الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

الآية

(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))

التّفسير

حضور الأعمال يوم القيامة :

تشير هذه الآية إلى حضور الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة ، فيرى كلّ امرئ ما عمل من خير وما عمل من شرّ حاضرا أمامه. فالذين يشاهدون أعمالهم الصالحة يفرحون ويستبشرون ، والذين يشاهدون أعمالهم السيّئة يستولي عليهم الرعب ويتمنّون لو أنّهم استطاعوا أن يبتعدوا عنها (تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) فالآية لم تقل أنه يتمنّى فناء عمله وسيئاته ، لأنه يعلم أن كلّ شيء في العالم لا يفنى فلذلك يتمنّى أن يبتعد عنه كثيرا.

«الأمد» في اللغة الزمان المحدود ، و «الأبد» اللامحدود ، والأمد يقصد من استعماله غالبا انتهاء الزمان ، وإن استعمل أحيانا أيضا في مطلق الزمان المحدود.

٤٦١

بناء على ذلك ، فإنّ المذنبين ـ كما تقول الآية ـ يتمنّون أنّ يمتدّ الفاصل الزماني بينهم وبين ذنوبهم طويلا ، وهو تعبير عن ذروة ما يشعرون به من تعاسة جرّاء أعمالهم السيّئة، لأنّ طلب البعد الزماني أبلغ فى التعبير عن هذا الاستيلاء من طلب البعد المكاني،فاحتمال الحضور موجود في الفاصل المكاني ، بينما ينتفي هذا الاحتمال تماما في الفاصل الزماني.

فإذا عاش أحد ـ مثلا ـ في فترة الحرب العالمية ، شمله القلق والاضطراب وإن ابتعد مكانيا عن منطقة الحرب ، لكن الشخص الذي يعيش في فترة زمنية بعيدة عن الحرب لا يشعر بذلك القلق.

هذا مع أن بعض المفسّرين احتملوا أن يكون للفظة «الأمد» معنى البعد المكاني أيضا (كما ورد في مجمع البيان نقلا عن بعض المفسّرين) ، غير أن هذا لم يرد في اللغة على الظاهر.

(وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ).

في الجزء الأوّل من هذه العبارة يحذّر الله الناس من عصيان أوامره ، وفي الجزء الثاني يذكّرهم برأفته. ويبدو أنّ هذين الجزءين هما ـ على عادة القرآن ـ مزيج من الوعد والوعيد. ومن المحتمل أن يكون الجزء الثاني (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) توكيدا للجزء الأوّل (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) ، وهذا أشبه بمن يقول لك : إنّي أحذّرك من هذا العمل الخطر ، وإنّ تحذيري إيّاك دليل على رأفتي بك ، إذ لو لا حبّي لك لما حذّرتك.

القرآن وتجسيد الأعمال وحضورها

هذه الآية تبيّن بكل وضوح تجسّد الأعمال وحضورها يوم القيامة. كلمة

٤٦٢

«تجد» من الوجود ضدّ العدم. ولفظتا «خير» و «سوء» وردتا نكرتين لتفيدا العموم.

أي أنّ الإنسان يجد أعماله الحسنة والقبيحة يوم القيامة مهما تكن قليلة.

بعضهم أوّل هذه الآية وأشباهها وقال إنّ القصد من حضور الأعمال هو حضور ثوابها أو عقابها ، أو حضور سجلّ الأعمال الذي دوّنت فيه الأعمال كلّها.

ولكن من الجلي أنّ ذلك لا ينسجم وظاهر الآية ، لأنّ الآية تقول بوضوح إنّ الإنسان يوم القيامة «يجد» عمله. وتقول : إنّ المسيء يودّ لو أنّ بينه وبين «عمله» القبيح فواصل مديدة. فهنا «العمل» نفسه هو الذي يدور حوله الكلام. لا سجلّ الأعمال ، ولا الثواب والعقاب.

كذلك نقرأ في الآية أنّ المسيء يودّ لو بعد عنه عمله ، ولكنّه لا يتمنّى زوال عمله إطلاقا. وهذا يعني أنّ زوال الأعمال غير ممكن ، ولذلك فهو لا يتمنّاه.

هناك آيات كثيرة أخرى تؤيّد هذا الأمر ، كالآية ٤٩ من سورة الكهف.

(وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) والآيتان ٧ و ٨ من سورة الزلزال (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ).

سبق أن قلنا إنّ بعض المفسّرين يرون أنّ لفظ «الجزاء» مقدّر وهذا خلاف ظاهر الآية.

يستفاد من بعض الآيات أنّ الدنيا مزرعة الآخرة ، وأنّ عمل الإنسان أشبه بالحبّ الذي يزرع في التربة ، فتنمو تلك الحبّة ، ثمّ يحصد الإنسان معها حبّا كثيرا.

كذلك هي أعمال الإنسان التي تجري عليها تبدّلات وتغيّرات تناسب يوم القيامة ، ثمّ تعود إلى الإنسان نفسه ، كما جاء في الآية ٢٠ من سورة الشورى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ).

ويستفاد من آيات أخرى أنّ الأعمال الصالحة في هذه الدنيا تأتي في الآخرة بصورة نور وضياء ، فيطلبه المنافقون من المؤمنين : (انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ)

٤٦٣

فيقال لهم : (ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً) (١).

هذه الآيات وغيرها العشرات تدلّ على أننا يوم القيامة نجد العمل عينه بشكل أكمل، وهذا هو تجسيد الأعمال الذي يقول به علماء الإسلام.

هناك روايات كثيرة أيضا عن أئمّة الإسلام تؤكّد هذا المعنى ، من ذلك : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمن طلب أن يعظه : «لا بدّ لك يا قيس من قرين يدفن معك وهو حيّ ، وتدفن معه وأنت ميّت ، فإن كان كريما أكرمك ، وإن كان لعينا أسلمك ، لا يحشر إلّا معك ولا تحشر إلّا معه ، ولا تسأل إلّا عنه ، ولا تبعث إلّا معه ، فلا تجعله إلّا صالحا ، فإنّه إن كان صالحا لم تستأنس إلّا به ، وإن كان فاحشا لا تستوحش إلّا منه ، وهو عملك»(٢).

ولإلقاء الضوء على هذا البحث لا بدّ من معرفة كيفية الإثابة والعقاب على الأعمال.

رأي العلماء في الثواب والعقاب

للعلماء آراء مختلفة في الثواب والعقاب :

١ ـ يعتقد البعض أن جزاء الأعمال الاخروي أمر اعتباري ، مثل المكافأة والعقوبة في هذه الدنيا ، أي كما أنّ هناك في هذه الدنيا عقابا على كلّ عمل سيّء أقرّه القانون الوضعي ، كذلك وضع الله لكلّ عمل ثوابا أو عقابا معيّنين. وهذه هي نظرة الأجر المعيّن والجزاء القانوني.

٢ ـ ثمّة آخرون يعتقدون أنّ النفس البشرية تخلق الثواب والعقاب ، فالنفس تخلق ذلك في العالم الآخر دون إختيار ، أي أنّ الأعمال الحسنة والأعمال السيّئة

__________________

(١) الحديد : ١٣.

(٢) البحار : طبعة كمباني : ج ٣ ص ٢٥٧.

٤٦٤

في هذا العالم تخلق في النفس صفات حسنة أو سيّئة ، وهذه الصفات تصبح جزءا متمكّنا من ذات الإنسان ، وتبدأ هذه بإيجاد صورة تناسبها من السعادة أو العذاب.

فذو الباطن الحسن في هذا العالم يتعامل مع مجموعة من الأفكار والتصوّرات الحسنة،والأشرار والخبثاء مشغولون بأفكارهم الباطلة وتصوّراتهم الدنيئة في نومهم ويقظتهم.

وفي يوم القيامة تقوم هذه الصفات نفسها بخلق السكينة والعذاب أو الشقاء والسعادة. وبعبارة أخرى أنّ ما نقرأه عن نعم الجنّة وعذاب جهنّم ليس سوى ما تخلقه هذه الصفات الحسنة أو السيّئة في الإنسان.

٣ ـ فريق ثالث من كبار علماء الإسلام اتّخذوا سبيلا آخر دعموه بكثير من الآيات والأحاديث. يقول هؤلاء : إنّ لكلّ عمل من أعمالنا ـ حسنا كان أم سيّئا ـ صورة دنيوية هي التي نراها ، وصورة أخروية كامنة في باطن ذلك العمل. وفي يوم القيامة ، وبعد أن تكون قد طرأت عليه تحوّلات كثيرة ، يفقد صورته الدنيوية ويظهر بصورته الأخروية فيبعث على راحة فاعله وسكينته ، أو شقائه وعذابه.

