الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

الآية

(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧))

التّفسير

إنّنا نعلم أنّ هذه الدنيا هي دنيا العلل والأسباب ، وأنّ الله قد دبّر أمر الخلق بحيث إنّ خلق كلّ كائن يتمّ ضمن سلسلة من العوامل. فلكي يولد إنسان قرّر الله أن يكون ذلك عن طريق الاتّصال الجنسي ، ونفوذ الحيمن في البويضة. لذلك حقّ لمريم أن تصيبها الدهشة وأن تتقدّم بسؤالها : كيف يمكن أن تحمل وتلد ويكون لها ولد بغير أن يكون لها أيّ اتّصال جنسي مع أيّ بشر؟ (قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ).

فجاءتها الملائكة بأمر ربّها تخبرها بأنّ الله يخلق ما يشاء وكيفما يشاء ، فنظام الطبيعة هذا من خلق الله وهو يأتمر بأمره ، والله قادر على تغيير هذا النظام وقتما يشاء ، فيخلق وفق أسباب وعوامل أخرى غير عادية ما يشاء : (كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ).

٥٠١

ثمّ لتوكيد هذا الأمر وإنهائه يقول (إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ).

إنّ تعبير «كن فيكون» إشارة إلى سرعة الخلق.

بديهيّ أن لفظة «كن» تشير في الحقيقة إلى إرادة الله الحاسمة التي لا يعتورها الأخذ والرد. أي أنّه ما إن يشاء أمرا ويصدر أمره بالخلق حتّى تتحقّق مشيئته في عالم الوجود.

من الجدير بالالتفات أنّه بشأن خلق عيسى قال : «يخلق» ولكنّه بشأن خلق يحيى قبل بضع آيات قال : «يفعل». ولعلّ هذا الاختلاف في التعبير ناشئ من اختلاف طريقة خلق هذين النبيّين ، فأحدهما خلق بطريقة طبيعية ، والآخر خلق بطريقة خارقة للطبيعة. وهناك ملاحظة اخرى وهي أنّ هذه الآيات تذكر في بدايتها محادثة الملائكة مع مريم. وهنا محادثتها مع الله عزوجل ، وكأنها بلغ بها الوجد والجذبة الإلهيّة أن زالت الوسائط واتّصلت مع مبدأ العزة ، فأخذت تحدثه وتسمع منه مباشرة. (وطبعا لا إشكال في تكلّم غير الأنبياء مع الله تعالى إذا لم يكن بصورة الوحي).

* * *

٥٠٢

الآيتان

(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩))

التّفسير

بقية امتيازات المسيح عليه‌السلام :

بعد أن ذكرت الآيات السابقة أربع صفات للمسيح عليه‌السلام (وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقربين ويكلم الناس في المهد ، ومن الصالحين) شرعت هاتان الآيتان بذكر صفتين أخريين من صفات هذا النبي العظيم ، فالأولى تقول : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) ففي البداية تشير إلى تعليمه الحكمة والعلم بشكل عام ، ثمّ تبيّن مصداقين من مصاديق الكتاب والحكمة ، وهما التوراة والإنجيل.

٥٠٣

إنّ الذين يختارهم الله لقيادة الناس وهدايتهم ، لا بدّ أن يكونوا في أعلى درجة من العلم والمعرفة وأن يقدّموا أسمى التعاليم والقوانين البنّاءة ، ثمّ بعد ذلك عليهم أن يظهروا أدلّة واضحة على علاقتهم بالله ، لتوكيد مهمّتهم. وبهذين الوسيلتين تكتمل عملية هداية الناس ، وفي الآيات أعلاه تمت الإشارة إلى هذين الأمرين. ففي الأولى كان الكلام عن علم المسيح وكتبه السماوية. وفي الآية الثانية إشارة إلى معجزاته العديدة. ثمّ تبيّن الهدف من كلّ ذلك وهو هداية بني إسرائيل المنحرفين (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ).

