الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ).

«يبتغ» من «الابتغاء» بمعنى الطلب والسعي ، ويكون في الأمور المحمودة وفي الأمور المذمومة. هنا يختتم البحث المذكور باستنتاج نتيجة كلّيّة ، وهي أنّ الدين الحقيقي هو الإسلام ، أي التسليم لأمر الله بمعناه العام ، وأمّا بمفهومه الخاصّ فهو الانتقال إلى الدين الإسلامي الذي هو أكمل الأديان ، فتقول الآية : أنّه لا يقبل من أحد سوى الإسلام مع الأخذ بنظر الإعتبار احترام سائر الشرايع الإلهيّة المقدسة. فكما أن طلّاب الجامعة في نفس الوقت الذي يحترمون فيه الكتب الدراسية للمراحل السابقة من الابتدائية والمتوسطة والإعدادية ، فإنه لا يقبل منهم سوى دراسة الكتب والدروس المقررة للمرحلة النهائية ، فكذلك الإسلام. وأمّا الذين يتّخذون غير هذه الحقيقة دينا ، فلن يقبل منهم هذا أبدا ، ولهم على ذلك عقاب شديد (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) ذلك لأنّه تاجر بثروة وجوده مقابل بضع خرافات وتقاليد بالية ، وعصبيّات جاهلية وعنصرية ، ولا شكّ أنّه هو الخاسر في هذه الصفقة. وإذا ما خسر الإنسان ثروة وجوده ، وجد نتيجة ذلك حرمانا وعذابا وعقابا يوم القيامة.

وذكر بعض المفسّرين أن هذه الآية نزلت في اثني عشر من المنافقين الذين أظهروا الإيمان ، ثمّ ارتدوا ، وخرجوا من المدينة إلى مكّة ، فنزلت الآية وأنذرتهم بأنه من اعتنق غير الإسلام فهو من الخاسرين.

وفي الدرّ المنثور في قوله تعالى : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً) الآية أخرج أحمد والطبراني في الأوسط عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تجيء الأعمال يوم القيامة فتجيء الصلاة فتقول : يا ربّ أنا الصلاة فيقول : إنّك على خير ، وتجيء الصدقة فتقول يا ربّ أنا الصدقة فيقول : إنّك على خير ، ثمّ يجيء الصيام فيقول : أنا الصيام فيقول : إنّك على خير ، ثمّ تجيء الأعمال كلّ ذلك يقول

٥٨١

الله : إنّك على خير ، ثمّ يجيء الإسلام فيقول : يا رب أنت السلام وأنا الإسلام فيقول الله : إنّك على خير ، بك اليوم آخذ ، وبك أعطي. قال الله في كتابه : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (١).

فيما يتعلّق باختلاف «الإسلام» عن «الايمان» سوف يأتي شرحه في تفسير الآية ١٤ من سورة الحجرات إن شاء الله.

* * *

__________________

(١) تفسير الدر المنثور : ج ٢ ص ٤٨ ، نقلا عن معجم الأوسط : ج ٨ ص ٢٩٦ حديث ٧٦٠٧.

٥٨٢

الآيات

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩))

سبب النّزول

كان «الحارث بن سويد» من الأنصار ، ارتكب قتل شخص بريء اسمه «المجذر بن زياد» ، فارتدّ عن الإسلام خوفا من العقاب ، وفرّ من المدينة إلى مكّة. ولكنّه في مكّة ندم على فعلته ، وراح يفكّر فيما يصنعه. وأخيرا استقرّ رأيه على أن يبعث بأحد أقاربه في المدينة يسأل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمّا إذا كان له سبيل للرجوع. فنزلت هذه الآيات ، تعلن قبول توبته بشروط خاصّة. فمثل الحارث بن سويد بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وجدّد إسلامه ، وظلّ ملتزما وفيّا لإسلامه حتّى

٥٨٣

آخر رمق فيه. غير أنّ أحد عشر شخصا ممّن ارتدّوا عن الإسلام معه بقوا مرتدّين (١).

