الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

الآيتان

(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠))

سبب النّزول

قلنا في بداية هذه السورة أنّ الكثير من آياتها كانت ردّا على محاورات مسيحيّي نجران الذين جاؤوا في وفد مؤلّف من ٦٠ شخصا وفيهم عدد من زعمائهم بقصد التحاور مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

من بين المواضيع التي طرحت في ذلك الاجتماع مسألة الوهيّة المسيح التي رفضها رسول الله واستدلّ بأنّ المسيح ولد وعاش كبقية الناس ولا يمكن أن يكون إلها ، لكنّهم استدلّوا على الوهيّته بولادته من غير أب ، فنزلت الآية ردّا عليهم ، ولمّا رفضوا ذلك دعاهم إلى المباهلة ، وسوف يأتي ذكرها قريبا إن شاء الله.

التّفسير

نفي الوهية المسيح :

الآية الأولى تورد استدلالا قصيرا وواضحا في الردّ على مسيحيّي نجران

٥٢١

بشأن الوهية المسيح : إنّ ولادة المسيح من غير أب لا يمكن أن تكون دليلا على أنّه ابن الله أو أنّه الله بعينه ، لأنّ هذه الولادة قد جرت لآدم بصورة أعجب فهو قد ولد من غير أب ولا أم. وعليه ، فكما أنّ خلق آدم من تراب لا يستدعي التعجّب ، لأنّ الله قادر على كلّ شيء ، ولأن «فعله» و «إرادته» متناسقان فإذا أراد شيئا يقول له : كن فيكون ، كذلك ولادة عيسى من أمّ وبغير أب ، ليست مستحيلة.

وأساسا ، فإن الميسور والمعسور يتحقّقان بالنسبة لمن كانت قدرته محدودة كما في المخلوقات ، أمّا من كانت قدرته مطلقة فلا مفهوم للصعب والسهل بالنسبة له. فخلق ورقة واحدة تتساوى بالنسبة له مع خلق غابة من آلاف الكيلومترات ، وخلق ذرة واحدة كخلق المنظومة الشمسية لديه.

(الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ).

هذه الآية تؤكّد الموضوع وتقول : إنّ ما أنزلنا عليك بشأن المسيح أمر حقيقي من الله ولا يعتوره الشكّ ، فلا تتردّد في قبوله.

في تفسير (الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) للمفسّرين رأيان : الرأي الأول يقول : إنّ الجملة مبتدأ وخبر ، وبذلك يكون المعنى : الحقّ دائما من ربّك ، وذلك لأنّ الحقّ هو الحقيقة ، والحقيقة هو الوجود ، وكلّ وجود ناشئ من وجوده. لذلك فكلّ باطل عدم ، والعدم غريب على ذاته.

الرأي الثاني يقول : إنّ الجملة خبر لمبتدأ محذوف تقديره «تلك الأخبار».أي تلك الأخبار التي أنزلناها عليك حقائق من الله. وكلّ من التفسيرين ينسجم مع الآية.

* * *

٥٢٢

الآية

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١))

سبب النّزول

قيل نزلت الآيات في وفد نجران العاقب والسيد ومن معهما قالوا لرسول الله : هل رأيت ولدا من غير ذكر فنزلت : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ) ... الآيات فقرأها عليهم ، فلمّا دعاهم رسول الله إلى المباهلة (١) استنظروه إلى صبيحة غد من يومهم ذلك ، فلمّا رجعوا إلى رجالهم قال لهم الأسقف : انظروا محمّد في غد فإن

__________________

(١) «مباهلة» في الأصل من مادة «بهل» (على وزن اهل) بمعنى اطلاق وفك القيد عن الشيء وبذلك يقال للحيوان الطلق حيث لا توضع محالبها في كيس كي يستطيع وليدها أن يرضع بسهولة يقال له : «باهل» ، و «ابتهال» في الدعاء بمعنى التضرع وتفويض الأمر إلى الله.

وإذا فسّروها بمعنى الهلاك واللعن والبعد عن الله كذلك بسبب ترك العبد طلقا وحرا في كلّ شيء تترتب عليه هذه النتائج ، هذا معنى «المباهلة» لغة.

امّا مفهوما ما هو المعروف نزول هذه الآية ، بمعنى الملاعنة بين الشخصين ، ولذا يجتمع أفراد للحوار حول مسألة دينية مهمّة في مكان واحد ويتضرعون الله أن يفضح الكاذب ويعاقبه.

٥٢٣

غدا بولده وأهله فاحذروا مباهلته ، وإن غدا بأصحابه فباهلوه فإنّه على غير شيء.