من الجدير بالذكر أنّ الآية تفيد أنّ رسالة عيسى كانت موجّهة إلى بني إسرائيل فقط. وهذا لا يتنافى مع كونه من أولي العزم ، لأنّ أولي العزم هم الأنبياء الذين جاؤوا بدين جديد، حتّى وإن لم يكن عالميّ الرسالة. وقد جاء في تفسير «نور الثقلين» حديث عن اقتصار رسالة عيسى على بني إسرائيل (١).

إلّا أنّ بعض المفسّرين يرون احتمال عالمية رسالة المسيح ، وأنّها لم تكن محصورة ببني إسرائيل ، على الرغم من أنّ بني إسرائيل كانوا على رأس الذين أرسل إليهم لهدايتهم. يورد المرحوم العلّامة المجلسي في «بحار الأنوار» أخبارا عن أولي العزم من الأنبياء تؤيّد أنّها كانت رسالات عالمية (٢).

ثمّ تضيف الآية (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) وليست آية واحدة ، بل آيات عديدة (لأنّ التنوين جاء هنا لبيان عظمة هذه الآية ، لا لبيان وحدتها».

ولمّا كانت دعوة الأنبياء في الحقيقة دعوة إلى حياة حقيقية ، فإنّ هذه الآية ـ عند بيان معجزات السيّد المسيح عليه‌السلام ـ تبدأ بذكر بثّ الحياة في الأموات بإذن الله ، وتقول على لسان المسيح عليه‌السلام (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ).

__________________

(١) نور الثقلين : ج ١ ص ٣٤٣.

(٢) بحار الأنوار : ج ١١ ص ٣٢ الطبعة الجديدة.

٥٠٤

إنّ قضية إحياء الموتى التدريجي بإذن الله ليست عويصة ، لأنّنا نعلم أنّ جميع الكائنات الحيّة مخلوقة من التراب والماء ، إلّا أنّ المعجزة في أن هذا الخلق الذي تحقّق على امتداد سنوات طويلة. فما الذي يمنع من أن يكثّف الله تلك العوامل والأسباب بحيث تتمّ مراحل الخلق بسرعة فائقة ، ويتحوّل الطين إلى كائن حي؟ بديهيّ أنّ تحقّق هذا الأمر في ذلك المحيط ، وفي أي محيط آخر ، سند حيّ؟ ودليل واضح على علاقة صاحب المعجزة بعالم ما وراء الطبيعية ، وعلى قدرة الله اللامتناهية.

ثمّ تشير إلى معالجة الأمراض الصعبة العلاج أو التي لا علاج لها ، وتقول على لسانه:(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ) (١) (وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ). لا شكّ أنّ القيام بكلّ هذه الأعمال وخاصّة لدى علماء الطبّ في ذلك الزمان كان من المعجزات التي لا يمكن إنكارها.

بعد ذلك تشير إلى إخباره عن أسرار الناس الخافية ، فلكلّ امرئ في حياته بعض الأسرار التي لا يعرف الآخرون شيئا عنها. فإذا جاء من يخبرهم بما أكلوه ، أو ما ادّخروه ، فهذا يعني أنّه يستقي معلوماته من مصدر غيبي : (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) وأخيرا يقول إنّ هذه كلّها دلائل صادقة للذين يؤمنون منكم : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

* * *

بحوث

١ ـ أكانت معجزات المسيح عجيبة؟

يصرّ بعض المفسّرين ـ مثل صاحب المنار ـ على تأويل المعجزات التي ذكرها القرآن للمسيح بشكل من الأشكال. من ذلك قولهم إنّ المسيح اكتفى بمجرّد

__________________

(١) «أكمه» قيل أنه يعني أعمى ، وذهب بعض إلى أنه العشو الليلي ، ولكن اغلب المفسّرين وأرباب اللغة ذهبوا إلى أنه يعني الأعمى منذ الولادة. وبعض ذهب إلى أكثر من ذلك بأن المراد هو عدم وجود أصل العين.

٥٠٥

الادّعاء بأنّه يفعل كذا وكذا بإذن الله ، ولكنّه لم يفعل منها شيئا أبدا! فإذا كان هذا الرأي قابلا للنقاش هنا ، فإنّ ما جاء في الآية ١١٠ من سورة المائدة لا مجال فيه لأيّ نقاش : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) ... لأنّ الآية تقول صراحة إنّ واحدة من نعم الله عليك أنّك كنت تصنع من الطين طيرا حيّا بإذن الله.

