الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

على حكم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنكروا أن يكون في اليهود مثل هذا العقاب.

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «بيني وبينكم التوراة» فوافقوا ، واستدعوا «ابن صوريا» أحد علمائهم ، من فدك إلى المدينة ، وعند وصوله عرفه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وسأله : أأنت ابن صوريا؟ قال : نعم. فقال : أأنت أعلم علماء اليهود؟ قال : هكذا يحسبونني ، فأمر رسول الله أن يفتحوا أمامه التوراة حيث ذكر الرجم ليقرأه ، ولكنّه لمّا كان مطّلعا على تفاصيل الحادث قرأ جانبا من التوراة ، وعند ما وصل إلى عبارة الرجم وضع يده عليها وتخطّاها ولم يقرأها وقرأ ما بعدها. فأدرك «عبد الله بن سلام» ـ الذي كان من علماء اليهود ثمّ أسلم ـ مكر ابن صوريا وقام إليه ورفع يده عن الآية وقرأ ما كان قد أخفاه بيده ، قائلا : تقول التوراة : على اليهود ، إذا ثبت زنا المحصن بالمحصنة رجما. فأمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ينفّذ العقاب بحقّهما بموجب شريعتهم. فغضب بعض اليهود ، فنزلت هذه الآية بحقّهم (١).

التّفسير

هذه الآيات تصرّح ببعض تحريفات أهل الكتاب الذين كانوا يتوسّلون بالتبريرات والأسباب الواهية لتفادي إجراء حدود الله ، مع أنّ كتابهم كان صريحا في بيان حكم الله بغير إبهام ، وقد دعوا للخضوع للحكم الموجود في كتابهم (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ).

ولكن عصيانهم كان ظاهرا ومصحوبا بالإعراض والطغيان واتّخاذ موقف المعارض لأحكام الله : (ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ).

__________________

(١) في التوراة الموجودة حاليّا ، في سفر اللاويّين في الفصل العشرين ، الجملة العاشرة نقرأ ما يلي : «إذا زنا أحد بامرأة غيره ، أي بامرأة جاره (مثلا) يجب قتل الزاني والزانية». على الرغم من أنّ الرجم نفسه لم يرد ، فقد ورد العقاب بالموت ، وربما يكون التصريح بالرجم قد ورد في النسخة التي كانت موجودة على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

٤٤١

يمكن الاستنتاج من (أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ) أنّ ما كان بين أيدي اليهود والنصارى من التوراة والإنجيل لم يكن كاملا ، بل كان قسم منهما بين أيديهم ، بينما كان القسم الأعظم من هذين الكتابين السماويّين قد ضاع أو حرّف.

هذه الآية تؤيّدها آيات أخرى في القرآن ، كما أنّ هناك شواهد ودلائل تاريخية تؤكّد ما ذهبنا إليه.

وفي الآية الثانية شرح سبب عصيانهم وتمردّهم ، وهو أنّهم كانوا يحملون فكرة خاطئة عن كونهم من عنصر ممتاز ، وهم اليوم أيضا يحملون هذه الفكرة الباطلة الواضحة في كتاباتهم الدالّة على الاستعلاء العنصري.

كانوا يظنّون أنّ لهم علاقة خاصّة بالله سبحانه ، حتّى أنّهم سمّوا أنفسهم «أبناء الله» كما ينقل القرآن ذلك على لسان اليهود والنصارى في الآية ١٨ من سورة المائدة قولهم:(نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). وبناء على ذلك كانوا يرون لأنفسهم حصانة تجاه العقوبات الربّانية ، وكانوا ينسبون ذلك إلى الله نفسه. لذلك كانوا يعتقدون أنّهم لن يعاقبوا على ذنوبهم يوم القيامة إلّا لأيّام معدودات : (قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ).

ولعلّ القصد من «الأيام المعدودات» هي الأربعون يوما التي عبدوا فيها العجل في غياب موسى عليه‌السلام ، وكان هذا ذنبا لم يكونوا هم أنفسهم قادرين على إنكاره.

أو لعلّها أيّام قليلة من أعمارهم ارتكبوا فيها ذنوبا كبيرة غير قابلة للإنكار ، ولم يستطيعوا حتّى على إخفائها.

هذه الامتيازات الكاذبة المصطنعة ، التي أسبغوها على أنفسهم ونسبوها إلى الله، صارت شيئا فشيئا جزءا من معتقداتهم بحيث إنّهم اغترّوا بها وراحوا يخالفون أحكام الله ويخرقون قوانينه مجترئين عليها جرأة لا مزيد عليها (وَغَرَّهُمْ

٤٤٢

فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ).

