الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

عليك. أمّا بعد ، فقد قرأت كتابك ، وفهمت ما ذكرت فيه وما تدعو إليه ، وقد علمت أنّ نبيّا قد بقي ، وقد كنت أظنّ أنّه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك ...» ثمّ عدّد له الهدايا التي بعثها إليه وختم رسالته بعبارة «والسلام عليك» (١).

تقول كتب التاريخ إنّ المقوقس أرسل نحو أحد عشر نوعا من الهدايا وبينها طبيب أرسله لمعاجلة مرضى المسلمين. فقبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الهدايا ، لكنّه أرجع الطبيب قائلا: «إنّا قوم لا نأكل حتّى نجوع ، وإذا أكلنا لا نشبع» مشيرا بذلك إلى أنّ هذه القاعدة في تناول الطعام كافية لحفظ صحّة المسلمين (ولعلّه ـ إضافة إلى هذه القاعدة الصحّية العظيمة ـ لم يكن يأمن جانب الطبيب الذي كان مسيحيا وربما كان الطبيب متعصّبا أيضا،فلم يشأ أن يترك أرواح المسلمين بين يديه).

إن إكرام المقوقس سفير النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والهدايا التي أرسلها إليه ، وتقديم اسم محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على اسمه ، تدلّ كلّها على أنّه كان قد قبل دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قرارة نفسه، أو أنّه ـ على الأقل ـ مال إلى الإسلام. ولكنّه لكيّ لا يهتزّ مركزه امتنع عن إظهار ذلك علنا.

٢ ـ رسالة إلى قيصر الروم

«بسم الله الرحمن الرحيم. من محمّد بن عبد الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد ، فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرّتين فإن تولّيت فإنّما عليك إثم الأريسيّين (٢). يا اهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألّا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذّ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون».

كان حامل رسالة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القيصر رجل اسمه «دحية الكلبي».

__________________

(١) مكاتيب الرسول : ج ١ ص ١٠٠.

(٢) الأريسيون : هم العنصر الرومي والعمال.

٥٤١

وتهيّأ السفير للانطلاق نحو أرض الروم. ولكنّه قبل أن يصل القسطنطنية ، عاصمة القيصر، علم أنّ القيصر قد يمّم شطر بيت المقدس للزيارة. فاتّصل بحاكم «بصرى» الحارث بن أبي شمر وكشف له عن مهمّته. ويبدو أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان قد أجاز دفع الرسالة إلى حاكم (بصرى) ليوصلها هذا إلى القيصر.

بعد أن اطّلع الحاكم على الأمر ، استدعى عدي بن حاتم وكلّفه أن يسافر مع دحية إلى بيت المقدس ليوصل الرسالة إلى القيصر. التقى السفير قيصر في حمص.

وكانت الحاشية قبل ذلك قد أفهموا دحية أنّ عليه أن يسجد أمام القيصر ، وأن لا يرفع رأسه أبدا حتّى يأذن له. فقال دحية : لا أفعل هذا أبدا ، ولا أسجد لغير الله.

فأعجبوا بمنطقه المتين. وقال له أحد رجال البلاط : إذا لك أن تضع الرسالة تجاه منبر قيصر وتنصرف ، إنّ أحدا غير القيصر لا يمسّها. فشكره دحية على ذلك ، وترك الرسالة في ذلك المكان ، وانصرف.

فتح قيصر الرسالة ، وجلب انتباهه افتتاحها باسم الله ، وقال : أنا لم أر رسالة مثل هذه غير رسالة سليمان. ثمّ طلب مترجمه ليقرأ له الرسالة ويترجمها. احتمل قيصر أن يكون كاتب الرسالة هو النبيّ الموعود في التوراة والإنجيل. فعزم على معرفة دقائق حياة هذا النبيّ. فأمر بالبحث في الشام لعلّهم يعثرون على من يعرف شيئا عن محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. واتّفق أن كان أبو سفيان وجمع من قريش قد قدموا إلى الشام ـ التي كانت الجناح الشرقي للروم ـ للتجارة، فاتّصل بهم رجال القيصر وأخذوهم إلى بيت المقدس ، فسألهم القيصر : أيّكم أقرب نسبا من هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ؟ فقال أبو سفيان : أنا.