إنّ الإصرار على أمثال هذه التأويلات لا موجب له أبدا. لأنّه إذا كان الهدف إنكار أعمال الأنبياء الخارقة للعادة ، فإنّ القرآن يصرّح بها في كثير من المواضع ، فإذا استطعنا ـ فرضا ـ أن نؤوّل المعجزات فكيف بسائر المعجزات التي لا يمكن تأويلها؟

ثمّ إنّنا إذا كنا نقول إنّ الله هو الذي يحكم قوانين الطبيعة ، وليست هي التي تحكمه ، فما الذي يمنع هذه القوانين لطبيعية أن تتغيّر بأمر منه في ظروف استثنائية فتظهر حوادث بطرق غير طبيعية.

أمّا إذا تصوّر هؤلاء أن ذلك يتعارض مع وحدة أفعال الله وخالقيّته وكونه لا شريك له، فإنّ القرآن قد أجاب على هذا. فوقوع هذه الحوادث أينما وقعت مشروط بأمر الله ، أي أنّ أحدا بقواه الخاصّة غير قادر على القيام بأمثال هذه الأعمال إلّا إذا شاء ، وبإمداد من قدرته اللامتناهية وهذا هو التوحيد عينه ، لا الشرك.

٢ ـ الولاية التكوينية

تفيد هذه الآية وآيات أخرى سوف نتطرّق إليها ـ إن شاء الله ـ أنّ رسل الله وأولياءه يستطيعون بإذن منه وبأمره ـ إذا اقتضى الأمر ـ أن يتدخّلوا في عالم الخلق والتكوين ، وأن يحدثوا ما يعتبر خارقا للقوانين الطبيعية. فاستعمال أفعال مثل «أبرئ» و «أحيي الموتى» وبضمير المتكلّم تدلّ على أنّ هذه الأفعال من عمل الأنبياء أنفسهم ، وأنّ القول بأنّ هذه الأفعال كانت تقع بسبب دعائهم فقط هو

٥٠٦

قول لا يقوم عليه دليل ، بل أنّ ظاهر الآيات يدلّ على أنّهم كانوا يتصرفون بعالم التكوين ويقومون بتلك الأفعال.

ولكن لكي لا يتصوّر أحد أنّ الأنبياء والأولياء كان لهم استقلال في العمل ، وأنّهم أقاموا جهازا للخلق في مقابل جهاز خلق الله ، وكذلك لكي لا يكون هناك أيّ احتمال للشرك وللعبادة المزدوجة ، تكرّر قول «بإذن الله» ، (تكرّر في هذه الآية مرّتين ، وفي الآية ١١٠ من سورة المائدة أربع مرّات).

وما الولاية التكوينيّة إلّا القول بأنّ الأنبياء والأئمّة يستطيعون ـ إذا لزم الأمر ـ أن يتصرّفوا في عالم الخلق بإذن الله. وهذا مقام أرفع من مقام الولاية التشريعية ، أي إدارة الناس وحكمهم ونشر قوانين الشريعة بينهم ودعوتهم إلى الله وهدايتهم إلى الصراط المستقيم.

وبذلك يتضح جواب الذين ينكرون ولاية أهل الله التكوينية يعتبرونها ضربا من الشرك. فما من أحد يقول بأنّ للأنبياء والأئمّة جهازا للخلق مستقلا في قبال الله. إنّما هم يفعلون ما يفعلون بإذن الله وبأمر منه. غير أنّ منكري الولاية التكوينية يقولون إنّ مهمّة الأنبياء تنحصر في الدعوة إلى الله وإبلاغ رسالته وأحكامه ، وقد يتوسّلون أحيانا بالدعاء إلى الله في بعض الأمور التكوينية ، وأنّ هذا هو كلّ ما يقدرون عليه ، مع أنّ هذه الآية والآيات الأخرى تفيد غير ذلك.