وتدحض الآية الثالثة كلّ هذه الخيالات الباطلة وتقول : لا شكّ أنّ هؤلاء سوف يلاقون يوما يجتمع فيه البشر أمام محكمة العدل الإلهي فيتسلّم كلّ فرد قائمة أعماله ، ويحصدون ناتج ما زرعوه ، ومهما يكن عقابهم فهم لا يظلمون لأنّ ذلك هو حاصل أعمالهم (فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

يتّضح من (ما كَسَبَتْ) أنّ عقاب المرء وثوابه يوم القيامة وفوزه وخذلانه في العالم الآخر إنّما يرتبط بأعماله هو ، ولا يؤثّر فيه شيء آخر. هذه حقيقة أشير إليها في كثير من الآيات الكريمة.

* * *

سؤالان

١ ـ أيمكن للإنسان أن يختلق كذبا أو افتراء وينسبه إلى الله ، ثمّ يتأثّر به هو ويعتوره الغرور إلى تلك الدرجة التي أشار إيها القرآن في الآيات السابقة بالنسبة لليهود؟

ليس من العسير الردّ على هذا السؤال ، وذلك لأنّ قضية خداع النفس من القضايا التي يعترف بها علم النفس المعاصر. إنّ العقل الإنساني يسعى أحيانا إلى استغفال الضمير بأنّ يغيّر وجه الحقيقة في عين ضميره. كثيرا ما نشاهد أناسا ملوّثين بالذنوب الكبيرة ، كالقتل والسرقة وأمثالها ، على الرغم من إدراكهم تماما قبح تلك الأعمال يسعون لإظهار ضحاياهم بأنّهم كانوا يستحقّون ما أصابهم لكي يسبغوا هدوءا كاذبا على ضمائرهم ، وكثيرا ما نرى المدمنين على المخدّرات يبرّرون فعالهم بأنّهم يستهدفون الفرار من مصائب الدنيا ومشاكلها.

ثمّ إنّ هذه الأكاذيب والافتراءات عن تفوّقهم العنصري التي حاكتها الأجيال

٤٤٣

السابقة من أهل الكتاب وصلت بالتدريج إلى الأجيال التالية التي لم تكن تعرف الكثير عن هذا الموضوع ـ ولم تعن بالبحث عن الحقيقة ـ بصورة عقائد مسلّم بها.

٢ ـ يمكن أن يقال إنّ الاعتقاد «بالعذاب لأيام معدودات» منتشر بيننا نحن المسلمين أيضا ، لأنّنا نعتقد أنّ المسلمين لا يخلّدون في العذاب الإلهي ، إذ أنّ إيمانهم سوف ينجيهم أخيرا من العذاب.

ولكن ينبغي التوكيد هنا أنّنا لا يمكن أن نعتقد بأنّ المسلم المذنب والملوّث بأنواع الآثام يعذّب بضعة أيّام فقط ، بل أنّنا نعتقد أنّ عذاب هؤلاء يطول لسنوات وسنوات لا يعرف مداها إلّا الله ، إلّا أنّ عذابهم لا يكون أبديا خالدا. وإذا وجد حقّا بين المسلمين من يحسبون أنّهم بالاحتماء بالإسلام والإيمان والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمّة الأطهار يجوز لهم أن يرتكبوا ما يشاءون من الذنوب ، ثمّ لا يصيبهم من العقاب سوى بضعة أيّام من العذاب ، فإنّهم على خطأ كبير ويجهلون تعاليم الإسلام وروح تشريعاته.

ثمّ إنّنا لا نعترف بأيّ امتياز خاصّ للمسلمين ، بل نعتقد أنّ كلّ أمّة اتّبعت نبيّها في زمانها ثمّ أذنبت مشمولة بهذا القانون أيضا ، بغضّ النظر عن عنصرها. أمّا اليهود فيخصّون أنفسهم بهذا الامتياز دون غيرهم بزعم تفوّقهم العنصري. وقد ردّ عليهم القرآن زعمهم الكاذب هذا في الآية ١٨ من سورة المائدة : (بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ).

* * *

٤٤٤

الآيتان

(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧))

سبب النّزول

يذكر المفسّر المعروف «الطبرسي» في «مجمع البيان» سببين لنزول هاتين الآيتين يتناولان حقيقة واحدة.