فلمّا كان الغد جاء النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذا بيدي علي بن أبي طالب عليه‌السلام والحسن عليه‌السلام والحسين عليه‌السلام بين يديه يمشيان وفاطمة عليها‌السلام تمشي خلفه ، وخرج النصارى يتقدمهم أسقفهم. فلمّا رأى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أقبل بمن معه فسأل عنهم فقيل له : هذا ابن عمّه وزوج ابنته وأحب الخلق إليه ، وهذان ابنا بنته من علي وهذه الجارية بنته فاطمة أعزّ الناس عليه وأقربهم إلى قلبه ، وتقدّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجثا على ركبتيه. قال أبو حارثة الأسقف جثا والله كما جثا الأنبياء للمباهلة.

فرجع ولم يقدم على المباهلة ، فقال السيد : أذن يا أبا حارثة للمباهلة! فقال : لا. إنّي لأرى رجلا جريئا على المباهلة وأنا أخاف أن يكون صادقا ولئن كان صادقا لم يحل والله علينا حول وفي الدنيا نصراني يطعم الماء.

فقال الأسقف : يا أبا القاسم! إنا لا نباهلك ولكن نصالحك فصالحنا على ما ينهض به ، فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الفي حلة من حلل الاواقي قسمة كلّ حلة أربعون درهما فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك أو على عارية ثلاثين درعا وثلاثين رمى وثلاثين فرسا إن كان باليمن كيد ، ورسول الله ضامن حتّى يؤديها وكتب لهم بذلك كتابا.

وروي أن الأسقف قال لهم : إنّي لأرى وجوها لو سألوا الله أن يزيل جبلا من مكانه لازاله ، فلا تبتهلوا فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، ورد سبب نزول هذه الآيات في تفاسير اخرى مع تفاوت يسير مثل : تفسير أبو الفتوح الرازي وتفسير الكبير وغيرها ، وادّعى الفخر الرازي أن هذه الروايات متفق عليها عند علماء التفسير والحديث.

٥٢٤

التّفسير

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) ....

بعد الآيات التي استدلّ فيها على بطلان القول بالوهية عيسى بن مريم ، يأمر الله نبيّه بالمباهلة إذا جاءه من يجادله من بعد ما جاء من العلم والمعرفة. وأمره ان يقول لهم : إنّي سأدعو أبنائي ، وأنتم ادعوا أبناءكم ، وأدعو نسائي ، وأنتم ادعوا نساءكم ، وأدعو نفسي ، وتدعون أنتم أنفسكم ، وعندئذ ندعو الله أن ينزل لعنته على الكاذب منّا (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ).

ولا حاجة للقول بأنّ القصد من المباهلة لم يكن إحضار جمع من الناس للّعن ، ثمّ ليتفرّقوا كلّ إلى سبيله ، لأنّ عملا كهذا لن يكون له أيّ تأثير ، بل كان المنتظر أن يكون لهذا الدعاء واللعن أثر مشهود عيانا فيحيق بالكاذب عذاب فوري.

وبعبارة أخرى : فإنّ المباهلة ـ وإن لم يكن في الآية ما يشير إلى تأثيرها ـ كانت بمثابة «السهم الأخير» بعد أن لم ينفع المنطق والاستدلال ، فإنّ الدعاء وحده لم يكن المقصود بها ، بل كان المقصود منها هو «أثرها الخارجي».

* * *

بحوث

١ ـ المباهلة دليل قاطع على أحقية نبي الإسلام :

لعلّ قضية المباهلة بهذا الشكل لم تكن معروفة عند العرب ، بل كانت أسلوبا يبيّن صدق النبيّ وإيمانه بشكل قاطع. إذ يكف يمكن لمن لا يؤمن كلّ الإيمان

٥٢٥

بعلاقته بالله أن يدخل هذا الميدان ، فيطلب من معارضيه ان يتقدّموا معه إلى الله يدعونه أن ينزل لعناته على الكاذب ، وأن يروا سرعة ما يحلّ بالكاذب من عقاب؟ لا شكّ أنّ دخول هذا الميدان خطر جدّا ، لأنّ المبتهل إذا لم يجد استجابة لدعائه ولم يظهر أيّ أثر لعقاب الله على معارضيه ، فلن تكون النتيجة سوى فضيحة المبتهل. فكيف يمكن لإنسان عاقل ومدارك أن يخطو مثل هذه الخطوة دون أن يكون مطمئنا إلى أنّ النتيجة في صالحه؟ لهذا قيل إنّ دعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المباهلة تعتبر واحدا من الأدلّة على صدق دعوته وإيمانه الراسخ بها ، بصرف النظر عن النتائج التي كانت ستكشف عنها المباهلة.