هذه النظرة ، من بين النظرات الأخرى ، تتّفق مع كثير من آيات القرآن ، وبناء على ذلك ، فإنّ أعمال الإنسان ـ وهي مظاهر مختلفة من الطاقة ـ لا تفنى بموجب قانون بقاء «المادة / الطاقة» وتبقى أبدا في هذه الدنيا ، على الرغم من أنّ الناظر السطحي يظنّها قد تلاشت.

إنّ بقاء هذه الأعمال بقاء أبديا يتيح من جهة أن يراها الإنسان عند محاسبته يوم القيامة ولا يبقى له مجال للإنكار ، كما يتيح للإنسان من جهة أخرى أن يعيش يوم القيامة بين أعماله ، فيشقى أو يسعد. وعلى الرغم من أنّ علم الإنسان لم يبلغ بعد مرحلة اكتشاف الماضي ، إلّا للحظات قليلة سابقة (١) ، فممّا لا شكّ فيه أنّه لو تمّ

__________________

(١) اكتشف العلماء جهاز تصوير يعمل بالأشعة ما تحت الحمراء تستطيع أن تصوّر حدثا لم يمض عليه أكثر من

٤٦٥

صنع جهاز أدقّ وأكمل ، أو لو كانت لنا «رؤية» و «إدراك» أكمل لاستطعنا أن نرى وندرك كلّ ما حدث في الماضي. (ليس هناك ما يمنع أن يكون جانب من الثواب والعقاب ذا طابع توافقي).

العلم وتجسيد الأعمال

لإثبات إمكان تجسيد الأعمال الماضية ، يمكن الاستناد إلى مبادئ الفيزياء الثابتة اليوم ، فقوانين الفيزياء تقول إنّ المادة تتحوّل إلى طاقة ، وذلك لأنّ «المادّة» و «الطاقة» مظهران لحقيقة واحدة ، كما تقول أحدث النظريات بهذا الخصوص ، وأنّ المادّة طاقة متراكمة مضغوطة تتحوّل إلى طاقة في ظروف معيّنة. وقد تكون الطاقة الكامنة في غرام واحد من المادّة تعادل في قوة انفجارها أكثر من ثلاثين ألف طن من الديناميت.

ملخّص القول : إنّ المادّة والطاقة مظهران لحقيقة واحدة ، وبالنظر لعدم فناء الطاقة والمادّة ، فليس هناك ما يحول دون تراكم الطاقات المنتشرة مرّة أخرى وتتّخذ صورة مادّة أو جسم ، فإذا كانت نتيجة الأعمال صالحة ظهرت بصورة نعم مادّية جميلة ، وإذا كانت شرّا وسيئّة فإنّها تتجسّد في وسائل عذاب وعقاب.

* * *

__________________

بضع لحظات ، إنّ الجهاز يعمل وفق نظام حراري يجتذب الأمواج الصادرة عن الأجسام ، ويحوّلها بوساطة جهاز يدعى «ثرموجرام» إلى سالب وموجب ، ثمّ يصوّرها بالأسود والأبيض ـ كما ذكرت وسائل الإعلام ـ وبهذا يمكن ـ أن نعرف كيفية وقوع جريمة وتصوير أعمال المجرمين السابقة ثمّ عرضها عليهم وكشف كذبهم.

٤٦٦

الآيتان

(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))

سبب النّزول

لهاتين الآيتين روايتان في سبب نزولهما : إحداهما في تفسير «مجمع البيان» والأخرى في تفسير «المنار».

الأولى تقول : ادّعى جمع من الحاضرين في مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّهم يحبّون الله،مع أنّ العمل بتعاليم الله كان أقلّ ظهورا في أعمالهم. فنزلت هاتان الآيتان بشأنهم.

وتقول الأخرى : حضر فريق من مسيحيّي نجران مجلس رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وزعموا في حديثهم أنّ مبالغتهم في تقديس المسيح عليه‌السلام إنّما ينطلق من حبّهم لله. فنزلت الآيتان تردّان عليهم.