١ ـ عند ما فتحت مكّة ، بشّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المسلمين بأنّ دولة الفرس ودولة الروم سرعان ما ستنضويان تحت لواء الإسلام. غير أنّ المنافقين الذين لم تكن قلوبهم قد استنارت بنور الإيمان ولم يدركوا روح الإسلام ، اعتبروا ذلك مبالغة ، وقالوا بدهشة : لم يقنع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة ومكّة ، وهو يطمع الآن بفتح فارس والروم ، فنزلت الآية المذكورة.

٤٤٥

٢ ـ كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون مشغولون بحفر الخندق في أطراف المدينة ، وانتظم المسلمون في جماعات يحفرون بسرعة وجدّ لكي ينجزوا هذا الحصن الدفاعي قبل وصول جيش الأعداء. وفجأة ظهرت صخرة كبيرة بيضاء صلدة وسط الخندق عجز المسلمون عن كسرها أو تحريكها. فجاء «سلمان» إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرض عليه الأمر. فنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الخندق وتناول المعول من سلمان وأنزل ضربة شديدة بالصخرة ، فانبعث منها الشرر ، فصاح المعول من سلمان وأنزل ضربة شديدة بالصخرة ، فانبعث منها الشرر ، فصاح النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مكبّرا تكبيرة الإنتصار ، فردّد المسلمون التكبير وراح صوتهم يدوّي في كلّ مكان. ومرّة أخرى أنزل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم معوله على الصخرة ، فانبعث الشرر وكسرت قطعة منها ، وارتفع صوت تكبير الإنتصار من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين بعده. وللمرّة الثالثة ارتفع معول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمين بعده. وللمرّة الثالثة ارتفع معول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونزل على الصخرة ، وللمرّة الثالثة انبعث الشرر من الضربة وأضاء ما حولها ، وتحطّمت الصخرة ، وارتفع صوت التكبير بين جنبات الخندق.

فقال سلمان : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ، لقد رأيت شيئا ما رأيت منك قط. فالتفت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى القوم وقال : رأيتم ما يقول سلمان؟ قالوا : نعم يا رسول الله. قال : ضربت ضربتي الأولى فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحيرة ومدائن كسرى كأنّها أنياب الكلاب ، فأخبرني جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها ، ثمّ ضربت ضربتي الثانية فبرق الذي رأيتم أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم كأنّها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبرئيل أنّ أمّتي ظاهرة عليها ، ثمّ ضربت ضربتي الثالثة فبرق الذي رأيتم أضاءت لي قصور صنعاء كأنّها أنياب الكلاب ، وأخبرني جبرئيل أن أمّتي ظاهرة عليها. فابشروا ، فاستبشر المسلمون وحمدوا الله. أمّا المنافقون فقد عبسوا وقالوا بلهجة المعترض : أمل باطل ووعد مستحيل! هؤلاء يحفرون الخنادق خوفا على أرواحهم من جيش صغير يخشون

٤٤٦

مواجهته ، ثمّ يحلمون فتح أعظم دول العالم. وعندئذ نزلت الآيات المذكورة.

التّفسير

بيده كلّ شيء :

دار الكلام في الآيات السابقة حول المشركين وأهل الكتاب الذين كانوا يخصّون أنفسهم بالعزة وبالملك ، وكيف أنّهم كانوا يرون أنفسهم في غنى عن الإسلام. فنزلت هاتان الآيتان تفنّدان مزاعمهم الباطلة يقول تعالى : (قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ).

إنّ المالك الحقيقي للأشياء هو خالقها. وهو الذي يعطي لمن يشاء الملك والسلطان ، أو يسلبهما ممّن يشاء ، فهو الذي يعز ، وهو الذي يذل ، وهو القادر على كلّ هذه الأمور، (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

ولا حاجة للقول بأنّ مشيئة الله في هذه الآيات لا تعني أنّه يعطي بدون حساب ولا موجب ، أو يأخذ بدون حساب ولا موجب ، بل أنّ مشيئته مبنيّة على الحكمة والنظام ومصلحة عالم الخلق وعالم الإنسانية عموما. وبناء على ذلك فإنّ أي عمل يقوم به إنّما هو خير عمل وأصحّه.

(بِيَدِكَ الْخَيْرُ).

«خير» صيغة تفضيل يقصد بها تفضيل شيء على شيء ، والكلمة تطلق أيضا على كلّ شيء حسن. بدون مفهوم التفضيل ، والظاهر من الآية مورد البحث أنها جاءت بالمعنى الثاني هذا ، أي إن مصدر كلّ خير بيده ومنه سبحانه.

وعبارة (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) تحصر كلّ الخير بيد الله من جهتين :

٤٤٧

١ ـ الألف واللام في «الخير» هما للاستغراق.