في تفسير الدرّ المنثور وفي تفاسير أخرى ، سبب نزول للآيات المذكورة لا يختلف كثيرا عمّا أوردناه.

التّفسير

كان الكلام في الآيات السابقة عن أن الدين الوحيد المقبول عند الله هو الإسلام ، وفي هذه الآيات يدور الحديث حول من قبلوا الإسلام ثمّ رفضوه وتركوه ، ويسمى مثل هذا الشخص «مرتد» تقول الآية : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ).

فالآية تقول : إنّ الله لا يعين أمثال هؤلاء الأشخاص على الاهتداء ، لماذا؟ لأن هؤلاء قد عرفوا النبيّ بدلائل واضحة وقبلوا رسالته ، فبعدولهم عن الإسلام أصبحوا من الظالمين والشخص الذي يظلم عن علم واطلاع مسبق غير لائق للهداية الإلهيّة : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ).

المراد من «البينات» في هذه الآية القرآن الكريم وسائر معاجز النبي الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والمراد من «الظالم» هو من يظلم نفسه بالمرتبة الأولى. ويرتد عن الإسلام وفي المرتبة الثانية يكون سببا في إضلال الآخرين. ثمّ تضيف الآية : (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ).

عقاب أمثال هؤلاء الأشخاص الذين يعدلون عن الحقّ بعد معرفتهم له ، كما هو مبيّن في الآية ، أن تلعنهم الملائكة وأن يلعنهم الناس.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ و ٢ ص ٤٧١.

٥٨٤

«اللعن» في الأصل الطرد والإبعاد على سبيل السخط ، من هنا فلعن الله هو إبعاد الشخص عن رحمته ، أمّا لعن الملائكة والناس فقد يكون السخط والطرد المعنوي ، وقد يكون الطلب من الله تعالى بابعادهم عن رحمته. هؤلاء الأشخاص يكونون في الواقع غارقين في الفساد والإثم إلى درجة أنّهم يصبحون مورد استنكار كلّ عاقل هادف في العالم ، من البشر كان أم من الملائكة.

(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ).

تضيف الآية هنا أنّهم فضلا عن كونهم موضع لعن عام ، فإنّهم سيبقون في هذا اللعن إلى الأبد ، فهم في الواقع كالشيطان الخالد في اللعن الأبدي.

ولا شكّ أنّ نتيجة ذلك هو أن يكونوا في عذاب شديد ودائم بغير تخفيف ولا إمهال.

وفي آخر آية تفتح طريق العودة أمام هؤلاء الأفراد ، وتدعوهم للتوبة ، لأن هدف القرآن هو الإصلاح والتربية ، ومن أهم الطرق لذلك هو فتح باب العودة للمذنبين والملوثين كيما تتاح لهم الفرصة لجبران ما فرط منهم ، فتقول : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

إنّ هذه الآية مثل الكثير من آيات القرآن ، وبعد الإشارة إلى التوبة ـ تشير إلى التكفير عن الذنوب السابقة وبجملة «وأصلحوا» تبيّن أنّ التوبة لا تعني مجرّد الندم على ما مضى والعزم على تجنّب ارتكاب الذنوب في المستقبل ، بل شرط قبولها هو أن يمحو التائب بأعماله الصالحة في المستقبل جميع أعماله القبيحة الماضية.

لذلك نجد في كثير من الآيات انّ التوبة يرافقها العمل الصالح ، مثل : (إِلَّا مَنْ تابَ (وَآمَنَ) وَعَمِلَ صالِحاً) (١) وإلّا فإنّ التوبة لن تكون كاملة. فهؤلاء إن فعلوا ذلك نالوا رحمة الله ومغفرته (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

__________________

(١) طه : ٨٢.