٤٦٧

التّفسير

الحب الحقيقي :

تقول الآية الأولى إنّ الحبّ ليس بالعلاقة القلبية فحسب ، بل يجب أن تظهر آثاره في عمل الإنسان. إنّ من يدّعي حبّ الله ، فعليه أوّلا اتّباع رسوله : (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي).

في الواقع أنّ من آثار الحبّ الطبيعية انجذاب المحبّ نحو المحبوب والاستجابة له. صحيح أنّ هناك حبّا ضعيفا لا تتجاوز أشعّته جدران القلب ، إلّا أنّ هذا من التفاهة بحيث لا يمكن اعتباره حبّا. لا شكّ أنّ للحبّ الحقيقي آثارا عملية تربط المحبّ بالحبيب وتدفعه للسعي في تحقيق طلباته.

والدليل على ذلك واضح ، فحبّ المرء شيئا لا بدّ أن يكون بسبب عثوره على أحد الكمالات فيه. لا يمكن أنّ يحبّ الإنسان مخلوقا ليس فيه شيء من قوّة الجذب ، وعليه فإنّ حبّ الإنسان لله ناشئ من كونه منبع جميع الكمالات وأصلها. إنّ محبوبا هذا شأنه لا بدّ أن تكون أوامره كاملة أيضا ، فكيف يمكن لإنسان يعشق الكمال المطلق أن يعصي أوامر الحبيب وتعاليمه ، فإن عصى فذلك دليل على أنّ حبّه غير حقيقي.

هذه الآية لا تقتصر في ردّها على مسيحيّي نجران والذين ادّعوا حبّ الله على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هذا الردّ أصيل وعامّ في منطق الإسلام موجّه إلى جميع العصور والقرون. إنّ الذين لا يفتأون ـ ليل نهار ـ يتحدّثون عن حبّهم لله ولأئمّة الإسلام وللمجاهدين في سبيل الله وللصالحين والأخيار ، ولكنّهم لا يشبهون أولئك في العمل ، هم كاذبون.

أولئك الغارقون في الذنوب من قمة الرأس حتّى أخمص القدم ، ومع ذلك فهم يرون أن قلوبهم مليئة بحبّ الله ورسوله وأمير المؤمنين والأئمّة العظام ، أو الذين

٤٦٨

يعتقدون أنّ الإيمان والحبّ والمحبّة قلبية فحسب ، هم غرباء على منطق الإسلام تماما.

جاء في «معاني الأخبار» عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «ما أحبّ الله من عصاه».

ثمّ قرأ الأبيات :

تعصي الإله وأنت تظهر حبّه

هذا لعمرك في الفعال بديع

لو كان حبّك صادقا لأطعته

إنّ المحبّ لمن يحبّ مطيع

(يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

تقول هذه الآية : إذا كنتم تحبّون الله ، وبدت آثار ذلك في أعمالكم وحياتكم ، فإنّ الله سيحبّكم أيضا ، وسوف تظهر آثار حبّه أنه سيغفر لكم ذنوبكم ، ويشملكم برحمته.

والدليل على هذا الحبّ المتقابل من قبل الله واضح أيضا ، لأنّه سبحانه موجود كامل ولا متناه من كلّ الجهات ، وسيرتبط ـ على أثر السنخية ـ بكل موجود يقطع خطوات على طريق التكامل برباط الحبّ.

يتبيّن من هذه الآية أن ليس هناك حبّ من طرف واحد ، لأنّ الحبّ يدفع المحبّ إلى أن يحقّق عمليا رغبات حبيبه. وفي هذه الحالة لا يمكن للمحبوب إلّا أن يرتبط بالمحبّ.

قد يسأل سائل : إذا كان المحبّ دائم الإطاعة لأوامر المحبوب ، فلا يبقى له ذنب فيغفر له ، ولذلك فإن جملة (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) ليست ذات موضوع.

في الجواب نقول : أوّلا يمكن أن تعني هذه الجملة غفران الذنوب السابقة.

وثانيا أنّ المحبّ لا يستمرّ في عصيان المحبوب ، ولكن قد يزلّ أحيانا بسبب طغيان الشهوات ، وهذا هو الذي يغفره الله سبحانه.