تقول الروايات الإسلامية : عند عرض هذا الاقتراح للمباهلة ، طلب ممثّلو مسيحيّي نجران من رسول الله أن يمهلهم بعض الوقت ليتبادلوا الرأي مع شيوخهم.

فكان لهم ما أرادوا. وكانت نتيجة مشاورتهم ـ التي تعتمد على ناحية نفسية ـ هي أنّهم أمروا رجالهم بالدخول في المباهلة دون خوف إذا رأوا محمّدا قد حضر في أكثير من الناس ووسط جلبة وضوضاء ، إذ أنّ هذا يعني أنّه بهذا يريد بثّ الرعب والخوف في النفوس وليس في أمره حقيقة. أمّا إذا رأوه قادما في بضعة أنفار من أهله وصغار أطفاله إلى الموعد ، فليعلموا أنّه نبيّ الله حقّا ، وليتجنّبوا مباهلته.

وقد حضر المسيحيّون إلى المكان المعيّن ، ثمّ رأوا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أقبل يحمل الحسين على يد ويمسك الحسن باليد الأخرى ومن خلفه علي وفاطمة ، وهو يطلب منهم أن يؤمّنوا على دعائه عند المباهلة. وإذ رأى المسيحيّون هذا المشهد استولى عليهم الفزع ، ورفضوا الدخول في المباهلة ، وقبلوا التعامل معه بشروط أهل الذمّة.

٢ ـ أحد أدلة عظمة أهل البيت :

يصرّح المفسّرون من الشيعة والسنّة أنّ آية المباهلة قد نزلت بحقّ أهل بيت

٥٢٦

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنّ الذين اصطحبهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معه للمباهلة بهم هم : الحسن والحسين وفاطمة وعلي عليهم‌السلام. وعليه ، فإنّ «أبناءنا» الواردة في الآية ينحصر مفهومها في الحسن والحسين عليهم‌السلام ، ومفهوم «نساءنا» ينحصر في فاطمة عليها‌السلام ، ومفهوم «أنفسنا» ينحصر في علي عليه‌السلام. وهناك أحاديث كثيرة بهذا الخصوص.

حاول بعض أهل السنّة أن ينكر وجود أحاديث في هذا الموضوع ، فصاحب تفسير المنار يقول في تفسير الآية : الروايات متّفقة على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم اختار للمباهلة عليّا وفاطمة وولديهما ويحملون كلمة «نساءنا» على فاطمة وكلمة «أنفسنا» على عليّ فقط ، ومصادر هذه الروايات شيعية ، ومقصدهم منها معروف ، وقد اجتهدوا في ترويجها ما استطاعوا حتّى راجت على كثير من أهل السنّة. ولكن بالرجوع إلى مصادر أهل السنّة الأصلية يتّضح أنّ الكثير من تلك الطرق لا تنتهي بالشيعة وبكتب الشيعة ، وإنكار هذه الأحاديث الواردة بطريق أهل السنّة ، يسقط سائر أحاديثهم وكتبهم من الإعتبار.

لكي نلقي الضوء على هذه الحقيقة ، نورد هنا بعضا من رواياتهم ومصادرها :القاضي نور الله الشوشتري في المجلّد الثالث من كتابه النفيس «إحقاق الحقّ» ، الطبعة الجديدة ، ص ٤٦ ، يتحدّث عن اتّفاق المفسّرين في أنّ «أبناءنا» في هذه الآية إشارة إلى الحسن والحسين ، و «نساءنا» إشارة إلى فاطمة ، و «أنفسنا» إشارة إلى عليّ عليه‌السلام.

ثمّ يشير في هامش الكتاب إلى نحو ستّين من كبار أهل السنّة من الذين قالوا إنّ آية المباهلة نزلت في أهل البيت ، ويذكر أسماء هؤلاء العلماء بالتفصيل في الصفحات ٤٦ ـ ٧٦.

ومن المشاهير الذين نقل عنهم هذا التصريح :

٥٢٧

١ ـ مسلم بن الحجاج النيسابوري ، صاحب أحد الصحاح الستة المعروفة التي يعتمدها أهل السنّة. المجلّد ٧ ص ١٢٠ (طبعة محمّد علي صبيح ـ مصر).

٢ ـ أحمد بن حنبل في كتابه «المسند» ج ١ ص ١٨٥ (طبعة مصر).

٣ ـ الطبري في تفسيره المعروف : ج ٣ ص ١٩٢ (المطبعة الميمنية ـ مصر).

٤ ـ الحاكم في كتابه «المستدرك» ج ٣ ص ١٥٠ (طبعة حيدرآباد الدكن).