٢ ـ أنّ تقديم الخبر «بيدك» وتأخير المبتدأ «الخير» دليل على الحصر كما هو معلوم. فيكون المعنى : «كلّ الخير بيدك وحدك لا بيد غيرك».

كذلك يستفاد من «بيدك الخير» أنّ الله هو منبع كلّ خير وسعادة فإذا أعزّ أحدا أو أذلّه ، أو أعطى السلطنة والحكم لأحد الناس أو سلبها منه فذلك قائم على العدل ، ولا شرّ فيه. فالخير للأشرار أن يكونوا في السجن ، والخير للأخيار أن يكونوا أحرارا.

وبعبارة اخرى : أنه لا وجود للشر في العالم ، ونحن الذين نقلب الخيرات إلى شرور ، فعند ما تحصر الآية الخير بيده تعالى ولا تتحدث عن الشر إنّما هو بسبب ان الشر لا يصدر من ذاته المقدسة إطلاقا.

(إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

هذه الآية جاءت دليلا على الآية السابقة. أي ما دام الله ذا قدرة مطلقة ، فليس ثمّة ما يمنع أن يكون كلّ خير خاضعا لمشيئته.

الحكومات الصالحة وغير الصالحة :

يطرح هنا سؤال هام يقول : قد يستنتج بعضهم من هذه الآية أنّ من يصل إلى مركز الحكم ، أو يسقط منه ، فذلك بمشيئة الله. ومن هنا فلا بدّ من قبول حكومات الجبّارين والظالمين في التاريخ مثل حكومات جنكيزخان وهتلر وغيرهما. بل أنّنا نقرأ في التاريخ أنّ «يزيد بن معاوية» ـ تبريرا لحكمه الشائن الظالم ـ استشهد بهذه الآية (١). لذلك نرى في كتب التفسير توضيحات مختلفة بشأن هذه الشبهة. من

__________________

(١) إرشاد المفيد : نقلا عن تفسير الميزان.

٤٤٨

ذلك أنّ الآية تختصّ بالحكومات الإلهيّة ، أو أنّها تقتصر على حكومة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي أنهت حكم جبّاري قريش.

ولكن الآية تطرح في الواقع مفهوما عامّا يقضي أنّ جميع الحكومات الصالحة وغير الصالحة مؤطّرة بقانون مشيئة الله ، ولكن ينبغي أن نعلم أنّ الله قد أوجد مجموعة من الأسباب للتقدّم والنجاح في العالم ، وأنّ الاستفادة من تلك الأسباب هي نفسها مشيئة الله. وعليه فإنّ مشيئة الله هي الآثار المخلوقة في تلك الأسباب والعوامل. فإذا قام ظلمة وطغاة ـ مثل جنكيز ويزيد وفرعون ـ باستغلال أسباب النجاح ، وخضعت لهم شعوب ضعيفة وجبانة ، وتحمّلت حكمهم الشائن ، فذلك من نتائج أعمال تلك الشعوب وقد قيل : كيفما كنتم يولّى عليكم.

ولكن إذا كانت هذه الشعوب واعية ، وانتزعت تلك الأسباب والعوامل من أيدي الجبابرة وأعطتها بيد الصلحاء ، وأقامت حكومات عادلة ، فإن ذلك أيضا نتيجة لأعمالها ولطريقة استفادتها من تلك العوامل والأسباب الإلهيّة.

في الواقع ، أنّ الآية دعوة للأفراد والمجتمعات إلى اليقظة الدائمة والوعي واستفادة من عوامل النجاح والنصر ، لكي يشغلوا المواقع الحسّاسة قبل أن يستولي عليها أناس غير صالحين.

خلاصة القول : إنّ مشيئة الله هي نفسها عالم الأسباب ، إنّما الاختلاف في كيفية استفادتنا من عالم الأسباب هذا.

في الآية التالية ولتأكيد حاكمية الله المطلقة على جميع الكائنات تضيف الآية :

١ ـ (تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) ....

وبهذا تذكر الآية بعض المصاديق البارزة على قدرة الله تعالى ، ومنها مسألة التغيير التدريجي للّيل والنهار ، بمعنى أن الليل يقصر مدّته في نصف من السنة ، وهو

٤٤٩

ما عبّر عنه بدخوله في النهار ، بينما يطول الليل ويقصر النهار في النصف الثاني من السنة ، وهو دخول وولوج النهار في الليل. وكذلك إخراج الموجودات الحية من الميّتة وبالعكس ، وكذلك الرزق الكثير الذي يكون من نصيب بعض الأشخاص دون بعض ، كلّها من علائم قدرته المطلقة.

