الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

وكلمة «أنبتها» إشارة إلى تكامل مريم أخلاقيا وروحيا. كما أنّه يتضمّن نكتة لطيفة هي أنّ عمل الله هو «الإنبات» والإنماء. أي كما أنّ بذور النباتات تنطوي على استعدادات كامنة تظهر وتنمو عند ما يتعهّدها المزارع ، كذلك توجد في الإنسان كلّ أنواع الاستعدادات السامية الإنسانية التي تنمو وتتكامل بسرعة إن خضعت لمنهج المربّين الإلهيّين ولمزارعي بستان الإنسانية الكبير ، ويتحقّق الإنبات بمعناه الحقيقي.

(وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا).

«الكفالة» ضمّ شيء إلى آخر. لذلك يطلق على من يلتزم رعاية شؤون أحد الأطفال اسم «الكافل» أو «الكفيل» ، أي أنّه يضمّ الطفل إليه. إذا استعملت الكلمة ثلاثية مجرّدة كانت فعلا لازما ، وتتعدّى بنقلها إلى باب الثلاثي المزيد «كفّل» أي انتخاب الكفيل لشخص آخر.

في هذه الآية يقول القرآن : اختار الله زكريّا كي يتكفّل مريم ، إذ أنّ أباها عمران قد ودّع الحياة قبل ولادتها ، فجاءت بها أمّها إلى بيت المقدس وقدّمتها لعلماء اليهود وقالت :هذه البنت هديّة لبيت المقدس ، فليتعهّدها أحدكم ، فكثر الكلام بين علماء اليهود، وكان كلّ منهم يريد أن يحظى بهذا الفخر ، وفي احتفال خاص ـ سيأتي شرحه في تفسير الآية ٤٤ من هذه السورة ـ اختير زكريّا ليكفلها.

وكلّما شبّت وتقدّم بها العمر ظهرت آثار العظمة والجلال عليها أكثر إلى حدّ يقول القرآن عنها :

(كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً).

«المحراب» هو الموضع الذي يخصّص في المعبد لإمام المعبد أو لأفراد من النخبة. وذكروا في سبب تسميته بهذا الاسم أوجه كثيرة ، أوجهها ثلاثة : أحدها : إنّ

٤٨١

المحراب من «الحرب» سمّي بذلك لأنّه موضع محاربة الشيطان والأهواء.

والآخر : إنّ المحراب صدر المجلس ، ثمّ أطلق أيضا على صدر المعبد. (كان بناء المحراب عند اليهود يختلف عن بنائه عندنا ، فأولئك كانوا يبنون المحراب مرتفعا عن سطح الأرض بعدّة درجات بين حائطين مرتفعين يحفظانه ، بحيث كانت تصعب رؤية من بداخل المحراب من الخارج).

والثالث : انه يطلق على كلّ المعبد ، وهو المكان الذي يخصّص للعبادة ومجاهدة النفس والشيطان.

كبرت مريم تحت رعاية زكريّا ، وكانت غارقة في العبادة والتعبّد. بحيث إنّها ـ كما يقول ابن عبّاس ـ عند ما بلغت التاسعة من عمرها كانت تصوم النهار وتقوم الليل بالعبادة، وكانت على درجة كبيرة من التقوى ومعرفة الله حتّى أنّها فاقت الأحبار والعلماء في زمانها(١). وعند ما كان زكريّا يزورها في المحراب يجد عندها طعاما خاصّا ، فيأخذه العجب من ذلك. سألها يوما : (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا). فقالت : (هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

الآية لا تذكر شيئا عن ماهيّة هذا الطعام ومن أين جاء ، لكنّ بعض الأحاديث الواردة في تفسير العيّاشي وغيره من كتب الشيعة والسنّة تفيد أنّه كان فاكهة من الجنّة في غير فصلها تحضر بأمر الله إلى المحراب. وليس ما يدعو إلى العجب في أن يستضيف الله عبدا تقيّا.

كما أنّ اعتبار «الرزق» طعاما من الجنّة يتبيّن من القرائن التي نراها في ثنايا الآية. فأوّلا كلمة «رزقا» النكرة دليل على أنّ زكريّا لم يعرف نوع هذا الرزق.

وثانيا جواب مريم التي قالت «من عند الله» دليل آخر. وثالثا انفعال زكريّا وطلبه

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ج ٢ ص ٤٣٦.