٥ ـ الحافظ أبو نعيم الأصفهاني في كتابه «دلائل النبوة» ص ٢٩٧ (طبعة حيدرآباد).

٦ ـ الواحديّ النيسابوري في كتابه «أسباب النزول» ص ٧٤ (المطبعة الهندية ـ مصر).

٧ ـ الفخر الرازي في تفسيره المعروف ، ج ٨ ص ٨٥ (المطبعة البهية ـ مصر).

٨ ـ ابن الأثير في كتابه «جامع الأصول» ج ٩ ص ٤٧٠ (مطبعة السنّة المحمدية ـ مصر).

٩ ـ ابن الجوزي في كتابه «تذكرة الخواص» ص ١٧ (طبعة النجف).

١٠ ـ القاضي البيضاوي في تفسيره ج ٢ ص ٢٢ (مطبعة مصطفى محمّد ـ مصر).

١١ ـ الآلوسي في تفسيره «روح المعاني» ج ٣ ص ١٦٧ (المطبعة المنيرية ـ مصر).

١٢ ـ الطنطاوي في تفسيره المعروف «الجواهر» ج ٢ ص ١٢٠ (مطبعة مصطفى البابي الحلبي ـ مصر).

١٣ ـ الزمخشري في تفسيره «الكشّاف» ج ١ ص ١٩٣ (مطبعة مصطفى محمّد).

١٤ ـ الحافظ أحمد بن حجر العسقلاني في كتابه «الإصابة» ج ٢ ص ٥٠٣

٥٢٨

(مطبعة مصطفى محمّد).

١٥ ـ ابن الصبّاغ في كتابه «الفصول المهمّة» ص ١٠٨ (طبعة النجف).

١٦ ـ العلّامة القرطبي في كتابه «الجامع لأحكام القرآن» ج ٣ ص ١٠٤ (طبعة مصر سنة ١٩٣٦).

جاء في كتاب «غاية المرام» عن صحيح مسلم في باب (فضائل علي بن أبي طالب) أنّ معاوية قال يوما لسعد بن أبي وقاص : لم لا تسبّ أبا تراب (علي عليه‌السلام)!؟ فقال : «تركت سبّه منذ أن تذكرت الأشياء الثلاثة التي قالها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ عليعليه‌السلام (وأحدها) عند ما نزلت آية المباهلة لم يدع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سوى فاطمة والحسن والحسين وعلي ، وقال : اللهمّ هؤلاء أهلي.

صاحب «الكشّاف» وهو من كبار علماء أهل السنّة ، يذهب إلى أنّ هذه الآية أقوى دليل على فضيلة أهل الكساء.

يتّفق المفسّرون والمحدّثون والمؤرّخون الشيعة أيضا أنّ هذه الآية قد نزلت في أهل البيت، وقد أورد صاحب تفسير «نور الثقلين» روايات كثيرة بهذا الشأن.

من ذلك أيضا ما جاء في كتاب «عيون أخبار الرضا» عن المجلس الذي عقده المأمون في قصره للبحث العلمي. وجاء فيه عن الإمام الرضا عليه‌السلام قوله : ... ميّز الله الطاهرين من خلقه ، فأمر نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمباهلة بهم في آية الابتهال. فقال عزوجل : يا محمّد (فمنّ حاجّك فيه ...» الآية. فأبرز النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّا والحسن والحسين وفاطمة صلوات الله عليهم .... وقال عليه‌السلام : فهذه خصوصية لا يتقدّمهم فيها أحد ، وفضل لا يلحقهم فيه بشر ، وشرف لا يسبقهم إليه خلق (١).

__________________

(١) نور الثقلين : ج ١ ص ٣٤٩ ، البرهان : ج ١ ص ٢٩٠ ، تفسير العيّاشي : ج ١ ص ١٧٧ ، البحار : ج ٢٠ ص ٥٢ وج ٦ ص ٦٥٢ الطبعة الجديدة.

٥٢٩

كذلك وردت روايات بهذا المضمون في تفسير البرهان وبحار الأنوار وتفسير العيّاشي ، وكلّها تقول إنّ الآية قد نزلت في أهل البيت.

