الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

الحجّ ، فهو بمثابة تكميل للأوامر السابقة ، أو أنّه يشمل جميع الحجّاج؟ اختار بعض المفسّرين الرأي الأوّل وقالوا أنّ المراد من محل الهدي أي محل الأضحية هو الحرم.

وقال آخرون أنّ المراد هو المكان الّذي حصل فيه المانع والمزاحم ويستدلّ بفعل النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في واقعة الحديبيّة الّتي هي مكان خارج الحرم المكّي ، حيث أنّ رسول للهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمبعد منع المشركين له ذبح هديه في ذلك المكان وأمر أصحابه أن يفعلوا ذلك أيضا.

يقول المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي : (ذهب علمائنا إلى أنّ المحصور إذا كان بسبب المرض فيجب عليه ذبح الأضحية في الحرم ، وإذا كان بسبب منع الأعداء فيجب الذبح في نفس ذلك المكان الّذي منع به).

ولكنّ ذهب مفسرون آخرون إلى أنّ هذه الجملة ناظرة إلى جميع الحجّاج وتقول : لا يحقّ لأحد التقصير (حلق الرأس والخروج من الإحرام) إلّا أن يذبح هديه في محلّه (ذبح الهدي في الحجّ يكون في منى وفي العمرة يكون في مكّة) وعلى كلّ حال ، فالمراد من بلوغ الهدي محلّه هو أن يصل الهدي إلى محل الذبح فيذبح ، وهذا التعبير كناية عن الذبح.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار عموميّة التعبير الوارد في الآية الشريفة فالتفسير الثاني يكون أنسب ظاهرا بحيث يشمل المحصور وغير المحصور.

٤ ـ ثمّ تقول الآية (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ).

(نسك) في الأصل جمع (نسيكة) بمعنى حيوان مذبوح ، وهذه المفردة جاءت بمعنى العبادة أيضا (١) ولهذا يقول الراغب في المفردات بعد أن فسّر النسك

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٩٠.

٤١

بالعبادة : هذا الاصطلاح يأتي في أعمال الحجّ و (نسيكة) بمعنى (ذبيحة).

ويرى بعض المفسّرين أيضا أنّ الأصل في هذه الكلمة هو سبائك الفضّة ، وقيل للعبادة (نسك) بسبب أنّها تطهّر الإنسان وتخلّصه من الشوائب (١).

وعلى أيّ حال فإنّ ظاهر الآية أنّ مثل هذا الشخص مخيّرا بين ثلاث امور (الصوم والصدقة أو ذبح شاة). والوارد في روايات أهل البيت عليهم‌السلام أنّ الصوم في هذا المورد يجب أن يكون ثلاثة أيّام والصّدقة على ستّة مساكين ، وفي رواية اخرى على عشرة مساكين ، وكلمة (نسك) تعني شاة (٢).

٥ ـ ثمّ تضيف الآية (فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) وهذه إشارة إلى أنّه يجب الذبح في حجّ التمتّع ويكون المكلّف في هذا الحجّ قد أتى بالعمرة قبله ، ولا فرق في هذا الهدي بين أن يكون من الإبل أو من البقر أو من الضّأن دون أن يخرج من الإحرام.

وحول الأصل في كلمة (الهدي) فهناك قولان حسب ما أورده المرحوم الطبرسي:الأوّل أنّه مأخوذ من (الهدية) وبما أنّ الأضحية هي في الواقع هديّة إلى بيت الله الحرام فقد اطلق عليها هذه الكلمة ، والآخر أنها من مادّة (الهداية) لأن الحيوان المقرّر للذّبح يؤتى به مع الحاج إلى بيت الله الحرام ، أو يكون هدايته إلى بيت الله.

ولكنّ ظاهر كلام الراغب في المفردات أنّه مأخوذ من الهديّة فقط فيقول :(هدي) جمع ومفرده (هديّة).

وقد أورد في معجم مقاييس اللغة أنّ لهذه الكلمة أصلان : الهداية والهديّة ،

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٥ ، ص ١٥٢.

(٢) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٩١ (ومثل هذا المعنى ورد في تفسير القرطبي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حول الصوم وإطعام المسكين ذيل هذه الآية).

٤٢

ولكنّ لا يبعد أن تعود كليهما إلى الهداية ، لأنّ الهديّة تعني الشيء الّذي يهدى إلى الشخص الآخر ، أي يساق إليه هديّة (فتأمّل بدّقة).

٦ ـ ثمّ أنّ الآية تبيّن حكم الأشخاص الغير قادرين على ذبح الهدي في حجّ التمتع فتقول : (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ).

فعلى هذا فلو لم يجد الإنسان أضحية أو أنّ وضعه المالي لا يطيق ذلك فيجب عليه جبران ذلك بصيام عشرة أيّام ، يصوم ثلاثة أيّام منها (يوم السابع والثامن والتاسع من ذي الحجّة) في أيّام الحجّ ـ وهذه هي من الأيّام الّتي يجوز فيها الصوم في السفر ـ ويأتي بصيام سبعة أيّام بعد ذلك حين العودة إلى الوطن.