٥٨٥

بل إنه يستفاد من هذه الآية أن الذنب عبارة عن نقص في الإيمان ، وأنه بعد التوبة يقوم الشخص التائب بتجديد الإيمان ليتطهر من هذا النقص.

هل تقبل توبة المرتد؟

يبدو من الآية أعلاه ومن سبب نزولها أن قبول توبة المرتد (وهو الذي أسلم ثمّ عاد عن إسلامه) يرتبط بنوع الارتداد. فثمّة «المرتدّ الفطري» وهو المرتد الذي ولد من أبوين مسلمين ، أو انعقدت نطفته حين كان أبواه مسلمين ، ثمّ قبل الإسلام وعاد عنه بعد ذلك. وهناك «المرتدّ الملّي» وهو الذي لم يولد من أبوين مسلمين.

توبة المرتدّ الملّي تقبل ، وعقوبته في الواقع خفيفة لأنّه ليس مسلما بالمولد ، لكن حكم المرتدّ الفطري أشد. هذا المرتدّ ـ وإن قبلت توبته لدى الله سبحانه ـ يحكم بالإعدام إن ثبت ارتداده. وتوزّع أمواله على ورثته المسلمين ، وتنفصل عنه زوجته ، ولا تحول توبته دون إنزال هذه العقوبة بحقّه.

لكن هذه الشدّة تخصّ ـ كما قلنا ـ المرتدّ الفطري ، وبشرط أن يكون رجلا.

قد تعجّب بعضهم لهذا التشدّد ، وربّما اعتبر نوعا من الفظاظة القاسية البعيدة عن الرحمة ، الأمر الذي لا يتّسق مع روح الإسلام.

غير أنّ لهذا الحكم فلسفة أساسا ، وهي حفظة الجبهة الداخلية في بلاد الإسلام ضدّ نفوذ المنافقين والأجانب ، وللحيلولة دون تفكّكها واضمحلالها إنّ الارتداد ضرب من التمرّد على نظام البلد الإسلامي ، وحكمه الإعدام في أنظمة الكثير من قوانين العالم اليوم. إذ لو أجيز لمن يشاء أن يعتنق الإسلام متى شاء وأن يرتدّ عنه متى شاء ، لتحطّمت الجبهة الداخلية سريعا ، ولانفتحت أبواب البلد أمام الأعداء وعملائهم ، ولساد المجتمع الإسلامي الهرج والمرج. وبناء على ذلك فإنّ هذا

٥٨٦

الحكم حكم سياسي في الواقع ، ولا بدّ منه لحماية الحكومة الإسلامية والمجتمع الإسلامي وللضرب على أيدي العملاء والأجانب.

أضف إلى ذلك أنّ من يتقبّل الإسلام بعد التحقّق والتدقيق ، ثمّ يتركه ليعتنق دينا آخر ، لا يمتلك دوافع سليمة ومنطقية ، وهو بذلك يستحقّ أشدّ العقوبات. أمّا تخفيف هذا الحكم بالنسبة للمرأة ، فلأنّ جميع العقوبات تخفّف بشأنها.

* * *

٥٨٧

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))

سبب النّزول

ذكر بعض المفسّرين أن الآية الأولى نزلت في أهل الكتاب الذين آمنوا بالنبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قبل بعثته ، ولكنّهم بعد البعثة كفروا به. وذهب آخرون إلى أنها نزلت في الحارث بن سويد وأحد عشر آخرين الذين ارتدّوا عن الإسلام لأسباب. ثمّ تاب وعاد إلى الإسلام. أمّا الآخرون فقد رفضوا دعوته للعودة ، وقالوا : سنبقى في مكّة ونواصل مناوءة محمّد انتظارات لهزيمته. فإذا تحقّق ذلك فخير ، وإلّا فإنّ باب التوبة مفتوح ، نتوب وقتما نشاء ونرجع إلى محمّد ، وسوف يقبل توبتنا! وعند ما فتح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكة اسلم بعضهم وقبلت توبتهم ، وأمّا من أصرّ على البقاء على الكفر فقد نزلت الآية الثانية بشأنهم.