٤٦٩

الدين والحبّ

جاء في كثير من الأحاديث أنّ أئمّة الإسلام كانوا يقولون : ما الدين إلّا الحب. ومن ذلك ما جاء في «الخصال» و «الكافي» عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «وهل الدين إلّا الحبّ؟» ثمّ تلا هذه الآية (إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي)

هذه الأحاديث تريد أن تبيّن أنّ حقيقة الدين وروحه هي الإيمان بالله وحبّه ، ذلك الإيمان والعشق اللذين يعمّ نورهما كلّ الوجود الإنساني ويضيئانه ، وتتأثر بهما الأعضاء والجوارح ، ويظهر أثرهما في اتّباع أوامر الله.

(قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ).

هذه الآية تتابع حديث الآية السابقة ، وتقول : ما دمتم تدّعون الحبّ لله ، إذا اتّبعوا أمر الله ورسوله ، وإن لم تفعلوا فلستم تحبّون الله ، والله لا يحبّ هؤلاء (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ).

ويستفاد من (أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أنّ إطاعة الله وإطاعة رسوله لا تنفصلان، وأنّ إطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هي إطاعة الله ، وإطاعة الله هي إطاعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، لذلك فالآية السابقة تحدّثت عن إطاعة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقط ، وهنا دار الكلام على إطاعتهما كليهما.

* * *

٤٧٠

الآيتان

(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤))

التّفسير

في مبتدأ هذه الآية يشرع القرآن بسرد حكاية مريم وأجدادها ومقامهم ، فهم النموذج الكامل لحب الله الحقيقي وظهور آثار هذا الحب في مقام العمل والذي أشارت إليه الآيات السابقة.

«اصطفى» من الصفو ، وهو خلوص الشيء من الشوائب ، ومنه «الصفا» للحجارة الصافية. وعليه فالاصطفاء هو تناول صفو الشيء.

تقول الآية : إنّ الله اختار آدم ونوحا وآل إبراهيم وآل عمران من بين الناس جميعا. هذا الاختيار قد يكون «تكوينيا» وقد يكون «تشريعيا» أي أنّ الله قد خلق هؤلاء منذ البدء خلقا متميّزا ، وإن لم يكن في هذا الامتياز ما يجبرهم على إختيار طريق الحقّ ، بل أنّهم بملء اختيارهم وحرّية إرادتهم اختاروه. غير أنّ ذلك التميّز أعدّهم للقيام بهداية البشر ثمّ على أثر إطاعتهم أوامر الله ، والتقوى والسعي في

٤٧١

سبيل هداية الناس نالوا نوعا من التميّز الاكتسابي ، الذي امتزج بتميّزهم الذاتي ، فكانوا من المصطفين.

(ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) (١).

تشير هذه الآية إلى أنّ هؤلاء المصطفين كانوا ـ من حيث الإسلام والطهارة والتقوى والجهاد في سبيل هداية البشر ـ متشابهين ، بمثل تشابه نسخ عدّة من كتاب واحد ، يقتبس كلّ من الآخر : (بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ).

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

في النهاية تشير الآية إلى حقيقة أنّ الله كان يراقب مساعيهم ونشاطهم ، ويسمع أقوالهم ، ويعلم أعمالهم. وفي هذا إشارة أيضا إلى مسئوليات المصطفين الثقيلة نحو الله ومخلوقات الله.

في هذه الآية إشارة إلى جميع الأنبياء من أولي العزم ، فبعد نوح الذي صرّح باسمه ، يأتي آل إبراهيم الذين يضمّون نوحا نفسه وموسى وعيسى ونبيّ الإسلام.

وذكر آل عمران تكرار للإشارة إلى السيّدة مريم والمسيح ، بالنظر لكون هذه الآية مقدّمة لبيان حالهما.

١ ـ امتياز الأنبياء :

هنا يبرز هذا السؤال : على الرغم من أنّ هذا التميّز لم يجبر الأنبياء على السير في طريق الحقّ ، وأنّه لا يتعارض مع حريّة الإرادة والإختيار ، ولكن ألا يعتبر نوعا من التفضيل؟

__________________

(١) «الذرية» أصلها الصغار من الأولاد. وقد يشمل الأبناء الصغار والكبار أيضا بلا واسطة أو مع الواسطة ، والكلمة من (الذرء) ، بمعنى الخلق والإيجاد.