٣ ـ اعتراض وجوابه :

هنا اعتراض مشهور أورده الفخر الرازي وآخرون على نزول هذه الآية في أهل البيت. يقول هؤلاء : كيف يمكن أن نعتبر أنّ القصد من «أبناءنا» هو الحسن والحسين عليهما‌السلام مع أنّ «أبناء» جمع ولا تطلق على الاثنين؟ وكذلك «نساءنا» جمع ، فكيف تطلق على سيّدة الإسلام فاطمة عليها‌السلام وحدها؟ وإذا كان القصد من «أنفسنا» عليّا عليه‌السلام وحده فلما ذا جاء بصيغة الجمع؟

الجواب

أوّلا : كما سبق أن شرحنا بإسهاب ، أنّ هناك أحاديث كثيرة في كثير من المصادر الإسلامية الموثوق بها ـ شيعية وسنّية ـ تؤكّد نزول هذه الآية في أهل البيت ، وهي كلّها تقول إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يدع للمباهلة غير علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، هذا بذاته قرينة واضحة لتفسير الآية ، إذ أنّ من القرائن التي تساعد على تفسير القرآن هي السنّة وما ثبت من أسباب النزول.

وعليه ، فإنّ الاعتراض المذكور ليس موجّها للشيعة فقط ، بل أنّ على جميع علماء الإسلام أن يجيبوا عليه ، بموجب ما ذكرناه آنفا.

ثانيا : إطلاق صيغة الجمع على المفرد أو المثنى ليس أمرا جديدا فهو كثير الورود في القرآن وفي غير القرآن من الأدب العربي ، وحتى غير العربي.

من ذلك مثلا أنّه عند وضع قانون ، أو إعداد اتّفاقية ، تستعمل صيغة الجمع على وجه العموم. فمثلا ، قد يقال في اتّفاقية : إنّ المسؤولين عند تنفيذها هم الموقّعون عليها وأبناؤهم. في الوقت الذي يمكن أن يكون لأحد الأطراف ولد واحد أو

٥٣٠

اثنين. فلا يكون في هذا أيّ تعارض مع تنظيم الاتّفاقية بصيغة الجمع. وذلك لأنّ هناك مرحلتين ، مرحلة «الاتفاق» ومرحلة «التنفيذ». ففي المرحلة الأولى قد تأتي الألفاظ بصيغة الجمع لكي تنطبق على جميع الحالات. ولكن في مرحلة التنفيذ قد تنحصر الحالة في فرد واحد ، وهذا لا يتنافى مع عمومية المسألة.

وبعبارة أخرى : كان على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بموجب اتفاقه مع مسيحيّي نجران ، أن يدعو للمباهلة جميع أبنائه وخاصّة نسائه وجميع من كانوا بمثابة نفسه. إلّا أنّ مصداق الاتّفاق لم ينطبق إلّا على ابنين وامرأة ورجل (فتأمّل!).

في القرآن مواضع متعدّدة ترد فيها العبارة بصيغة الجمع ، إلّا أنّ مصداقها لا ينطبق إلّا على فرد واحد. فمثلا نقرأ : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) (١) المقصود من «الناس» في هذه الآية هو «نعيم بن مسعود» حسب قول فريق من المفسّرين ، لأنّ هذا كان قد أخذ أموالا من أبي سفيان في مقابل إخافة المسلمين من قوّة المشركين.

وأيضا نقرأ : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) (٢). فهنا المقصود بـ «الذين» في هذه الآية ، على رأي كثير من المفسّرين ، هو «حي بن أخطب» أو «فنحاص».

وقد يطلق الجمع على المفرد للتكريم ، كما جاء عن إبراهيم : (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ) (٣). فهنا أطلقت كلمة «أمّة» وهي اسم جمع ، على مفرد.

٤ ـ كما أنّ آية المباهلة تفيد بأنّ أبناء البنت يعتبرون أبناء أبيها أيضا ، بخلاف ما كان سائدا في الجاهلية في اعتبار أبناء الابن فقط هم أبناء الجد ، إذ

__________________

(١) آل عمران : ١٧٣.

(٢) آل عمران : ١٨١.

(٣) النحل : ١٢٠.

٥٣١

كانوا يقولون :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد

هذا اللون من التفكير كان من بقايا التقاليد الجاهلية الخاطئة التي لم تكن ترى المرأة عضوا من أعضاء المجتمع ، بل كانت تنظر إليها على أنّها ووعاء لنموّ الأبناء فقط ، وترى أنّ النسب يلحق بالآباء لا غير. يقول شاعرهم :

وإنّما أمّهات الناس أوعية

مستودعات وللأنساب آباء

غير أنّ الإسلام قضى على هذا اللون من التفكير ، وساوى بين أبناء الابن وأبناء البنت.

نقرأ في الآية ٨٤ و ٨٥ من سورة الأنعام بشأن أبناء إبراهيم : (مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ).

فالمسيح عيسى بن مريم عدّ هنا من أبناء إبراهيم مع أنّه كان ابنا من جهة البنت.

الأحاديث والروايات الواردة عن طريق الشيعة والسنّة بشأن الحسن والحسين عليهما‌السلام تشير إلى كلّ منهما بـ «ابن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» كرارا.

