الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

الآيات

(قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧))

التّفسير

هذه الآية توضّح الخطّ البياني الصاعد لتكامل الحياة الإنسانية الذي أشير إليه في الآية السابقة. تقول الآية : هل أخبركم بحياة أرفع وأسمى من هذه الحياة المادّية المحدودة في الدنيا ، تلك الحياة فيها كلّ ما في هذه الحياة من النعم لكنّها صورتها الكاملة الخالية من أيّ نقص وعيب خاصة بالمتقين.

بساتينها ، لا كبساتين الدنيا ، لا ينقطع الماء عن الجريان بجوار أشجارها :(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ).

٤٢١

ونعمها دائمة أبدية ، لا كنعم الدنيا السريعة الزوال : (خالِدِينَ فِيها).

نساؤها خلافا لكثير من غواني هذه الدنيا ، ليس في أجسامهنّ ولا أرواحهنّ نقطة ظلام وخبث : (وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ).

كلّ هذا بانتظار المتّقين. وأسمى من ذلك كلّه ، النعم المعنوية التي تفوق كلّ تصوّر وهي (رِضْوانٌ مِنَ اللهِ).

نلاحظ أنّ الآية تبدأ بجملة : «أأنبؤكم» الاستفهامية الموجّهة إلى الفطرة الإنسانية الواعية لكي تكون أنفذ في السامع وأعمق ، ثمّ إنّ الاستفهام ينصّ على «الإنباء» التي تستعمل للأداء بخبر مهمّ جدير بالاستيعاب.

وتخبر الآية المؤمنين أنّهم إذا امتنعوا عن اللذائذ غير المشروعة والأهواء الطاغية الممزوجة بالمعصية ، فإنّهم سيفوزون في الآخرة بلذائذ مشابهة ولكن بمستوى أرفع وخالية من كلّ نقص وعيب. إلّا أنّ هذا لا يعني حرمان النفس من لذائذ الحياة الدنيا التي لهم أن يتمتّعوا بها بصورة مشروعة.

هل في الجنّة لذائذ مادّية أيضا؟

يظنّ بعضهم أنّ اللذائذ المادّية مقتصرة على الحياة الدنيا ، وأنّ الحياة الأخرى خالية منها ، وأنّ جميع ما جاء في القرآن عن الجنّات والفواكه والمياه الجارية والأزواج الطاهرة إنّما هي كناية عن مقامات ونعم معنوية من باب «كلّم الناس على قدر عقولهم».

ولكنّا ينبغي أن نقول : إنّنا بعد أن قبلنا بالمعاد الجسماني استنادا إلى الكثير من آيات القرآن الصريحة ، فلا بدّ من وجود نعم تناسب الجسم والروح وبمستوى أرفع وأعلى. وفي هذه الآية إشارة إلى كليهما : ما يناسب المعاد الجسماني ، وما يناسب المعاد الروحي.

٤٢٢

في الواقع ، إنّ الذين يعتبرون نعم الآخرة المادّية كناية عن نعم معنوية ، إنّما يؤوّلون ظاهر آيات القرآن دون سبب ، كما أنّهم ينسون المعاد الجسماني وما يقتضيه.

ولعلّ جملة (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) التي جاءت في آخر الآية إشارة إلى هذه الحقيقة،أي أنّه يعلم ما يحتاجه الجسم والروح في العالم الآخر ، وما هي متطلّبات كلّ منهما وهو يضمن إشباع هذه الحاجات على أحسن وجه.

(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا) ....

في هذه الآية والآية التي بعدها نتعرّف على المتّقين الذين كانوا في الآية السابقة مشمولين بنعم الله العظيمة في العالم الآخر ، فتعددان ستّ صفات من صفاتهم الممتازة.

١ ـ إنّهم يتوجّهون إلى الله بكلّ جوارحهم ، والإيمان يضيء قلوبهم ، ولذلك يحسّون بمسؤولية كبيرة في كلّ أعمالهم ، ويخشون عقاب أعمالهم خشية شديدة ، فيطلبون مغفرته والنجاة من النار : (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ).

