الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

بالبركات ، غنية بالخيرات ، وضع ليكون مجتمع الناس ، وملتقاهم.

إن المصادر الإسلامية والتاريخية تحدثنا بأن الكعبة تأسست على يدي «آدم» عليه‌السلام ثمّ تهدمت بسبب الطوفان الذي وقع في عهد النبي «نوح» ثمّ جدد بناءها النبي العظيم «إبراهيم الخليل» عليه‌السلام فهي إذن عريقة عراقة التاريخ البشري (١).

ولا شكّ أن إختيار أعرق بيت أسس للتوحيد من أجل أن يكون قبلة للمسلمين ، أولى وأفضل من إختيار أية نقطة أخرى وأي مكان آخر.

هذا وممّا يجدر الانتباه إليه هو أن «الكعبة» والتي تسمى في تسمية أخرى بـ «بيت الله» وصفت في هذه الآية بأنها «بيت للناس» ، وهذا التعبير يكشف عن حقيقة هامة وهي : أن كلّ ما يكون باسم الله ويكون له ، يجب أن يكون في خدمة الناس من عباده ، وأن كلّ ما يكون لخدمة الناس وخير العباد فهو لله سبحانه.

كما تتضح ـ ضمن ما نستفيده من هذه الآية ـ قيمة الأسبقية في مجال العلاقات بين الخلق والخالق ، ولذلك نجد القرآن يشير ـ في هذه الآية ـ إلى أسبقية الكعبة على جميع الأماكن الأخرى ، وإلى تاريخها الطويل الضارب في أعماق الزمن ، معتبرا ذلك أول وأهم ما تتسم به الكعبة من الفضائل والمزايا ، ومن هنا يتضح أيضا علّة ما للحجر الأسود من الحرمة ، ويتبين جواب ما يحوم حوله من سؤال مفاده : ما قيمة قطعة من الحجر ولماذا يندفع ويتدافع لاستلامه ملايين الناس كلّ عام ، ويتسابقون ـ في عناء بالغ ـ إليه حتّى أن استلامه يعد من المستحبات المؤكّدة في مناسك الحجّ وبرامجه؟

إن تاريخ هذا الحجر يكشف عن ميزه خاصة في هذا الحجر لا نجدها في أي

__________________

(١) للوقوف على معلومات أكثر حول مصادر ونصوص هذا الموضوع من الآيات والأحاديث راجع الجزء الأول من هذا التفسير في ذيل الآية ١٢٧ من سورة البقرة.

٦٠١

حجر آخر غيره في هذا العالم ، وهي أن هذا الحجر أسبق شيء استخدم كمادة إنشائية في أقدم بيت شيد لعبادة الله ، وتقديسه ، وتوحيده ، فإننا نعلم بأن جميع المعابد حتّى الكعبة قد فقدت موادها الإنشائية في كلّ عملية انهدام وتجديد ، عدا هذه القطعة من الصخر التي بقيت منذ آلاف السنين ، واستخدمت في بناء هذه البنية المعظمة على طول التاريخ منذ تأسيسها وإلى الآن. ولا شكّ أن لهذه الاستمرارية ، وتلك الأسبقية في طريق الله وفي خدمة الناس قيمة وأهمية من شأنها أن تكسب الأشياء والأشخاص ميزة لا يمكن تجاهلها.

كلّ هذا مضافا إلى أن هذه الصخرة ليست إلّا تاريخ صامت لأجيال كثيرة من المؤمنين في الأعصر المختلفة ، فهي تحيي ذكرى استلام الأنبياء العظام وعباد الله البررة لها ، وعبادتهم ، وتضرعهم إلى الله في جوارها عبر آلاف السنين ومئات من القرون والأحقاب.

على أن ثمّة أمرا آخر ينبغي الانتباه إليه وهو : أن الآية المبحوثة هنا تصرح بأن الكعبة هي أول بيت وضع للناس ، ومن المعلوم أنه وضع لغرض العبادة فهو أول بيت وضع للعبادة إذن ، وهو أمر لا يمنع من أن يكون قد شيدت في الأرض قبل الكعبة بيوت للسكن.

وهذا التعبير رد واضح على كلّ أولئك (١) الذين يدعون أن النبي إبراهيم عليه‌السلام هو أول من أسس الكعبة المشرفة ، ويعتبرون بناءها على يدي آدم عليه‌السلام من قبيل الأساطير ، في حين أن من المسلم وجود بيوت للعبادة في العالم قبل إبراهيم عليه‌السلام كان يتعبد فيها من سبقه من الأنبياء مثل نوح عليه‌السلام فكيف تكون الكعبة التي هي أول بيت وضع للعبادة في العالم قد أسست على يدي إبراهيم عليه‌السلام؟

__________________

(١) أمثال رشيد رضا مؤالف المنار.

٦٠٢

ما هو المراد من «بكّة»؟

«بكة» مأخوذة أصلا من «البك» وهو الزحم ، وبكه أي زحمه ، وتباك الناس أي ازدحموا ، وإنما يقال للكعبة أو الأرض التي عليها تلك البنية المعظمة بكة لازدحام الناس هناك ، ولا يستبعد أن هذه التسمية أطلقت عليها بعد أن اتخذت صفة المعبد رسميا لا قبل ذلك.