وفي الآيات التي تحرّم الزواج ببعض النساء نقرأ : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ). يتّفق علماء الإسلام على أن الرجل يحرم عليه الزواج من زوجة ابنه وزوجة حفيده سواء أكان من جهة الابن أم البنت ، باعتبار شمولهم بالآية المذكورة.

٥ ـ هل المباهلة تشريع عام؟

لا شكّ أنّ هذه الآية ليست دعوة عامّة للمسلمين للمباهلة ، إذ أنّ الخطاب موجّه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحده. ولكن هذا لا يمنع من أن تكون المباهلة مع المعارضين حكما عامّا ، وأنّ الأتقياء من المؤمنين الذين يخشون الله ، لهم أن

٥٣٢

يطلبوا من الذين لم ينفع فيهم المنطق والاستدلال التقدّم للمباهلة.

وتظهر عمومية هذا الحكم في بعض الروايات الإسلامية ، فقد جاء في تفسير نور الثقلين ، ج ١ ص ٣٥١ عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : إذا كان كذلك (أي إذا لم يقبل المعاند الحقّ) فادعهم إلى المباهلة ... أصلح نفسك ثلاثا ... وأبرز أنت وهو إلى الجبان (الصحراء) فشبّك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ، ثمّ أنصفه وابدأ بنفسك وقل : اللهمّ ربّ السماوات السبع وربّ الأرضين السبع عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم إن كان (فلانا) جحد حقّا وادّعى باطلا فأنزل عليه حسبانا (بلاء) من السماء وعذابا أليما. ثمّ ردّد الدعوة عليه ... فإنّك لا تلبث أن ترى ذلك فيه.

ويتّضح أيضا من هذه الآية أنّه ـ خلافا للحملات التي يشنّها الزاعمون أنّ الإسلام دين الرجال وليس للمرأة فيه أيّ حساب ـ قد ساهمت المرأة المسلمة مع الرجل خلال اللحظات الحسّاسة في تحقيق الأهداف الإسلامية ووقفت معه ضدّ الأعداء. إنّ الصفحات المشرقة التي تمثّل سيرة سيّدة الإسلام فاطمة الزهراء عليها‌السلام وابنتها السيّدة زينب الكبرى وغيرهما من نساء الإسلام اللآتي سرن على طريقهما دليل على هذه الحقيقة.

* * *

٥٣٣

الآيتان

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣))

التّفسير

تقول الآية ـ بعد شرح حياة المسيح عليه‌السلام ـ : إنّ ما قصصناه عليك من قصة عيسى حقيقة أنزلها الله عليك. وعليه ، فإنّ المزاعم الباطلة القائلة بالوهية المسيح ، أو اعتباره ابن الله ، أو بعكس ذلك اعتباره لقيطا ، كلّها خرافات باطلة (إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ).

ثمّ تضيف للتوكيد : إنّ الذي يليق للعبادة هو الله (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) وحده ، وأن اتّخاذ معبود آخر دونه عمل بعيد عن الحقّ والحقيقة (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) فهو قادر على أن يخلق ولدا بدون أب ، وذلك على الله يسير.

«القصص» مفرد ، تعني القصّة ، وهي في الأصل من «القص» بمعنى تعقّب الأثر. في موضع آخر من القرآن قالت أمّ موسى لابنتها «قصّيه» أي عقّبيه وابحثي عنه (وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ) (١) وقولهم لثأر الدم «القصاص» لأنّه

__________________

(١) القصص : ١١.

٥٣٤

تتبع لحقوق أصحاب الدم.

و «القصّة» تعني بتاريخ القدامى والبحث في سير حياتهم ومن ذلك يعلم أن المشار إليه في (هذا) هو قصة حياه المسيح لا القرآن الكريم ولا قصص الأنبياء.

الآية الثانية تهدد من لم يستسلم هؤلاء للحقّ بعد الاستدلالات المنطقية في القرآن بشأن المسيح عليه‌السلام ، وكذلك إذا لم يخضعوا للمباهلة واستمرّوا في عنادهم وتعصّبهم ، لأن ذلك دليل على أنّهم ليسوا طلّاب حقّ ، بل هم مقيّدون بأغلال تعصّبهم المجحف ، وأهوائهم الجامحة ، وتقاليدهم المتحجّرة ، وبذلك يكونون من المفسدين في المجتمع : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ).

لأن هدفهم تخدير الناس وإفساد العقائد السليمة لأفراد المجتمع ، ومن المعلوم أن الله تعالى يعرف هؤلاء ، ويعلم بنياتهم وسيجازيهم في الوقت المناسب.