ثمّ قال القيصر للقريشيين ـ على طريق ترجمانه ـ : إني سائل (أبا سفيان) عن هذا الرجل الذي يزعم أنّه نبيّ. فإن كذبني فكذّبوه. فقال أبو سفيان : وايم الله لولا مخافة أن يؤثّر عليّ الكذب لكذبت.

٥٤٢

١ ـ ثمّ قال لترجمانه : سله كيف حسبه فيكم؟

أبو سفيان : هو فينا ذو حسب.

٢ ـ القيصر : هل كان من آبائه ملك؟

أبو سفيان : لا.

٣ ـ القيصر : هل كنتم تتّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟

أبو سفيان : لا.

٤ ـ القيصر : من يتّبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟

أبو سفيان : بل ضعفاؤهم.

٥ ـ القيصر : أيزيدون أم ينقصون؟

أبو سفيان : بل يزيدون.

٦ ـ القيصر : هل يرتدّ أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له؟

أبو سفيان : لا.

ثمّ استمرّ الحوار بين الاثنين عن موقف قريش من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن سجاياه ثمّ قال القيصر : إن يكن ما تقول حقّا فإنّه نبيّ ، وقد كنت أعلم أنّه خارج ، ولم أكن أظنّه منكم ، ولو أعلم أنّي أخلص إليه لأحببت لقاءه ، ولو كنت عنده لغسلت قدميه ـ حسب تقاليد الاحترام يومئذ ـ وليبلغن ملكه ما تحت قدميّ ، ثمّ دعا بكتاب رسول الله فقرأه ودعا دحية واحترمه وكتب جواب الرسالة وضمنّها بهدية وأرسلها الى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأظهر في جواب الرسالة ولاءه ومحبته إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

* * *

٥٤٣

الآيات

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨))

سبب النّزول

ورد في الروايات الشريفة أن علماء اليهود ونصارى نجران جاءوا إلى النبيّ الأكرمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأخذوا يجادلونه في إبراهيم ، فقالت اليهود : أنه كان يهوديا ، وقالت النصارى : أنه كان نصرانيا (وهكذا كلّ يدعي إبراهيم لنفسه لتكون له الغلبة والافتخار على خصمه. لأن إبراهيم عليه‌السلام كان نبيا عظيما لدى جميع الأديان والمذاهب) فنزلت الآيات أعلاه لتبيّن كذب هذه الادّعاءات.

٥٤٤

التّفسير

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) ....

هذه الآية تردّ على مزاعم اليهود النصارى ، وتقول : إنّ جدلكم بشأن إبراهيم النبيّ المجاهد في سبيل الله جدل عقيم ، لأنّه كان قبل موسى والمسيح بسنوات كثيرة ، والتوراة والإنجيل نزلا بعده بسنوات كثيرة (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) أيعقل أن يدين نبيّ سابق بدين لاحق؟ (أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ).

هنا يوبّخهم الله قائلا إنّكم قد بحثتم فيما يتعلّق بدينكم الذي تعرفونه (وشاهدتم كيف أنّكم حتّى في بحث ما تعرفونه قد وقعتم في أخطاء كبيرة وكم بعدتم عن الحقيقة ، فقد كان علمكم ، في الواقع ، جهلا مركّبا) ، فكيف تريدون أن تجادلوا في أمر لا علم لكم به ، ثمّ تدّعون ما لا يتّفق مع أيّ تاريخ؟

وفي نهاية الآية يقول : (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) توكيدا للموضوع السابق ، وتمهيدا لبحث الآية التالية.

أجل ، إنه يعلم متى بعث إبراهيم عليه‌السلام بالرسالة لا أنتم الذين جئتم بعد ذلك بزمن طويل وتحكمون في هذه المسألة بدون دليل.

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا).