وفي رواية عن أبي عبد الله (الصادق) عليه‌السلام قال : «موضع البيت بكة ، والقرية مكة».

وقد احتمل بعض المفسّرين أيضا أن تكون «بكة» هي «مكة» أبدل ميمها باء ، نظير «لازب» و «لازم» اللتين تعنيان شيئا واحدا في لغة العرب.

وقد ذكر في علة تسمية «الكعبة» وموضعها ببكة وجه آخر أيضا هو أنها سميت «بكة» لأنها تبك أعناق الجبابرة ، وتحطم غرورهم ونخوتهم ، لأن البك هو دق العنق ، فعند الكعبة تتساقط وتزول كلّ الفوارق المصطنعة ، ويعود المتكبرون والمغرورون كبقية الناس، عليهم أن يخضعوا لله ، ويتضرعوا إليه شأنهم شأن الآخرين ، وبهذا يتحطم غرورهم.

بحث تاريخي

توسيع المسجد الحرام :

منذ العهد النبوي أخذ عدد المسلمين في الإزدياد ، وعلى أثر ذلك كان يتزايد عدد الحجاج والوافدين إلى البيت الحرام ، ولهذا كان المسجد الحرام يتعرض للتوسعة المستمرة على أيدي الخلفاء في العصور المختلفة ، فقد جاء في تفسير العيّاشي أن أبا جعفر (المنصور) طلب أن يشتري من أهل مكة بيوتهم ليزيدها في

٦٠٣

المسجد ، فأبوا فأرغبهم ، فامتنعوا فضاق بذلك ، فأتى أبا عبد الله (الصادق) عليه‌السلام فقال له : إني سألت هؤلاء شيئا من منازلهم ، وأفنيتهم لنزيد في المسجد ، وقد منعوني ذلك فقد غمني غما شديدا ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : أيغمك ذلك وحجتك عليهم فيه ظاهرة؟فقال : وبما أحتج عليهم؟ فقال : بكتاب الله ، فقال : في أي موضع؟ فقال : قول اللهعزوجل: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) قد أخبرك الله أن أول بيت وضع للناس هو الذي ببكة ، فإن كانوا هم تولوا قبل البيت فلهم أفنيتهم ، وإن كان البيت قبلهم فله فناؤه ، فدعاهم أبو جعفر (المنصور) فاحتج عليهم بهذا فقالوا له أصنع ما أحببت.

وقد جاء في ذلك التفسير أيضا أن المهدي (العباسي) لما بنى في المسجد الحرام بقيت دار احتج إليها في تربيع المسجد ، فطلبها من أربابها فامتنعوا فسأل عن ذلك الفقهاء فكلّ قال له : إنه لا ينبغي أن يدخل شيئا في المسجد الحرام غصبا ، فقال له علي بن يقطين : يا أمير المؤمنين لو أنك كتبت إلى موسى بن جعفر عليه‌السلام لأخبرك بوجه الأمر في ذلك ، فكتب إلى وإلي المدينة أن يسئل موسى بن جعفر عليه‌السلام عن دار أردنا أن ندخلها في المسجد الحرام فامتنع علينا صاحبها فكيف المخرج من ذلك؟ فقال : ذلك لأبي الحسن عليه‌السلام : فقال أبو الحسن عليه‌السلام : ولا بدّ من الجواب في هذا؟ فقال له : الأمر لا بدّ منه ، فقال له : اكتب «بسم الله الرحمن الرحيم إن كانت الكعبة هي النازلة بالناس فالناس أولى بفنائها ، وإن كان الناس هم النازلون بفناء الكعبة فالكعبة أولى بفنائها» فلما أتى الكتاب إلى المهدي أخذ الكتاب فقبله (لفرحه الشديد) ، ثمّ أمر بهدم الدار فأتى أهل الدار أبا الحسن عليه‌السلام فسألوه أن يكتب لهم إلى المهدي كتابا في ثمن دورهم فكتب إليه أن ارضخ لهم شيئا فأرضاهم.

إن في هاتين الروايتين استدلالا لطيفا يتفق تماما مع المقاييس والموازين

٦٠٤

القانونية المعمول بها أيضا ، فإن الاستدلال يقول ؛ ان لمعبد تقصده الجماهير كالكعبة ، قد بني يوم بني على أرض لا أحد فيها ، الحق والأولوية في تلك الأرض بقدر حاجته وحيث إن الحاجة يوم أسس لم تكن تدعو إلى أكثر من تلك المساحة التي أقيم عليها أول مرّة كان للناس أن يسكنوا في حريم الكعبة ، أما الآن وقد اشتدت الحاجة إلى مساحة أوسع كما كانت عليه لتسع الحجيج ، فإن للكعبة الحقّ في أن تستخدم أولويتها بالأرض.