٤٧٢

في الجواب نقول : إنّ خلقا مصحوبا بنظام سليم يستتبع بالضرورة مثل هذا التفاضل،فتأمّل جسم الإنسان ـ مثلا ـ مخلوق منظّم ، وللحفاظ على هذا التنظيم لا بدّ من الاعتراف بالتفاضل بين عضو وعضو ، إذ لو كانت جميع الخلايا في جسم الإنسان تشبه في لطافتها خلايا شبكية العين ، أو تشبه في صلابتها وقوّتها خلايا عظام الساق ، أو تشبه خلايا الدماغ في حساسيّتها ، أو تشبه خلايا القلب في حركتها ، لا ختلّ حتما نظام الجسم. ذا لا بدّ من جود خلايا مثل خلايا الدماغ لكي تتولّى إدارة سائر أعضاء الجسم وعضلاته ، وخلايا العظام المتينة لتحفظ استقامة الجسم وخلايا الأعصاب الحسّاسة للتسلّم أبسط الإيعازات ، والخلايا المتحرّكة لتخلق الحركة في الجسم.

ما من أحد يستطيع أن يقول لماذا ليس الجسم كلّه دماغا؟ أو في النباتات ، لماذا لا تكون الخلايا كلّها بلطافة خلايا أوراق الورد؟ إنّ حالة كهذه ستهدم بناء النبات وتعرضه للفناء.

النقطة المهمّة هي أنّ هذا التميّز الذاتيّ الضروري لإيجاد بناء منظّم ليس بسيطا ، بل هو مصحوب بمسؤولية عظيمة ، هذا «الامتياز» وهذه المسؤولية الثقيلة نفسها تحفظ توازن كفّتي ميزان الخلق. أي أن نسبة تميّز الأنبياء على سائر البشر تتناسب مع أهميّة المسؤولية التي يضطلعون بها. كما أنّ الاختلاف في تميّز الآخرين يتناسب مع مسئولياتهم.

فضلا عن ذلك فإنّ التميّز الذاتي لا يكفي للاقتراب من الله ، بل لا بدّ معه من التميّز المكتسب.

في الآية بعض النقاط ينبغي ذكرها :

١ ـ ليست الآية بصدد ذكر جميع الذين اصطفاهم الله ، بل تعدّد بعضا منهم ، فإذا لم يكن بعض الأنبياء من بين هؤلاء ، فلا يعني ذلك أنهم ليسوا مصطفين. ثمّ إنّ

٤٧٣

«آل إبراهيم» يشمل موسى بن عمران ونبيّ الإسلام والمصطفين من أهل أيضا لأنّهم جمعا من «آل إبراهيم».

٢ ـ يرى «الراغب» في كتابه «المفردات» إنّ «الآل» من «الأهل» ، ولكنّه خصّ بالإضافة إلى أقرباء العظماء من الناس والأشراف ودون الأزمنة والأمكنة.

ولكن «الأهل» يضاف إلى الكلّ ، كالزمان والمكان وغير ذلك ، فيقال : أهل المدينة الفلانية ، ولكن لا يقال : آل المدينة الفلانية.

٣ ـ غنّي عن القول أنّ اصطفاء آل إبراهيم وآل عمران لا يعني اصطفاء جميع أبناء إبراهيم وعمران ، إذ يحتمل أن يكون بينهم حتّى من الكفّار ، إنّما المقصود هو «بعض» من آل إبراهيم وآل عمران.

٤ ـ «عمران» في هذه الآية هو أبو مريم ، لا أبو موسى ، إذ كلّما ورد في القرآن اسم عمران كان المعنى به هو أبو مريم ، كما يستدلّ على ذلك أيضا من الآيات التالية التي تخصّ شرح حال مريم.

٥ ـ في الأحاديث العديدة عن أهل البيت عليهم‌السلام اعتبرت هذه الآية دليلا على عصمة الأنبياء والأئمّة ، وذلك لأنّ الله لا يمكن أن يصطفي المذنبين الملوّثين بالشرك والكفر والفسق. بل لا بدّ أن يقع إختياره على المطهّرين المعصومين.(يستدلّ كذلك من الآية أنّ هناك مراتب للعصمة).