واضح أن مجموع ثلاثة أيّام في الحج وسبعة بعد الرجوع يساوي عشرة ، لكنّ القرآن عاد فأكّد بأنّها عشرة كاملة.

بعض المفسّرين قال في تفسير هذه الجملة أن الواو تأتي للجمع وتأتي أحيانا للتخيير بمعنى (أو) ، ومن أجل رفع توهّم التخيير أكّدت الآية على رقم عشرة ، ويحتمل أيضا أن التعبير بكلمة (كاملة) إشارة إلى أنّ صوم الأيّام العشرة يحلّ محل الهدي بشكل كامل ، ولهذا ينبغي للحجاج أن يطمأنّوا لذلك وأنّ جميع ما يترتّب على الأضحية من ثواب وبركة سوف يكون من نصيبهم أيضا.

وقال بعضهم : إنّ هذا التعبير إشارة إلى نكتة لطيفة في العدد (عشرة) لأنّه من جانب أكمل الأعداد ، لأنّ الأعداد تتصاعد من واحد يتصل إلى عشرة بشكل تكاملي، ثمّ بعد ذلك تترتّب من عشرة وأحد الأعداد الاخرى لتكون أحد عشر واثني (١) عشر ... حتّى تصل إلى عشرين أي ضعف العدد عشرة ثمّ ثلاثين وهكذا.

__________________

(١) «عشرون» و «عشرين» وإن كان على شكل الجمع ، ولكن يطلق الجمع أحيانا على الاثنين وما علا.

٤٣

٧ ـ ثمّ أنّ الآية الشريفة تتعرّض إلى بيان حكم آخر وتقول (ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) فعلى هذا لا يكون لأهل مكّة أو الساكنين في أطرافها حجّ التمتّع ، لأنّه يختصّ بالمسلمين خارج هذه المنطقة ، فالمشهور بين الفقهاء أنّ كلّ شخص يبعد عن مكّة ٤٨ ميلا فإنّ وظيفته حجّ التمتّع ، وأمّا إذا كان دون هذه المسافة فوظيفته حجّ القران أو الإفراد والّذي تكون عمرته بعد الإتيان بمراسم الحجّ (وتفصيل هذا الموضوع وبيان مراتبه مذكور في الكتب الفقهيّة).

وبعد بيان هذه الأحكام السبعة تأمر الآية في ختامها بالتقوى وتقول (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ولعلّ هذا التأكيد يعود إلى أنّ الحجّ عبادة إسلاميّة هامّة ولا ينبغي للمسلمين التّساهل في أداء مناسكه وأنّ ذلك سيؤدّي إلى إضرار كثيرة ، وأحيانا يسبّب فساد الحجّ وزوال بركاته المهمّة.

* * *

بحوث

١ ـ أهميّة الحجّ بين الواجبات الإسلاميّة

يعتبر الحجّ من أهم العبادات التي شرّعت في الإسلام ولها آثار وبركات كثيرة جدّا ، فهو مصدر عظمة الإسلام وقوّة الدّين واتّحاد المسلمين ، والحجّ هو الشعيرة العباديّة التي ترعب الأعداء وتضخ في كلّ عام دما جديدا في شرايين المسلمين.

والحجّ هو تلك العبادة الّتي أسماها أمير المؤمنين عليه‌السلام ب (علم الإسلام وشعاره) وقال عنها في وصيته في الساعات الأخيرة من حياته (الله الله في بيت ربّكم لا تخلوه ما بقيتم فإنّه إن ترك لم تناظروا) (١) أي أنّ البلاء الإلهي سيشملكم

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكتاب ٤٧ ، وصية الإمام لابنيه الحسن والحسين.

٤٤

دون إمهال. وقد فهم أعداء الإسلام أهميّة الحجّ أيضا إذ صرّح أحدهم : (نحن لا نستطيع أن نحقّق نصرا على المسلمين ما دام الحجّ قائما بينهم) (١).

وقال أحد العلماء (الويل للمسلمين إن لم يفهموا معنى الحجّ ، والويل لأعدائهم إذا عرفوا معناه).

وفي الحديث المعروف عن أمير المؤمنين عليه‌السلام في بيان توصفة الأحكام كما ورد في نهج البلاغة الحكمة ٢٥٢ أنّه أشار عليه‌السلام إلى أهميّة الحجّ الكبيرة وقال (فرض الله الإيمان تطهيرا من الشرك ... والحجّ تقوية للدّين)(٢).

ونختتم هذه الفقرة بحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام وسيأتي شرحه بالتفصيل في ذيل الآية ٢٦ إلى ٢٨ من سورة الحجّ وبيان أهميّة وفلسفة وأسرار الحجّ هناك) فقالعليه‌السلام:(لايزال الدّين قائما ما قامت الكعبة)(٣).

