الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

يقول الدكتور : منذ سنوات وأنا أحبّ أن أعرف معنى هذه الحروف التي تبدو في الظاهر أنّها مقطّعة وتتصدّر بعض السور. وعلى الرغم من رجوعي إلى تفاسير مشاهير المفسّرين فلم أعثر لديهم على جواب مقنع ، فاستنعت بالله واتّكلت عليه وبدأت بحثي:

خطر لي مرّة أنّه ربما تكون هناك علاقة بين هذه الحروف وحروف كلّ سورة تتصدّرها. غير أنّ دراسة الحروف النيّرة الأربعة عشر كلّها ضمن حروف سور القرآن المائة وأربعة عشر واستخراج نسبة كلّ حرف والحسابات الكثيرة الأخرى لم تكن من الأمور التي يمكن إجراؤها دون الاستعانة بالعقول الإلكترونية. لذلك شرعت أوّلا بتعيين تلك الحروف منفردة في جميع سور القرآن ، ثمّ تعيين مجموع حروف كلّ سورة ، وأعطيتها جميعا إلى العقل الإلكتروني مع رقم كلّ سورة (لغرض القيام بالحسابات المعقّدة المطلوبة فيما بعد). لقد استغرق هذا العمل مع مقدّماته سنتين من الزمان.

ثمّ عملت على العقل الإلكتروني لإجراء تلك الحسابات مدّة سنة كاملة.

كانت النتائج لامعة جدّا ، وكشف الستار لأوّل مرّة في تاريخ الإسلام عن حقائق مذهلة أكّدت إعجاز القرآن (إضافة إلى أمور أخرى) من الناحية الرياضية ونسبة حروف القرآن.

لقد أوضحت لنا حسابات العقل الإلكتروني نسبة وجود كلّ من الحروف الأربعة عشر في كلّ سورة من سور القرآن المائة وأربعة عشر.

فمثلا بالحسابات وجدنا أن نسبة حرف القاف ، وهو أحد الحروف النورانية في القرآن في سورة «الفلق» تحوز أعلى نسبة (٧٠٠ خ) وتحوز المرتبة الأولى بين سور القرآن، طبعا باستثناء سورة «ق». بعدها تأتي سورة «القيامة» التي يبلغ فيها عدد حروف القاف بالنسبة إلى حروف السورة (٩٠٧ خ) ، ثمّ تأتي سورة «والشمس» ونسبتها (٩٠٦ خ).

٣٨١

ونلاحظ من ذلك أنّ الفرق بين سورة «القيامة» وسورة «والشمس» يبلغ (١٠٠ خ).

وهكذا استخرجنا هذه النسبة في ١١٤ سورة لهذا الحرف ولسائر الحروف النورانية الأخرى ، وبذلك ظهرت نسبة مجموعة حروف كلّ سورة إلى كلّ حرف من الحروف النورانية.

وفيما يلي النتائج المثيرة التي توصّل إليها التحقيق :

١ ـ نسبة حرف «ق» في سورة «ق» أكثر من نسبتها في أية سورة أخرى بدون استثناء. أي أنّ الآيات التي نزلت طوال ٢٣ سنة ـ وهي فترة نزول القرآن ، في ١١٣ سورة استعملت فيها القاف بنسبة أقل ، إنّه مثير ومدهش أن يكون إنسان قادر على مراقبة تعداد كلّ حرف من الحروف التي يستعملها على مدى ٢٣ سنة ، وفي الوقت نفسه يعرب بكلّ طلاقة وبدون أي تكلّف عمّا يريد بيانه. لا شكّ أنّ أمرا كهذا خارج عن نطاق قدرة الإنسان ، بل أنّ مجرّد حساب ذلك يتعذّر على أعظم العقول الرياضية بدون الالتجاء إلى العقل الإلكتروني.

وهذا كلّه يدلّ على أنّ سور القرآن وآياته ليست وحدها الموضوعة وفق حساب معيّن، بل حتّى حروفه موضوعة بحساب ونظام خاصّ لا يقدر عليه سوى الله تعالى.

كذلك دلّت الحسابات على أنّ حرف «ص» في سورة «ص» له هذه الخاصيّة نفسها ، أي نسبة وجوده في هذه السورة أكثر من نسبة وجوده في أية سورة أخرى من سورة القرآن.

