسفلها فتستقى ، فإن أخذوا على أيدهم فمنعوهم نجوا جميعا ، وإن تركوهم غرقوا جميعا» (١).

ولقد جسد النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بهذا المثال الرائع ـ موضوعية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومنطقية هاتين الفريضتين بغض النظر عن أمر الشارع بهما ، وبذلك قرر حقّ الفرد في النظارة على المجتمع على أساس أنه حقّ طبيعي ناشئ من اتحاد المصائر في المجتمع ، وارتباط بعضها ببعض.

٣ ـ أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

هناك علاوة على الآيات القرآنية الكثيرة ، أحاديث مستفيضة في المصادر الإسلامية المعتبرة تتحدث عن أهمية هاتين الفريضتين الاجتماعيتين الكبيرتين ، قد أشير فيها إلى العواقب الخطيرة المترتبة على تجاهل وترك هاتين الوظيفتين في المجتمع ، نذكر من باب المثال طائفة منها :

١ ـ عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : «إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة عظيمة بها تقام الفرائض ، وتأمن المذاهب ، وتحل المكاسب ، وترد المظالم ، وتعمر الأرض وينتضف من الأعداء ، ويستقيم الأمر» (٢).

__________________

(١) راجع سنن الترمذي : ج ٤ كتاب الفتن الباب ١٢ ومسند أحمد : ج ٤ ص ٢٦٨.

(٢) وسائل الشيعة : ج ١١ كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص ٣٩٥.

٦٣١

٢ ـ قال النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر فهو خليفة الله في أرضه ، وخليفة رسول الله وخليفة كتابه» (١).

٣ ـ جاء رجل إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو على المنبر فقال : يا رسول الله من خير الناس؟

قال : «آمرهم بالمعروف ، وأنهاهم عن المنكر وأتقاهم لله وأرضاهم» (٢).

٤ ـ في حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لتأمرون بالمعروف ، وتنهون عن المنكر ، أو ليسلطن الله عليكم سلطانا ظالما لا يجل كبيركم ولا يرحم صغيركم ، وتدعو خياركم فلا يستجاب لهم ، وتستنصرون فلا تنصرون ، وتستغيثون فلا تغاثون ، وتستغفرون فلا تغفرون»(٣).

هذه الأمور كلّها هي الآثار الطبيعية لموقف المجتمع الذي يعطل هاتين الوظيفتين الاجتماعيتين العظيمتين ، لأن ترك النظارة العامّة على ما يجري في المجتمع يلازم خروج الأمور من قبضة الصالحين ، والإفساح للأشرار بأن يتسلموا أزمة الأمور ومقدرات المجتمع ويحكموا فيه بأهوائهم ، فيقع ما يقع من المآسي وتصاب الجماعة بما ذكره الحديث المتقدم من التبعات والمفاسد.

وما ذكر في الحديث من عدم قبول توبتهم أيضا لأنه لا معنى لقبول التوبة مع استمرارهم على السكوت اللهم إلّا أن يعيدوا النظر في سلوكهم.

٥ ـ عن علي عليه‌السلام : «وما أعمال البر كلّها والجهاد في سبيل الله عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلّا كنفثة في بحر لجئ» (٤).

كل هذه التأكيدات هي لكون هاتين الوظيفتين العظيمتين خير ضمان لإجراء وتنفيذ بقية الوظائف الفردية والاجتماعية ، ولأنهما بمثابة الروح لها ، فبتركهما

__________________

(١ ، ٢ ، ٣) ـ مجمع البيان في تفسير الآية.

(٤) نهج البلاغة قصار الكلم ، الكلمة رقم ٣٧٤.

٦٣٢

تندرس كلّ الأحكام والقيم الأخلاقية وتفقد قيمتها وتختفي من حياة المجتمع.

٤ ـ هل الأمر بالمعروف يوجب سلب الحريات؟

في الإجابة على هذا السؤال لا بدّ من القول بأن النمط الجماعي للحياة وإن كان ـ بلا ريب ـ ينطوي على فوائد كثيرة لأفراد البشر ، بل إن هذه المزايا هي التي دفعت الإنسان ليختار الحياة الاجتماعية ، إلّا أنه ينطوي في مقابل ذلك على بعض التقييدات لحريات الأفراد ، ولكن بما أن ضرر هذه التقييدات الجزئية ضئيل تجاه الفوائد الجمة التي تنطوي عليها الحياة الاجتماعية اختار الإنسان النمط الاجتماعي منذ الأيّام الأولى من حياته على هذا الكوكب متحملا كلّ التقييدات.