٢ ـ أقسام الحجّ وبيان أعمال حجّ التمتّع

لقد قسّم الفقهاء العظام وبإلهام من الآيات والأحاديث الشريفة عن النبي وآله عليهم‌السلام الحجّ إلى ثلاثة أقسام : حجّ التمتّع ، حجّ القران ، وحجّ الإفراد.

أمّا حجّ التمتّع فيختص بمن كان على مسافة ٤٨ ميلا فصاعدا من مكّة (١٦ فرسخ وما يعادل ٩٦ كيلومتر تقريبا ، وأمّا حجّ القران والإفراد فيتعلّقان بمن كان أدنى من هذه الفاصلة. ففي حجّ التمتّع يأتي الحاج بالعمرة أوّلا ثمّ يحلّ من إحرامه وبعد ذلك يأتي بمراسم الحجّ في أيّامه المخصوصة ، ولكن في حجّ القران

__________________

(١) شبهات حول الإسلام.

(٢) في بعض النسخ (تقربة للدين) ـ متن ابن أبي الحديد ـ ومفهومها أنه سبب وحدة الامّة الإسلامية وتقريب الصفوف.

(٣) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، ص ١٤ ، باب عدم جواز تعطيل الكعبة عن الحج ، ح ٥.

٤٥

والإفراد يبدأ أوّلا بأداء مراسم الحجّ ثمّ بعد الانتهاء منها يشرع بمناسك العمرة مع تفاوت أنّ الحاج في حجّ القران يأتي ومعه هديه ، أمّا في حجّ الإفراد فلا هدي فيه ولكن بعقيدة أهل السّنة أنّ حجّ القران هو أن يقصد بالحجّ والعمرة بإحرام واحد.

أمّا أعمال حجّ التمتّع فكما يلي :

في البداية يحرم الحاج للحجّ من الأماكن الخاصّة به وتسمّى الميقات ، أي أنّ الحاج يتعهد بالإحرام أن يترك ويتجنّب سلسلة من المحرّمات على المحرم ، ويرتدي ثوبي الإحرام غير المخيطة ، ويبدأ بالتلبية وهو متّجه إلى بيت الله الحرام ، ثمّ يشرع بالطّواف حول الكعبة سبعة مرّات ، وبعد ذلك يصلّي ركعتين صلاة الطواف في المحل المعروف بمقام إبراهيم ، ثمّ يسعى بين الصفا والمروة سبعة مرّات ، ثمّ بعد الانتهاء من السعي يقصّر ، أي يقص مقدارا من شعره أو أظافره ، وبذلك يخرج من الإحرام ويحلّ منه.

ثمّ يحرم مرّة اخرى من مكّة لأداء مناسك الحجّ ويذهب مع الحجاج في اليوم السابع من ذي الحجّة إلى «عرفات» وهي صحراء على بعد ٤ فراسخ من مكّة ، ويبقى في ذلك اليوم من الظهر إلى غروب الشمس في ذلك المكان حيث يشتغل بالعبادة والمناجاة والدّعاء ، ثمّ بعد غروب الشمس يتّجه إلى (مشعر الحرام) ويقع على بعد فرسخين ونصف من مكّة تقريبا ويبقى هناك إلى الصباح ، وحين طلوع الشمس يتوجّه إلى «منى» الواقعة على مقربة من ذلك المكان ، وفي ذلك اليوم الّذي هو يوم «عيد الأضحى» يرمي الحاج (جمرة العقبة) بسبعة أحجار صغيرة (وجمرة العقبة على شكل اسطوانة حجريّة خاصّة) ثمّ يذبح الهدي ويحلق رأسه ، وبذلك يخرج من إحرامه.

ثمّ أنّه يعود إلى مكّة في نفس ذلك اليوم أو في اليوم القادم ، ويطوف حول الكعبة ويؤدّي صلاة الطواف والسعي بين الصفا والمروة ثمّ طواف النساء وصلاة

٤٦

الطواف أيضا ، وفي اليوم الحادي عشر والثاني عشر يرمي في منى الجمرات الثلاثة واحدة بعد الاخرى بسبعة أحجار صغيرة ، ويبقى في ليلة الحادي عشر والثاني عشر في أرض منى ، وبهذا الترتيب تكون مناسك الحجّ إحياء لذكرى تاريخيّة وعبارة عن كنايات وإشارات لمسائل تتعلّق بتهذيب النفس ولها أغراض اجتماعيّة كثيرة ، وسوف نستعرض كلّ واحدة منها في الآيات المناسبة له.