كما أنّ حرف «ن» في سورة «ن والقلم» يمتاز بنسبة أعلى من وجوده في أية سورة أخرى.

الاستثناء الوحيد هو سورة «الحجر» التي فيها نسبة الحرف «ن» أكثر من سورة «ن والقلم». ولكن ما يلفت هو أنّ سورة «الحجر» تبدأ بالحروف «الر».

٣٨٢

وسنجد أنّ السور التي تبدأ بحروف «الر» يجب أن تعتبر بحكم السورة الواحدة.

فإذا فعلنا ذلك نصل إلى النتيجة المطلوبة أي أنّ عدد حرف «ن» في هذه السور سوف يكون أقلّ مما في سورة «ن والقلم».

٢ ـ حروف «المص» في بداية سورة الأعراف إذا حسبنا حروف الألف والميم والصاد في هذه السورة نجدها أكثر ممّا هي في أية سورة أخرى.

كذلك «المر» في بداية سورة «الرعد». و «كهيعص» في بداية سورة «مريم»، إذا حسبت الأحرف الخمس كان عددها في هذه السورة أكثر ممّا هي في السور الأخرى.

وهنا تواجهنا ظاهرة جديدة ، فالحرف الواحد ليس هو وحده الذي يرد بحساب في السور ، بل أنّ مجموعات الأحرف أيضا تأتي هكذا بشكل مدهش.

٣ ـ كان الكلام حتّى الآن يدور على الحروف التي تتصدّر سورة واحدة من سورة القرآن ، أمّا الحروف التي تتصدّر سورا متكرّرة ، مثل «الر ، ألم» فإنّها تتّخذ شكلا آخر، فالحسابات الإلكترونية تقول إنّ مجموع هذه الحروف الثلاث ، مثلا «أل م» إذا حسبت في مجموع السور التي تتصدّرها ، وتستخرج نسبتها إلى مجموع حروف هذه السور ، نجد أنّ هذه النسبة أكبر من نسبة وجودها في السور الأخرى من القرآن.

هنا أيضا تتّخذ المسألة شكلا مثيرا وهو أنّ حروف كلّ سورة من سور القرآن ليست هي وحدها التي تقع تحت الضبط والحساب. بل أنّ مجموع حروف السور المتشابهة تقع تحت حساب متشابه أيضا.

وبهذه المناسبة يتّضح أيضا لماذا تبدأ عدّة سور مختلفة بالحروف «الم» أو «الر» وهذا لم يكن من باب المصادفة والاتّفاق.

يقوم الدكتور رشاد بحسابات أعقد على السور التي تتصدّرها «حم» لا نتطرّق إليها اختصارا.

* * *

٣٨٣

ويصل الأستاذ المذكور من خلال دراساته هذه إلى حقائق واستنتاجات أخرى أيضا نوردها للقرّاء الكرام :

١ ـ لا بدّ من الإبقاء على إملاء القرآن الأصلي

يقول الدكتور : إنّ هذه الحسابات تصحّ في حالة الإبقاء على الإملاء الأصلي في كتابة القرآن ، مثل : اسحق وزكوة وصلوة ، فلا نكتبها إسحاق وزكاة وصلاة ، وإلّا فإنّ الحسابات تختل.

٢ ـ دليل على عدم تحريف القرآن

هذه التحقيقات تدلّ على أنّ أيّ تحريف ـ ولو في كلمة واحدة ـ لم يطرأ على القرآن من حيث الزيادة والنقصان ، وإلّا لما ظهرت هذه الحسابات على هذه الصورة.

٣ ـ إشارات عميقة المعنى

في كثير من السور التي تبدأ بالحروف المقطّعة نلاحظ أنّه بعد الحروف تأتي الإشارة إلى صدق القرآن وعظمته ، مثل : (الم* ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) (١) ، وهذه في نفسه إشارة ظريفة إلى علاقة هذه الحروف بإعجاز القرآن.