كما يستنتج من هذه الآية أنّ كثيرا من معجزاتهم ـ على الأقل ـ قد فعلوها بأنفسهم ، وإن كان ذلك بإذن الله وبعون من القدرة الإلهية. في الواقع يمكن القول بأنّ المعجزة من عمل الأنبياء ـ لأنّهم هم الذين يقومون بها ـ كما هي من عمل الله لأنّها تتمّ بإذنه وبالاستعانة بقدرته.

٣ ـ الجدير بالالتفات هنا إن تكرار القول «بإذن الله» والاعتماد على مشيئته في هذه الآية من أجل أن لا يبقى عذر لمدعي الوهية المسيح ، ولكيلا يعتبره الناس ربّا ، أما عدم تكرارها في الأخبار بالغيب لوضوح الأمر.

* * *

٥٠٧

الآيتان

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))

التّفسير

هذه الآية جاءت على لسان المسيح عليه‌السلام ولبيان بعض اهداف النبوّة حيث يقول:جئت أؤكّد لكم التوراة وأثبت أصولها ومبادئها (وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) كما جئت لأرفع الحظر الذي فرض عليكم ، بالنسبة لبعض الأشياء ، في دين موسى بسبب عصيانكم ـ مثل منع لحم الأباعر ، وبعض شحوم الحيوانات ، وبعض الطيور ، والأسماك ـ (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ).

وسوف نجد في تفسير الآية ١٦٠ من سورة النساء أنّه بسبب عناد بعض جماعات اليهود وطغيانهم حرّم الله عليهم بعض الطيّبات من النعم : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ).

إلّا أنّ هذه المحظورات أحلّت لهم مرّة أخرى ببركة ظهور المسيح عليه‌السلام هذا النبيّ العظيم.

٥٠٨

ثمّ مرّة أخرى تتكرّر الجملة التي قرأنا على لسان المسيح في الآية السابقة : (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ).

وفي الآية الثانية تؤكد على لسان السيد المسيح عليه‌السلام عبودية المسيح لرفع كلّ إبهام وريب قد ينشأ من كيفية ولادته التي قد يتشبث بها البعض لإثبات ألوهيته وتقول : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) يتّضح من هذه الآية ومن آيات أخرى أنّ السيّد المسيح ، لكي يزيل كلّ إبهام وخطأ فيما يتعلّق بولادته الخارقة للعادة ، ولكي لا يتّخذونها ذريعة لتأليهه ، كثيرا ما يكرّر القول (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ) و (إِنِّي عَبْدُ اللهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) (١) ، بخلاف ما نراه في الأناجيل المحرّفة الموجودة التي تنقل عن المسيح أنّه كان يستعمل «الأب» في كلامه عن الله. إنّ القرآن يذكر «الرب» بدلا من ذلك : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ). وهذا أكثر ما يمكن أن يقوم به المسيح في محاربة من يدّعي بالوهيّته. بل لكي يكون التوكيد على ذلك أقوى يقول للناس (فَاعْبُدُوهُ) أي اعبدوا الله ولا تعبدوني.

ولذلك نجد أنه لم يكن أحد من الناس يتجرأ في حياة السيّد المسيح عليه‌السلام أن يدعي ألوهيته أو أنه أحد الإلهة ، وحتّى بعد عروجه بقرنين من الزمان لم تخالط تعليماته في التوحيد شوائب الشرك ، إلّا أن التثليث باعتراف أرباب الكنيسة ظهر في القرن الثالث للميلاد (وسيأتي تفصيل ذلك في ذيل الآية ١٧١ من سورة النساء).

* * *

__________________

(١) مريم : ٣٠.

٥٠٩

الآيات

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤))

التّفسير

استقامة الحواريين :

كان اليهود ينتظرون مجيء المسيح بموجب ما بشّرهم به موسى ، قبل أن يولد. ولكنّه عند ما ظهر ، وتعرّضت مصالح جمع من الظالمين والمنحرفين من بني إسرائيل للخطر ، لم يبق معه إلّا نفر قليل ، بينما تركه الذين احتملوا أن يؤدّي قبولهم دعوة المسيح والتقيّد بالقوانين الإلهية إلى ضياع مصالحهم.