* * *

مزايا الكعبة وفضائلها :

لقد ذكرت في هاتين الآيتين ـ مضافا إلى الميزتين اللتين مرّ شرحهما ـ أربع مزايا اخرى هي :

١ ـ مباركا :

«المبارك» يعني كثير الخير والبركة ، وإنما كانت الكعبة المعظمة مباركة لأنها تعتبر بحق واحدة من أكثر نقاط الأرض بركة وخيرا ، سواء الخير المادي ، أو المعنوي.

وأما البركات المعنوية التي تتحلى بها هذه الأرض وهذه المنطقة من اجتماع الحجيج فيها ، وما ينجم عن ذلك من حركة وتفاعل ووحدة ، وما يصحبه من جاذبية ربانية تحيي الأنفس والقلوب وخاصة في موسم الحج فمما لا يخفى على أحد.

ولو أن المسلمين لم يقصروا اهتمامهم ـ في موسم الحج ـ على الجانب الصوري لهذه الفريضة بل أحيوا روحها ، والتفتوا إلى فلسفتها ، لاتضحت

٦٠٥

ـ حينذاك ـ البركات المعنوية ، وتجلت للعيان أكثر فأكثر.

هذا من الناحية المعنوية.

وأما من الناحية المادية فإن هذه المدينة رغم أنها أقيمت في أرض قاحلة لا ماء فيها ولا عشب ، ولا صلاحية فيها للزراعة والرعي بقيت على طول التاريخ واحدة من أكثر المدن عمرانا وحركة ، وكانت دائما من المناطق المؤهلة ـ خير تأهيل ـ للحياة ، بل وللتجارة أيضا.

٢ ـ هدى للعالمين :

أجل ، إن الكعبة هدى للعالمين فهي تجتذب الملايين من الناس الذين يقطعون إليها البحار والوهاد ، ويقصدونها من كلّ فج عميق ليجتمعوا في هذا الملتقى العبادي العظيم وهم بذلك يقيمون هذه الفريضة فريضة الحجّ التي لم تزل تؤدي بجلال عظيم منذ عهد الخليلعليه‌السلام.

ولقد كانت هذه البنية معظمة أبدا حتّى من قبل العرب الجاهليين ، فهم كانوا يحجون إليها وإن مزجوا مناسك الحجّ ببعض خرافاتهم وعقائدهم الباطلة ، إلّا أنهم ظلوا أوفياء لهذه المناسك على أنها دين إبراهيم ، وقد كان لهذه المناسك والمراسم الناقصة ، والخليطة أحيانا بالخرافات الجاهلية ، أثرها في سلوكهم ، حيث كانوا يرتدعون بسببها عن بعض المفاسد بعض الوقت ، وهكذا كانت الكعبة سببا للهداية حتّى للوثنيين ...

إن لهذا البيت من الجواذب المعنوية ما لا يستطيع أي أحد أن يقاومها ويصمد أمام تأثيرها الأخّاذ.

٣ ـ (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) :

إن في هذا البيت معالم واضحة وعلائم ساطعة لعبادة الله وتوحيده ، وفي تلك

٦٠٦

النقطة المباركة من الآثار المعنوية ما يبهر العيون ويأخذ بمجامع القلوب. وإن بقاء هذه الآثار والمعالم رغم كيد الكائدين وإفساد المفسدين الذين كانوا يسعون إلى إزالتها ومحوها لمن تلك الآيات التي يتحدث عنها القرآن في هذا الكلام العلوي.

فها هي آثار جليلة من إبراهيم عليه‌السلام لا تزال باقية عند هذا البيت مثل : زمزم والصفا والمروة ، والركن (١) ، والحطيم (٢) ، والحجر الأسود ، وحجر إسماعيل (٣) الذي يعتبر كلّ واحد منها تجسيدا حيّا لتاريخ طويل ، وذكريات عظيمة خالدة.

ولقد خصّ «مقام إبراهيم» بالذكر من بين كلّ هذه الآثار والآيات لأنه المحل الذي كان قد وقف فيه الخليل عليه‌السلام لبناء الكعبة ، أو لإتيان مناسك الحجّ ، أو لإطلاق الدعوة العامّة التي وجهها إلى البشرية كافة ، والأذان بهم ليحجوا هذا البيت ، ويلتقوا في هذا الملتقى العبادي التوحيدي العظيم.

وعلى كلّ حال فإن هذا المقام لمن أهم الآيات التي مر ذكرها ، وأنها لمن أوضح الدلائل وأقوى البراهين على ما شهدته هذه النقطة من العالم من التضحيات والذكريات ، والاجتماعات والحوادث ، البالغة الأهمية.

يبقى أن نعرف أن ثمة خلافا بين المفسّرين في أن المراد بمقام إبراهيم هل هو خصوص النقطة التي توجد فيها الصخرة التي لا تزال تحمل أثر قدمه الشريف ، أو أنه الحرم المكي ، أو أنّه جميع المواقف التي ترتبط بمناسك الحجّ ، ولكن في الرواية المنقولة عن الإمام الصادقعليه‌السلام في كتاب الكافي (٤) إشارة إلى الاحتمال الأول.

__________________

(١) كل زاوية من زوايا الكعبة ـ الأربعة يسمى ركنا.