٤٨٢

ولدا من الله ـ كما نقرأ في الآية التالية ـ دليل ثالث على ذلك.

بيد أنّ بعض المفسّرين ـ مثل صاحب المنار ـ يرون أنّ «رزقا» تعني هذا الطعام الدنيويّ المألوف. يقول ابن جرير : إنّ قحطا أصاب بني إسرائيل يومئذ ، ولم يعد زكريّا قادرا على سدّ جوعة مريم. لذلك اقترعوا فكانت من نصيب رجل نجّار ، فأخذ هذا يقتطع من كسبه الطيّب الحلال ليهيّئ الطعام لها ، فكان هذا هو الطعام الذي يراه زكريّا في محرابها ويعجب من وجوده في تلك الظروف الصعبة. وكان جواب مريم يعني أنّ الله قد سخّر لي مؤمنا فأحبّ القيام بهذه الخدمة الشاقّة.

ولكن ـ كما قلنا ـ هذا التفسير لا يتّسق مع القرائن الموجودة في الآية ، ولا مع الأحاديث الواردة في تفسيرها ، ومنها ما ورد في تفسير العيّاشي عن الإمام الباقر عليه‌السلام ما ملخّصه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل يوما على ابنته فاطمة عليها‌السلام وهو يعلم أنّها لم تكن تملك طعاما يذكر منذ أيّام ، فوجد عندها طعاما وافرا خاصّا ، فسألها عنه ، فقالت : هو من عند الله إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ عليه‌السلام : ألا أحدّثك بمثلك ومثلها؟ قال : بلى ، قال : مثل زكريّا إذ دخل على مريم المحراب فوجد عندها رزقا، قال : يا مريم أنّى لك هذا؟ قالت : هو من عند الله ، إنّ الله يرزق من يشاء بغير حساب ... (١).

وفيما يتعلّق بعبارة «بغير حساب» فقد شرحنا ذلك في تفسير الآية ٢٠٢ من سورة البقرة ، والآية ٢٧ من هذه السورة.

* * *

__________________

(١) تفسير العيّاشي : ج ١ ص ١٧٢.

٤٨٣

الآيات

(هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠))

التّفسير

قلنا إنّ زوجة زكريّا وأمّ مريم كانتا أختين ، وكانتا عاقرين ، وعند ما رزقت أمّ مريم بلطف من الله هذه الذرّية الصالحة ، ورأى زكريّا خصائصها العجيبة ، تمنّى أن يرزق هو أيضا ذرّية صالحة وطاهرة وتقيّة مثل مريم ، بحيث تكون آية على عظمة الله وتوحيده. وعلى الرغم من كبر سن زكريّا وزوجته ، وبعدهما من الناحية الطبيعيّة عن أن يرزقا طفلا ، فإنّ حبّ الله ومشاهدة الفواكه الطرية في غير وقتها في محراب عبادة مريم ، أترعا قلبه أملا بإمكان حصوله في فصل شيخوخته على

٤٨٤

ثمرة الأبوّة ، لذلك راح يتضرّع إلى الله (قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ).

لم يمض وقت طويل حتّى أجاب الله دعاء زكريّا.

(فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ).

وفيما كان يعبد الله في محرابه ، نادته ملائكة الله وقالت له إنّ الله يبشّرك بمولود اسمه يحيى بل أنهم لم يكتفوا بهذه البشارة حتّى ذكروا للمولود خمس صفات :

أوّلا : سوف يؤمن بالمسيح ويشدّ أزره بهذا الإيمان : (مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ) و «كلمة الله» هنا وفي مواضع أخرى من القرآن سيرد شرحها ـ تعني المسيح عليه‌السلام ـ وقد جاء في التاريخ أنّ يحيى كان يكبر عيسى ستة أشهر ، وكان أول من آمن به. وإذا كان قد اشتهر بين الناس بالطهر والزهد ، فقد كان لإيمانه هذا بالمسيح تأثير كبير على الناس ، في توجيههم وحثّهم على الإيمان به.

وثانيا : سيكون من حيث العلم والعمل قائدا للناس (وَسَيِّداً) ، كما أنّه سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوّث بحبّ الدنيا.

(وَحَصُوراً).

«الحصور» من الحصر ، أي الذي يضع نفسه موضع المحاصرة ، أو الذي يمتنع عن الزواج ، وإلى هذا ذهب بعض المفسّرين ، كما أشير إليه في بعض الأحاديث.