وحيث إن مصائر الأفراد ترتبط ببعضها في الحياة الاجتماعية ، ويؤثر بعضها في بعض بمعنى أن الجميع في الحياة الاجتماعية يشتركون في مصير واحد ، لذلك كان حقّ النظارة على تصرفات الآخرين وسلوكهم حقّا طبيعيا تقتضيه الحياة الجماعية ، كما جاء ذلك في الحديث الرائع الذي نقلناه آنفا عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في هذا المجال.

وعلى هذا فإن الأمر بالمعروف لا ينافي الحريات الفردية فحسب ، بل هو وظيفة كلّ فرد تجاه الفرد الآخر ، لأن من شأنه الإبقاء على سلامة الآخرين واستقامة أمورهم ، ومن ثمّ سلامة الفرد نفسه واستقامة أمره.

٥ ـ ألا يلازم الأمر بالمعروف الفوضى الاجتماعية؟

هناك سؤال آخر يطرح نفسه في هذا المجال وهو إذا سمحنا للناس بأن يتدخلوا في شؤون الآخرين وتكون لهم النظارة على أعمالهم وتصرفاتهم ، فإن ذلك يوجب وقوع الفوضى في المجتمع ، إذ تحصل بسببه المصادمات بين الأفراد ، ولأنه يخالف مبدأ توزيع الواجبات والمسؤوليات في الحياة الاجتماعية فما هو الجواب؟

٦٣٣

في الإجابة على هذا السؤال لا بدّ من القول : بأن الأبحاث السابقة قد أوضحت أن لوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مرحلتين : المرحلة الأولى : وهي المرحلة العمومية ، وهي ذات إطار محدود لا يتجاوز التذكير ، والعظة ، والاعتراض ، والنقد وما شابه ذلك ، ولا شكّ أن المجتمع إذا أراد أن يكون حيّا لا بدّ أن يشعر أفراده جميعا بمثل هذه المسؤولية تجاه المفاسد ، وبمثل هذا الشعور تجاه المنكرات.

وأمّا المرحلة الثانية التي تختص بجماعة معيّنة وخاصة ، وتكون من شؤون الحكومة الإسلامية فهي أوسع إطارا ، وأكبر مسئولية ، وأكثر قوة ، بمعنى أن الأمر إذا تطلب استخدام القوة ، وحتى إجراء القصاص وإجراء الحدود كان من صلاحيات هذه الجماعة أن تقوم به تحت نظر الحاكم الشرعي ، ومسئولي الحكومة الإسلامية ، وهذا القسم هو الذي يقع بسببه الهرج والمرج لو أنيط إلى كلّ من هب ودب ، دون القسم الأول الذي لا يتجاوز النصح والتذكير ، والاعتراض والإعراض.

إذن فبملاحظة المراحل المختلفة في هذه الوظيفة الدينية ، وما لكلّ واحدة منها من الحدود والأبعاد ، فإن القيام بهذه الوظيفة لا يستوجب الهرج والمرج في المجتمع ، بل يخرج المجتمع من صورة الجماعة الميتة الخامدة ، إلى صورة المجتمع الحي النابض ، والجماعة المتحركة الصاعدة.

٦ ـ الأمر بالمعروف غير العنف

في ختام هذا البحث لا بدّ من التذكير بهذه الحقيقة وهي أنّه لا بدّ في القيام بهذه الفريضة الإلهية السامية والدعوة إلى الحقّ ومكافحة الفساد من حسن النية ، وسلامة الهدف ، والشعور بالمسؤولية ، كما يجب أن يتم بالطرق السلمية ، ومن هنا لا يمكن اعتباره عملا خشنا ملازما للعنف إلّا في بعض الموارد الضرورية.

٦٣٤

بيد أن البعض ـ مع الأسف ـ يستخدم العنف والخشونة لدى القيام بهذا الواجب المقدس في غير الموارد الضرورية التي تستدعي مثل ذلك ، وربما توسل بالسب والشتم ، ولهذا نرى أن مثل هذه الممارسات لا تترك أثرا ايجابيا ، بل تعطي في الأغلب نتائجها العكسية ، وثمارها السلبية ، في حين ترينا سيرة الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الهداة من أهل بيته عليهم‌السلام غير ذلك ، فهم كانوا يستعملون ـ في هذه الوظيفة المقدسة ـ منتهى اللطف والمحبة ، وغاية الأدب والاتزان ، ولهذا كانوا يؤثرون غاية التأثير ، ويتركون أفضل النتائج حتّى أنهم كانوا يطوعون بذلك النهج أعتى الأفراد ، وأكثرهم عنادا وجفافا ـ.