(٢) يقع الحطيم بين الحجر الأسود وباب الكعبة المعظمة ، وإنما سمي بالحطيم إما لكثرة ازدحام الناس والطائفين فيها ، وهو موضع توبة آدم ، وإما لكونه موضع غفران الذنوب ، وغفرانها بمنزلة تحطيمها.

(٣) حجر إسماعيل هو محل بنى فيه جدار هلالي الشكل عند الضلع الشمالي الغربي من الكعبة.

(٤) راجع كتاب فروع الكافي كتاب الحجّ باب حد موضع الطواف.

٦٠٧

٤ ـ ومن دخله كان آمنا :

لقد طلب إبراهيم عليه‌السلام من ربه بعد الانتهاء من بناء الكعبة ، أن يجعل بلد مكة آمنا إذ قال (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً) (١) ، فاستجاب الله له ، وجعل مكة بلدا آمنا ، ففيه أمن للنفوس والأرواح ، وفيه أمن للجموع البشرية التي تفد إليه وتستلهم المعنويات السامية منه ، وفيه أمن من جهة القوانين الدينية ، فإن الأمن في هذا البلد قد بلغ من الاهتمام به واحترامه أن منع فيه القتال منعا باتا ، وأكيدا.

وقد جعلت الكعبة بالذات مأمنا وملجأ في الإسلام لا يجوز التعرض لمن لجأ إليها أبدا، وهو أمر يشمل الحيوانات أيضا إذ يجب أن تكون في أمان من الأذى والمزاحمة إذا هي التجأت إلى هذه النقطة من الأرض.

فإذا التجأ إنسان إلى الكعبة لم يجز التعرض له حتّى لو كان قاتلا جانيا ، بيد أنّه حتّى لا تستغل حرمة هذا البيت وقدسيتها الخاصّة ، وحتّى لا تضيع حقوق المظلومين سمح الإسلام بالتضييق في المطعم والمشرب على الجناة أو القتلة اللاجئين إليه ليضطروا إلى مغادرته ثمّ ينالوا جزاءهم العادل.

* * *

وبعد أن استعرض القرآن الكريم فضائل هذا البيت وعدد مزاياه ، أمر الناس بأن يحجوا إليه ـ دون استثناء ـ وعبر عن ذلك بلفظ مشعر بأن مثل هذا الحجّ هو في الحقيقة دين لله على الناس ، فيتوجب عليهم أن يؤدوه ويفرغوا ذممهم منه إذ قال (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ).

وتعني لفظة «الحجّ» أصلا القصد ، ولهذا سميت الجادة بالمحجة (على وزن مودة) لأنها توصل سالكها إلى المقصد ، كما أن لهذا السبب نفسه سمي الدليل بـ «الحجة» لأنه يوضح المقصود.

__________________

(١) إبراهيم : ٣٥.

٦٠٨

أما وجه تسمية هذه الزيارة وهذه المناسك الخاصة بالحجّ فلأن قاصد الحجّ إنّما يخرج وهو «يقصد زيارة بيت الله» ولهذا أضيفت لفظة الحجّ إلى البيت فقال تعالى (حِجُّ الْبَيْتِ).

ثم إننا قد أشرنا سابقا إلى أن مراسم الحج هذه قد سنت وأسست منذ عهد إبراهيمعليه‌السلام ثمّ استمرت حتّى العهد الجاهلي حيث كان العرب الجاهليون يمارسونها ويؤدونها ، ولكنها شرعت في الإسلام في صورة أكمل ، وكيفية خالية عن الخرافات التي لصقت بها من العهد الجاهلي (١) ولكن المستفاد من الخطبة القاصعة في نهج البلاغة وبعض الأحاديث والروايات أن فريضة الحج شرعت أول مرّة في زمن آدم عليه‌السلام إلّا أن اتخاذها الصفة الرسمية يرتبط ـ في الأغلب ـ بزمن الخليل عليه‌السلام.

إن الحجّ يجب على كلّ إنسان مستطيع ، في العمر مرّة واحدة ، ولا يستفاد من الآية المبحوثة هنا أكثر من ذلك ، لأن الحكم فيها مطلق ، وهو يحصل بالامتثال مرّة واحدة.

إن الشرط الوحيد الذي ذكرته الآية الحاضرة لوجوب الحجّ واستقراره هو «الاستطاعة» المعبر عنها بقوله سبحانه (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً).

نعم ، قد فسرت الاستطاعة في الأحاديث الإسلامية والكتب الفقهية بـ «الزاد والراحلة (أي الإمكانية المالية لنفقات سفر الحجّ ذهابا وإيابا) والقدرة الجسدية والتمكن من الإنفاق على نفسه وعائلته بعد العودة من الحجّ» والحقّ أن جميع هذه الأمور موجودة في الآية ، إذ لفظة «استطاع» التي تعني القدرة والإمكانية تشمل كلّ هذه المعاني والجهات.