بعد أن أعلن عيسى دعوته وأثبتها بالأدلّة الكافية ، أدرك أنّ جمعا من بني إسرائيل يصرّون على المعارضة والعصيان ولا يتركون المعاندة والانحراف (فَلَمَّا

٥١٠

أَحَسَ) (١) (عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) ، فنادى في أصحابه و (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) فاستجاب لندائه نفر قليل. كانوا أطهارا سمّاهم القرآن بـ «الحواريّين». لبّوا نداء المسيح ولم يبخلوا بشيء في سبيل نشر أهدافه المقدّسة.

أعلن الحواريون استعدادهم لتقديم كلّ عون للمسيح ، وقالوا : (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ).

لاحظ أنّ الحواريين لم يقولوا : نحن أنصارك بل لكي يعربوا عن منتهى إيمانهم بالتوحيد وليؤكّدوا إخلاصهم ، ولكن لا يشمّ من كلامهم أيّ رائحة للشرك ، قالوا : نحن أنصار الله ، ننصر دينه ، ونريدك شاهدا على هذه الحقيقة ، لعلّهم قد شمّوا منذ ذلك اليوم رائحة الانحراف في المستقبل وأنّ هناك من يستدعي الوهيّة عيسى من بعده ، فسعوا ألّا يكون في كلامهم ما يمكن أن يتذرّعوا به. ضمنا نلاحظ أن الحواريين عبّروا في كلامهم عن كونهم مسلمين ، وهذا يدلّ على أن الإسلام هو دين جميع الأنبياء عليهم‌السلام.

وهنا ميّز المسيح عليه‌السلام أتباعه المخلصين من الأعداء والمنافقين كيما يضع لدعوته برنامجا دقيقا وخطة مدروسة كما صنع نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك في بيعة العقبة.

وبعد أن قبل الحواريّون دعوة المسيح إلى التعاون معه واتّخاذه شاهدا عليهم في إيمانهم ، اتّجهوا إلى الله يعرضون عليه إيمانهم قائلين : (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ).

ولكن لمّا كانت دعوى الإيمان لا تكفي وحدها ، فقد اتّبعوها ذلك بقيامهم بتنفيذ أوامر الله واتّباع رسوله المسيح ، وقالوا مؤكّدين : (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ).

__________________

(١) التعبير بـ «أحسّ» مع أن الكفر أمر باطني لا يدرك بالحواس قد يكون أن إصرارهم على الكفر بلغ مرتبة من الشدّة وكأنه أصبح محسوسا (الميزان ـ ذيل الآية مورد البحث).

٥١١

عند ما يتغلغل الإيمان في روح الإنسان لا بدّ أن ينعكس ذلك على عمله ، فبدون العمل يكون ادّعاؤه الإيمان تقوّلا ، لا إيمانا حقيقيا.

بعد ذلك طلبوا من الله قائلين (فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ). والشاهدون هم أولئك الذين لهم صفة قيادة الأمم ، ويوم القيامة يشهدون على أعمال الناس الحسنة والسيّئة.

وبعد أن انتهى الحواريّون من شرح إيمانهم ، أشاروا إلى خطط اليهود الشيطانية ، وقالوا: إنّ هؤلاء ـ لكي يقضوا على المسيح ، وعلى دعوته ، ويصدّوا انتشار دينه ـ وضعوا الخطط الماكرة. إلّا أن ما رسمه الله من مكر فاق مكرهم وكان أشدّ تأثيرا (وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ).

* * *

بحوث

١ ـ من هم الحواريون؟

«حواريّون» جمع حوري من مادة «حور» بمعنى الغسل والتبييض ، وقد تطلق على الشيء الأبيض. لذلك يطلق العرب على الطعام الأبيض «الحواري». و «حور» جمع حوراء وهي البيضاء البشرة.