* * *

بحوث

«الولوج» بمعنى الدخول. والقصد من الآية هو هذا التغيير التدريجي الذي نراه بين الليل والنهار طوال السنة. هذا التغيير ناشئ عن انحراف محور الأرض عن مدارها بنحو ٢٣ درجة واختلاف زاوية سقوط أشعّة الشمس عليها. لذلك نرى الشتاء في النصف الشمالي من خطّ الإستواء تطول أيّامه تدريجيا ، وتقصر لياليه تدريجيا ، حتّى أوائل الصيف ، حيث ينعكس التغيير فتقصر أيّامه وتطول لياليه حتّى أوائل الشتاء. أمّا في جنوب خطّ الإستواء فالتناظر يكون معكوسا.

وبناء على ذلك فإنّ الله يدخل الليل في النهار ، ويدخل النهار في الليل ، دائما ، أي أنّه ينقص هذا ليزيد ذاك وبالعكس.

قد يقول قائل إنّ الليل والنهار في خطّ الإستواء الحقيقي وفي نقطتي القطبين في الشمال والجنوب متساويان وليس ثمّة أيّ تغيير فيهما ، فالليل والنهار في خطّ الإستواء متساويان ويمتدّ كلّ منهما اثنتي عشرة ساعة على امتداد السنة ، وفي القطبين يمتدّ الليل ستة أشهر ومثله النهار ، لذلك فإنّ الآية ليست عامّة.

في الجواب على هذا التساؤل نقول : إنّ خطّ الإستواء الحقيقي خطّ وهمي ، والناس عادة يعيشون على طرفي الخط. كذلك الحال في القطبين فهما نقطتان وهميّتان ، وسكّان القطبين ـ إن كان فيهما سكّان ـ يعيشون في مناطق أوسع طبعا

٤٥٠

من نقطة القطب الحقيقة ، وعليه فالاختلاف موجود في كلّ الحالات.

وقد يكون للآية معنى آخر بالإضافة إلى ما ذكر ، وهو أنّ الليل والنهار لا يحدثان فجأة في الكرة الأرضية بسبب وجود طبقات «الجو» حولها. فالنهار يبدأ بالتدريج من الفجر وينتشر ، ويبدأ الليل من حمرة الأفق الغربي والغسق ، ثمّ ينتشر الظلام حتّى يعمّ جميع الأرجاء.

إنّ للتدرّج في تغيير الليل والنهار ـ بأيّ معنى كان ـ آثارا مفيدة في حياة الإنسان والكائنات الأخرى على الأرض. لأنّ نموّ النباتات وكثير من الحيوانات يتمّ في إطار نور الشمس وحرارتها التدريجيّة. فمن بداية الربيع حيث يزداد بالتدريج نور الشمس وحراراتها ، تطوي النباتات وكثير من الحيوانات كلّ يوم مرحلة جديدة من تكاملها. ولمّا كانت هذه الموجودات تحتاج بمرور الأيّام إلى مزيد من النور والحرارة ، فإنّ حاجتها هذه تلبى عن طريق التغييرات التدريجيّة للّيل والنهار ، لتصل إلى نقطة تكاملها النهائيّة.

فلو كان الليل والنهار كما هو دائما ، لاختلّ نموّ كثير من النباتات والحيوانات ، ولاختفت الفصول الأربعة التي تنشأ من اختلاف الليل والنهار ومن مقدار زاوية سقوط نور الشمس ، ولخسر الإنسان فوائد ذلك.

كذلك هي الحال إذا أخذنا بنظر الإعتبار المعنى الثاني في تفسير الآية أي أنّ حلول الليل والنهار تدريجي ، لا فجائي ، وأنّ هناك فترة بين الطلوعين تفصل بينهما ، فمن ذلك يتّضح أنّ هذا التدرّج في حلول الليل والنهار نعمة كبرى لسكنة الأرض ، لأنّهم يتعرّفون بالتدرج على الظلام أو الضياء ، وبذلك تتطابق قواهم الجسمية وحياتهم الاجتماعية مع هذا التغيير ، وإلّا حدثت حتما مشاكل لهم.

٢ ـ (وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ).

إنّ معنى خروج «الحيّ» من «الميّت» هو ظهور الحياة من كائنات عديمة

٤٥١

الحياة. فنحن نعلم أنّه في اليوم الذي استعدّت فيه الأرض لاستقبال الحياة ، ظهرت كائنات حيّة من كائنات عديمة الحياة. أضف إلى ذلك أنّ مواد لا حياة فيها تصبح باستمرار أجزاء من خلايانا الحيّة وخلايا جميع الكائنات الحيّة في العالم ، وتتبدّل إلى مواد حيّة.