والرابعة والخامسة من مميّزاته أيضا أنّه سيكون «نبيا» (وجاءت هذه الكلمة بصيغة النكرة لدلالة على العظمة) وأنّه من الصالحين.

فلما سمع زكريا بهذه البشارة غرق فرحا وسرورا ، ولم يمتلك نفسه في إخفاء تعجبّه من ذلك ، فقال (رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ)

٤٨٥

فأجابه الله تعالى (قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ) فلما سمع زكريا هذا الجواب الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعالى ومشيئته ، قنع بذلك.

* * *

بحوث

١ ـ هل العزوبة فضيلة؟

هنا يتبادر إلى الذهن سؤال يقول : إذا كان «الحصر» هو العزوف عن الزواج ، فهل هذا محمدة يمتاز بها الإنسان ، بحيث يوصف بها يحيى؟

في الجواب نقول : ليس هناك ما يدلّ على أنّ «الحصر» المذكور في الآية يقصد به العزوف عن الزواج ، فالحديث المنقول بهذا الخصوص ليس موثوقا به من حيث أسانيده. فلا يستبعد أن يكون المعنى هو العزوف عن الشهوات والأهواء وحبّ الدنيا ، وفي صفات الزاهدين.

ثانيا : من المحتمل أن يكون يحيى ـ مثل عيسى ـ قد عاش في ظروف خاصّة اضطرّته إلى الترحال من أجل تبليغ رسالته ، فاضطرّ إلى حياة العزوبة. وهذا لا يمكن أن يكون قانونا عامّا للناس. فإذا مدحه الله لهذه الصفة فذلك لأنّه تحت ضغط ظروفه عزف عن الزواج ، ولكنّه استطاع في الوقت نفسه أن يحصن نفسه من الزلل وأن يحافظ على طهارته من التلوّث. إنّ قانون الزواج قانون فطري ، فلا يمكن في أيّ دين أن يشرع قانون ضدّه. وعليه فالعزوبة ليست صفة محمودة ، لا في الإسلام ولا في الأديان الاخرى.

٢ ـ يحيى وعيسى

«يحيى» من الحياة وتعني البقاء حيّا ، وقد اختيرت هذه الكلمة اسما لهذا النبيّ

٤٨٦

العظيم ، والمقصود بالحياة هنا هي الحياة المادّية والحياة المعنوية في نور الإيمان ومقام النبوّة والارتباط بالله. هذا الاسم قد اختاره الله له قبل أن يولد ، كما جاء في الآية ٧ من سورة مريم (يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا) ومن هذا يتبيّن أيضا أنّ أحدا لم يسبق أن سمّي بهذا الاسم.

قلنا فيما سبق أنّ زكريّا طلب من ربّه الذرّية بعد أن شاهد ما نالته مريم من عطاء معنوي سريع. وعلى أثر ذلك وهب الله له ولدا شبيها بعيسى بن مريم في كثير من الصفات :في النبوّة وهما صغيران ، وفي معنى اسميهما (عيسى ويحيى كلاهما بمعنى البقاء حيّا)،وفي تحية وسلام الله عليهما في المراحل الثلاث : الولادة ، والموت ، والحشر وجهات اخرى.

٣ ـ في هذه الآية يصف زكريّا شيخوخته بقوله (وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ) ولكنه في الآية ٩ من سورة مريم يقول (وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا). فالعبارة الأولى تعني أنّ الكبر قد وصلني والثانية تعني أنّي وصلت الكبر ، ولعلّ هذا الاختلاف في التعبير يعود إلى أنّ الإنسان ـ كلّما تقدّم نحو الكبر ـ يتقدّم الكبر والموت نحوه أيضا. كما قال عليّ عليه‌السلام«إذا كنت في إدبار والموت في إقبال فما أسرع الملتقى»(١).

٤ ـ «الغلام» الفتى الذي طرّ شاربه. و «عاقر» من «عقر» بمعنى الأصل والأساس. أو بمعنى الحبس. ووصف المرأة التي لا تلد بأنّها عاقر يعني أنّها وصلت إلى عقرها وانتهت ، أو أنّها حبست عن الولادة.