وهذا ردّ صريح على هذه المزاعم يقول إنّ إبراهيم لم يكن من اليهود ولا من المسيحيّين، وإنّما كان موحّدا طاهرا مخلصا أسلم لله ولم يشرك به أبدا.

«الحنيف» من الحنف ، وهو الميل من شيء إلى شيء ، وهو في لغة القرآن ميل عن الضلال إلى الاستقامة.

يصف القرآن إبراهيم أنّه كان حنيفا لأنّه شقّ حجب التعصّب والتقليد الأعمى ،

٥٤٥

وفي عصر كان غارقا في عبادة الأصنام ، نبذ هو عبادة الأصنام ولم يطأ طيء لها رأسا.

إلّا أنّ العرب الذين كانوا يعبدون الأصنام في العصر الجاهلي كانوا يعتبرون أنفسهم حنفاء على دين إبراهيم. وقد شاع هذا شيوعا حدا بأهل الكتاب إلى أن يطلقوا عليهم اسم «الحنفاء». وبهذا اتّخذت لفظة «الحنيف» معنى معاكسا تماما لمعناها الأصلي ، غدت ترادف عبادة الأصنام. لذلك فإنّ القرآن بعد أن وصف إبراهيم بأنّه كان (حَنِيفاً) أضاف (مُسْلِماً) ثمّ أردف ذلك بقوله (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) لإبعاد احتمال آخر.

كيف كان إبراهيم مسلما؟

قد يسأل سائل : إذا لم نكن نعتبر إبراهيم من أتباع موسى ولا من أتباع عيسى فنحن بطريق أولى لا نستطيع أن نعتبره مسلما أيضا ، لأنّه كان قبل كلّ هذه الأديان. فكيف يصفه القرآن بأنّه كان مسلما؟

جواب هذا السؤال هو أنّ «الإسلام» في القرآن لا يعني إتّباع رسول الإسلام فقط، بل الكلمة بالمعنى الأوسع تعني التسليم المطلق لأمر الله لتوحيد الكامل الخالص من كلّ شرك وو ثنوية ، وكان إبراهيم حامل لواء ذلك الإسلام.

وممّا تقدّم يتّضح أن إبراهيم عليه‌السلام لم يكن تابعا لهذه الأديان. ولكن يبقى شيء واحد،وهو من هم الذين يحقّ لهم ادعاء العلاقة والارتباط بالدين الإبراهيمي وبعبارة اخرى كيف يمكننا اتباع هذا النبي العظيم الذي يفتخر باتّباعه جميع أتباع الأديان السماوية؟

آخر آية من الآيات مورد البحث توضح هذا المطلب وتقول :

٥٤٦

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) ...

لوضع حدّ لجدل أهل الكتاب حول إبراهيم ، نبيّ الله العظيم ، الذي كانت كلّ جهة تدّعي أنّه منها ، وكانوا يستندون غالبا إلى قرابتهم منه ، أو اشتراكهم معه في العنصر ، أعاد القرآن مبدأ رئيسا إلى الأذهان وهو أنّ الارتباط بالأنبياء والولاء لهم إنّما يكون عن طريق الإيمان واتّباعهم فقط. وبناء على ذلك ، فإنّ أقرب الناس لإبراهيم هم الذين يتّبعون مدرسته ويلتزمون أهدافه ، سواء بالنسبة للذين عاصروه (لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ) أو الذين بقوا بعده أوفياء لمدرسته وأهدافه ، مثل نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأتباعه (وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا).

والسبب واضح ، فاحترام الأنبياء إنّما هو لمدرستهم ، لا لعنصرهم وقبيلتهم ونسبهم. وعليه ، إذا كان أهل الكتاب بعقائدهم المشركة قد انحرفوا عن أهم مبدأ من مبادئ دعوة إبراهيم ، فقد بقي رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون ـ بالاستناد إلى هذا المبدأ نفسه وتعميمه على جميع أصول الإسلام وفروعه ـ من أوفى الأوفياء له ، فلا بدّ أن نعترف بأنّ هؤلاء هم الأقربون إلى إبراهيم ، لا أولئك. وفي ختام الآية يبشر الله تعالى الذين يتبعون رسالة الأنبياء حقيقة ويقول : (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ).