٥٨٨

التّفسير

التوبة الباطلة :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ).

كان الكلام في الآيات السابقة يدور حول الذين يندمون حقّا على انحرافهم عن طريق الحقّ فيتوبون توبة صادقة. في هذه الآية يدور الكلام على الذين لن تقبل توبتهم ، وهم الذين آمنوا أوّلا ، ثمّ ارتدّوا وكفروا ، وأصرّوا على كفرهم ، ورفضوا الانصياع لأوامر الله ، حتّى إذا اشتدّ عليهم الأمر اضطرّوا إلى العودة للإسلام. إنّ الله لن يقبل توبة هؤلاء ، لأنّهم لن يتّخذوا باختيارهم خطوة في سبيل الله ، بل هم مجبرون على إظهار الندم والتوبة بعد رؤيتهم انتصار المسلمين. لذلك فتوبتهم ظاهرية ولن تقبل.

وثمّة احتمال آخر في تفسير هذه الآية هو : أنّ أمثال هؤلاء الأشخاص عند ما يرون أنفسهم على أعتاب الموت ونهاية العمر قد يندمون ويتوبون حقّا. غير أنّ توبتهم لن تقبل ، لأنّ وقت التوبة يكون قد انتهى ، كما سيأتي شرحه. وهذا نظير قوله تعالى في الآية ١٨ من سورة النساء : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ).

وقيل : من المحتمل أن يكون معنى الآية : إنّ التوبة عن الذنوب العادية في حال الكفر لن تقبل. أي إذا أصرّ أحدهم على المضي في طريق الكفر ، ثمّ تاب عن ذنوب معيّنة كالظلم والغيبة وأمثالهما ، فإنّ توبته هذه لا طائل وراءها ولن تقبل ، وذلك لأنّ غسل التلوّث الظاهر عن الروح والنفس ، مع بقاء التلوّث الأعمق في الباطن ، لا فائدة منه.

لا بدّ أن نضيف هنا أنّ التفاسير المذكورة آنفا لا تعارض بينها ، وقد تشملها

٥٨٩

الآية جميعا ، وإن يكن التفسير الأوّل أقرب إلى الآيات السابقة وإلى سبب نزول هذه الآية.

وفي الآية الثانية يقول تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ).

تخصّ الآية أولئك الذين يقضون أعمارهم كافرين في هذه الدنيا ، ثمّ يموتون وهم على تلك الحال. يقول القرآن ، بعد أن اتّضح لهؤلاء طريق الحقّ ، يسيرون في طريق الطغيان والعصيان ، وهم في الحقيقة ليسوا مسلمين ، ولن يقبل منهم كلّ ما ينفقونه ، وليس أمامهم أيّ طريق للخلاص ، حتّى وإن أنفقوا ملء الأرض ذهبا في سبيل الله.

من الواضح أنّ القصد من القول بإنفاق هذا القدر الكبير من الذهب إنّما هو إشارة إلى بطلان إنفاقهم مهما كثر ، لأنّه مقرون بتلوّث القلب والروح بالعداء لله ، وإلّا فمن الواضح أنّ ملء الأرض ذهبا يوم القيامة لا يختلف عن ملئها ترابا. إنّما قصد الآية هو الكناية عن أهميّة الموضوع.

أمّا بشأن مكان هذا الإنفاق ، أفي الدنيا أم في الآخرة؟ فقد ذكر المفسّرون لذلك احتمالين إثنين ، ولكن ظاهر الآية يدلّ على العالم الآخر ، أي كانوا كافرين (وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) ، فلو كانوا يملكون ملء الأرض ذهبا ، وظنّوا أنّهم بالاستفادة من هذا المال ، كما هي الحال في الدنيا ، يستطيعون أن يدرءوا العقاب عن أنفسهم ، فهم على خطأ فاحش ، إذ أنّ هذه الغرامة المالية والفدية ليست قادرة على التأثير في ما سيواجههم من عقاب. وفي الواقع فان مضمون هذه الآية يشبه قوله تعالى في الآية ١٥ من سورة الحديد : (فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

٥٩٠

وفي الختام يشير إلى نكتة اخرى في المقام ويقول : (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ).