٦ ـ يستدلّ بعض الكتّاب المحدثين بهذه الآية على نظرية النشوء والارتقاء ، معتقدين أنّ الآية تدلّ على أنّ «آدم» لم يكن هو الإنسان الأوّل ، بل كان هناك أناس كثيرون فاصطفى الله من بينهم آدم الذي خلّف نسلا متميّزا من أبنائه ، وأنّ تعبير (عَلَى الْعالَمِينَ) دليل على ذلك. يقول هؤلاء : كان في عصر آدم مجتمع إنساني ، ولذلك فليس ثمّة ما يمنع من أن يكون الإنسان الأوّل ـ الذي وجد قبل ذلك بملايين السنين ـ قد نشأ وتطوّر من حيوانات أخرى متطوّرة ، ويكون «آدم»

٤٧٤

وحده الذي اصطفاه الله.

ولكن في مقابل هذا الرأي يمكن القول أن ليس هناك أيّ دليل على أنّ «عالمين» هم أناس عاصروا آدم ، بل قد يكون القصد هو مجموع المجتمعات البشرية على امتداد التاريخ. وعلى هذا يكون معنى الآية : إنّ الله اصطفى من بين جميع المجتمعات البشرية على امتداد التاريخ أفراد كان أوّلهم آدم ، فنوحا ، فآل إبراهيم ، فآل عمران. وبما أنّ كلّ واحد من هؤلاء كان يعيش في عصر غير عصر الآخر نفهم من ذلك أنّ القصد من «عالمين» هو البشر عموما على اختلاف عصورهم وأزمانهم. لذلك ليس ثمّة ما يدعونا إلى الاعتقاد بأنّ آدم كان يعاصره أناس آخرون فاصطفاه الله من بينهم ، فتأمّل.

* * *

٤٧٥

الآيتان

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦))

التّفسير

كيفية ولادة مريم :

تعقيبا على ما جاء في الآية السابقة من إشارة إلى آل عمران ، تشرع هاتان الآيتان بالكلام على مريم بنت عمران وكيفية ولادتها وتربيتها وما جرى لهذه السيّدة العظيمة.

جاء في التواريخ والأخبار الإسلامية وأقوال المفسّرين أنّ «حنة» و «أشياع» كانتا أختين ، تزوّجت الأولى «عمران» (١) أحد زعماء بني إسرائيل ،

__________________

(١) تفيد بعض الأحاديث أنّ «عمران» كان نبيّا ويوحى إليه. وعمران هذا غير عمران والد موسى ، إذ بينهما ١٨٠٠ سنة من الزمان. (مجمع البيان ـ وتفسير المراغي ، ذيل الآية مورد البحث).

٤٧٦

وتزوّجت الأخرى «زكريّا» النبيّ.

مضت سنوات على زواج «حنة» بغير أن ترزق مولودا. وفي أحد الأيّام بينما هي جالسة تحت شجرة ، رأت طائرا يطعم فراخه. فأشعل هذا المشهد نار حبّ الأمومة في قلبها، فتوجّهت إلى الله بمجامع قلبها طالبة منه أن يرزقها مولودا ، فاستجاب الله دعاءها الخالص ، ولم تمض مدّة طويلة حتّى حملت.

ورد في الأحاديث أنّ الله قد أوحى إلى «عمران» أنّه سيهبه ولدا مباركا يشفي المرضى الميؤوس من شفائهم ، ويحيى الموتى بإذن الله ، وسوف يرسله نبيّا إلى بني إسرائيل. فأخبر عمران زوجته «حنة» بذلك. لذلك عند ما حملت ظنّت أنّ ما تحمله في بطنها هو الابن الموعود ، دون أن تعلم أنّ ما في بطنها أم الابن الموعود «مريم» فنذرت ما في بطنها للخدمة في بيت الله «بيت المقدس». ولكنّها إذ رأتها أنثى ارتبكت ولم تدر ما تعمل ، إذ أنّ الخدمة في بيت الله كانت مقصورة على الذكور ، ولم يسبق أن خدمت فيه أنثى.

والآن نباشر بالتفسير من خلاله نتعرّف على تتمّة الأحداث :

(إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ) ....

هذه إشارة إلى النذر الذي نذرته امرأة عمران وهي حامل بأنّها تهب ابنها خادما في بيت المقدس ، لأنّها كانت تظنّه ذكرا بموجب البشارة التي أتاها بها زوجها ، ولذلك قالت «محرّرا» ولم تقل «محرّرة» ودعت الله أن يتقبل نذرها : (فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).