* * *

٥٣٥

الآية

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤))

التّفسير

الدعوة إلى الاتّحاد :

بدأ القرآن في الآيات السابقة بدعوة المسيحيّين إلى الاستدلال المنطقي ، وإذ رفضوا ، دعاهم إلى المباهلة ، فكان لهذا أثره في نفوسهم ، فرفضوها ولكنّهم رضخوا لشروط اعتبارهم ذمّيّين. فانتهز القرآن هذه الفرصة من استعدادهم النفسي ، وعاد إلى طريقة الاستدلال.

غير أنّ الاستدلال هذه المرّة يختلف عن الاستدلال السابق اختلافا كبيرا.

في الآيات السابقة كانت الدعوة إلى الإسلام (بكلّ تفاصيله). ولكنّ الدعوة هذه المرّة تتّجه إلى النقاط المشتركة بين الإسلام وأهل الكتاب. وبهذا يعلّمنا القرآن درسا ، مفاده:أنّكم إذا لم توفّقوا في حمل الآخرين على التعاون معكم في

٥٣٦

جميع أهدافكم ، فلا ينبغي أن يقعد بكم اليأس عن العمل ، بل اسعوا لإقناعهم بالتعاون معكم في تحقيق الأهداف المشتركة بينكم ، كقاعدة للانطلاق إلى تحقيق سائر أهدافكم المقدّسة (قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً).

هذه الآية تعتبر نداء «الوحدة والاتّحاد» إلى أهل الكتاب ، فهي تقول لهم :إنّكم تزعمون ـ بل تعتقدون ـ أنّ التثليث (أي الاعتقاد بالآلهة الثلاثة) لا ينافي التوحيد ، لذلك تقولون بالوحدة في التثليث. وهكذا اليهود يدعون التوحيد وهم يتكلّمون بكلام فيه شرك ويعتبرون «العزير» ابن الله.

يقول لهم القرآن : إنّكم جميعا ترون التوحيد مشتركا ، فتعالوا نضع يدا بيد لنحيي هذا المبدأ المشترك بدون لفّ أو دوران ، ونتجنّب كلّ تفسير يؤدّي إلى الشرك والابتعاد عن التوحيد.

والملفت للنظر أن الآية الشريفة تؤكّد موضوع التوحيد في ثلاث تعابير مختلفة ، فأوّلا ذكرت (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) وفي الجملة الثانية (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) وفي المرّة الثالثة قالت (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ). ولعلّ في هذه الجملة الأخيرة إشارة إلى أحد موضوعين :

«الأوّل» : أنّه لا يجوز تأليه المسيح ، وهو بشر مثلنا ومن أبناء نوعنا.

«والثاني» : أنّه لا يجوز الاعتراف بالعلماء المنحرفين الذين يستغلّون مكانتهم ويغيّرون حلال الله وحرامه كيفما يحلو لهم ، ولا يجوز اتّباع هؤلاء.

ويتّضح ممّا سبق من الآيات القرآنية أنّه كان هناك بين علماء أهل الكتاب جماعات يحرّفون أحكام الله بحسب «مصالحهم» أو «تعصّبهم». إنّ الإسلام يرى أنّ من يتّبع أمثال هؤلاء دون قيد أو شرط وهو يعلم بهم ، إنّما هو يعبدهم بالمعنى الواسع لكلمة العبادة.

٥٣٧

إنّ سبب هذا الحكم واضح ، فإن حقّ وضع القوانين والتشريعات يعود إلى الله ، فإذا قرّر أحد هذا الحقّ لغير الله فقد أشرك.

يقول المفسّرون في ذيل تفسير هذه الآية إنّ «عدي بن حاتم» الذي كان نصرانيا ثمّ أسلم ، عند ما سمع هذه الآية ، فهم من كلمة «أرباب» أنّ القرآن يقول إنّ أهل الكتاب يعبدون بعض علمائهم. فقال للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما كنّا نعبدهم يا رسول الله.

فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما كانوا يحلّون لكم ويحرّمون فتأخذون بقولهم؟

فقال : نعم.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو ذاك (١).