وقد يسأل سائل : لماذا استولى العجب على زكريّا مع أنّه عالم بقدرة الله التي لا تنتهي؟

يتّضح الجواب بالرجوع إلى الآيات الأخرى. كان يريد أن يعرف كيف يمكن لامرأة عاقر ـ خلفت وراءها سنوات عديدة بعد سنة اليأس ـ أن تحمل وتلد؟

__________________

(١) نهج البلاغة : الكلمات القصار : ٢٨.

٤٨٧

ما الذي يتغيّر فيها؟ أترجع إليها العادة الشهرية كسائر النساء المتوسّطات العمر؟ أم أنّها ستحمل بصورة اخرى؟

ثمّ إنّ الإيمان بقدرة الله غير «الشهود والمشاهدة». زكريّا كان يريد أن يبلغ إيمانه مبلغ الشهود ، مثل إبراهيم الذي كان مؤمنا بالمعاد ، ولكنّه طلب المشاهدة.

كان يريد أن يصل إلى هذه المرحلة من الإيمان. وأنّه لأمر طبيعيّ أن يفكّر الإنسان،إذا ما صادفه أمر خارق للقوانين الطبيعية في كيفيّة حصول ذلك ، ويودّ لو أنّه رأى دليلا حسّيا على ذلك.

* * *

٤٨٨

الآية

(قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١))

التّفسير

هنا يطلب زكريّا من الله إمارة على بشارته بمجيء يحيى. إنّ إظهار دهشته ـ كما قلنا ـ وكذلك طلب علامة من الله ، لا يعنيان أبدا أنّه لا يثق بوعد الله ، خاصّة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله : (كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ). إنّما كان يريد زكريّا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيمانا شهوديا. كان يريد أن يمتلئ قلبه بالاطمئنان ، كما كان إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسّي.

(قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً).

«الرمز» إشارة بالشفة ، والصوت الخفي. ثمّ اتّسع المعنى في الحوار العادي ، فأطلق على كلّ كلام وإشارة غير صريحة إلى أمر من الأمور.

أجاب الله طلب زكريّا هذا أيضا ، وعيّن له علامة ، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدّة ثلاثة أيّام بغير أيّ نقص طبيعي ، فلم يكن قادرا على المحادثة العادية.

٤٨٩

ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح الله ويذكره. هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة الله على كلّ شيء. فالله القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره ، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولدا مؤمنا هو مظهر ذكر الله. وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريّا.

هذا المضمون يرد في الآيات الأولى من سورة مريم أيضا.

وفي الوقت نفسه يمكن أن تحمل هذه العلامة معنى آخر في طيّاتها ، وهو أنّ إلحاح زكريّا على طلب العلامة والآية ـ وإن لم يكن أمرا محرّما ولا مكروها ـ كان من نوع «ترك الأولى». لذلك قرّر له علامة ، إضافة إلى ما فيها من بيان لقدرة الله ، طافحة بالإشارة إلى تركه للأولى.

يتبادر هنا للذهن سؤال : أيتّسق بكم نبيّ مع مقام النبوّة وواجب الدعوة والتبليغ؟

ليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال ، إذ أنّ هذه الحالة لا تتّسق مع مقام النبوّة عند استمرارها مدّة طويلة. أمّا حدوثها لفترة قصيرة يستطيع النبيّ خلالها اعتزال الناس والتوجّه إلى عبادة الله ، فلا مانع فيه ، كما أنّه خلال هذه المدّة يستطيع أن يخاطب الناس بالإيماء في الأمور الضرورية ، أو بتلاوة آيات الله ، التي تعتبر ذكرا لله ، وتبليغا للرسالة الإلهية. وهذا ما قام به فعلا ، إذ كان يدعو الناس إلى ذكر الله بالإشارة.

(وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ).

«العشي» تطلق عادة على أوائل ساعات الليل ، كما يقال «الإبكار» للساعات الأولى من النهار. وقيل إنّ «العشي» هو من زوال الشمس حتّى غروبها ، و «الإبكار» من طلوع الفجر حتّى الظهر.

٤٩٠

والراغب الاصفهاني يقول في «المفردات» : إنّ «العشي» من زوال الشمس حتّى الصباح ، و «الإبكار» أوائل النهار.

وفي الآية يأمر الله زكريّا بالتسبيح. إنّ هذا التسبيح والذكر على لسان لا ينطق موقتا دليل على قدرة الله على فتح المغلق ، وكذلك هو أداء لفريضة الشكر لله الذي أنعم عليه بهذه النعمة الكبرى.