٢ ـ مثابرون صابرون ذوو همّة ، ومقاومون عند مواجهتهم الحوادث في مسيرة إطاعتهم لله وتجنّبهم المعاصي ، وعند ابتلائهم بالشدائد الفردية والاجتماعية (الصَّابِرِينَ).

٣ ـ صادقون ومستقيمون ، وما يعتقدون به في الباطن يعملون به في الظاهر،ويتجنّبون النفاق والكذب والخيانة والتلوّث (وَالصَّادِقِينَ).

٤ ـ في طريق العبودية لله خاضعون ومتواضعون ومواظبون على ذلك (وَالْقانِتِينَ)(١).

٥ ـ لا ينفقون من أموالهم فحسب ، بل ينفقون من جميع ما لديهم من النعم المادّية والمعنوية في سبيل الله ، فيعالجون بذلك أدواء المجتمع (وَالْمُنْفِقِينَ).

__________________

(١) «قانتين» من مادة «قنوت» بمعنى الخضوع امام الله وأيضا بمعنى المداومة على الطاعة والعبودية.

٤٢٣

٦ ـ في أواخر الليل وعند السحر ، أي عند ما يسود الهدوء والصفاء وحين يغط الغافلون في نوم عميق وتهدأ ضوضاء العالم المادّي ، يقوم ذوو القلوب الحيّة اليقظة ، ويذكرون الله ويطلبون المغفرة منه وهم ذائبون في نور الله وجلاله ، وتلهج كلّ ذرّة من وجودهم بتوحيده سبحانه (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ).

* * *

بحوث

١ ـ في تفسير هذه الآية ، روي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : «من قال في آخر صلاة الوتر في السحر «استغفر الله وأتوب إليه» سبعين مرّة ، ودوام على ذلك سنة كتبه الله من المستغفرين بالأسحار» (١).

٢ ـ «السحر» في أصل اللغة هو «التغطية والإخفاء». ولمّا كانت ساعات الليل الأخيرة تغطّي كلّ شيء بستار خاصّ ، فقد سمّيت بالسحر. و «السحر» ـ بكسر السين ـ من المادّة نفسها ، لأنّ الساحر يقوم بأعمال تخفى أسرارها على الآخرين. وقد يطلق العرب اسم «السحر» ـ بوزن البشر ـ على الرئة لاختفاء ما فيها.

لما ذا يشار إلى السحر من بين جميع ساعات الليل والنهار ، مع أنّ الاستغفار وذكر الله مطلوبان في كلّ وقت؟ السبب هو ما تتميّز به ساعات السحر من هدوء وسكون وابتعاد عن الأعمال المادّية ، وللنشاط الذي يشعر به المرء بعد استراحته ونومه ، فيكون أكثر استعدادا للتوجّه إلى الله. وهذا ما يسهل دركه بالتجربة ، حتّى أنّ بعض العلماء يستثمرون وقت السحر لحلّ المسائل العلمية ، إذا أنّ سراج الفكر وروح الإنسان أكثر تلألؤا وسطوعا في ذلك الوقت من أيّ وقت آخر. ولمّا كانت روح العبادة والاستغفار هي التوجّه وحضور القلب ، فإنّ العبادة والاستغفار في هذا الوقت أسمى من أيّ وقت آخر.

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان : ج ١ ص ٢٧٣.

٤٢٤

الآية

(شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))

التّفسير

الجميع يشهد بالوحدانية :

تعقيبا على البحث في الآيات السابقة حول المؤمنين الحقيقيين ، تشير هذه الآية إلى بعض أدلّة التوحيد ومعرفة الله فتقول بأن الله تعالى يشهد بوحدانيته (من خلال إيجاد النظام الكوني العجيب) ، كما تشهد الملائكة ، ويشهد بعد ذلك العلماء والذين ينظرون إلى حقائق العالم بنور العلم والمعرفة (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ).

* * *

بحوث

١ ـ كيف يشهد الله على وحدانيّته؟

المقصود من شهادة الله هنا هو الشهادة العملية والعقلية ، لا الشهادة اللفظية.