في الواقع يعتبر الإسلام الرقّ والاستعمار الفكري نوعا من العبودية والعبادة لغير الله ، وهو كما يحارب الشرك وعبادة الأصنام ، يحارب كذلك الاستعمار الفكري الذي هو أشبه بعبادة الأصنام.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ «أرباب» جمع ، لذلك لا يمكن أن نقول إنّ المقصود هو النهي عن عبادة عيسى وحده. ولعلّ النهي يشمل عبادة عيسى وعبادة العلماء المنحرفين.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

لو أنّهم ـ بعد دعوتهم دعوة منطقية إلى نقطة التوحيد المشتركة ـ أصرّوا على الاعتراض ، فلا بدّ أن يقال لهم : اشهدوا أنّنا قد أسلمنا للحق ، ولم تسلموا ، وبعبارة اخرى: فاعلموا من يطلب الحق ، ومن يتعصّب ويعاند. ثمّ قولوا لهم (اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) فلا تأثير لعنادكم وعصيانكم وابتعادكم عن الحقّ في أنفسنا ، وإنّا ما زلنا على طريقنا ـ طريق الإسلام ـ سائرون ، لا نعبد إلّا الله ، ولا نلتزم إلّا شريعة

__________________

(١) مجمع البيان : ذيل الآية المذكورة. تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٣٥٢.

٥٣٨

الإسلام ، ولا وجود لعبادة البشر بيننا.

* * *

بحث

رسائل النبيّ إلى رؤساء العالم :

يقول التاريخ : عند ما استقرّ الإسلام نسبيّا في الحجاز ، أرسل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رسائل إلى عدد من كبار رؤساء العالم في ذلك العصر. في بعض هذه الرسائل استند إلى هذه الآية الداعية إلى التوحيد ـ المبدأ المشترك بين الأديان السماوية ـ.

ولأهميّة الموضوع ندرج بعضا من تلك الرسائل :

١ ـ رسالة إلى المقوقس (١)

«بسم الله الرحمن الرحيم ، من محمّد بن عبد الله إلى المقوقس عظيم القبط ، سلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد فإنّي أدعوك بدعاية الإسلام ، أسلم تسلم ، يؤتك الله أجرك مرّتين ، فإن تولّيت فإنّما عليك إثم القبط (٢). يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلّا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتّخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولّوا فقولوا اشهدوا بأنّا مسلمون»(٣).

حمل «حاطب بن أبي بلتعة» رسالة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المقوقس حاكم مصر ، فوجده قد رحل إلى الإسكندرية ، فركب إليه ، وسلّمه الرسالة ، ثمّ قال لحاطب : ما منعه إن كان نبيّا أن يدعو على من خالفه وأخرجه من بلده إلى غيرها أن يسلّط عليهم؟

__________________

(١) المقوقس : حاكم مصر من قبل هرقل ملك الروم ، وكان نصرانيا.

(٢) الأقباط : أقوام كانت تقطن مصر.

(٣) مكاتيب الرسول : ج ١ ص ٩٧.

٥٣٩

فقال له حاطب : ألست تشهد أنّ عيسى بن مريم رسول الله؟ فماله حيث أخذه قومه ، فأرادوا أن يقتلوه ، أن لا يكون دعا عليهم ، أن يهلكهم الله تعالى ، حتّى رفعه الله إليه؟

قال : أحسنت أنت حكيم من عند حكيم.

ثمّ قال له حاطب : إنّه كان قبلك من يزعم أنّه الربّ الأعلى ـ يعني فرعون ـ فأخذه الله نكال الآخرة والأولى فانتقم به ، ثمّ انتقم منه ، فاعتبر بغيرك ، ولا يعتبر غيرك بك.

إنّ هذا النبيّ دعا الناس ، فكان أشدّهم عليه قريش ، وأعداهم له اليهود ، وأقربهم منه النصارى ، ولعمري ، ما بشارة موسى بعيسى عليهما الصلاة والسلام ، إلّا كبشارة عيسى بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما دعاؤنا إيّاك إلى القرآن ، إلّا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل ، وكلّ نبيّ أدرك قوما فهم أمته ، فالحقّ عليهم أن يطيعوه ، فأنت ممّن أدرك هذا النبيّ ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح بل نأمرك به.

بقي حاطب بن أبي بلتعة أيّاما ينتظر جواب المقوقس على رسالة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبعدها استدعاه المقوقس إلى قصره واستزاده معرفة بالإسلام وقال له : إلى ما يدعو محمّد؟

قال حاطب : إلى أن نعبد الله وحده ، ويأمر بالصلاة ، خمس صلوات في اليوم والليلة ، ويأمر بصيام رمضان ، وحجّ البيت ، والوفاء بالعهد ، وينهي عن أكل الميتة ، والدم ... ثمّ شرح له بعض جوانب حياة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فقال المقوقس : هذه صفته ، وكنت أعلم أنّ نبيّا قد بقي ، وكنت أظنّ أنّ مخرجه بالشام ، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله ، فأراه قد خرج من أرض العرب.

ثمّ دعا كاتبه الذي يكتب له بالعربية فكتب إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «بسم الله الرحمن الرحيم ، لمحمّد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط ، سلام

٥٤٠