* * *

ملاحظة

الارتباط الديني أوثق الروابط :

ترى هذه الآية أنّ الرابط الوحيد الذي يربط الناس بالأنبياء هو اتّباع مدرستهم وأهدافهم ، ليس غير.

لذلك نجد أنّ النصوص المروية عن أئمة الإسلام تؤكّد هذا الموضوع بصراحة

٥٤٧

تامّة. من ذلك أنّه جاء في تفسير مجمع البيان ونور الثقلين ، نقلا

عن الإمام عليّ عليه‌السلام أنّه قال : «إنّ أولى الناس بالأنبياء أعملهم بما جاؤوا به ـ ثمّ تلا الآية المذكورة ثمّ قال : ـ إنّ وليّ محمّد من أطاع الله وإن بعدت لحمته ، وإنّ عدوّ محمّد من عصى الله وإن قربت قرابته».

* * *

٥٤٨

الآية

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩))

سبب النّزول

يقول بعض المفسّرين إنّ فريقا من اليهود سعوا أن يستميلوا إلى اليهودية بعض الشخصيات الإسلامية المجاهدة ، «معاذ» و «عمّار» وغيرهما مستعينين بالوساوس الشيطانية وغير ذلك. فنزلت هذه الآية تنذر المسلمين ممّا يبيت لهم اليهود.

التّفسير

(وَدَّتْ طائِفَةٌ) (١) (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) (٢).

سعى أعداء الإسلام ، وعلى الأخصّ اليهود ، كما جاء في سبب النزول أن

__________________

(١) «طائفة» من مادة الطواف. بمعنى الحركة حول الشيء. وبما أن الناس كانوا في السابق يسافرون بشكل جماعات لاحراز الأمان أطلقت هذه الكلمة عليها ، ثمّ استعملت في كل فئة وجماعة.

(٢) «لو» في جملة (لو يضلّونكم) بمعنى (أن) المصدرية ، وبما أن (لو) تعطي معنى التمني جاءت في هذه الجملة بدل (أن) ليكون التعبير أبلغ.

٥٤٩

يباعدوا بين المسلمين والإسلام ، ولم يتوانوا في سبيل ذلك في بذل كلّ جهد ، حتّى أنّهم طمعوا في إغراء أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المقرّبين لعلّهم يستطيعون صرفهم عن الإسلام. ولا شكّ أنّهم لو نجحوا في التأثير على عدد منهم ، أو حتّى على فرد واحد منهم ، لكان ذلك ضربة شديدة على الإسلام تمهّد الطريق لتضليل الآخرين أيضا.

هذه الآية تكشف خطّة الأعداء ، وتنذرهم بالكفّ عن محاولاتهم العقيمة استنادا إلى التربية التي نشأ عليها هذا الفريق من المسلمين في مدرسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث لا يمكن أن يكون هناك أيّ احتمال لارتدادهم. إنّ هؤلاء قد اعتنقوا الإسلام بكلّ وجودهم ، ولذلك فإنّهم يعشقون هذه المدرسة الإنسانية بمجامع قلوبهم ويؤمنون بها. وبناء على ذلك لا سبيل للأعداء إلى تضليلهم ، بل أنّهم إنّما يضلّون أنفسهم.

(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) وذلك لأنّهم بإلقاء الشبهات حول الإسلام وعلى رسول الإسلام واتّهامهما بشتّى التهم ، إنّما يربّون في أنفسهم روح سوء الظن. وبعبارة أوضح : إن العيّاب الذي يتصيّد الهفوات يعمى عن رؤية نقاط القوّة ، أو بسبب تعصّبه وعناده يرى النقاط المضيئة الإيجابية نقاطا مظلمة سلبية ، وكلّما ازداد إصرارا على هذا ، إزداد بعدا عن الحقّ.