٤٢٥

أي أنّ الله بخلقه عالم المخلوقات الذي يسوده نظام موحّد ، وتتشابه قوانينه في كلّ مكان ، وتجري وفق برنامج واحد ، لتكوّن «وحدة واحدة» و «نظاما واحدا» ، قد أظهر عمليا أنّ الخالق والمعبود في العالم ليس أكثر من واحد ، وأنّ كلّ شيء ينطلق من ينبوع واحد. وعليه فإنّ خلق هذا النظام الواحد شهادة ودليل على وحدانيّته.

أمّا شهادة الملائكة والعلماء ، فهي شهادة لفظية ، فهم بالتعبير اللفظي الذي يناسبهم يعترفون بهذه الحقيقة. إنّ هذا اللون من التفكيك في الآيات القرآنية كثير في الآية (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) (١) ، لا شكّ أنّ صلاة الله على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير صلاة الملائكة عليه ، فصلاة الله هي إرسال الرحمة ، وصلاة الملائكة هي طلب الرحمة.

بديهيّ أنّ لشهادة الملائكة والعلماء جانبها العملي أيضا ، ذلك لأنّهم لا يعبدون سواه ، ولا يخضعون لمعبود غيره.

٢ ـ ما القيام بالقسط؟

إنّ عبارة (قائِماً بِالْقِسْطِ) حال من فاعل «شهد» وهو «الله». أي أنّ الله يشهد بوحدانيّته في حالة كونه قائما بالعدالة في عالم الوجود. وهذا في الحقيقة دليل على شهادته ، لأنّ العدالة هي إختيار الطريق الوسط والمستقيم ، بمعزل عن كلّ إفراط وتفريط وانحراف. ونعلم أنّ الطريق الوسط المستقيم لا بدّ أن يكون طريقا واحدا ، كما نقرأ في الآية ١٥٣ من سورة الأنعام (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ).

تقول هذه الآية إنّ طريق الله واحد ، بينما طرق المنحرفين والبعيدين عن الله

__________________

(١) الأحزاب : ٥٦.

٤٢٦

متعدّدة ومتناثرة ، وذلك لورود الصراط المستقيم بصيغة المفرد ، وسبل المنحرفين بصيغة الجمع.

النتيجة هي أن «العدالة» تصاحب «النظام الواحد» ، والنظام الواحد دليل على «المبدأ الواحد». وبناء على ذلك فإنّ العدالة بمعناها الحقيقي في عالم الخلق دليل على وحدانية الخالق ، فتأمّل.

٣ ـ أهمية العلماء

العلماء في هذه الآية وضعوا إلى جانب الملائكة ، وهذا بذاته تمييز للعلماء على غيرهم. كما يستفاد من الآية أنّ العلماء إنّما امتازوا على غيرهم لأنّهم بعلمهم توصّلوا إلى معرفة الحقائق ، وعلى رأسها معرفة وحدانية الله.

من الواضح أنّ الآية تشمل جميع العلماء ، أمّا قول بعض المفسّرين بأنّ (أُولُوا الْعِلْمِ) هم الأئمّة الأطهار عليهم‌السلام فلأنّ الأئمّة من اظهر مصاديق ذلك.

ينقل المرحوم الطبرسي في «مجمع البيان» ضمن تفسير هذه الآية ، عن جابر بن عبد الله الأنصاري ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «ساعة من عالم يتّكئ على فراشه ينظر في علمه خير من عبادة العابد سبعين عاما».

* * *

يتكرّر تعبير (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في نهاية الآية ، ولعلّ التكرار إشارة إلى أنّه ما جاءت في البداية شهادة الله والملائكة والعلماء ، كذلك على من يسمع هذه الشهادات أن يردّدها هو أيضا معهم ، ويشهد على وحدانية المعبود.

ولمّا كان قوله (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تعظيما وإظهارا لوحدانيّته ، فقد اختتم بالصفتين «العزيز» و «الحكيم» لأنّ القيام بالقسط يتطلّب القدرة والحكمة ، وأنّ الله القادر

٤٢٧

على كلّ شيء ، والعليم بكلّ شيء هو وحده القادر على إجراء العدالة في عالم الوجود.

هذه الآية من الآيات التي كانت موضع اهتمام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دائما وكان يردّدها في مواضع مختلفة.