أمّا خروج «الميّت» من «الحيّ» فهو دائم الحدوث أمام أنظارنا.

إنّ الآية ـ في الواقع ـ إشارة إلى قانون التبادل الدائم بين الحياة والموت ، وهو أعمّ القوانين التي تحكمنا وأعقدها ، كما أنّه أروعها في الوقت نفسه.

لهذه الآية تفسير آخر أيضا ـ لا يتعارض مع التفسير السابق ـ وهو مسألة الحياة والموت المعنويّين. فنحن كثيرا ما نرى أنّ بعض المؤمنين ـ وهم الاحياء الحقيقيّون ـ يخرجون من بعض الكافرين ـ وهم الأموات الحقيقيّون ـ. وقد يحدث العكس ، حين يخرج الكفار من المؤمن.

إنّ القرآن يعبّر عن الحياة والموت المعنويّين بالإيمان الكفر في كثير من آياته.

وبموجب هذا التفسير يكون القرآن قد ألغى قانون الوراثة الذي يعتبره بعض العلماء من قوانين الطبيعة الثابتة. فالإنسان يتميّز بحريّة الارادة وليس مثل الكائنات غير الحيّة في الطبيعة التي تقع تحت تأثير مختلف العوامل وقوعا إجباريا. وهذا بذاته مظهر من مظاهر قدرة الله التي تغسل آثار الكفر في نفوس أبناء الكافرين ـ أولئك الذين يريدون حقّا أن يكونوا مؤمنين ـ ويغسل آثار الإيمان من أبناء المؤمنين ـ الذين يريدون حقّا أن يكونوا كافرين ـ. وهذا الاستقلال في الإرادة ، القادر على الإنتصار ، حتّى في ظروف غير مؤاتية ، من مظاهر قدرة الله أيضا.

هذا المعنى يرد في حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كما جاء في تفسير «الدرّ

٤٥٢

المنثور» عن سلمان الفارسي أنّه قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فسّر الآية (يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ) ... فقال : أي أنّه يخرج المؤمن من صلب الكافر ، والكافر من صلب المؤمن.

٣ ـ (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ).

هذه الآية تعتبر من باب ذكر «العام» بعد «الخاص» ، إذ الآيات السابقة قد ذكرت نماذج من الرزق الإلهي ، أمّا هنا فالآية تشير إلى جميع النعم على وجه العموم ، أي أنّ العزّة والحكم والحياة والموت ليست هي وحدها بيد الله ، بل بيده كلّ أنواع الرزق والنعم أيضا.

وتعبير (بِغَيْرِ حِسابٍ) يشير إلى أنّ بحر النعم الإلهية من السعة والكبير بحيث إنّه مهما اعطى منه فلن ينقص منه شيء ولا حاجة به لضبط الحسابات. فالتسجيل في دفاتر الحساب من عادة ذوي الثروات الصغيرة المحدودة التي يخشى عليها من النفاذ والنقصان. فهؤلاء هم الذين يحسبون حسابهم قبل أن يهبوا لأحد شيئا ، لئلّا تتبدّدا ثرواتهم. أمّا الله فلا يخشى النقص فيما عنده ، ولا أحد يحاسبه ، ولا حاجه له بالحساب.

يتّضح ممّا قلنا أنّ هذه الآية لا تتعارض مع الآيات التي تبيّن التقدير الإلهي وتطرح موضوع لياقة الأفراد وقابليّتهم ومسألة التدبير في الخلقة.

٤ ـ ليس في الأمر إجبار

وهنا يطرح سؤال آخر وهو : إنّنا نعلم أنّ الإنسان حرّ في كسب رزقه بغير إجبار ، وذلك بموجب قانون الخلق وحكم العقل ودعوة الأنبياء ، فكيف تقول هذه الآية أنّ كلّ هذه الأمور بيد الله؟

في الجواب نقول : إن المصدر الأوّل لعالم الخلق وجميع العطايا والإمكانات الموجودة عند الناس هو الله ، فهو الذي وضع جميع الوسائل في متناول الناس

٤٥٣

لبلوغ العزّة والسعادة. وهو الذي وضع في الكون تلك القوانين التي إذا لم يلتزمها الناس انحدروا إلى الذلّ والتعاسة. وعلى هذا الأساس يمكن إرجاع كلّ تلك الأمور إليه ، وليس في ذلك أيّ تعارض مع حرّية إرادة البشر ، لأنّ الإنسان هو الذي يتصرّف بهذه القوانين والمواهب والقوى والطاقات تصرّفا صحيحا أو خاطئا.