لا شكّ في أنّهم سينالون عقابا شديدا مؤلما ، ولن يكون باستطاعة أحد أن ينتصر أو يشفع لهم. لأن الشفاعة لها شرائط ، وأهمها الإيمان بالله ، ولهذا السبب فلو أن جميع الشفعاء اجتمعوا لإنقاذ أحد الكفّار من عذاب النار لم تقبل شفاعتهم.

وأساسا ، بما أن الشفاعة بإذن الله ، فإن الشفعاء لا يشفعون أبدا لمثل هؤلاء الأفراد غير اللائقين للشفاعة ، لأن الشفاعة تحتاج إلى قابلية المحل ، والإذن الإلهي لا يشمل الأفراد غير اللائقين.

* * *

٥٩١

الآية

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))

التّفسير

من علائم الإيمان :

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ).

ولفظة «البر» في أصلها اللغوي تعني «السعة» ولهذا يقال للصحراء «البر» بفتح الباء ، ولهذه الجهة أيضا يقال للأعمال الصالحة ذات الآثار الواسعة التي تعم الآخرين وتشملهم «البر» بكسر الباء ، والفرق بين البر والخير من حيث اللغة هو أن البر يراد منه النفع الواصل إلى الآخرين مع القصد إلى ذلك ، بينما يطلق الخير على ما وصل نفعه إلى الآخرين حتّى لو وقع عن سهو غير قصد.

ماذا يعني «البر» في الآية؟

لقد ذهب المفسّرون في تفسير «البر» في هذه الآية إلى مذاهب شتى.

فمنهم من قال : إن المراد به هو «الجنة» ، ومنهم من قال أن المراد هو «الطاعة

٥٩٢

والتقوى» ومنهم من فسّره بأن معناه «الأجر الجميل».

غير أن المستفاد من موارد استعمال هذه اللفظة في آيات الكتاب العزيز نفسه هو:أن لكلمة «البر» معنى واسعا يشمل كلّ أنواع الخير إيمانا كان أو أعمالا صالحة ، كما أن المستفاد من الآية ١٧٧ من سورة البقرة هو اعتبار «الإيمان بالله واليوم الآخر ، والأنبياء، وإعانة المحتاجين ، والصلاة ، والصيام ، والوفاء ، والاستقامة في البأساء والضراء» جميعها من شعب البر ومصاديقه.

وعلى هذا فإن للوصول إلى مراتب الأبرار الحقيقيين شروطا عديدة ، منها : لإنفاق ممّا يحبه الإنسان من الأموال ، لأن الحبّ الواقعي لله ، والتعلّق بالقيم الأخلاقية والإنسانية إنما يتضح ويثبت إذا انتهى المرء إلى مفترق طريقين ، وواجه خيارين لا ثالث لهما ، ويقع في أحد الجانبين الثروة ، أو المنصب ، والمكانة المحببة لديه ، وفي الجانب الآخر رضا الله والحقيقة والعواطف الإنسانية وفعل الخير ، ويتعين عليه أن يختار أحدهما ويضحي بالآخر ، ويتغاضى عنه.

فإذا غض نظره عن الأول لحساب الثاني أثبت صدق نيته ، وبرهن على حبه ، وعلى واقعيته في ولائه وانتمائه.