وروي عن الزبير بن العوام قال : قلت لأدنونّ هذه العشية من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهي عشية عرفة ، حتّى أسمع ما يقول ... ، فسمعته يقول : (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الآية، فما زال يرددها حتّى رفع (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٢ ص ٤٢١.

٤٢٨

الآية

(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩))

التّفسير

روح الدين التسليم للحقّ :

«الدين» في الأصل بمعنى الجزاء والثواب ، ويطلق على «الطاعة» والانقياد للأوامر ، و «الدين» في الاصطلاح : مجموعة العقائد والقواعد والآداب التي يستطيع الإنسان بها بلوغ السعادة في الدنيا ، وأن يخطو في المسير الصحيح من حيث التربية والأخلاق الفردية والجماعية.

«الإسلام» يعني التسليم ، وهو هنا التسليم لله. وعلى ذلك ، فإنّ معنى (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ) : إنّ الدين الحقيقي عند الله هو التسليم لأوامره وللحقيقة.

في الواقع لم تكن روح الدين في كلّ الأزمنة سوى الخضوع والتسليم للحقيقة.

وإنّما أطلق اسم «الإسلام» على الدين الذي جاء به الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنّه أرفع الأديان.

٤٢٩

وقد أوضح الإمام علي عليه‌السلام هذا المعنى في بيان عميق فقال : «لأنسبنّ الإسلام نسبة لم ينسبها أحد قبلي : الإسلام هو التسليم ، والتسليم هو اليقين ، واليقين هو التصديق، والتصديق هو الإقرار ، والإقرار هو الأداء ، والأداء هو العمل»(١).

فالإمام في كلمته هذه يضع للاسم ستّ مراحل ، أولاها التسليم أمام الحقيقة ، ثمّ يقول إنّ التسليم بغير يقين غير ممكن (إذ أنّ التسليم بغير يقين يعني الاستسلام الأعمى ، لا التسليم الواعي). ثمّ يقول إنّ اليقين هو التصديق (أي أنّ العلم وحده لا يكفي ، بل لا بدّ من الاعتقاد والتصديق القلبيّين) والتصديق هو الإقرار (أي لا يكفي أن يكون الإيمان قلبيّا فحسب ، بل يجب إظهاره بشجاعة وقوّة) ، ثمّ يقول إنّ الإقرار هو الأداء (أي أنّ الإقرار لا يكون بمجرّد القول باللسان ، بل هو التزام بالمسؤولية). وأخيرا يقول إنّ الأداء هو العمل (أي إطاعة أوامر الله وتنفيذ البرامج الإلهية) لأنّ الالتزام وتحمّل المسؤولية لا يعنيان سوى العمل. أمّا الذين يسخّرون كلّ قواهم وطاقاتهم في عقد الجلسات تلو الجلسات وتقديم الاقتراحات وما إلى ذلك من الأمور التي لا تتطلّب سوى الكلام فلا هم تحمّلوا التزاما ولا مسئولية ، ولا هم وعوا روح الإسلام حقّا.

هذا أجلى تفسير للإسلام من جميع جوانبه ، ثمّ إنّ الآية تذكر علّة الاختلاف الديني على الرغم من الوحدة الحقيقية للدين الإلهي وتقول : (وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ).

فعلى هذا إن الاختلاف ظهر أوّلا بعد العلم والاطلاع على الحقائق. وثانيا كانت الدوافع لذلك هي الظلم والطغيان والحسد. فاليهود اختلفوا في خليفة موسى ابن عمرانعليه‌السلام واقتتلوا بينهم ، والمسيحيون اختلفوا في أمر التوحيد حيث خلطوه

__________________

(١) نهج البلاغة : قصار الكلمات ، ١٢٠ ، اصول الكافي : ج ٢ ص ٤٥ مع تفاوت يسير.

٤٣٠

بالشرك والتثليث ، وقد اختلف كلّ منهما في أمر الإسلام ودلائل صدق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الواردة في كتبهم ، فقبل بعضهم وأنكر آخرون.