«المحرر» من التحرير ، وكانت تطلق في ذلك الزمان على الأبناء المعيّنين للخدمة في المعبد ليتولّوا تنظيفه وخدماته ، وليؤدّوا عباداتهم فيه وقت فراغهم. ولذلك سمّي الواحد منهم «المحرّر» ، إذ هو محرّر من خدمة الأبوين ،

٤٧٧

وكان ذلك مدعاة لافتخارهم.

قيل إنّ الصبيان القادرين على هذه الخدمة كانوا يقومون بها بإشراف الأبوين إلى سنّ البلوغ ، ومن ثمّ كان الأمر يوكل إليهم ، إن شاؤوا بقوا ، وإن شاؤوا تركوا الخدمة.

ويرى البعض أن إقدام امرأة عمران على النذر دليل على أن عمران توفي أيّام حمل زوجته ، وإلّا كان من البعيد أن تستقل الام بهذا النذر.

(فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى).

هذه الآية تشرح حال أم مريم بعد ولادتها ، فقد أزعجها أن تلد أنثى ، وراحت تخاطب الله قائلة : إنّها أنثى ، وأنت تعلم أنّ الذكر ليس كالأنثى في تحقيق النذر ، فالأنثى لا تستطيع أن تؤدّي واجبها في الخدمة كما يفعل الذكر فالبنت بعد البلوغ لها عادة شهرية ولا يمكنها دخول المسجد ، مضافا إلى أن قواها البدنية ضعيفة ، وكذلك المسائل المربوطة بالحجاب والحمل وغير ذلك. (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى).

ويظهر من القرائن في الآية والأحاديث الواردة في التفاسير أنّ هذا القول (وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى) قول أمّ مريم ، لا قول الله كما ذهب إلى ذلك بعض المفسّرين. ولكن كان ينبغي أن تقول «وليست الأنثى كالذكر» باعتبارها قد ولدت أنثى لا ذكرا. لذلك يمكن أن يكون في الجملة تقديم وتأخير ، كما نلاحظه في كلام العرب وغير العرب. ولعلّ ما انتهابها من الكدر والحزن لوضعها أنثى جعلها تنطق بهذا الشكل ، إذ كانت شديدة الاعتقاد بأنّ ما ستلده ذكر وأنّها ستفي بنذرها في جعله خادما في بيت المقدس. وهذا الاعتقاد والتوقّع جعلاها تقدّم الذكر على الأنثى ، على الرغم من أنّ أصول تركيب الجمل وجنس المولود يقتضيان تقديم الأنثى.

٤٧٨

والجملة المعترضة (وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ) من قول الله. أي لم يكن يلزم أن تقول إنّها ولدت أنثى ، لأنّ الله كان أعلم منها بمولودها منذ انعقاد نطفته وتعاقب مراحل تصوّره في الرحم.

(وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ) ....

يتّضح من هذه الجملة أنّ أم مريم هي التي سمّتها بهذا الاسم عند ولادتها. و «مريم» بلغتها تعني «العابدة». وفي هذا يظهر منتهى اشتياق هذه الأمّ الطاهرة لوقف وليدها على خدمة الله. لذلك طلبت من الله ـ بعد أن سمّتها ـ أن يحفظها ونسلها من وسوسة الشياطين ، وأن يرعاهم بحمايته ولطفه (وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ).

* * *

٤٧٩

الآية

(فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧))

التّفسير

تواصل هذه الآية سرد حكاية مريم. لقد أشرنا من قبل أنّ أمّ مريم لم تكن تصدّق إمكان قبول الأنثى خادمة في بيت الله ، لذلك كانت تتمنّى أن تلد مولودا ذكرا ، إذ لم يسبق أن اختيرت أنثى لهذا العمل. ولكن الآية تقول إنّ الله قد قبل قيام هذه الأنثى الطاهرة بهذه الخدمة الروحية والمعنوية ، لأوّل مرّة.

يقول بعض المفسّرين : إنّ دليل قبولها لهذه الخدمة أنّها لم تكن ترى العادة الشهرية أثناء خدمتها في بيت المقدس لكي لا تضطرّ إلى ترك الخدمة ، أو أن حضور طعامها من الجنّة إلى محرابها دليل على قبولها. وقد يكون قبول النذر وقبول مريم قد أبلغ للأمّ عن طريق الإلهام.

٤٨٠