وإذا اقتصر ـ في هذا السبيل ـ على إنفاق الحقير القليل ، وبذل ما لا يحبه ويهواه ، فإنه يكون بذلك قد برهن على قصوره في الإيمان والمحبة ، والتعلّق المعنوي عن تلك المرتبة السامية ، وأنه ليس إلّا بنفس الدرجة التي أظهرها في سلوكه وعطائه لا أكثر ، وهذا هو المقياس الطبيعي والمنطقي لتقييم الشخصية ، ومعرفة مستوى الإيمان لدى الإنسان ، ومدى تجذره في ضميره.

تأثير القرآن في قلوب المسلمين :

لقد كان لآيات الكتاب العزيز تأثير بالغ ونفوذ سريع في أفئدة المسلمين

٥٩٣

الأوائل ، فما إن سمعوا آيات جديدة النزول ، إلّا وظهر هذا التأثير على سلوكهم ومواقفهم وتصرفاتهم ، ونذكر من باب المثال ما نقرأه في كتب التفسير والتاريخ الإسلامي ممّا ورد في مجال هذه الآية بالذات.

١ ـ كان «أبو طلحة» أكثر أنصاري المدينة نخلا ، وكان أحب أمواله إليه بيرحاء ، وكانت مستقبلة المسجد ، وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب ، فلما أنزلت (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) قام أبو طلحة فقال : يا رسول الله إن الله يقول : لن تنالوا البر حتّى تنفقوا ممّا تحبون وأن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وأنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. قال رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بخ بخ ذلك مال رابح لك وقد سمعت ما قلت وإني أرى أن تجعلها في الأقربين. قال أبو طلحة : افعل يا رسول الله ، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه (١).

٢ ـ أضاف أبو ذر الغفاري ضيفا ، فقال للضيف : إني مشغول ، وأن لي إبلا فاخرج وآتني بخيرها ، فذهب فجاء بناقة مهزولة ، فقال أبو ذر : خنتني بهذه ، فقال:وجدت خير الإبل فحلها فذكرت يوم حاجتكم إليه ، فقال أبو ذر : إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي ، مع أن الله يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) (٢).

٣ ـ كان لزبيدة زوجة هارون الرشيد مصحف ثمين جدّا ، قد زينت غلافه بأغلى أنواع المجوهرات والأحجار الكريمة وكانت تحبه حبا شديدا وتعتز به أكبر اعتزاز ، وفيما هي تتلو القرآن في ذلك المصحف ذات يوم وإذا بها مرت على قوله

__________________

(١) مجمع البيان وصحيح مسلم والبخاري كتاب التفسير باب ما جاء في سورة آل عمران ، ويرحاء موضع كان لأبي طلحة بالمدينة.

(٢) مجمع البيان : ج ٢ ص ٤٧٤.

٥٩٤

تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فتأملت فيه ، وغاصت في معناه وتأثرت بندائه فقالت في نفسها : «إنه ليس هناك ما هو أحب إلي من هذا المصحف المزين الثمين فلأنفقه في سبيل الله» ، فأرسلت إلى باعة الجواهر وباعت جواهره وأحجاره الكريمة عليهم ثمّ هيأت بثمنها آبارا وقنوات من الماء في صحراء الحجاز ليشرب منه سكان الصحراء وينتفع به المسافرون ، ويقال أن بقايا هذه الآبار لا تزال باقية وتدعى (١) باسمها عند الناس.

وحتّى يطمئن المنفقون إلى أن أي شيء ممّا ينفقونه لن يعزب عن الله سبحانه ولن يضيع ، عقب الله على حثه للناس على الإنفاق ممّا يحبون بقوله : (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) إنه يعلم بما تنفقونه صغيرا أم كبيرا ، تحبونه أو لا تحبونه.

* * *

__________________

(١) راجع تفسير أبي الفتوح الرازي ج ٣ ص ١٥٧ في تفسير الآية.