والخلاصة إنّ لكلّ دين سماوي دلائله الواضحة التي لا تترك إبهاما أمام الباحث عن الحقيقة. فالنبيّ الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مثلا ـ بالإضافة إلى أنّ المعجزات والدلائل الواضحة في نصوص دينه تؤكّد صدقه ـ وردت أوصافه وعلاماته في الكتب السماوية السابقة التي بقي قسم منها في أيدي اليهود والنصارى ، ولذلك بشّر علماؤهم بظهوره قبل ظهوره ، ولكنّهم بعد أن بعث رأوا مصالحهم في خطر ، فأنكروا كلّ ذلك ، يحدوهم الظلم والحسد والطغيان.

(وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ).

هذا بيان لمصير أمثال هؤلاء الذين لا يعترفون بآيات الله. إنّهم سوف يتلقّون نتائج عملهم هذا ، فالله سريع في تدقيق حساباتهم (١).

المراد من «آيات الله» في هذه الآية ما يشمل جميع آياته وبراهينه وكتبه السماوية ، ولعلّها تشمل أيضا الآيات التكوينية في عالم الوجود ، وما ذكره بعض المفسرين من أنها تعني آيات التوراة والإنجيل خاصة ، لا دليل عليه.

* * *

ملاحظة

منشأ الاختلافات الدينية

ممّا يلفت النظر في هذه الآية هو أنّ سبب الاختلافات الدينية ليس الجهل وعدم المعرفة دائما ، بل هو على الأكثر الظلم والطغيان والانحراف عن الحقّ

__________________

(١) انظر تفسير الآية ٢٠٢ من سورة البقرة بشأن معنى «سريع الحساب».

٤٣١

واتّباع وجهات النظر الخاصّة ، فلو تخلّى الناس ـ وعلى الأخصّ العلماء منهم ـ عن التعصّب ، والحقد ، وضيق النظر ، والمصالح الخاصّة ، وتجاوز الحدود ، والاعتداء على الحقوق ، وتعمّقوا في دراسة أحكام الله بنظرة واقعية وبروح من العدالة ، فسيرون محجّة الحقّ منيرة وسيستطيعون حلّ الاختلافات بسرعة.

وهذه الآية في الواقع ردّ دامغ على الذين يقولون : «إنّ الدين هو سبب الخلافات إراقة الدماء بين البشر على امتداد التاريخ».

هؤلاء يخلطون بين «الدين» و «التعصّب الديني» والانحرافات الفكرية.

فنحن إذا درسنا تعاليم الأديان السماوية نجد أنّها جميعا تسعى لتحقيق هدف واحد،وكلّها جاءت من أجل سعادة الإنسان ، وإن كان قد تكاملت تدريجيا على مرور الزمن.

الأديان السماوية أشبه في الواقع بقطرات المطر النازلة من السماء حيث تكمن فيها الحياة ، ولكنّها إذا نزلت على الأراضي السبخة ، كالأرض المالحة ، اكتسبت صبغة هذه الأرض. فهذه الاختلافات ليست من قطرات المطر ، بل هي من تلك الأراضي. ولكن من حيث مبدأ التكامل ، فإنّ الله آخر تلك الأديان يكون أكملها.

* * *

٤٣٢

الآية

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))

التّفسير

«المحاجّة» أن يسعى كلّ واحد في ردّ الآخر عن حجّته ومحجّته دفاعا عن عقيدته.

من الطبيعيّ أن يقوم اتباع كلّ دين بالدفاع عن دينهم ، ويرون أنّ الحقّ بجانبهم. لذلك يخاطب القرآن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلا : قد يحاورك أهل الكتاب (اليهود والنصارى ...) فيقولون إنّهم قد أسلموا بمعنى أنّهم قد استسلموا للحق ، وربّما هم يصرّون على ذلك،كما فعل مسيحيّو نجران مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فالآية لا تطلب من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يتجنّب محاورتهم ومحاججتهم ، بل تأمره أن يسلك سبيلا آخر ، وذلك عند ما يبلغ الحوار منتهاه ، فعليه لكي يهديهم ويقطع الجدل والخصام أن يقول لهم : إنّني وأتباعي قد أسلمنا لله واتّبعنا الحقّ

٤٣٣

(فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ).