نتيجة البحث

نستنتج من هذا البحث أنّ حروف القرآن الكريم الذي نزل على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على مدى ٢٣ سنة تنتظم في حساب دقيق ، فكلّ حرف من حروف الهجاء له مع مجموع حروف كلّ سورة نسبة رياضية دقيقة بحيث إنّ الحفاظ على هذا التنظيم والحساب يتعذّر على البشر بدون العقول الإلكترونية.

لا شكّ أنّ التحقيقات التي أجرها العالم المذكور ما زالت في بداية الطريق ولا تخلو من النقائص. فيجب أن تتظافر جهود الآخرين للتغلّب عليها.

__________________

(١) البقرة : ٢.

٣٨٤

في الآية الثانية يقول تعالى : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ).

سبق أن شرحنا هذه الآية في سورة البقرة في الآية ٢٥٥.

الآية التي تليها تخاطب نبي الإسلام وتقول : إنّ الله تعالى قد أنزل عليك القرآن الذي فيه دلائل الحقّ والحقيقة ، وهو يتطابق تماما مع ما جاء به الأنبياء والكتب السابقة (التوراة والإنجيل) التي بشّرت (١) به وقد أنزلها الله تعالى أيضا لهداية البشر : (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ). ثمّ تضيف الآية (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ).

وبعد إتمام الحجّة بنزول الآيات الكريمة من الله تعالى وشهادة الفطرة والعقل على صدق دعوة الأنبياء ، فلا سبيل للمخالفين سوى العقوبة ، ولذلك تقول الآية محلّ البحث بعد ذكر حقّانيّة الرسول الأكرم والقرآن المجيد : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ).

ومن أجل أن لا يتوهّم أحد أو يشك في قدرة الله تعالى على تنفيذ تهديداته تضيف الآية (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) (٢).

(عزيز) في اللّغة بمعنى كلّ شيء صعب وغير قابل للنفوذ ، ولذلك يقال للأرض الصعبة العبور (عزاز) وكذلك يطلق على كلّ أمر يصعب الحصول عليه لقلّته وندرته (عزيز) وكذلك تطلق هذه الكلمة على الشخص القويّ والمقتدر الذي يصعب التغلّب عليه أو يستحيل التغلّب عليه ، وكلّما أطلقت كلمة (عزيز) على الله تعالى يراد بها هذا المعنى ، أي أنّه لا أحد يقدر على التغلّب عليه ، وأنّ كلّ المخلوقات خاضعة لمشيئته وإرادته.

وفي الجملة الآنفة الذكر ولكي يعرف الكفّار أنّ هذا التهديد جادّ تماما تذكّرهم الآية بأنّ الله عزيز ، أي أنّه قاهر وما من أحد يستطيع أن يقف بوجه تنفيذ

__________________

(١) انظر الجزء الأول ص ١٤٦ في تفسير الآية ٤٠ من سورة البقرة ، شرح (مصدّقا لما بين يديه).

(٢) ذكر بعض المفسّرين أن «ذو» لها معنا أقوى من «صاحب» ولذلك لا نجد في صفات الله أنها تذكر معنى كلمة صاحب بل تذكر دائما مع كلمة «ذو» البحر المحيط : ج ٢ ص ٣٧٩.

٣٨٥

تهديداته وأنّه في الوقت الذي يكون فيه غفورا رحيما يكون شديد العقاب بالنسبة لمن لا يستحقّون هذه الرحمة.

كلمة (الانتقام) تستعمل غالبا في مفهومنا الحالي في لجوء شخص لا يستطيع أن يتسامح مع الآخرين ويغفر لهم أخطاءهم إلى عمل مقابل قد يكون عنيفا لا يأخذ حتّى مصلحته الخاصّة بنظر الإعتبار ، وبديهيّ أنّ هذه الصفة مذمومة ، إذ أنّ على الإنسان في كثير من الحالات أن يعفو ويغفر بدلا من الانتقام ، ولكنّ (الانتقام) في اللّغة ليس بهذا المعنى بل يعني إنزال العقاب بالمجرم ، ولا شكّ أنّ معاقبة المجرمين العصاة فضلا عن كونها من الأمور الحسنة فإنّه لا يجوز التهاون فيها وإهمالها لأنّ ذلك يجانب العدالة والحكمة.