ولعلّ تعبير (وَما يَشْعُرُونَ) إشارة إلى هذه الحالة النفسية ، وهي أنّ الإنسان يقع دون وعي منه تحت تأثير أقواله هو أيضا ، وفي الوقت الذي يحاول فيه بالسفسطة والكذب والافتراء أن يضلّ الآخرين ، لا يكون هو نفسه بمنأى عن التأثير بأكاذيبه ، فتروح هذه الاختلافات تؤثّر بالتدريج في روحه وتتمكّن فيه بعد فترة وجيزة بصورة عقيدة راسخة ، فيصدّقها ويضلّ نفسه بها.

* * *

٥٥٠

الآيتان

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١))

التّفسير

كتمان الحقّ لما ذا؟

تعقيبا للحديث عن الأعمال التخريبية لأهل الكتاب الواردة في الآية السابقة ، توجّه هاتان الآيتان الخطاب لأهل الكتاب وتلومهم على كتمانهم للحقائق وعدم التسليم لها. فتقول : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (١).

السؤال هنا أيضا موجه إلى أهل الكتاب عمّا يدعوهم إلى العناد واللجاجة

__________________

(١) جملة «تشهدون» تعني العلم والمعرفة وفقا للتفسير أعلاه ، كما ورد في مجمع البيان وغيره ـ وهذا العلم ناشئ من اطلاعهم على أوصاف النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواردة في التوراة والإنجيل ، ولكن البعض يرى أن المراد بالعلم هنا هو كفاية المعجزات لإثبات نبوة نبي الإسلام. وذهب آخرون إلى أن المراد تنكرون بها في الظاهر ، ولكن في جلساتكم الخاصّة تشهدون بصدق دعوة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحقانيته.

٥٥١

والإصرار عليهما بعد أن قرءوا علامات نبي الإسلام في التوراة والإنجيل ويعلمون ما فيهما ، فلما ذا ينكرونها؟

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ).

مرّة اخرى يستنكر القرآن قيامهم بالخلط بين الحقّ والباطل ، وإخفاءهم الحقّ مع علمهم به ، فهم على علمهم بالأمارات الواردة في التوراة والإنجيل عن رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخفونها.

إنّه يوبّخهم أوّلا على انحرافهم عن طريق الحقّ مع علمهم به ، ثمّ يوبّخهم في الآية الثانية على تضليلهم الآخرين (١).

* * *

__________________

(١) في تفسير الآية ٤٢ من سورة البقرة المشابهة لهذه الآية تحدّثنا عن هذا الموضوع ـ انظر الجزء الأوّل ـ.

٥٥٢

الآيات

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤))

سبب النّزول

يقول بعض المفسّرين القدامى إنّ اثني عشر من يهود خيبر وغيرهما وضعوا خطّة ذكيّة لزعزعة إيمان بعض المؤمنين ، فتعاهدوا فيما بينهم أن يصبحوا عند رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويتظاهروا باعتناق الإسلام ، ثمّ عند المساء يرتدّون عن إسلامهم ، فإذا سئلوا لماذا فعلوا هذا ، يقولون : لقد راقبنا أخلاق محمّد عن قرب ، ثمّ عند ما رجعنا إلى كتبنا وإلى أحبارنا رأينا أنّ ما رأيناه من صفاته وسلوكه لا يتّفق مع ما هو موجود في كتبنا ، لذلك ارتددنا. إنّ هذا سيحمل بعضهم على القول بأنّ

٥٥٣

هؤلاء قد رجعوا إلى كتبهم السماوية التي هم أعلم منّا بها ، إذا لا بدّ أن يكون ما يقولونه صحيحا. وبهذا تتزعزع عقيدتهم.

هناك سبب نزول آخر ، إلّا أنّ ما ذكرناه أقرب إلى معنى الآية.

التّفسير

مؤامرة خطيرة :

تكشف هذه الآية عن خطّة هدّامة أخرى من خطط اليهود ، وتقول إنّ هؤلاء لكي يزلزلوا بنية الإيمان الإسلامي توسّلوا بكلّ وسيلة ممكنة. من ذلك أنّ (طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) اتّفقوا أن يؤمنوا بما أنزل على المسلمين في أوّل النهار ويرتدّوا عنه في آخره (آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ).