ثمّ يسأل أهل الكتاب والمشركين إن كانوا هم أيضا قد أسلموا لله واتّبعوا الحقّ فعليهم أن يخضعوا للمنطق (وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا) فإذا لم يستسلموا للحقيقة المعروضة أمامهم ، فإنّهم لا يكونون قد أسلموا لله. عندئذ لا تمضي في مجادلتهم ، لأنّ الكلام في هذه الحالة لا تأثير له ، وما عليك إلّا أن تبلّغ الرسالة لا غير (وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ).

ومن الواضح أن المراد ليس هو التسليم اللساني والادعائي ، بل التسليم الحقيقي والعملي في مقابل الحق ، فلو أنهم خضعوا حقيقة للكلام الحق ، فلا بدّ أن يؤمنوا بدعوتك القائمة على المنطق والدليل الواضح ، وإلّا فإنهم غير مستسلمين للحق.

والخلاصة : إن وظيفتك هي إبلاغ الرسالة المشفوعة بالدليل والبرهان ، فلو كانت لديهم روحية البحث عن الحقيقة فسوف يؤمنون حتما ، وإلّا فإنك قد أديت واجبك تجاههم.

وفي الختام يقول : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) فهو سبحانه يعلم المدّعي من الصادق وكذلك أغراض ودوافع المتحاجّين ، ويرى أعمالهم الحسنة والقبيحة ويجازي كلّ شخص بعمله.

* * *

بحوث

١ ـ يستفاد من الآية ضمنيّا لزوم تجنّب مجادلة المعاندين الذين لا يخضعون للمنطق السليم.

٤٣٤

٢ ـ المقصود بالأميّين في هذه الآية هم المشركون ، والسبب في وصف المشركين بالأميّين في قبال أهل الكتاب ـ اليهود والنصارى ـ هو أنّ المشركين لا يملكون كتابا سماويا حتى يكون حافزا لهم على تعلّم القراءة والكتابة.

٣ ـ يتّضح من هذه الآية بكلّ جلاء أنّ أسلوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يكن أسلوب فرض الفكرة والعقيدة ، بل كان أسلوبه السعي إلى توضيح الحقائق أمام الناس ، ثمّ يتركهم وشأنهم لكي يتّخذوا قرارهم في اتّباع الحقّ بأنفسهم.

* * *

٤٣٥

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢))

التّفسير

علامات الطغيان :

تعقيبا للآية السابقة التي تضمّنت أنّ اليهود والنصارى والمشركين كانوا يجادلون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولا يستسلمون للحق ، ففي الآية الاولى إشارة إلى بعض علامات هذا الأمر حيث تقول الآية : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ) ....

وتشير هذه الآية في البداية إلى ثلاث ذنوب كبيرة وهي الكفر بآيات الله وقتل الأنبياء بغير الحق وقتل الّذين يدعون إلى العدالة ويدافعون عن أهداف الأنبياء ، وكلّ واحد من هذه الذنوب يكفي لوحده لجعل الإنسان معاندا ومتصلّبا بكفره وعدم تسليمه للحق ، بل يسعى لخنق كلّ صوت يدعو إلى الحقّ.

التعبير ب (يَكْفُرُونَ) و (يَقْتُلُونَ) جاء بصيغة الفعل المضارع وهو إشارة إلى

٤٣٦

أنّ كفرهم وقتلهم الأنبياء والآمرين بالقسط كان من جملة برنامجهم في الحياة فيرتكبون هذه الأعمال بصورة دائمة ومستمرّة (لأنّ الفعل المضارع يدلّ على الاستمراريّة).

وبطبيعة الحال إنّ هذه الأعمال كانت تصدر عادة من اليهود حيث نلحظ استمرارهم بهذه الأعمال في زماننا الحاضر بشكل آخر ، ولكنّ هذه لا يمنع من عموميّة مفهوم الآية أيضا.

ثمّ أنّ الآية تشير إلى ثلاثة عقوبات مترتّبة على ارتكاب هذه الذنوب ، ففي البداية تشير الآية (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ).

ثمّ تقول : (أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) فلو فرض أنّهم عملوا بعض الأعمال الصالحة فإنّها ستمحى وتزول بسبب الذنوب الكبيرة التي يرتكبونها.

والثالث أنّ الآية تقول : (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) فلا أحد يحميهم من العقوبات الإلهيّة التي تنتظرهم ولا أحد يشفع لهم في ذلك اليوم.