أمّا سبب تسمية تلامذة المسيح بالحواريّين فقد ذكرت له احتمالات كثيرة ، ولكن الأقرب إلى الذهن ، وهو الوارد في أحاديث أئمّة الدين ، هو لأنّهم فضلا عن طهارة قلوبهم وصفاء أرواحهم ، كانوا دائبي السعي في تطهير الناس وتنوير أفكارهم وغسلهم من أدران الذنوب.

وهذا ما أكّده حديث عن الإمام الرضا عليه‌السلام في «عيون أخبار الرضا» ...؟!

٥١٢

٢ ـ الحواريّون في القرآن والإنجيل

تكلّم القرآن على الحواريّين في سورة الصف ، الآية ١٤ ، مشيرا إلى إيمانهم.

ولكن يتبيّن ممّا نقرأه في الإنجيل بشأن الحواريّين أنّهم جميعا ارتكبوا بعض الزلل بالنسبة للمسيح.

أمّا أسماؤهم كما جاءت في إنجيل متّى ولوقا ، الباب السادس ، فهي :

١ ـ بطرس ، ٢ ـ اندرياس ، ٣ ـ يعقوب ، ٤ ـ يوحنّا ، ٥ ـ فيلوبس ، ٦ ـ برتولولما ، ٧ ـ توما ، ٨ ـ متّى ، ٩ ـ يعقوب بن حلفا ، ١٠ ـ شمعون «الغيور» ،١١ ـ يهوذا أخو يعقوب ، ١٢ ـ يهوذا الاسخريوطي الذي خان المسيح.

يذكر المفسّر المعروف المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» أنّ الحواريّين كانوا يرافقون المسيح في رحلاته. كلّما عطشوا أو جاعوا رأوا الماء والطعام مهيّأ أمامهم بأمر الله ، فكانوا يرون في ذلك فخرا لهم أيّ فخر ، وسألوا المسيح : أهناك من هو أفضل منّا؟ فقال : نعم ، أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه.

وعلى أثر ذلك اشتغلوا بغسل الملابس للناس لقاء أجر ، وانشغلوا بذلك ؛ فكان ذلك درسا عمليا للناس بأنّ العمل ليس عيبا أو عارا.

٣ ـ ما المراد بالمكر الإلهي

في القرآن آيات مشابهة لهذه ينسب فيها المكر إلى الله (١). كلمة «المكر» بالمصطلح المعاصر تختلف كثيرا عن معناها اللغوي. فالمكر بالمعنى المعاصر هو وضع الخطط الشيطانية الضارّة. ولكن معناها بلغة العرب هو البحث عن العلاج لأمر مّا ، وقد يكون حسنا أو سيّئا.

__________________

(١) انظر الآية ٣٠ من سورة الأنفال ، أو الآية ٥٠ من سورة النمل وغيرهما.

٥١٣

في كتاب «المفردات» للراغب نقرأ : المكر : صرف الغير عمّا يقصد ـ خيرا كان أم شرّا ـ.

وفي القرآن وردت كلمة «المكر» مقرونة بكلمة «الخير» ، إذ يقول (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ، كما وردت مع «السيّئ» : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (١).

وعليه يكون المقصود من الآية هو أنّ أعداء المسيح وضعوا الخطط الشيطانية للوقوف بوجه هذه الدعوة الإلهيّة. ولكن الله لكي يحفظ حياة نبيّه ويصون الدعوة مكر أيضا فأحبط كلّ ما مكروه.

* * *

__________________

(١) فاطر : ٤٣.

٥١٤

الآية

(إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥))

التّفسير

قلنا إنّ اليهود ـ بالتعاون مع بعض المسيحيّين الخونة ـ قرّروا قتل السيّد المسيح ، فأحبط الله مكرهم ، ونجى نبيّه منهم. في هذه الآية يذكر الله نعمته على المسيح قبل وقوع الحادثة ، قائلا : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَ).

من المعروف عند المفسّرين ، بالاستناد إلى الآية ١٥٧ من سورة النساء ، أنّ السيّد المسيح لم يقتل ، وأنّ الله رفعه إلى السماء. غير أنّ المسيحيّين يقولون إنّه قتل ودفن ، ثمّ قام من بين الأموات وبقي لفترة قصيرة على الأرض ثمّ صعد إلى السماء (١).