جاء في تفسير «المنار» في معرض الحديث عن هذه الآية : أن غلاما شابا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : أتأذن لي في الزنا؟

فصاح الناس به فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قربوه ادن ، فدنا حتّى جلس بين يديه فقال النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أتحبّه لأمّك؟

قال لا ، جعلني الله فداءك.

قال : كذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ، أتحبه لابنتك؟

قال : لا ، جعلني الله فداءك.

قال : كذلك لا يحبونه لبناتهم ، أتحبه لأختك؟

قال : لا ، جعلني الله فداءك.

فوضع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده ـ على صدره وقال : «اللهم طهر قلبه ، واغفر ذنبه،وحصن فرجه».

فلم يكن شيء أبغض إليه من الزنا (١).

__________________

(١) المنار : ج ٤ ص ٣٣ ـ ٣٤.

٦٣٥

وكان هذا هو الأثر الطبيعي للأسلوب اللين في النهي عن المنكر.

* * *

الفرقة بعد الاتحاد من شيم النصارى واليهود :

تقتضي أهمية الوحدة أن يركز القرآن الكريم ويؤكد عليها مرّة بعد أخرى ، ولذا يذكر بأهمية الاتحاد ، ويحذر من تبعات الفرقة والنفاق وآثارها المشؤومة ، بقوله (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ).

إن هذه الآية تحذر المسلمين من أن يتبعوا ـ كالأقوام السابقة مثل اليهود والنصارى ـ سبيل الفرقة والاختلاف بعد أن جاءتهم البينات وتوحدت صفوفهم عليها ، فيكسبوا بذلك العذاب الأليم.

إنه في الحقيقة يدعو المسلمين إلى أن يعتبروا بالماضي ، ويتأملوا في حياة السابقين ، وما آلوا إليه من المصير المؤلم ، بسبب الاختلاف والتشتت.

إنها لفتة تاريخية من شأنها أن توقفنا على ما ينتظر كلّ أمة من سوء العواقب إذا هي سلكت سبيل النفاق ، وتفرقت بعد ما توحدت ، وتشتّتت بعد ما تجمعت.

إن إصرار القرآن الكريم في هذه الآيات على اجتناب الفرقة والنفاق إنما هو تلميح إلى أن هذا الأمر سيقع في المجتمع الإسلامي مستقبلا ، لأن القرآن لم يحذّر من شيء أو يصر على شيء إلّا وكان ذلك إشارة على وقوعه في المستقبل.

ولقد تنبأ الرسول الأكرم بهذه الحقيقة وأخبر المسلمين عنها ، بصراحة إذ قال : «إن أمة موسى افترقت بعده على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت أمة عيسى بعده على اثنتين وسبعين فرقة ، وأن أمتي ستفترق بعدي على ثلاث وسبعين فرقة» (١).

__________________

(١) نقلت هذه الرواية بطرق مختلفة عن الشيعة والسنة وأما كتب الشيعة التي نقلت هذه الرواية فهي :

٦٣٦

والظاهر أن عدد (٧٠) إشارة إلى الكثرة فهو عدد تكثيري ، لا عدد إحصائي، فالرواية تعني ان فرقة واحدة فقط بين اليهود والنصارى هي المحقّة الناجية ، وفرقا كثيرة في النار ، وهكذا الحال في المسلمين وربّما يزداد عدد اختلافات المسلمين على ذلك.

ولذا أشار القرآن الكريم بما أخبر الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا إلى ما يقع بين المسلمين بعد وفاته من الاختلاف والفرقة ، والخروج عن الطريق المستقيم الذي لا يكون إلّا طريقا واحدا ، والانحراف عن جادة الحقّ في العقائد الدينية ، بل ويذهب المسلمون ـ في هذا الاختلاف ـ إلى حد تكفير بعضهم بعضا ، وشهر السيوف ، والتلاعن والتشاتم ، وهدر النفوس ، واستحلال الدماء والأموال ، بل ويبلغ الاختلاف بينهم أن يلجأ بعض المسلمين إلى الكفّار ، وإلى مقاتلة الأخ أخاه. وبهذا تتبدل الوحدة التي كانت من أسباب تفوق المسلمين السابقين ونجاحهم إلى النفاق والاختلاف والتشرذم والتمزق ، وتنقل حياتهم السعيدة إلى حياة شقية ، وتحلّ الذلة محل العزّة ، والضعف مكان القوة وتتبدد العظمة السامية ، وينتهي المجد العظيم.

أجل إن الذين يسلكون سبيل الاختلاف بعد الوحدة ، والفرقة بعد الاتحاد سيكون لهم عذاب أليم.

(أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ).

إنّه ليس من شكّ في أن نتيجة الاختلاف والفرقة لن تكون سوى الذلة والانكسار، فذلك هو سر سقوط الأمم وذلتها ، إنه الاختلاف والتشتت ، والنفاق والتدابر.

__________________

الخصال ، ومعاني الأخبار ، والإحتجاج ، وأمالي الصدوق ، وأصل سليم بن قيس ، وتفسير العياشي ، وأما الكتب السنية فهي الدرّ المنثور ، وجامع الأصول ، والملل والنحل.

٦٣٧

إن المجتمع الذي تحطمت وحدته بسبب الفرقة ، وتفتت تماسكه بسبب الاختلاف ، سيتعرض ـ لا محالة ـ لغزو الطامعين ، وستكون حياته عرضة لأطماع المستعمرين ، بل ومسرحا لتجاوزاتهم ، وما أشد هذا العذاب ، وما أقسى هذه العاقبة؟ أجل تلك هي عاقبة النفاق والاختلاف في الدنيا.

وأما عذاب الآخرة فهو ـ كما وصفه الله تعالى في القرآن الكريم ـ أشد وأخرى. فذلك هو ما ينتظر المفرّقين المختلفين ، وذلك هو ما يجب أن يتوقعه كلّ من حبذ النفاق على الاتفاق ، والتدابر على التآلف ، والتشتت على الاجتماع ... خزي في الدنيا، وعذاب أخزى في الآخرة.

* * *

٦٣٨

الآيتان

(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧))

التّفسير

الوجوه المبيضة والوجوه المسودة :

في تعقيب التحذيرات القوية التي تضمنتها الآيات السابقة بشأن التفرقة والنفاق والعودة إلى عادات الكفر ونعرات الجاهلية ، جاءت الآيتان الحاضرتان تشيران إلى النتائج النهائية لهذا الارتداد المشؤوم إلى خلق الجاهلية وعاداتها ، وتصرحان بأن الكفر والنفاق والتنازع والعودة إلى الجاهلية توجب سواد الوجه ، فيما يوجب الثبات على طريق الإيمان والاتحاد ، والمحبة والتآلف ، بياض الوجوه ، فتقول (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) ففي يوم القيامة تجد بعض الناس وجوههم مظلمة سوداء ، والبعض الآخر وجوههم نقية بيضاء ونورانية (فَأَمَّا

٦٣٩

الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) فلما ذا اخترتم طريق النفاق والفرقة والجاهلية على الاتحاد في ظلّ الإسلام ، فذوقوا جزاءكم العادل، وأما المؤمنون فغارقون في رحمة الله (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

إن هاتين الآيتين تصرحان بأن المنافقين والمتفرقين بعد ما جاءتهم البينات هم المسودة وجوههم الذائقون للعذاب الأليم بسبب كفرهم ، وأما المؤمنون المتآلفون المتحابون المتحدون فهم في رحمة الله ورضوانه مبيضة وجوههم.

ولقد قلنا مرارا أن ما يلاقيه الإنسان من الأوضاع والحالات ، ومن الثواب والعقاب في الحياة الآخرة ليس في الحقيقة سوى أفكاره وأعماله وتصرفاته المجسمة التي قام بها في هذه الحياة الدنيا ، فهما وجهان لعملة واحدة ، إنه تجسم صادق ودقيق لما كان ينويه أو يعمله هنا ليس إلّا.

وبعبارة أخرى : أن لكل ما يفعله الإنسان في هذه الحياة آثارا واسعة تبقى في روحه ، وقد لا تدرك في هذه الحياة ، ولكنها تتجلّى ـ بعد سلسلة من التحولات ـ في الآخرة ، فتظهر بحقائقها الواقعية ، وحيث إن جانب الروح يكون أقوى في الآخرة ، إذ تشتد حاكميتها وسيادتها على الجانب الآخر من الكيان البشري من هنا يكون لتلك الآثار انعكاساتها حتّى على الجسد ، فتبدو الآثار المعنوية للأعمال محسوسة كما يكون الجسد محسوسا لكلّ أحد.

فكما ان الإيمان والاتحاد يوجبان الرفعة وبياض الوجوه في هذا العالم ، ويوجب العكس العكس ، أي أن الكفر والاختلاف يوجبان للأمة الكافرة المتفرقة سواد الوجه والذلة ، فإن هذا البياض والسواد (المجازيين) في الدنيا يظهران في الآخرة بصورة حقيقية حيث يحشر المؤمنون المتحدون المتآلفون بيض الوجوه ،

٦٤٠