٣ ـ لماذا نسخ البعض حجّ التمتّع؟

إنّ ظاهر الآية محل البحث هو أنّ وظيفة الأشخاص البعيدين عن مكّة هي حجّ التمتّع (الحجّ الّذي يبتدأ بالعمرة وبعد الانتهاء منها يخرج من الإحرام ثمّ يجدّد الإحرام للحجّ ويأتي بمناسك الحجّ) وليس لدينا دليل إطلاقا على نسخ هذه الآية ، بل إنّ الروايات الكثيرة في كتب الشيعة وأهل السنّة وردت في هذا الصدد ، ومن جملة المحدّثين المعروفين من أهل السنّة (السنائي في كتاب السنن) و (أحمد في كتاب المسند) و (ابن ماجة في كتابه السنن) و (البيهقي في السنن الكبرى) و (الترمذي في صحيحه) و (مسلم أيضا في كتابه المعروف بصحيح مسلم) فهناك وردت روايات كثيرة في حجّ التمتّع وأن هذا الحكم لم ينسخ وهو باق إلى يوم القيامة. والكثير من فقهاء أهل السنّة أيضا ذهبوا إلى أنّ أفضل أنواع الحجّ هو حجّ التمتع بالرّغم من أنّهم أجازوا إلى جانبه حجّ القران والإفراد (بذلك المعنى الّذي تقدّم آنفا من الفقهاء).

ولكنّ هناك حديث معروف نقل عن عمر بن الخطاب حيث قال (متعتان كانتا على عهد رسول الله وأنا أنهى عنهما ويعاقب عليهما متعة النساء ومتعة الحجّ).

يقول «الفخر الرازي» في ذيل الآية مورد البحث بعد نقل هذا الحديث عن عمر:إنّ المراد من متعة الحجّ هو أن يجمع بين الإحرامين (إحرام الحجّ وإحرام

٤٧

العمرة) ثمّ يفسخ نيّة الحجّ ويأتي بالعمرة المفردة وبعد ذلك يأتي بالحجّ (١).

فمن البديهي أنّه لا يحق لأحد نسخ الحكم الشرعي إلّا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأساسا أنّ هذا التعبير وهو أنّ رسول الله قال كذا وأنا أقول كذا هو تعبير غير مقبول من أي شخص،فهل يصحّ إهمال أمر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وطرحه والالتزام بأوامر الآخرين؟

وعلى كلّ حال ، فإنّ الكثير من علماء أهل السنّة في هذا الزمان تركوا الخبر المذكور ، وذهبوا إلى أنّ حجّ التمتع أفضل أنواع الحجّ وعملوا على وفقه.

* * *

__________________

(١) التفسير الكبير ، ج ٥ ، ص ١٥٣.

٤٨

الآيات

(الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (١٩٧) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (١٩٨) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٩٩))

التّفسير

خير الزّاد والمتاع :

تواصل هذه الآيات الشريفة بيان أحكام الحجّ وزيارة بيت الله الحرام وتقرّر طائفة من التشريعات الجديدة :

٤٩

١ ـ تقول الآية (الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ) (١).

والمراد بهذه الأشهر : هي شوال ، ذي القعدة ، ذي الحجّة (شهر ذي الحجّة بكامله أو العشرة الأوائل منه) وهذه الأشهر تسمّى (أشهر الحجّ) لأنّ قسما من أعمال الحجّ والعمرة لا يمكن الإتيان بها في غير هذه الأشهر ، وقسما آخر يجب الإتيان بها في اليوم التاسع إلى الثاني عشر من شهر ذي الحجّة ، والسبب في أنّ القرآن الكريم لم يصرّح بأسماء هذه الأشهر لأنّها معلومة للجميع وقد أكّد عليها القرآن الكريم بهذه الآية.

ثمّ إنّ هذه الآية تستبطن نفيا لأحد التقاليد الخرافيّة في الجاهليّة حيث كانوا يستبدلون هذه الأشهر بغيرها في حالة حدوث حرب بينهم فيقدّموا ويؤخّروا منها كيف ما شاؤوا ، فالقرآن يقول : «إنّ هذه الأشهر معلومة ومعيّنة فلا يصحّ تقديمها وتأخيرها» (٢).

٢ ـ ثمّ تأمر الآية الكريمة فيمن أحرم إلى الحجّ وشرع بأداء مناسك الحجّ وتقول:(فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِ).

(رفث) بالأصل بمعنى الكلام والحديث المتضمنّ ذكر بعض الأمور القبيحة أعمّ من الأمور الجنسيّة أو مقدّماتها ، ثمّ بات كناية عن الجماع ، ولكنّ البعض ذهبوا إلى أنّ مفردة (رفث) لا تطلق على هذا النوع من الكلام إلّا في حضور النساء ، فلو كان الحديث في غياب النساء فلا يسمّى بالرّفث (٣).

وذهب البعض إلى أنّ الأصل في هذه الكلمة هو الميل العملي للنّساء من

__________________

(١) بما أن الحج ليس هو الأشهر نفسها ، لذا ذهب المفسرون إلى وجود تقدير وهو : «أشهر الحج أشهر معلومات» ، وذهب بعض إلى عدم وجود تقدير ، واحتملوا أن الجملة كناية عن شدة ارتباط الحج بهذه الأشهر الخاصّة وكأنه هو هي.