٥٩٥

الآيات

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))

سبب النّزول

المستفاد من الروايات الواردة حول هذه الآيات وما ينقله المفسّرون هو : أن اليهود طرحوا إشكالين آخرين على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ضمن جدالهم له ، أحدهما : تحليله لحوم الإبل وألبانها ، وقد كانت حراما في دين إبراهيم عليه‌السلام وكانوا يقولون : كلّ شيء نحرمه فهو كان محرما على نوح وإبراهيم ، فكيف تحلله وأنت تدعي متابعة إبراهيم وإنك على ملته ودينه؟

والآخر : صلاته باتجاه الكعبة فكانوا يقولون : كيف تدعي يا محمّد الاقتداء بملّة إبراهيم عليه‌السلام والنبيين العظام ، وقد كان جميع الأنبياء من ولد إسحاق يولون

٥٩٦

وجوههم شطر «بيت المقدس» ويصلون باتجاهه وأنت تصلي شطر الكعبة وتعرض عن «بيت المقدس»؟

فجاءت الآيات الثلاثة تردّ على إنكارهم للأمر الأول وتفند زعمهم ، بينما تكفلت الآيات القادمة الردّ على اعتراضهم الأخير.

التّفسير

صرحت الآية الأولى من هذه الآيات الثلاث بتفنيد كلّ المزاعم اليهودية حول تحريم بعض أنواع الطعام الطيب (مثل لحوم الإبل وألبانها) وردت على هذه الكذبة بقولها : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) (١) (عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ).

أما لماذا حرّم يعقوب على نفسه بعض الأطعمة؟ وما هو نوع الأطعمة التي حرمها على نفسه فلم يرد في الآية أي توضيح بشأنها ، بيد أن المستفاد من الروايات الإسلامية هو أن يعقوب كان ـ كما قيل ـ كلّما أكل من لحم الإبل أخذه وجع العرق الذي يقال له عرق النساء (٢) فعزم إن شفاه الله على أن يحرم لحم الإبل على نفسه ، فاقتدى به أتباعه في هذا ، حتّى اشتبه الأمر على من أتوا من خلفهم فيما بعد فتصور بعض أنه تحريم إلهي ، فاعتبروا ذلك حكما ونسبوه إلى الله ، وادعوا بأنه حرم عليهم لحم الإبل ، فنزلت الآية تفند هذا الزعم ببيان علّة الالتباس ، وتصرّح بأن نسبه هذا التحريم إلى الله سبحانه محض اختلاق.

وعلى هذا فقد كان كلّ الطعام حلالا ، ولم يكن شيء من الطيبات منه حراما

__________________

(١) إسرائيل هو الاسم الآخر ليعقوب.

(٢) عرق النساء ألم عصبي يمتد على مسار العصب الوركي من الالية إلى معصم القدم ويشتد هذا الألم جدا إذا ما ثنيت الساق الممتدة عند مفصل الحوض (الموسوعة العربية الميسرة).

٥٩٧

على بني إسرائيل قبل نزول التوراة ، كما يفيد قوله سبحانه (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) وإن كان قد حرمت ـ بعد نزول التوراة ومجيء موسى بن عمران ـ بعض الأطعمة الطيبة ، على اليهود لظلمهم وعصيانهم ، تنكيلا بهم ، وجزاء لظلمهم.

وتأكيدا لهذه الحقيقة أمر الله نبيه في هذه الآية أن يطلب من اليهود بأن يأتوا بالتوراة الموجودة عندهم ويقرءوها ليتبين كذب ما ادعوه ، وصدق ما أخبر به الله حول حلية الطعام الطيب كله إذ قال : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

ولكنّهم أعرضوا عن تلبية هذا الطلب لعلمهم بخلو التوراة عن التحريم الذي أدعوه.