من الآيات الأولى لسورة مريم يستفاد أنّ زكريّا لم ينفّذ هذا البرنامج وحده ، بل طلب من الناس إيماء أن يسبّحوا الله صباح مساء شكرا على ما أنعم عليهم من موهبة ترتبط بمصير مجتمعهم ومن قائد كفوء مثل يحيى. وأضحت هذه الأيام أيّام شكر وتسبيح عام.

* * *

٤٩١

الآيتان

(وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

التّفسير

الانتخاب الإلهي لمريم :

بعد الإشارات العابرة إلى مريم في الآيات السابقة التي دارت حول عمران وزوجته ، هذه الآية تتحدّث بالتفصيل عن مريم.

تقول الآية إنّ الملائكة كانوا يكلّمون مريم : (وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ) ....

ما أعظم هذا الافتخار بأن يتحدّث الإنسان مع الملائكة ويحدثونه. وخاصة إذا كانت المحادثة بالبشارة من الله تعالى باختياره وتفضيله. كما في مورد مريم بنت عمران. فقد بشرتها الملائكة بأنّ الله تعالى قد اختارها من بين جميع نساء العالم وطهّرها وفضلها بسبب تقواها وإيمانها وعبادتها.

والجدير بالذكر أن كلمة «اصطفاك» تكررت مرتين في هذه الآية ، ففي المرّة

٤٩٢

الاولى كانت لبيان الاصطفاء المطلق ، وفي الثانية إشارة إلى افضليّتها على سائر نساء العالم المعاصرة لها.

هذا يعني أن مريم كانت أعظم نساء زمانها ، وهو لا يتعارض مع كون سيّدة الإسلام فاطمة الزهراء عليها‌السلام سيّدة نساء العالمين ، فقد جاء في أحاديث متعدّدة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والإمام الصادق عليه‌السلام قولهما : «أمّا مريم فكانت سيّدة نساء زمانها. أمّا فاطمة فهي سيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين»(١).

كما أنّ كلمة «العالمين» لا تتعارض مع هذا الكلام أيضا ، فقد وردت هذه الكلمة في القرآن وفي الكلام العام بمعنى الناس الذين يعيشون في عصر واحد ، كما جاء بشأن بني إسرائيل (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ) (٢). فلا شكّ أنّ تفضيل مؤمني بني إسرائيل كان على أهل زمانهم.

(يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ).

هذه الآية تكملة لكلام الملائكة مع مريم. فبعد أن بشّرها بأنّ الله قد اصطفاها ، قالوا لها : الآن اشكري الله بالركوع والسجود والخضوع له اعترافا بهذه النعمة العظمى.

نلاحظ هنا أنّ الملائكة يصدرون إلى مريم ثلاثة أوامر :

الأول : القنوت أمام الله. والكلمة ـ كما سبق أن قلنا ـ تعني الخضوع ودوام الطاعة.

الثاني : السجود ، الذي هو أيضا دليل الخضوع الكامل أمام الله.

__________________

(١) نور الثقلين : ج ١ ص ٣٣٦ ، والبحار : ج ١٠ ص ٢٤.

(٢) البقرة : ٤٧.

٤٩٣

والثالث : الركوع ، وهو أيضا خضوع وتواضع.

أمّا القول : (وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ) فقد يكون إشارة إلى صلاة الجماعة ، أو طلب التحاقها بجموع المصلّين الراكعين أمام الله. أي اركعي مع عباد الله المخلصين الذين يركعون لله.

في هذه الآية ، الإشارة إلى السجود تسبق الإشارة إلى الركوع ، وليس معنى هذا أنّ سجودهم قبل ركوعهم في صلاتهم ، بل المقصود هو أداء العبادتين دون أن يكون القصد ذكر ترتيبهما ، كما لو كنّا نطلب من أحدهم أن يصلّي ، وأن يتوضّأ ، وأن يتطهّر ، إذ يكون قصدنا أن يقوم بكلّ هذه الأمور. إنّ العطف بالواو لا يقتضي الترتيب. ثمّ إنّ الركوع والسجود أصلا بمعنى التواضع والخضوع ، وما حركتا الركوع والسجود المألوفان سوى بعض مصاديق ذلك.