(٢) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٩٣ ـ التفسير الكبير ، ج ٥ ، ص ١٦٠.

(٣) التفسير الكبير ، ج ٥ ، ص ١٦٤.

٥٠

المزاح واللّمس والتماس البدني الّذي ينتهي بالمقاربة الجنسيّة (١).

(فسوق) بمعنى الذّنب والخروج من طاعة الله ، و (جدال) تأتي بمعنى المكالمة المقرونة بالنّزاع ، وهي في الأصل بمعنى شدّ الحبل ولفّه ، ومن هذا استعملت في الجدال بين اثنين ، لأنّ كلّ منهما يشدّ الكلام ويحاول إثبات صحّة رأيه ونظره.

وعلى كلّ حال ، ورد هذا الأمر للحجّاج في حرمة المقاربة مع الأزواج ، وكذلك وجوب اجتناب الكذب والفحش (مع أنّ هذا العمل حرام أيضا في غير مواضع الإحرام ولكنّه ورد النهي عنه في أعمال الحجّ بالخصوص ضمن المحرّمات الخمسة والعشرين على المحرم).

وكذلك من المحرّمات على المحرم في الحجّ هو الجدال والقسم بالله تعالى سواء كان على حقّ أم باطل ، وهو قول (لا والله ، بلى والله).

وهكذا ينبغي أن تكون أجواء الحجّ طاهرة من التمتّعات الجنسيّة وكذلك من الذنوب والجدال العقيم وأمثال ذلك ، لأنّها أجواء عباديّة تتطلّب الإخلاص وترك اللّذائذ المادية وتقتبس روح الإنسان من ذلك المحيط الطّاهر قوّة جديدة تسوقها إلى عالم آخر بعيدا عن عالم المادّة ، وفي نفس الوقت تقوّي الالفة والاتحاد والاتّفاق والاخوّة بين المسلمين باجتناب كلّ ما ينافي هذه الأمور.

وطبعا لكلّ واحد من هذه الأحكام الشرعيّة شروح وشرائط مذكورة في كتب مناسك الحجّ الفقهيّة.

٣ ـ بعد ذلك تعقّب الآية وتبيّن المسائل المعنويّة للحجّ وما يتعلّق بالإخلاص وتقول (وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ).

__________________

(١) التحقيق في كلمات القرآن الكريم.

٥١

وهذا أوّل لطف إلهي يناله الصالحون ، فالمرحلة الأولى من لذّة الإنسان المؤمن هي إحساسه بأنّ ما يعمله في سبيل الله إنّما هو بعين الله ، ويا لها لذّة.

وتضيف الآية :(وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى).

هذه الآية أمرت بحمل الزاد. قيل : إن جماعة من أهل اليمن كانوا يحجّون دون أن يصحبوا معهم زادا للطريق ، قائلين : نحن ضيوف الله وطعامنا عليه. وهذه الفقرة من الآية أمرت بحمل الزاد ، لأن الله سبحانه هيّأ للجميع طعامهم بالطريق الطبيعية.

والآية تشير في الوقت نفسه إلى مسألة معنوية هي زاد التقوى ، فهناك حاجة إلى زاد من نوع آخر هو «التقوى».

والعبارة تنطوي على توعية المسلمين بالنسبة لعطاء الحجّ المعنوي وتفتّح أبصارهم على ما في ساحة الحجّ من معان عميقة تشدّ الإنسان بتاريخ الرسل والأنبياء وبمشاهد تضحية إبراهيم بطل التوحيد ، وبمظاهر عظمة الله سبحانه ممّا لا يوجد في مكان آخر ، ولا بدّ للحاج أن يستلهم من هذه الساحة زادا يعينه على مواصلة مسيرته نحو الله فيما بقي من عمره.

(وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) (١).

الحديث موجّه إلى أولي الألباب والعقول ، والتركيز عليهم بانتهاج التقوى لأنهم هم القادرون على التزوّد كما ينبغي من العطاء التربوي لمناسك الحجّ ، والآخرون لا ينالون منها سوى المظاهر والقشور.

الآية التالية ترفع بعض الاشتباهات في مسألة الحجّ وتقول (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ).

__________________

(١) «الباب» جمع «لب» ، ويقال للعقل الخالص «لب» أيضا.

٥٢

لقد كان التعامل الاقتصادي بكافّة ألوانه محضورا في موسم الحجّ عند الجاهليّين ، وكانوا يعتقدون ببطلان الحجّ إذا اقترن بالنّشاط الاقتصادي ، فالآية مورد البحث تعلن بطلان هذا الحكم الجاهلي وتؤكّد أنّه لا مانع من التعامل الاقتصادي والتّجاري في موسم الحجّ ، وتسمح بابتغاء فضل الله في هذا الموسم عن طريق العمل والكد.