__________________

(١) يستفاد من بعض الروايات أن تشريع هذه الفريضة في الإسلام كان في السنة العاشرة من الهجرة وأن النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر جماعة ـ في تلك السنة ـ أن يؤذنوا في الناس بالحجّ ، ويهيئوا الناس لأداء هذه الفريضة ، وإن كان النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجماعة من صحبه قد سبق لهم أن أتوا بالعمرة قبل ذلك أيضا.

٦٠٩

ثمّ إنه يستفاد من هذه الآية أن هذا القانون ـ مثل بقية القوانين الإسلامية ـ لا يختصّ بالمسلمين ، فعلى الجميع أن يقوموا بفريضة الحجّ مسلمين وغير مسلمين ، وتؤيد ذلك القاعدة المعروفة : «الكفّار مكلفون بالفروع كما أنهم مكلفون بالأصول». وإن كانت صحّة هذه المناسك وأمثالها من العبادات مشروطة بقبولهم للإسلام واعتناقهم إياه ، ثمّ أدائها بعد ذلك ، ولكن لا بدّ أن يعلم بأن عدم قبولهم للإسلام لا يسقط عنهم التكليف ، ولا يحررهم من هذه المسؤولية.

وما قلناه في هذه الآية في هذا المجال جار في أمثالها أيضا.

هذا وقد بحثنا باسهاب حول أهمية الحجّ وفلسفته وآثاره الفردية والاجتماعية عند الحديث عن الآيات ١٩٦ إلى ٢٠٣ من سورة البقرة.

أهمية الحجّ

وللتأكيد على أهمية الحجّ قال سبحانه في ذيل الآية الحاضرة (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) أي أن الذين يتجاهلون هذا النداء ، ويتنكرون لهذه الفريضة ، ويخالفونها لا يضرون بذلك إلّا أنفسهم لأن الله غني عن العالمين ، فلا يصيبه شيء بسبب اعراضهم ونكرانهم وتركهم لهذه الفريضة.

إن لفظة «كفر» تعني في الأصل الستر والإخفاء وأما في المصطلح الديني فتعطي معنى أوسع ، فهي تعني كلّ مخالفة للحقّ وكل جحد وعصيان سواء في الأصول والإعتقاد ، أو في الفروع والعمل ، فلا تدلّ كثرة استعمالها في الجحود الاعتقادي على انحصار معناه في ذلك ، ولهذا استعملت في «ترك الحجّ». ولذلك فسّر الكفر في هذه الآية عن الإمام الصادق عليه‌السلام بترك الحجّ (١).

وبعبارة اخرى أن للكفر والابتعاد عن الحق ـ تماما مثل الإيمان والتقرب إلى

__________________

(١) التهذيب بناء على نقل تفسير الصافي في ذيل هذه الآية.

٦١٠

الحقّ ـ مراحل ودرجات ، ولكلّ واحدة من هذه المراحل والدرجات أحكام خاصة بها ، وفي ضوء هذه الحقيقة يتضح الحال بالنسبة لجميع الموارد التي استعملت فيها لفظة الكفر والإيمان في الكتاب العزيز.

فإذا وجدنا القرآن يستعمل وصف الكفر في شأن آكل الربا (كما في الآية ٢٧٥ من سورة البقرة) وكذا في شأن السحرة (كما في الآية ١٠٢ من نفس السورة) ويعبر عنهما بالكافر ، كان المراد هو ما ذكرناه ، أي أن الربا والسحر ابتعاد عن الحقّ في مرحلة العمل.

وعلى كلّ حال فإنه يستفاد من هذه الآية أمران :

الأوّل : الأهمية الفائقة لفريضة الحجّ ، إلى درجة ان القرآن عبر عن تركها بالكفر. ويؤيد ذلك ما رواه الصدوق في كتاب «من لا يحضره الفقيه» من أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لعلي عليه‌السلام: «يا علي إن تارك الحجّ وهو مستطيع كافر يقول الله تبارك وتعالى : (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) ؛ يا علي؛ من سوف الحجّ حتّى يموت بعثه الله يوم القيامة يهوديا ، أو نصرانيا» (١).

الثاني : إن هذه الفريضة الإلهية المهمة ـ مثل بقية الفرائض والأحكام الدينية الأخرى ـ شرعت لصلاح الناس ، وفرضت لفرض تربيتهم ، وإصلاح أمرهم وبالهم أنفسهم فلا يعود شيء منها إلى الله سبحانه أبدا ، فهو الغني عنهم جميعا.

* * *

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه : ج ٤ ص ٣٦٨ باب النوادر.

٦١١

الآيات

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١))

سبب النّزول

يستفاد من مؤلفات الشيعة والسنّة وما ذكروه في سبب نزول هذه الآية أن «شأس بن قيس» وكان شيخا من اليهود (قد أسن) ، عظيم الكفر ، شديد الضغن على المسلمين ، شديد الحسد لهم ، مرّ ذات يوم على نفر من أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأوس والخزرج في مجلس قد جمعهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام ، بعد الذي كان بينهم من العداوة في

٦١٢

الجاهلية فقال : قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد ، لا والله ما لنا معهم ـ إذا اجتمع ملؤهم بها ـ من قرار ، فأمر شابا من يهود كان معه ، فقال : اعتمد إليهم فاجلس معهم ، ثمّ أذكر يوم «بعاث» وما كان قبله ، وأنشدهم بعض ما كانوا ما يتقاولون فيه من الأشعار.