__________________

(١) إنجيل مرقس الباب ٦ ـ إنجيل متى الباب ٢٨ ـ إنجيل لوقا الباب ٢٤ ـ إنجيل يوحنا الباب ٣١.

٥١٥

ولكن الذي لا بدّ من قوله الآن هو أنّ هذه الآية ليس فيها دليل على موت عيسى ، على الرغم من أنّ بعضهم تصوّر أنّ كلمة «متوفّيك» من «الوفاة».

وعلى ذلك فإنّهم يرون أنّ هذا الموضوع يتعارض مع الرأي السائد بين المسلمين ، والذي تؤيّده الأحاديث ، من أنّ عيسى لم يمت وأنّه حي. ولكن الأمر ليس كذلك.

«الفوت» هو بعد الشيء عن الإنسان بحيث يتعذّر إدراكه. و «الوافي» الذي بلغ التمام ، ووفى بعهده إذا أتمّه ولم ينقضه. وإذا استوفى أحد دينه من المدين قيل «توفّى دينه».

وفي القرآن وردت «توفّى» كرارا : (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ) (١). فهنا عبّر عن النوم بكلمة «يتوفّاكم».

هذا المعنى نفسه يرد في الآية ٤٢ من سورة الزمر ، كما ترد كلمة «توفّى» في آيات أخرى بمعنى الأخذ.

صحيح أنّ «توفّى» قد تأتي أحيانا بمعنى الموت ، ولكنّها حتّى في تلك المواضع لا تعني الموت حقّا ، بل بمعنى قبض الروح. والواقع أنّ مادّة «فوت» ومادّة «وفي» منفصلتان تماما.

ممّا تقدّم يكون تفسير الآية واضحا.

يقول الله : يا عيسى إنّني سوف استوفيك وأرفعك إليّ. وهذا يعني حياة عيسى ، لا موته (وطبعا إذا كانت كلمة «توفي» بمعنى قبض الروح فقط. فإن لازم ذلك هو الموت).

ثمّ تضيف الآية (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا).

__________________

(١) الأنعام : ٦٠.

٥١٦

هذا جانب آخر من خطاب الله إلى المسيح. والقصد من التطهير هنا هو إنقاذه من الكفّار الخبثاء البعيدين عن الحقّ والحقيقة الذين كانوا يوجّهون إليه التهم الباطلة ، ويحوكون حوله المؤامرات ساعين إلى تلويث سمعته ، فنصر الله دينه ، وطهّره من تلك التهم ، بمثل ما نقرأه عن نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أوّل سورة الفتح (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ). أي أنّنا هيّأنا لك نصرا واضحا كي يغفر لك الله ذنوبك السابقة واللاحقة (ويطهّرك من التهم التي ألصقوها بك على شكل ذنوب).

كما يحتمل أن يعني التطهير إخراج المسيح من ذلك المحيط الملوّث. وهذا يناسب الآية السابقة.

(وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ).

وهذه بشارة يبشّر بها الله المسيح وأتباعه لتشجيعهم على المضيّ في الطريق الذي اختاروه. والواقع أنّ هذه واحدة من آيات الإعجاز ومن تنبّؤات القرآن الغيبية التي تقول إنّ أتباع المسيح سوف يسيطرون دائما على اليهود الذين عادوا المسيح.

وها نحن اليوم نرى هذه الحقيقة رأي العين ، فاليهود الصهاينة ، ـ بغير الاستناد إلى المسيحيّين ـ غير قادرين على إدامة حياتهم السياسية والاجتماعية يوما واحدا. بديهيّ أنّ «الكافرين» هنا هم اليهود الذين كفروا بالمسيح.

وفي ختام الآية يقول تعالى : (ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) ويعني أن ما تقدّم من الانتصارات والبشائر يتعلق بالحياة الدنيا ، أمّا المحكمة النهائية ونيل الجزاء الكامل فسيكون في الآخرة.