وهذا النمط من التفكير كان سائدا في العصر الجاهلي ونجده كذلك في زماننا هذا وأنّ هذه العبادة العظيمة ـ يعني الحجّ ـ يجب أن تكون خالصة من أيّة شوائب ماديّة ، ولكن بما أنّ سائر العاملين في هذا السبيل مضافا إلى الناس الّذين يقصدون بيت الله من بعيد الدّيار يمكنهم أن يحلّوا الكثير من مشاكلهم الاقتصاديّة في سفر الحجّ هذا ، ولهذا السبب أبطل القرآن الكريم هذا اللّون من التفكير ، ويحقّ لهؤلاء الأشخاص أن يأتوا بعبادة الحجّ ويؤدّوا مناسكه ضمن أداء خدماتهم الاخرى ولا يكونوا في مضيقة من هذه الجهة ، بل أنّ النصوص الإسلاميّة التي تتحدّث عن حكمة الحجّ تشير أيضا إلى الجوانب الاقتصادية إضافة إلى الجوانب الأخلاقية والسياسية والثقافية ، وتوضّح أنّ سفر المسلمين من كلّ فجّ عميق إلى بيت الله الحرام اعقد مؤتمر الحجّ العظيم يستطيع أن يكون منطلقا لتحرّك اقتصادي عامّ في المجتمعات الإسلامية. وذلك يتحقّق باجتماع الأدمغة الاقتصادية الاسلامية المفكّرة قبل أداء المناسك أو بعده لوضع أسس اقتصاد سليم في المجتمعات الإسلامية يقوم على أساس التعاون والتبادل الاقتصادي بين أبناء الأمّة الإسلامية ، والاستغناء عن الأجانب والأعداء ، وبلوغ المستوى الممكن اللائق من الاكتفاء الذاتي.

من هنا ، فهذه المعاملات والمبادلات التجارية سبل لتقوية بنية المجتمع الإسلامي أمام أعداء الإسلام ، ذلك لأنّ أيّ شعب من الشعوب لا يمكن أن ينال

٥٣

استقلاله الكامل دون أن يقوم على أساس اقتصادي قوي ، ولكن النشاط الاقتصادي في موسم الحجّ ينبغي طبعا أن ينضوي تحت الأبعاد العبادية والأخلاقية للحجّ ، لا أن يقدّم ويهيمن عليها. وواضح أنّ الحجّاج لهم الوقت الكافي قبل أعمال الحجّ وبعده لمثل هذا النشاط.

يروي هشام بن الحكم أنّه سأل الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام عن العلّة الّتي لأجلها كلّف الله العباد الحجّ والطواف بالبيت ، فقال «... فجعل فيه الاجتماع من الشرق والغرب ليتعارفوا ولينزع كلّ قوم من التجارات من بلد إلى بلد ولينتفع بذلك المكاري والجمّال ... ولو كان كلّ قوم إنّما يتكلّمون على بلادهم وما فيها هلكوا وخربت البلاد وسقطت الجلب والأرباح ...»(١)

ثمّ تعطف الآية الشريفة على ما تقدّم من مناسك الحجّ وتقول (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ).

ثمّ تقول الآية في حديثها هذا : (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ) فهذا المقطع يتضمّن أمرا بالإفاضة أي بالاندفاع والحركة من المشعر الحرام إلى أرض منى.

ففي نهاية الآية تعطي أمرا بالاستغفار والتوبة وتقول : (وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

ففي هذا المقطع من الآيات إشارة إلى ثلاث مواقف من مواقف الحجّ (عرفات) وهي صحراء وتقع على بعد ٢٠ كيلومترا تقريبا من مكّة ويجب على الحجّاج أن يقفوا في هذا المحل من ظهر يوم التاسع من ذي الحجّة إلى غروب

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ٨ ، كتاب الحجّ باب ١ من أبواب وجوب الحجّ ، ح ١٨.

٥٤

الشمس فيشتغلوا بالعبادة والذكر ، ثمّ الوقوف ب (المشعر الحرام أو المزدلفة) حيث يبيتون هناك ليلة عيد الأضحى ويبقون هناك إلى قبل طلوع الشمس مشغولين بالدعاء والمناجاة مع الله تعالى ، والثالث أرض (منى) وهي محل ذبح الأضاحي ورمي الجمرات وحلّ الإحرام وأداء مناسك العيد.

* * *

بحوث

١ ـ أول موقف للحجيج

تقدّم أنّ حجّاج بيت الله الحرام يتّجهون بعد أداء مناسك العمرة نحو أداء مناسك الحجّ ، وأوّل موقف يقفون فيه هو في «عرفات» ، وهي صحراء واسعة تقع على بعد أربعة فراسخ من مكّة يقف فيها الحاج من ظهر يوم التاسع من ذي الحجّة حتّى غروب ذلك اليوم. وفي سبب تسمية هذه الأرض بهذا الاسم قيل : إنّ إبراهيم عليه‌السلام قال حين أراه جبرائيل مناسك الحجّ : «عرفت ، عرفت».