وكان يوم «بعاث» يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر فيه يومئذ للأوس على الخزرج ، وكان يرأس الأوس يومئذ حضير بن سماك الأشهلي أبو أسيد بن حضير ، ويرأس الخزرج يومئذ عمرو النعمان البياضي ، فقتلا جميعا.

ففعل ذلك الشاب ما أراده «شأس» فتكلّم القوم عند ذلك ، وتنازعوا وتفاخروا حتّى تواثب رجلان من الحيين ، وتقاولا ، وراح أحدهما يهدد الآخر ، وكادت نيران الاقتتال تتأجج بينهم من جديد. فبلغ ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتّى جاءهم ، وقال : «يا معشر المسلمين الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام ، وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف به بين قلوبكم»؟ فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان وكيد من عدوهم ، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ثمّ انصرفوا مع رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سامعين مطيعين قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله «شأس بن قيس» ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات الأربع ، الأوليان في شأس بن قيس وما صنع. والآخريان لانذار المسلمين وتحذيرهم.

التّفسير

مفرقو الصفوف ومثيرو الخلاف :

بعد أن فعل بعض العناصر اليهودية الحاقدة فعلتها وكادت أن تشعل نيران العداوة بين المسلمين نزل ـ كما عرفت في سبب النزول ـ قوله تعالى : (قُلْ يا أَهْلَ

٦١٣

الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ) والمخاطب في هذه الآية هم أهل الكتاب ويقصد منهم هنا اليهود ، فالله سبحانه يأمر نبيه في هذه الآية أن يسألهم معاتبا عن علّة كفرهم بآيات الله في حين أن الله يعلم بأعمالهم.

والمراد من آيات الله المذكورة في هذا المقام إما الآيات الواردة في التوراة حول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعلائم نبوته ، أو مجموعة الآيات والمعجزات التي نزلت على نبي الإسلام ، وتحققت على يديه ، وكشفت عن حقانيته ، وصدق دعوته ، وصحّة نبوته.

ثمّ جاءت الآية الثانية تلومهم قائلة (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ ، تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ) أي قل يا رسول الله لهم لائما ومنددا : إذا كنتم غير مستعدين للقبول بالحقّ ، فلما ذا تصرون على صرف الآخرين عنه ، وصدهم عن سبيل الله ، وإظهار هذا الطريق المستقيم في صورة السبيل الأعوج بما تدخلون من الشبه على الناس ، في حين ينبغي ـ بل يتعين ـ أن تكونوا أول جماعة تبادر إلى تلبية هذا النداء الإلهي ، لما وجدتموه من البشائر بظهور هذا النبي في كتبكم وتشهدون عليه.

فإذا كان الأمر كذلك فلم هذه الوساوس والمحاولات لإلقاء الفرقة وإضلال الناس ، وإزاحتهم عن سمت الحقّ ، وصدهم عن السبيل الإلهي القويم؟ ولم تحملون أثقالا إلى أثقالكم، وتتحملون إلى إثم الضلال جريمة الإضلال؟ ، لماذا؟

هل تتصورون أن كلّ ما تفعلونه سيخفى علينا؟ كلّا (... وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) إنه تهديد بعد تنديد ، وإنه إنذار بعد لوم شديد.

ولعلّ وصفه سبحانه بعدم الغفلة في هذا المقام لأجل أن اليهود كانوا ـ لإنجاح محاولاتهم ـ يتكتمون ويتسترون ، ويعمدون إلى حبك المؤامرات في الخفاء ، لينجحوا في التأثير على المغفلين والبسطاء بنحو أفضل ، وليجنوا المزيد من الثمار ،

٦١٤

ولهذا قال لهم سبحانه إذا كان بعض الناس ينخدعون بوساوسكم ومؤامراتكم لغفلتهم فإن الله يعلم بأسراركم ، وخفايا أعمالكم ، وما هو بغافل عمّا تعملون ، فعلمه محيط بكم ، وعقابه الأليم ينتظركم.

وبعد أن ينتهي هذا التقريع والتنديد ، والإنذار والتهديد لمشعلي الفتن ، الصادين عن سبيل الله القويم ، المستفيدين من غفلة بعض المسلمين يتوجه سبحانه بالخطاب إلى هؤلاء المخدوعين من المسلمين ، يحذرهم من مغبة الانخداع بوساوس الأعداء ، والوقوع تحت تأثيرهم ، والسماح لعناصرهم بالتسلل إلى جماعتهم ، وترتيب الأثر على تحريكاتهم وتسويلاتهم، وأن نتيجة كلّ ذلك هو الابتعاد عن الإيمان ، والوقوع في أحضان الكفر ، إذ يقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ).