وسبق وأن قلنا في تفسير الآية ٦١ من سورة البقرة أنّ هذه الآية تشير إلى تاريخ اليهود المضطرب ، فهم فضلا عن إنكارهم آيات الله تجرّؤا على قتل الأنبياء ، كما كانوا يقتلون أتباع الأنبياء من المجاهدين ، ولكنّ هذا العمل لا يختصّ بهم وحدهم ، بل يصحّ بالنسبة إلى جميع الأقوام التي فعلت وتفعل فعلهم.

* * *

بحوث

١ ـ وضعت الآية الداعين إلى العدالة والآمرين بالمعروف في مصافّ الأنبياء. وترى الكفر بآيات الله ، وقتل الأنبياء ، وقتل هؤلاء ، على مستوى واحد ، وهذا منتهى اهتمام الإسلام بنشر العدالة في المجتمع.

٤٣٧

ويتبيّن من الآية الثانية شدّة العقوبات التي ستنزل بالذين يقتلون أمثال هؤلاء الرجال الصالحين. وقد سبق أن قلنا إنّ «الحبط» لا يشمل جميع الذنوب ، بل للذنوب الكبيرة التي تذهب بآثار الأعمال الصالحة (١) وأخيرا عدم قبول أيّة شفاعة بحقّهم ، كدليل على عظم ذنوبهم.

٢ ـ المقصود من (بِغَيْرِ حَقٍ) ليس إمكان جواز قتلهم بحق ، بل المقصود هو القول بأنّ قتل الأنبياء كان دائما ظلما وبغير حقّ. فعبارة «بغير حقّ» قيد توضيحيّ للتوكيد.

٣ ـ يستفاد من عبارة (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) أنّها تشمل الكفّار المعاصرين للنبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، مع أنّا نعلم أنّ هؤلاء لم يقتلوا أحدا من الأنبياء. وقد أشرنا من قبل إلى السبب وقلنا إذا رضي أحد بفعال قوم وسلوكهم وأفكارهم ، فإنّه يكون شريكا لهم في أعمالهم الخيّرة والسيّئة. ولمّا كانت هذه الجماعة المعاصرة للنبيّ من الكفّار ـ وخاصّة اليهود ـ تؤيّد أعمال أسلافهم وجرائمهم ، فهم يشاركونهم فيما ينتظرهم من العقاب أيضا.

٤ ـ «البشارة» هي إخبار الرجل خبرا سارّا يبسط أسارير وجهه. واستعمال هذه الكلمة في الإخبار بالعذاب في هذه الآية وفي غيرها إنّما هو نوع من التهديد والاستهزاء بأفكار المذنبين. وهذا أشبه بما هو متداول بيننا اليوم ، إذ نقول ـ مستهزئين ـ لمن أساء الفعل : حسنا ، سوف نكافؤك على ذلك.

٥ ـ ورد في حديث عن أبي عبيدة الجراح أنّه قال سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن أيّ الناس أشدّ عذابا في الآخرة؟

فقال : رجل قتل نبيا أو رجلا أمر بالمعروف أو نهى عن منكر ثمّ قرأ(وَيَقْتُلُونَ

__________________

(١) انظر تفسير الآية ٢١٧ من سورة البقرة بخصوص «حبط».

٤٣٨

النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) ثمّ قال : يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبيا من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة رجل واثنا عشر رجلا من عباد بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم ، وهو الذي ذكره الله تعالى : (فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ وج ٢ ص ٤٢٣.

٤٣٩

الآيات

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))

سبب النّزول

جاء في تفسير «مجمع البيان» عن ابن عبّاس أنّه حدث على عهد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن ارتكب يهودي الزنا مع امرأة محصنة ، على الرغم من أنّ ما جاء في التوراة يقضي بالرجم على أمثال هؤلاء ، فإنّهما لم ينالا عقابا لأنّهما كانا من الأشراف ، واتّفقا على الرجوع إلى رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليكون هو الحكم ، آملين أن ينالا عقابا أخف.

غير أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّد العقاب المعيّن لهما ، فاعترض بعض كبار اليهود

٤٤٠