وقيل إن هذه القصة وقعت لآدم وحواء ، وقيل أيضا أن آدم وحواء تعارفا في هذا المكان ، وقيل أن حجاج بيت الله يتعارفون فيما بينهم في هذا المكان ، وتفسيرات أخرى(١)(٢).

ولا يبعد أن تكون التسمية إشارة إلى حقيقة أخرى أيضا ، وهي أن هذه الأرض المشرّفة التي تبدأ منها أولى مراحل الحجّ محيط مناسب جدّا لمعرفة الله

__________________

(١) ذكر الفخر الرازي هنا ثمانية أقوال في معنى «عرفات» (ج ٥ ، ص ١٧٣ ـ ١٧٤).

(٢) هناك بحث بين المفسرين في أن «عرفات» مفرد أو جمع لـ «عرفة». وقيل أن «عرفة» اسم زمان للأعمال في يوم التاسع من ذي الحجة و «عرفات» اسم ذلك المكان (روح المعاني ، ج ٢ ، ص ٨٧).

٥٥

تعالى. والحاجّ في هذا الموقف يشعر حقّا بانشداد روحي ومعنوي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات.

الحجيج في هذه الأرض القاحلة متجمّعو بشكل واحد وبزيّ واحد ، قد هربوا من بريق الحياة وزخرفها وصخبها وضجيجها ولا ذوا بهذه الأرض المشرّفة المفعمة بذكريات الرسالات السماوية ، حيث يحمل نسيمها نداء جبرائيل وصوت الخليل ودعوة النبيّ الخاتم ، وصحبه المجاهدين. وتنطق أرضها بصور الجهاد والتضحية والانقطاع إلى الله على مرّ التاريخ. كأنّ هذه الأرض نافذة تشرف على عالم ما وراء الطبيعة ، يرتوي فيها الإنسان من منهل العرفان ، وينساق مع تسبيح الخليقة العام ، بل يعود أيضا إلى ذاته التي انفصل عنها زمنا طويلا فيعرف نفسه ، ويعرف أنّه ليس بذلك الكائن اللاهث ليل نهار وراء جمع الحطام والمتاع دون أن يرويه شيء ، بل إنّه جوهر آخر كان يجهله قبل الوقوف في عرفات ... نعم إنّها «عرفات» وما أجمل هذا الاسم! وما أعمق مدلوله!

٢ ـ المشعر الحرام ـ الموقف الثاني للحجيج

وبشأن تسمية «المشعر الحرام» بهذا الاسم قيل : إنّه مركز لشعائر الحجّ ، ومعلم من معالم هذه العبادة العظيمة.

ومن المهمّ أن نفهم أنّ «المشعر» من مادة «الشعور» ، ففي تلك الليلة التاريخية المثيرة «ليلة العاشر من ذي الحجّة» حيث حجّاج بيت الله الحرام قد أنهوا المرحلة الاولى من هذه الدورة التربوية في عرفات واندفعوا نحو المشعر الحرام ليقضوا ليلة يفترشون فيها الأرض ويلتحفون السماء ، ضمن إطار أرض محدودة الأبعاد أشبه ما تكون ـ وهي تموج بآلاف الحجّاج ـ بأرض المحشر ... في مثل هذه الظروف الزمانية والمكانية ... وفي إطار الالتزام بالإحرام وواجباته

٥٦

ومحرّماته ، تجيش في النفس الإنسانية «مشاعر» خاصّة تربط الإنسان بالملإ الأعلى وتحلق به في أبعاد جديدة سامية ... ومن هنا كانت تلك الأرض مشعرا.

٣ ـ درس الوحدة والاتحاد

جاء في بعض الروايات الشريفة أن قبائل قريش كانت ترى لنفسها مكانة دينية خاصّة بين العرب ، وكان أفرادها يسمّون أنفسهم «الحمس» (١) ويرون أنّهم أبناء إبراهيم عليه‌السلام وسدنة الكعبة ، ولذلك كانوا يترفّعون على بقية القبائل العربية.

ومن هنا فإنهم تركوا الوقوف في عرفات لأنّها خارج الحرم المكّي ، وما كانوا يودّون أن يحترموا أرضا تقع خارج حرم مكّة ، ظنّا منهم أنّ ذلك يقلّل من شأنهم بين قبائل العرب ، مع علمهم بأنّ الوقوف في عرفات من مناسك الحجّ الإبراهيمي (٢).

الآية الكريمة تبطل كلّ هذه الأوهام وتأمر بوقوف الحجّاج جميعا في عرفات ، ثمّ التحرك منها نحو المشعر الحرام ، ومن ثمّ الاتجاه إلى منى دون أن يكون لأحد امتياز على آخر(ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ).