أجل إن نتيجة الانصياع لمقاصد هؤلاء الأعداء هو الرجوع إلى الكفر لأن العدو يسعى في المرحلة الاولى إلى أن يشعل بينكم نيران العداوة والاقتتال ، ولكنه لن يكتفي بهذا القدر منكم ، بل سيستمر في وساوسه الخبيثة حتّى يخرجكم عن الإسلام مرّة واحدة ، ويعيدكم إلى الكفر تارة اخرى.

من هذا البيان اتضح أن المراد من الرجوع إلى الكفر ـ في الآية ـ هو «الكفر الحقيقي ، والانفصال الكامل عن الإسلام» كما ويمكن أن يكون المراد من ذلك هي تلك العداوات الجاهلية التي تعتبر ـ في حدّ ذاتها ـ شعبة من شعب الكفر ، وعلامة من علائمة ، وأثرا من آثاره ، لأن الإيمان لا يصدر منه إلّا المحبة والمودة والتآلف ، وأما الكفر فلا يصدر منه إلّا التقاتل والعداوة والتنافر.

ثمّ يتساءل ـ في عجب واستغراب ـ (وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ) أي كيف يمكن أن تسلكوا سبيل الكفر ، وترجعوا كفّارا والنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بين ظهرانيكم ، وآيات الله البينات تقرأ على أسماعكم ، وتشع أنوار

٦١٥

الوحي على قلوبكم وتهطل عليكم أمطاره المحيية؟

إن هذه العبارة ما هي ـ في الحقيقة ـ إلّا الإشارة إلى أنه لا عجب إذا ضل الآخرون وانحرفوا ، ولكن العجب ممّن لا يزمون الرسول ويرونه فيما بينهم ، ولهم مع عالم الوحي اتصال دائم ... ومع آياته صحبة دائمة ، إن العجب إنما هو ـ في الحقيقة ـ من هؤلاء كيف يضلون وكيف ينحرفون؟

إنه حقّا يدعو إلى الدهشة والاستغراب ويبعث على العجب أن يضل مثل هؤلاء الذين يعيشون في بحبوحة النور ، ولا شك أنهم أنفسهم يتحملون إثم هذا الضلال ـ إن ضلوا ـ لأنهم لم يضلوا إلّا عن بيّنة ، ولم ينحرفوا إلّا بعد بصيرة ... ولا شكّ أن عذابهم سيكون شديدا جدّا لذلك.

ثمّ في ختام هذه الآيات يوصي القرآن الكريم المسلمين ـ إن أرادوا الخلاص من وساوس الأعداء ، وأرادوا الاهتداء إلى الصراط المستقيم ـ أن يعتصموا بالله ويلوذوا بلطفه ويتمسكوا بهداياته وآياته ، ويقول لهم بصراحة تامة (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ).

هذا ومن النقاط المهمة التي تلفت النظر في هذه الآيات هو أن الخطاب الإلهي في الآيتين الأوليين من هذه الآيات موجهة إلى اليهود بالواسطة ، لأن الله سبحانه يأمر نبيه الكريم أن يبلغ هذه المواضيع لليهود عن لسانه فيقول تعالى له (قُلْ) ولكنه عند ما يوجه الخطاب إلى المسلمين في الآيتين الأخريين يخاطبهم بصورة مباشرة ودون واسطة فلا يشرع خطابه لهم بلفظه (قُلْ) وهذا يكشف عن منتهى عناية الله ولطفه بالمؤمنين ، وأنهم ـ دون غيرهم ـ لائقون بأن يخاطبهم الله مباشرة ، وأن يوجه إليهم الكلام دون أن يوسط بينه وبينهم أحدا.

* * *

٦١٦

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))

سبب النّزول

كانت بين «الأوس» و «الخزرج» القبيلتين الكبيرتين القاطنتين في يثرب حروب طويلة دامية ومنازعات استمرت ما يقرب من مائة عام ، وكانت المعارك والمناوشات تنشب بينهم بين فترة واخرى وتكلف الجانبين خسائر جسمية في الأموال والأرواح.

كلّ ذلك كان أيّام الجاهلية قبل بزوغ الإسلام وطلوع شمسه على تلك الربوع.

٦١٧

وقد كان ممّا وفق له الرسول ونجح فيه أكبر نجاح ـ بعد هجرته إلى المدينة (يثرب) ـ هو تمكنه من وضع حد لتلك المعارك والمناوشات وتلك المذابح والمجازر ، وإقرار الإخاء مكان العداء وإحلال السلام محل الحروب ، وتشكيل جبهة متحدة متراصة الصفوف ، قوية البنيان والأركان في المدينة المنورة.

ولكن حيث أن جذور النزاع كانت قوية وعديدة جدا ، كان ذلك الاتحاد يتعرض أحيانا لبعض الهزات بسبب بعض الاختلافات المنسية التي كانت تطفو على السطح أحيانا فتشتعل نيران النزاع بعد غياب ، ولكن سرعان ما كانت تختفي مرّة اخرى بفضل تعليمات النبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكمته ، وتدبيره.

وقد لاحظنا في الآيات السابقة نموذجا من تلك الاختلافات المتجددة التي كانت تبرز على أثر التحريكات التي كان يقوم بها الأعداء الأذكياء ، ولكن هذه الآيات تشير إلى نوع آخر من الاختلافات التي كان يسببها الأصدقاء الجاهلون ، والعصبيات العمياء والحمقاء.