لعلّ المقصود من أوّل النهار وآخره قصر المدة بين إيمانهم وارتدادهم ، سواء أكان ذلك في أوّل النهار حقّا أم في أيّ وقت آخر. إنّما قصر هذه المدّة يوحي إلى الآخرين أن يظنّوا أنّ هؤلاء كانوا يرون الإسلام شيئا عظيما قبل الدخول فيه ، ولكنّهم بعد أن أسلموا وجدوه شيئا آخر قد خيّب آمالهم ، فارتدّوا عنه.

لا شكّ أن مثل هذه المؤامرة كانت ستؤثّر في نفوس ضعفاء الإيمان ، خاصّة وأنّ أولئك اليهود كانوا من الأحبار العلماء ، وكان الجميع يعرفون عنهم أنّهم عالمون بالكتب السماوية وبعلائم خاتم الأنبياء. فإيمانهم ثمّ كفرهم كان قادرا على أن يزلزل إيمان المسلمين الجديد. لذلك كانوا يعتمدون كثيرا على خطّتهم الماهرة هذه ، وقوله : (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) دليل على أملهم هذا.

وكانت خطّتهم تقتضي أن يكون إيمانهم بالإسلام ظاهريا ، وأن يبقى ارتباطهم باتّباع دينهم.

٥٥٤

(وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ).

ويستفاد من بعض التفاسير أنّ يهود خيبر أوصوا يهود المدينة بذلك لئلّا يقع القريبون من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحت تأثيره فيؤمنوا به حقّا ، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ النبوّة يجب أن تكون في العنصر اليهودي ، فإذا ظهر نبيّ فلا بدّ أن يكون يهوديا.

يرى بعض المفسّرين أنّ جملة (لا تُؤْمِنُوا) من الإيمان الذي يعني «الوثوق والاطمئنان» كما هو أصل الكلمة اللغوي. وبناء على ذلك يكون المعنى : هذه المؤامرة يجب أن تبقى مكتومة وسرّية ، وأن لا يعلم بها أحد من غير اليهود ، حتّى المشركين ، لئلّا تنكشف وتحبط ، ففضح الله هذه المؤامرة في هذه الآيات وفضحهم ، ليكون ذلك درس عبرة للمؤمنين ، ودرس هداية للمعاندين.

(قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ).

هذه جملة معترضة جاءت ضمن كلام على لسان اليهود في ما قبلها وما بعدها من الآيات.

في هذه الآية التي تقع بين كلام اليهود ، يردّ الله عليهم ردّا قصيرا ولكنه عميق المعنى. فأوّلا : الهداية مصدرها الله ، ولا تختصّ بعنصر أو قوم بذاته ، فلا ضرورة في أن يجيء النبيّ من اليهود فقط. وثانيا : إنّ الذين شملهم الله بهدايته الواسعة لا تزعزعهم هذه المؤامرات ولا تؤثّر فيهم هذه الخطط.

(أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) (١).

هذه الآية استمرار لأقوال اليهود ، بتقدير عبارة ولا تصدقوا قبلها.

وعلى ذلك يصبح معنى الآية هكذا : «لا تصدّقوا أن ينال أحد ما نلتم من الفخر وما نزل عليكم من الكتب السماوية ، وكذلك لا تصدّقوا أن يستطيع أحد أن

__________________

(١) جملة «ولا تؤمنوا» تعني انكم لا تصدقوا ان ينزل كتاب سماوي على احد كما نزل عليكم.

٥٥٥

يجادلكم يوم القيامة أمام الله ويدينكم ، لأنكم خير عنصر وقوم في العالم ، وأنتم أصحاب النبوّة والعقل والعلم والمنطق والاستدلال!».