* * *

٤٥٤

الآية

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨))

التّفسير

العلاقة مع الأجنبي :

ذكرت الآيات السابقة أن العزّة والذلّة وجميع الخيرات بيد الله تعالى. وبهذه المناسبة فإنّ هذه الآية تحذّر المؤمنين من مصادقة الكافرين وتنهاهم بشدّة من موالاة الكفّار ، لأنّه إذا كانت هذه الصداقة والولاء من أجل العزّة والقدرة والثروة. فإنها جميعا بيد الله عزوجل. ولذلك تقول الآية :

(لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) ولو ارتكب أحد المؤمنين ذلك فإنه يقطع ارتباطه مع الله تماما (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) وقد نزلت هذه الآية في وقت كانت هناك روابط بين المسلمين والمشركين مع اليهود والنصارى.

وهذه الآية درس سياسيّ واجتماعيّ مهمّ للمسلمين ، فتحذّرهم من اتّخاذ الأجنبيّ صديقا أو حاميا أو عونا ورفيقا ، في أيّ عمل من أعمالهم ، ومن الانخداع

٤٥٥

بكلامه المعسول وعروضه الجذّابة وتظاهره بالمحبّة الحميمة ، لأنّ التاريخ قد أثبت بأنّ أقسى الضربات التي تلقّاها المؤمنون جاءت من هذا الطريق.

لو أنّنا طالعنا تاريخ الاستعمار للاحظنا أنّ المستعمرين جاؤوا دائما في لبوس الصداقة والترحّم وحبّ الإعمار والبناء فتغلغلوا بين طبقات المجتمع.

إنّ كلمة «استعمار» التي تعني الإعمار والبناء دليل على هذا الخداع ، فهم بعد أن يتمكنّوا من إنشاب مخالبهم في جذور المجتمع المستعمر ، يبدأون بامتصاص دمائه بكلّ قسوة وبغير رحمة.

(مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) إشارة إلى أنّ الناس في حياتهم الاجتماعية لا بدّ لهم من اتّخاذ الأولياء والأصدقاء ، فعلى المؤمنين أن يختاروا أولياءهم من بين المؤمنين ، لا من بين الكافرين.

(فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ).

تقول الآية : إن الذين يعقدون أواصر صداقتهم وولاءهم مع أعداء الله ، ليسوا من الله في أيّ شيء من الأشياء ، أي أنّهم يكونون قد تخلّوا عن إطاعة أوامر الله وقطعوا علاقتهم بالجماعة المؤمنة الموحّدة ، وانقطعت ارتباطاتهم من جميع الجهات.

(إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً).

هذا استثناء من الحكم المذكور ، وهو أنّه إذا اقتضت الظروف ـ التقية ـ فللمسلمين أن يظهروا الصداقة لغير المؤمنين الذين يخشون منهم على حياتهم.

ولكن الآية تعود في الختام لتؤكّد الحكم الأوّل فتقول : (يُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فالله ينذر الناس أوّلا بغضب منه وبعقاب شديد ، ثمّ إنّ مرجع الناس جميعا إلى الله. وإن تولّوا أعداء الله نالوا عاجلا نتيجة أعمالهم.

* * *

٤٥٦

بحوث

١ ـ التقية أو الدرع الواقي

صحيح أنّ الإنسان قد يضحّي حتّى بحياته من أجل هدف كبير ولصيانة الشرف ونصرة الحقّ وقمع الباطل ، ولكن هل يجيز عاقل لنفسه أن تتعرّض للخطر دون أن يكون أمامه هدف هام؟

الإسلام يجيز الإنسان صراحة أن يمتنع عن إعلان الحقّ مؤقّتا وأن يؤدّي واجبه في الخفاء حين يعرضه ذلك لخطر في النفس والمال والعرض وحين لا يكون للإعلان نتيجه مهمّة وفائدة كبيرة. كما جاء في هذه الآية ، وكما جاء في الآية ١٠٦ من سورة النحل حيث يقول: (إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ).

إن كتب التاريخ والحديث الإسلامي ما زالت تحفظ حكاية «عمّار» وأبيه وأمّه إذ وقعوا في قبضة عبدة الأصنام الذين راحوا يعذّبونهم لكي يرتدّوا عن الإسلام. فرفض والدا عمّار ذلك فقتلهما المشركون. غير أنّ عمّارا قال بلسانه ما أرادوا أن يقوله ، ثمّ هرع باكيا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خوفا من الله ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن عادوا لك فعد لهم»

أي إذا قبضوا عليك مرّة أخرى وطلبوا منك أن تقول شيئا فقله ، وبهذا هدأ روعه وزال عنه خوفه.