يقال : افتخر رجلان من الأوس والخزرج هما «ثعلبة بن غنم» و «أسعد بن زرارة» فقال ثعلبة : منا خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين ، ومنا حنظلة غسيل الملائكة ومنا عاصم بن ثابت بن أفلح حمي الدين ، ومنا سعد بن معاذ الذي رضي الله بحكمه في بني قريظة ، وقال أسعد منا أربعة أحكموا القرآن : أبي بن كعب ومعاذ بن جبل وزيد بن ثابت وأبو زيد ومنا سعد بن عبادة خطيب الأنصار ورئيسهم : فجرى الحديث بينهما فغضبا وتفاخرا وناديا فجاء الأوس إلى الأوسي ، والخزرج إلى الخزرجي ومعهم السلاح ، فبلغ ذلك النبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فركب حمارا وأتاهم ، فأنزل الله هذه الآيات فقرأها عليهم فاصطلحوا.

٦١٨

التّفسير

الدعوة إلى التقوى :

في الآية الأولى من هاتين الآيتين دعوة إلى التقوى لتكون التقوى مقدمة للاتحاد والتآخي.

وفي الحقيقة أن الدعوة إلى الاتحاد دون أن تستعين هذه الدعوة وتنبع من الجذور الخلقية والاعتقادية ، دعوة قليلة الأثر ، إن لم تكن عديمة الأثر بالمرّة ، ولهذا يركز الاهتمام في هذه الآية على معالجة جذور الاختلاف ، وإضعاف العوامل المسببة للتنازع في ضوء الإيمان والتقوى ، ولهذا توجه القرآن بالخطاب إلى المؤمنين فقال (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ).

يبقى أن نعرف أنه قد وقع كلام كثير بين المفسّرين حول المراد من قوله تعالى (حَقَّ تُقاتِهِ) ولكن ممّا لا شكّ فيه أن «حق التقوى» يعد من أسمى درجات التقوى وأفضلها لأنه يشمل اجتناب كلّ إثم ومعصية ، وكلّ تجاوز وعدوان ، وانحراف عن الحقّ.

ولذا نقل عن الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما في تفسير الدرّ المنثور ، وعن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام كما في تفسير العيّاشي ومعاني الأخبار ـ في تفسير قوله : (حَقَّ تُقاتِهِ) أنهما قالا : «أن يطاع فلا يعصى ، ويذكر فلا ينسى (ويشكر فلا يكفر)».

ومن البديهي أن القيام بهذا الأمر كغيره من الأوامر الإلهية ، يرتبط بمدى قدرة الإنسان واستطاعته ولهذا لا تنافي بين هذه الآية التي تطلب حقّ التقوى وأسمى درجاته والآية ١٦ من سورة التغابن التي تقول : (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) فالكلام حول المنافاة بين الآيتين وادعاء نسخ إحداهما بالأخرى ممّا لا أساس له مطلقا ، ولا داعي له أبدا.

٦١٩

على أنه ليس من شكّ في أن الآية الثانية تعتبر تخصيصا ـ في الحقيقة ـ لمفاد الآية الأولى وتقييدا بالاستطاعة والقدرة ، وحيث أن لفظة النسخ كانت ـ عند القدماء ـ تطلق على التخصيص ، لذلك من الممكن أن يكون المراد من قول القائل بأن الآية الثانية ناسخة للأولى هو كونها مخصصة للأولى لا غير.

ثمّ إنه بعد أن أوصى جميع المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى انتهت الآية بما يعتبر تحذيرا ـ في حقيقته ـ للأوس والخزرج وغيرهم من المسلمين في العالم ، تحذيرا مفاده : أن مجرد اعتناق الإسلام والانضمام إلى هذا الدين لا يكفي ، إنما المهم أن يحافظ المرء على إسلامه وإيمانه واعتقاده إلى اللحظة الأخيرة من عمره وحياته ، فلا يبدد هذا الإيمان بإشعال الفتن وإثارة نيران البغضاء أو بالانسياق وراء العصبيات الجاهلية الحمقاء ، والضغائن المندثرة فتكون عاقبته الخسران ، وضياع كلّ شيء ولهذا قال سبحانه (وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ).

الدعوة إلى الاتحاد

بعد أن أوصت الآية السابقة كلّ المؤمنين بملازمة أعلى درجات التقوى ومهدت بذلك النفوس وهيأتها ، جاءت «الآية الثانية» تدعوهم بصراحة إلى مسألة الاتحاد، والوقوف في وجه كلّ ممارسات التجزئة وإيجاد الفرقة ، فقال سبحانه في هذه الآية (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا).

ولكن ما المقصود من «حبل الله» في هذه الآية؟ فقد ذهب المفسّرون فيه إلى احتمالات مختلفة ، فمنهم من قال بأنه القرآن ، ومنهم من قال : بأنه الإسلام ، ومنهم من قال بأنهم الأئمّة المعصومون من آل الرسول وأهل بيته المطهرين.

٦٢٠