الإفاضة التي تأمر بها الآية هي الإفاضة من المشعر الحرام إلى منى ، لأنّها جاءت بعد ذكر الإفاضة من عرفات إلى المشعر ، ومسبوقة بـ «ثمّ» التي تفيد الترتّب الزماني ، ويكون مدلول الآيتين معا الأمر بالوقوف الجماعي بعرفات ، ثمّ الإفاضة منها إلى المشعر الحرام ، ومن ثمّ إلى منى.

(وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ).

والأمر بالاستغفار في اختتام الآية حثّ على ترك تلك الأوهام والأفكار

__________________

(١) الحمس : هم الأفراد المتمسّكون بالدين.

(٢) سيرة ابن هشام ، ج ١ ، ص ٢١١ و ٢١٢.

٥٧

الجاهلية ، والاتجاه نحو تعلّم دروس الحجّ في المساواة ، و (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

٤ ـ ارتباط الآيات

قد يتساءل أحد عن الرّابطة بين قوله تعالى (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ) ومسألة الوقوف بعرفات والإفاضة منها إلى المشعر الحرام وثمّ إلى منى الّتي وردت الآية الشريفة منضمّة بعضها إلى بعض.

يمكن أن تكون الرّابطة هي الإشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ السعي المادي والاقتصادي إذا كان لله ومن أجل الحياة الشريفة فيكون هذا نوع من العبادة حال مناسك الحجّ ، أو أنّ حركة وانتقال الحجّاج من مكّة إلى عرفات ومنها إلى المواقف الاخرى يستلزم عادة نفقات وخدمات كبيرة ، فلو كان كلّ نوع من العلم والكسب في هذه الأيّام محرّم على الحجّاج فمن الواضح أنّهم سيقعون في حرج ومشقّة ، فلهذا ذكرت الآية الشريفة هذه العبارات منضمّة ومتتالية.

أو يقال إن المفهوم منها هو أنّ الآية تحذّر الحجّاج أن لا ينسيكم العمل والكسب وسائر الفعاليّات الاقتصادية ذكر الله والتوجّه إليه وإدراك عظمته في هذه المواقف الشريفة.

* * *

٥٨

الآيات

(فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (٢٠٠) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (٢٠١) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (٢٠٢))

سبب النّزول

في حديث الإمام الباقر عليه‌السلام : إنّ الجاهليّين كانوا يعقدون الاجتماعات بعد موسم الحجّ يذكرون فيها مفاخرهم الموهومة الموروثة من آبائهم ويمجّدون أسلافهم.

والقرآن الكريم يؤكّد في هذه الآيات أعلاه أنّ على المسلمين أن يذكروا الله تعالى ونعمه السّابغة بدل الخوض في تلك الأباطيل والأوهام والافتخارات الوهميّة (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ٢٩٧.

٥٩

ومثله ما أورده سائر المفسّرين عن ابن عبّاس وغيره أنّ أهل الجاهلية كانوا يعقدون مجالسا بعد الحجّ للتّفاخر بآبائهم وذكر مفاخرهم أو أنّهم يجتمعون في الأسواق كسوق (عكاظ ، ذي المجاز ، مجنّة) لم تكن هذه الأسواق مراكزا تجاريّة فحسب ، بل أماكن لتلك المجالس الباطلة التي يجتمع فيها النّاس ويذكرون مفاخر أسلافهم (١).

التّفسير

الحجّ رمز وحدة المسلمين :

هذه الآيات تواصل الأبحاث المتعلّقة بالحجّ في الآيات السابقة ، فالبرغم من أنّ أعراب الجاهلية ورثوا مناسك الحجّ بوسائط عديدة من إبراهيم الخليل عليه‌السلام ولكنّهم خلطوا هذه العبادة العظيمة والبناءة والّتي تعتبر ولادة ثانية لحجّاج بيت الله الحرام بالخرافات الكثيرة بحيث إنها خرجت من شكلها الأصلي ونسخت وتحوّلت إلى وسيلة للتفرقة والنّفاق.

الآية الأولى من الآيات محل البحث تقول (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً).

إنّ العزّة والعظمة يكملان بالارتباط في الله تعالى لا بالارتباط الوهمي بالأسلاف ، وليس المراد من هذه العبارة أنّكم اذكروا أسلافكم واذكروا الله كذلك ، بل هو إشارة إلى هذه الحقيقة بأنّكم تذكرون أسلافكم من أجل بعض الخصال والمواهب الحميدة ، فلما ذا لا تذكرون الله تعالى ربّ السموات والأرض والرازق والواهب لجميع هذه النعم في العالم وهو منبع ومصدر جميع الكمالات

__________________

(١) روح المعاني ، ج ٢ ، ص ٨٩ ـ والقرطبي ، ج ٢ ، ص ٨٠٣ ـ التفسير الكبير ، ج ٥ ، ص ١٨٣ ـ تفسير في ظلال القرآن ، ج ١ ، ص ٢٨٩ ـ تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٢٠٣.

٦٠