لا بدّ من الإشارة إلى أنّ حكم التقية يختلف باختلاف الظروف ، فهي قد تكون واجبة ، وقد تكون حراما ، وقد تكون مباحة.

تجب التقية حيثما تتعرّض حياة الإنسان للخطر دونما فائدة تذكر. أمّا إذا كانت التقية سببا في ترويج الباطل وضلالة الناس وإسناد الظالم فهي هنا حرام.

وهذا جواب لجميع الاعتراضات التي ترد بهذا الشأن. لو أنّ المعترضين دقّقوا في البحث لأدركوا أنّ الشيعة ليسوا منفردين بهذا الاعتقاد ، بل أنّ التقية في موضعها حكم عقلي قاطع ويتّفق مع الفطرة الإنسانية.

٤٥٧

فجميع عقلاء العالم ـ حين يرون أنفسهم أمام طريقين : إمّا الإعلان عن عقيدتهم والمخاطرة بالنفس والمال والكرامة ، أو إخفاء معتقداتهم ـ يمعنون النظر في الظروف القائمة. فإن كان الإعلان عن العقيدة يستحقّ كلّ هذه التضحية بالنفس والمال والكرامة اعتبروا إعلانها عملا صحيحا ، وإن لم يكن للإعلان نتيجة تذكر تركوا ذلك.

٢ ـ التقية أو تغيير أسلوب النضال :

في تاريخ النضالات الدينية والاجتماعية والسياسية حالات إذا أراد فيها المدافعون عن الحقّ أن يناضلوا علانية ، فإنّهم يتعرّضون للإبادة هم ومبادؤهم أو يواجهون الخطر على الأقلّ ، مثل الحالة التي مرّ بها شيعة علي عليه‌السلام على عهد بني أميّة. في مثل هذه الحالة يكون الطريق الصحيح والمعقول هو أن لا يبدّدوا قواهم ، وأن يواصلوا نضالهم غير المباشر في الخفاء. التقية في مثل هذه الحالات أشبه بتغيير أسلوب النضال الذي يجنّبهم الفناء ويحقّق لهم النصر في الكفاح. إنّ الذين يرفضون التقية كلّية ويفتون ببطلانها لا ندري ما الذي يقترحونه في مثل هذه الحالات؟ أيرون الفناء خيرا ، أم استمرار النضال بشكل صحيح ومنطقي؟ هذا الطريق الثاني هو التقية ، وأمّا الطريق الأوّل فليس بمقدور أحد أن يجيزه.

ويتضح ممّا تقدّم أن التقية هي أصل قرآني مسلّم ، ولكنّها تكون مشروعة في موارد معينة ووفق ضوابط خاصّة. وما نرى من بعض الجهلاء أنّهم تصوّروا أن التقية من اختلاقات أتباع أهل البيت عليهم‌السلام فهو دليل على عدم اطلاعهم على القرآن بصورة كافية.

* * *

٤٥٨

الآية

(قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩))

التّفسير

العالم بأسراركم :

نهت الآية السابقة عن الصداقة والتعاون مع الكافرين والاعتماد عليهم نهيا شديدا ، واستثنت من ذلك حالة «التقية».

إلّا أنّ بعضهم قد يتّخذ من «التقية» في غير محلّها ذريعة لمدّ يد الصداقة إلى الكفّار أو الخضوع لولايتهم وسيطرتهم. وبعبارة اخرى أنّهم قد يستغلّون «التقية» ويتّخذونها مبرّرا لعقد أواصر العلاقات مع أعداء الإسلام. فهذه الآية تحذّر أمثال هؤلاء وتأمرهم أن يضعوا نصب أعينهم علم الله المحيط بأسرار القلوب والعالم بما ظهر وما خفي وتقول (قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ) ولا يقتصر علم الله الواسع على ذلك بل : (وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

٤٥٩

في الواقع أنّ هذه الآية لكي تنبّه الناس إلى إحاطة الله بأسرارهم الخفية ، تشير إلى أنّ معرفة الله بأسرارهم إنّما هي جانب صغير من مدى علمه اللامحدود الذي يسع السماوات والأرض. وهو إضافة إلى علمه الواسع قادر على معاقبة المذنبين : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

* * *

٤٦٠