* * *

٤٩٤

الآية

(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤))

التّفسير

كفالة مريم :

هذه الآية تشير إلى جانب آخر من قصة مريم وتقول بأن ما تقدّم من قصة مريم وزكريّا إنّما هو من أخبار الغيب (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) لأنّ هذه القصة بشكلها الصحيح والخالي من شوائب الخرافة لا توجد في أيّ من الكتب السابقة. مضافا إلى أن سند هذه القصة هو وحي السماء.

ثمّ تضيف الآية : (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) أي أنك لم تكن حاضرا حينذاك. بل جاءك الخبر عن طريق الوحي.

سبق أن قلنا إن أمّ مريم بعد أن وضعتها لفّتها في قطعة قماش وأتت بها إلى المعبد وخاطبت علماء بني إسرائيل وأشرافهم بقولها : هذه المولودة قد نذرت

٤٩٥

لخدمة بيت الله ، فليتعهّد أحدكم بتربيتها. ولمّا كانت مريم من أسرة معروفة «آل عمران» ، أخذ علماء بني إسرائيل يتنافسون في الفوز بتعهّد تربيتها. وأخيرا اتّفقوا على إجراء القرعة بينهم ، فجاءوا إلى شاطئ نهر وأحضروا معهم أقلامهم وعصيّهم التي كانوا يقترعون بها. كتب كلّ واحد منهم اسمه على قلم من الأقلام ، وألقوها في الماء ، فكلّ قلم غطس في الماء خسر صاحبه ، والرابح يكون من يطفو قلمه على الماء : غطس القلم الذي كتب عليه اسم زكريا ، ثمّ عاد وطفا على سطحه ، وبذلك أصبحت مريم في كفالته ، وقد كان في الحقيقة أجدرهم بذلك ، فهو نبي وزوج خالة مريم.

الاقتراع الحلّ الأخير :

يستفاد من هذه الآية والآيات الأخرى الخاصّة بيونس في سورة الصافّات أنّ من الممكن اللجوء إلى القرعة لحلّ النزاع والخصام الذي يصل إلى طريق مسدود بحيث لا يكون هناك أيّ حلّ مقبول من أطراف النزاع. هذه الآية بالإضافة إلى الأحاديث الواردة عن أئمّة الإسلام كانت سببا في اعتبار القرعة قاعدة فقهية يجري بحثها في الكتب الإسلامية. ولكن شرط الالتجاء إلى القرعة هو الوصول إلى طريق مسدود تماما ، كما قلنا : لذلك إذا كان من الممكن العثور على طريق لحلّ مشكلة ما فلا يجوز اللجوء إلى القرعة.

ليس للاقتراع طريقة خاصّة في الإسلام ، فيجوز اتّخاذ العصي ، أو الحصى ، أو الورق وغير ذلك وسيلة له ، على أن لا يكون فيه أيّ تواطؤ.

من الواضح أنّ الإسلام لا يجيز الربح والخسارة عن طريق القرعة ، لأنّ الربح والخسارة ليسا من المشاكل التي يستعصي حلّها ليلجأ فيها إلى القرعة. لذلك فالربح الناشئ عن القرعة غير مشروع في الإسلام.

٤٩٦

لا بدّ من الإشارة أيضا إلى أنّ القرعة لا تقتصر على حلّ المنازعات والاختلافات بين الناس ، بل يمكن بها حلّ المشاكل المستعصية الأخرى أيضا. فمثلا ، كما جاء في الأحاديث:وطأ شخص شاة ، ثمّ أطلقها بين الغنم بحيث لا يمكن التعرّف عليها ، فيجب عندئذ إخراج واحدة منها بطريق القرعة والامتناع عن أكل لحمها ، وذلك لأنّ الامتناع عن أكل لحمها جميعا يشكل ضررا كبيرا ، كما أنّ أكل لحومها جميعا غير جائز. فهنا تحلّ القرعة المشكلة.

* * *

٤٩٧

الآية

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦))

التّفسير

هذه الآية تبيّن حادث ولادة المسيح الذي يبدأ بتقديم الملائكة البشارة لمريم بأمر من الله قائلين لها إنّ الله سوف يهب لك ولدا اسمه المسيح عيسى بن مريم ، وسيكون له مقام مرموق في الدنيا والآخرة ، وهو مقرّب عند الله.

(إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ).

ولا بدّ من الإشارة هنا إلى بضع مسائل :

١ ـ في هذه الآية وفي آيتين أخريين يوصف المسيح بأنّه «الكلمة» وهو تعبير موجود في كتب العهد الجديد أيضا.