* * *

٥١٧

ملاحظة

هل الديانتان اليهودية والمسيحيّة باقيتان؟

هنا يتبادر سؤال إلى الذهن ، وهو أنّ اليهود والنصارى ـ بموجب هذه الآية ـ سيبقون في الدنيا حتّى يوم القيامة ، وأنّ أتّباع هاتين الديانتين سيبقون أيضا ، مع أنّ الأخبار الخاصّة بظهور المهدي عليه‌السلام تبيّن أنّه يخضع جميع الأديان ويحكم العالم كلّه.

يتّضح جواب هذا السؤال بالتدقيق في الأحاديث. فنحن نقرأ في الأحاديث عن المهدي عليه‌السلام أنّه لا يبقى بيت في البدو ولا في الحضر إلّا ويدخله التوحيد ، أي أنّ الإسلام سيكون الدين الرسمي في العالم كلّه ، وتكون الحكومة حكومة إسلامية ، ولا يحكم العالم سوى القوانين الإسلامية. ولكن هذا لا يمنع من وجود أقلّية من اليهود والنصارى تعيش تحت ظلّ حكومة المهديّ عليه‌السلام وفق شروط «أهل الذمّة».

إنّنا نعلم أنّ حكومة المهديّ عليه‌السلام لا تجبر الناس على اعتناق الإسلام ، بل تتقدّم بالمنطق. أمّا التوسّل بالقوّة العسكرية فلبسط العدالة ، وللإطاحة بالحكومات الظالمة ، ولانضواء العالم تحت لواء الإسلام ، لا لإجبار الناس على قبول الإسلام ، وإلّا فلن يكون هناك أي معنى لحرية الإرادة والإختيار.

* * *

٥١٨

الآيات

(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))

التّفسير

عاقبة أنصار وأعداء المسيح عليه‌السلام :

الآية الاولى والثانية تتابعان الخطاب للسيد المسيح وحال أتباعه وأعدائه ، بينما الآية الثالثة فتخاطب نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وبعد ذكر رجوع الناس إلى الله ومحاكمتهم ـ في الآية السابقة ـ يأتي في هذه الآية ذكر نتيجة تلك المحاكمة. فالكافرون والمعارضون للحقّ والعدالة سيلاقون في الآخرة من العذاب الأليم مثل ما يلاقون في الدنيا ، ولن يكون لأيّ منهم حام ولا نصير ، (فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي

٥١٩

الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ).

ومن الإشارة في هذه الآية إلى عذاب الدنيا نفهم أنّ الكافرين ـ وهم هنا اليهود ـ لا ينجون من العذاب. وهذا ما يؤكّده تاريخ اليهود ، ومن ذلك تفوّق الآخرين عليهم كما جاء في الآيات السابقة.

ثمّ أشار القرآن الكريم إلى الفئة الثانية وقال (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ). ثمّ يؤكد القول : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ).

تقديم مصير الكافرين على المؤمنين من أجل أن الكافرين بنبوّة المسيح عليه‌السلام كانوا يشكلون الأغلبية.

والملفت للنظر أن الآية الاولى اكتفت بذكر الكفر فقط. أمّا الآية الثانية فقرنت الإيمان بالعمل الصالح ، وهذا إشارة إلى أن الكفر لوحده يكون سببا للعذاب الإلهي. ولكن الإيمان لوحده لا يكفي للنجاة ، بل لا بدّ وأن يقترن بالعمل الصالح.

وجملة (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) لعلّها ناظرة إلى أن جميع معاني الكفر والأعمال السيّئة داخلة في مفهوم الظلم بمعناه الواسع. ومن الواضح أن الله لا يحب الظالمين ولا يقدم على ظلم عباده بل يوفيهم أجورهم بالكامل.

وبعد ذكر تاريخ المسيح وبعض ما جرى له ، يتّجه الخطاب إلى رسول الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقول : كلّ هذا الذي سردناه عليكم دلائل صدق لدعوتك ورسالتك، وكان تذكيرا حكيما جاء بصورة آيات قرآنية نزلت عليك ، تبيّن الحقائق في بيان محكم وخال من كلّ هزل وباطل وخرافة.

* * *

٥٢٠