والآن بعد أن تبين كذبهم وافتراؤهم على الله لعدم استجابتهم لطلب النبي بإحضار التوراة ، فإن عليهم أن يعرفوا بأن كلّ من افترى على الله الكذب استحق وصف الظلم ، لأنه بهذا الافتراء ظلم نفسه بتعريضها للعذاب الإلهي ، وظلم غيره بتحريفه وإضلاله بما افترى ، وهذا هو ما يعنيه قوله سبحانه في ختام هذه الآية (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

التوراة الرائجة وتحريم بعض اللحوم :

نقرأ في الفصل الحادي عشر من سفر اللاوليين ضمن استعراض مفصل للحوم المحرّمة والمحلّلة : «كل ما شق ظلفا وقسمه ظلفين ويجتر من البهائم فإياه تأكلون. إلّا هذه فلا تأكلوها ممّا يجتر وممّا يشق الظلف. الجمل لأنه يجتر لكنّه لا يشق ظلفا فهو نجس لكم».

من هذه العبارات نفهم أن اليهود كانوا يحرمون الإبل وكل ما شق ظلفا من البهائم ، ولكن ذلك لا يدلّ على أنها كانت محرمة في شريعة نوح وإبراهيم أيضا ، إذ

٥٩٨

يمكن أن يكون هذا التحريم مختصا باليهود عقابا لهم وتنكيلا.

فإذا لم يكن لليهود حجّة على زعمهم ، وإذا تبين لهم صدق الرسول الكريم في دعوته،واتضح لهم أنّه على ملّة إبراهيم ، ودينه الحنيف حقّا يوجب عليهم أن يتبعوه (قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) اتبعوا ملّة إبراهيم الذي كان حنيفا مستقيما لا يميل إلى شيء من الأديان الباطلة ، والأهواء الفاسدة ، بل يسير في الطريق المستقيم ، فلم يكن في دينه أي حكم منحرف مائل عن الحق وحتّى في الأطعمة الطيبة الطاهرة لم يكن يحرم شيئا بدون مبرر أو سبب وجيه للتحريم ... إنه لم يكن مشركا ، فادعاء مشركي العرب بأنهم على ملته محض اختلاق ، فأين الوثنية وأين التوحيد؟ وأين عبادة الأصنام ، وأين تحطيم الأصنام؟ والجدير بالذكر أن القرآن الكريم يكرر هذا الوصف (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) في شأن إبراهيم ويؤكد عليه في مواطن كثيرة ، وما ذلك إلّا لأن العرب الجاهليين الوثنيين كانوا ـ كما ألمحنا ـ ينسبون ديانتهم وعقائدهم الوثنية إلى الخليل عليه‌السلام ، ويدعون بأنهم على دينه وملته ، وكانوا يصرون على هذا إلى درجة أن الآخرين سموهم بالحنفاء (أي أتباع إبراهيم) ولذلك كرر القرآن نفي الشرك عن الخليل وصرح مرارا وتكرارا بأنه عليه‌السلام كان حنيفا ، ولم يكن من المشركين أبدا (١) ابطالا لذلك الادعاء السخيف ، وتنزيها لساحة هذا النبي العظيم من تلك الوصمة المقيتة.

* * *

__________________

(١) جملة «وما كان من المشركين» جاءت في آل عمران ٦٧ ـ ٩٥ والأنعام ١٦١ والنحل ١٢٤ والبقرة ١٣٥.

٥٩٩

الآيتان

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

أول بيت وضع للناس :

لقد أنكرت اليهود على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرين كما أسلفنا. وقد رد القرآن على الأمر الأول في الآيات الثلاث المتقدمة ، وها هو يرد على الأمر الثاني ، وهو : إنكارهم على النبي اتخاذه الكعبة قبلة ، وتفضيله لها على «بيت المقدس» بينما كانوا يفضلونه على الكعبة.

يقول سبحانه : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً) فلا عجب إذن أن تكون الكعبّة قبلة للمسلمين ، فهي أول مركز للتوحيد ، وأقدم معبد بني على الأرض ليعبد فيه الله سبحانه ويوحد ، بل لم يسبقه أي معبد آخر قبله ، إنه أول بيت وضع للناس ولأجل خير المجتمع الإنساني في نقطة من الأرض محفوفة

٦٠٠