بهذا المنطق الواهي كان اليهود يسعون لنيل ميزة يتميّزون بها ، من حيث علاقتهم بالله، ومن حيث العلم والمنطق والاستدلال ، على الأقوام الأخرى. لذلك يردّهم الله في الآية التالية بقوله : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

أي : قل لهم إنّ المواهب والنعم ، سواء أكانت النبوّة والاستدلالات العقلية المنطقية ، أم المفاخر الأخرى ، هي جميعا من الله ، يسبغها على من يشاء من المؤهّلين اللائقين الجديرين بها. إنّ أحدا لم يأخذ عليه عهدا ووعدا ، ولا لأحد قرابة معه. إنّ جوده وعفوه واسعان ، وهو عليم بمن يستحقّهما.

(يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (١).

هذا توكيد لما سبق أيضا : إنّ الله يخصّ من عباده من يراه جديرا برحمته ـ بما في ذلك مقام النبوّة والقيادة ـ دون أن يستطيع أحد تحديده فهو صاحب الأفضال والنعم العظيمة.

ويستفاد ضمنا من هذه الآية الكريمة أن الفضل الإلهي إذا شمل بعض الناس دون بعض ، فليس ذلك المحدودية الفضل الإلهي ، بل بسبب تفاوت القابليات فيهم.

* * *

خطط قديمة

تعتبر هذه الآيات ، في الواقع ، من آيات إعجاز القرآن ، لأنّها تكشف أسرار

__________________

(١) «فضل» بمعنى كلّ شيء زاد عن المقدار اللازم من المواهب والنعم ، وهو معنى إيجابي وممدوح. ولكن تارة يستبطن معنى مذموما وسلبيا ، وذلك عند ما يأتي بمعنى الخروج عن حدّ الاعتدال. والميل إلى الإفراط ، ويأتي غالبا بصيغة (فضول) جمع (فضل) كما في قولهم (فضول الكلام).

٥٥٦

اليهود وأعداء الإسلام وتفضح خططهم لزعزعة مسلمي الصدر الأوّل ، فتيقّظ المسلمون ببركتها ، ووعوا وساوس الأعداء المغرية. ولكنّنا لو دقّقنا النظر لأدركنا أنّ تلك الخطط تجري في عصرنا الحاضر أيضا بطرق مختلفة. إنّ وسائل إعلام الأعداء القوية المتطوّرة مستخدمة الآن للغرض نفسه ، فهم يحاولون هدم أركان العقيدة الإسلامية في عقول المسلمين ، وبخاصة الجيل الشاب. وهم في هذا السبيل لا يتورّعون عن كلّ فرية ، ويلجأون إلى كلّ السبل ويتلبّسون بلبوس العالم والمستشرق والمؤرّخ وعالم الطبيعيات والصحفي ، بل حتّى الممثّل السينمائي.

إنّهم يصرّحون أنّ هدفهم ليس التبشير بالمسيحية وحمل المسلمين على اعتناقها ، ولا اعتناق اليهودية ، بل هدفهم هو هدم أسس المعتقدات الإسلامية في أفكار الشباب ، وجعلهم غير مهتمّين بدينهم وتراثهم. إنّ القرآن اليوم يحذّر المسلمين من هذه الخطط كما حذّرهم في القديم.

* * *

٥٥٧

الآيتان

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦))

سبب النّزول

نزلت هذه الآية بشأن يهوديّين أحدهما أمين وصادق ، والآخر وخائن منحط.

الأوّل هو «عبد الله بن سلام» الذي أودع عنده رجل ١٢٠٠ أوقية (١) من الذهب أمانة. ثمّ عند ما استعادها ردّها إليه. والله يثني عليه في هذه الآية لأمانته.

واليهوديّ الثاني هو «فنحاص بن عازورا» ائتمنه رجل من قريش بدينار ، فخانه فيه. والله يذمّه في هذه الآية لخيانته الأمانة.

وقيل إنّ القسم الأوّل من الآية يقصد جمعا من النصارى ، وأمّا الذين خانوا

__________________

(١) الأوقية تساوي ١ / ١٢ من الرطل ويساوي ٧ مثاقيل ، جمعها : أواق.