٤٩٨

كلام المفسّرين كثير في بيان سبب إطلاق هذه الكلمة على المسيح. إلّا أنّ أقربها إلى الذهن هو ولادة المسيح الخارقة للعادة والتي تقع ضمن : (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

أو لأنّ البشارة بولادته قد جاءت في كلمة إلى أمّه.

كما أنّ لفظة «الكلمة» وردت في القرآن بمعنى «المخلوق» : (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً) (٢).

ففي هذه الآية «كلمات ربي» هي مخلوقات الله. ولمّا كان المسيح أحد مخلوقات الله العظيمة فقد سمّي بالكلمة ، وهذا يتضمّن أيضا ردّا على الذين يقولون بالوهيّة المسيحعليه‌السلام.

٢ ـ «المسيح» بمعنى الماسح أو الممسوح. وإطلاقها على عيسى إما لأنّه كان يمسح بيده على المرضى الميؤوس منهم فيشفيهم بإذن الله ، إذ كانت هذه الموهبة قد خصّصت له منذ البداية ، ولذلك أطلق الله عليه اسم المسيح قبل ولادته. أو لأنّ الله قد مسح عند الدنس والإثم وطهّره.

٣ ـ يصرّح القرآن في هذه الآية بأنّ عيسى هو ابن مريم ، وهو تصريح يدحض مفتريات المفترين عن الوهيّة المسيح. إذ أنّ من يولد من امرأة وتطرأ عليه جميع التحوّلات التي تطرأ على الجنين البشري والكائن المادّي لا يمكن أن يكون إلها ، ذلك الإله المنزّه عن كلّ أنواع التغيّرات والتحوّلات.

تشير الآية التي بعدها إلى إحدى فضائل ومعاجز عيسى عليه‌السلام وهي تكلّمه في المهد (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ). فقد جاء في سورة مريم أنّه لدفع التهمة عن أمّه تكلّم في المهد كلاما فصيحا أعرب فيه عن عبودّيته لله ، وعن كونه نبيّا.

__________________

(١) يس : ٨٢.

(٢) الكهف : ١٠٩.

٤٩٩

ولمّا لم يكن من الممكن أن يولد نبيّ في رحم غير طاهرة ، فإنّه يؤكد بهذا الإعجاز طهارة أمّه.

«المهد» هو كلّ مكان يعدّ لنوم المولود حديثا ، سواء أكان متحرّكا أم ثابتا والظاهر من آيات سورة مريم أنه عليه‌السلام تكلّم منذ بداية تولده ممّا يستحيل على كلّ طفل أن يقوم به في هذا العمر عادة ، وبهذا كان كلامه في المهد معجزة كبيرة. ولكن الكلام في مرحلة الكهولة (١). امر عادي. ولعلّ ذكره في الآية أعلاه مقارنا للحديث في المهد إشارة أن كلامه في المهد مثل كلامه في الكهولة والكمال لم يجانب الصواب والحقّ والحكم.

وتشير الآية كذلك إلى أنّ المسيح لا ينطق إلّا بالحقّ منذ ولادته حتّى كهولته ، وأنّه يواصل الدعوة إلى الله وإرشاد الناس ولا يفتر عن ذلك لحظة واحدة.

ولعلّ إيراد هذا التعبير عن المسيح ضرب من التنّبؤ بعودة المسيح إلى الدنيا ، إذ أنّنا نعلم من كتب التاريخ أنّ عيسى عليه‌السلام قد رفع من بين الناس إلى السماء وهو في الثالثة والثلاثين من عمره. وهذا يتّفق مع كثير من الأحاديث الواردة عن عودة المسيح في عهد الإمام المهدي عليه‌السلام ويعيش معه بين الناس ويؤيّده.

وبعد ذكر مناقب المسيح المختلفة يضيف إليها (وَمِنَ الصَّالِحِينَ). ومن هذا يتّضح أنّ الصلاح من أعظم دواعي الفخر والاعتزاز ، وتنضمّ تحت لوائه القيم الإنسانية الأخرى.

* * *

__________________

(١) «الكهولة» هي متوسط العمر ، وقيل إنّها الفترة ما بين السنة الرابعة والثلاثين حتّى الحادية والخمسين ، وما قبلها «شاب» وما بعدها «شيخ».

٥٠٠