٥٥٨

الأمانة فهم جمع من اليهود. وقد تشير الآية إلى الحالتين ، إذ أنّنا نعلم أنّ الآيات ـ وإن كان لبعضها سبب نزول خاص ـ لها طابع عامّ وسبب النزول لا يخصّصها.

التّفسير

ترسم الآية ملامح أخرى لأهل الكتاب. كان جمع من اليهود يعتقدون أنّهم لا يكونون مسئولين عن حفظ أمانات الناس ، بل لهم الحقّ في تملّك أماناتهم! كانوا يقولون : إنّنا أهل الكتاب ، وأن النبيّ والكتاب السماوي نزلا بين ظهرانينا ، لذلك فأموال الآخرين غير محترمة عندنا. لقد تغلغلت فيهم هذه الفكرة بحيث غدت عقيدة دينية راسخة. وهذا ما يعبّر عنه القرآن بقوله (يَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) قال اليهود : إنّ لنا حقّ التصرّف بأموال العرب واغتصابها لأنّهم مشركون ولا يتّبعون دين موسى.

وقيل أيضا إن اليهود كانت لهم مع العرب اتفاقات اقتصادية وتجارية وعند ما أسلم العرب ، امتنع اليهود عن ردّ حقوقهم ، قائلين : إنكم عند عقد الاتفاق لم تكونوا من مخالفينا. أما وقد أتخذتم دينا جديدا فقد سقط حقّكم.

من الجدير بالذكر أنّ هذه الآية تعلن أنّ أهل الكتاب لم يكونوا جميعا ينهجون هذا الطراز من التفكير غير الإنساني ، بل كان فيهم جماعة ترى أنّ من واجبها أن تؤدّي حقّ الآخرين. ولذلك فإنّ القرآن لم يدنهم جميعا ولم يلق تبعة أخطاء بعضهم على الجميع ، ولذلك يقول (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ) (١) (يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً).

إنّ تعبير (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) أي واقفا ومسيطرا ، يشير إلى مبدأ أصيل في

__________________

(١) بشأن معنى قنطار انظر تفسير الآية ١٤ من هذه السورة.

٥٥٩

نفسيّة اليهود ، فكثير منهم لا يجدون أنفسهم ملزمين بردّ حقّ إلّا بالقوّة. ليس أمام المسلمين لاسترجاع حقوقهم منهم سوى هذا السبيل ، سبيل السعي للحصول على القوّة التي تجعلهم يردّون حقوقهم.

إنّ الحوادث التي جرت في الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة أثبتت بما لا يدع مجالا للشكّ أنّ القرارات الدولية والرأي العام العالمي ، وقضايا الحقّ والعدالة وأمثالها ، لا قيمة لها في نظر الصهاينة ولا معنى ، وما من شيء يحملهم على الخضوع للحقّ سوى القوّة. وهذه من المسائل التي تنبّأ بها القرآن.

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ).

هذه الآية تبيّن منطقهم في أكل أموال الناس ، وهو قولهم بأنّ «لأهل الكتاب» أفضلية على «الأميّين» أي على المشركين والعرب الذين كانوا أمّيّين غالبا أو أن المقصود كلّ من ليس له نصيب من قراءة التوراة والإنجيل ، لذلك يحقّ لهم أن يستولوا على أموال الآخرين ، وليس لأحد الحقّ أن يؤاخذهم على ذلك ، حتّى أنّهم ينسبون إلى الله تقرير التفوّق الكاذب.

لا شكّ أنّ هذا المنطق كان أخطر بكثير من مجرّد خيانة الأمانة ، لأنّهم كانوا يرون هذا حقّا من حقوقهم ، فيشير القرآن إلى هذا قائلا : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ).

هؤلاء يعلمون أنّه ليس في كتبهم السماوية أيّ شيء من هذا القبيل بحيث يجيز لهم خيانة الناس في أموالهم ، ولكنّهم لتسويغ أعمالهم القبيحة راحوا يختلقون الأكاذيب وينسبونها إلى الله.

الآية التالية تنفي مقولة اليهود (لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) التي قرّروا فيها

٥٦٠