هنا لا بدّ من ملاحظة ما يلي :

١ ـ أصل (الحقّ) المطابقة والموافقة ، لذلك يقال لما يطابق الواقع «الحق». كما أنّ وصف الله بالحقّ ناشئ من كون ذاته القدسية أعظم واقع غير قابل للإنكار.

وبعبارة أخرى «الحق» هو الموضوع الثابت المكين الذي لا باطل فيه.

والباء في «الحق» في هذه الآية للمصاحبة ، أي يا أيّها النبيّ لقد أنزل عليك الله القرآن مصحوبا بدلائل الحقّ.

٢ ـ «التوراة» لفظة عبرية تعني «الشريعة والقانون» ، وأطلقت على الكتاب الذي أنزل الله على موسى بن عمران عليه‌السلام. وقد تطلق أيضا على مجموعة كتب العهد القديم أو أسفاره الخمسة.

إنّ مجموعة كتب العهد القديم تتألّف من التوراة وعدد من الكتب الأخرى. والتوراة تتألّف من خمسة أقسام ، كلّ قسم يسمّى «سفرا» وهي : «سفر التكوين» و «سفر الخروج» و «سفر لاوي» و «سفر الاعداد» و «سفر التثنية». هذه الأقسام من العهد القديم تشرح تكوين العالم والإنسان والمخلوقات وبعضا من سير الأنبياء السابقين وموسى بن عمران وبني إسرائيل والأحكام.

أمّا الكتب الأخرى فهي ما كتبه المؤرّخون بعد موسى عليه‌السلام في شرح أحوال

٣٨٦

الأنبياء والملوك والأقوام التي جاءت بعد موسى بن عمران عليه‌السلام.

بديهيّ أنّ هذه الكتب ـ عدا الأسفار الخمسة ـ ليست كتبا سماوية واليهود أنفسهم لا يدّعون ذلك. وحتّى «زبور» داود الذي يطلقون عليه اسم «المزامير» هو شرح مناجاة داود ومواعظه.

أمّا أسفار التوراة الخمسة ففيها دلائل تشير إلى أنّها ليست من الكتب السماوية ، بل هي كتب تاريخية دوّنت بعد موسى بن عمران عليه‌السلام ، إذ فيها بيان موت موسى عليه‌السلام ومراسيم دفنه ، وبعض الحوادث التي وقعت بعده ، على الأخصّ الفصل الأخير من سفر التثنية الذي يثبت أنّ هذا الكتاب قد كتب بعد موت موسى عليه‌السلام.

يضاف إلى ذلك أنّ في هذه الكتب الكثير من الخرافات وهي تنسب أمورا فاضحة للأنبياء ، وبعض الأقوال الصبيانية ، ممّا يؤكدّ زيف هذه الكتب. والشواهد التاريخية تؤكّد أنّ التوراة الأصلية قد ضاعت ، وأنّ أتباع موسى هم الذين كتبوا هذه الكتب بعده (١).

٣ ـ «الإنجيل» كلمة يونانية بمعنى «البشارة» أو «التعليم الجديد» وتطلق على الكتاب الذي نزل على عيسى بن مريم عليه‌السلام. ومن الجدير بالتنويه أنّ القرآن كلّما أورد اسم كتاب عيسى عليه‌السلام «الإنجيل» جاء به مفردا وعلى أنّه قد نزل من الله.

وعليه فإنّ الأناجيل المتداولة بين أيدي المسيحيّين ، وحتّى الأشهر منها ، وهي الأناجيل الأربعة «لوقا ، ومرقس ، ومتّى ، ويوحنا» ليست من الوحي الإلهي ، وهذا ما لا ينكره المسيحيّون أنفسهم ، إذ يقولون إنّ هذه الأناجيل قد كتبت بأيدي تلامذة السيّد المسيح عليه‌السلام بعده بمدّة طويلة. ولكنّهم يزعمون أن أولئك التلامذة قد كتبوها بإلهام من الله.

هنا يحسن بنا أن نتعرّف ـ ولو بإيجاز ـ على «العهد الجديد» والأناجيل وكتّابها :

__________________

(١) انظر «الهدى إلى دين المصطفى» و «الرحلة المدرسية».

٣٨٧

إنّ أهم كتاب ديني عند المسيحيّين والذي يعتمدونه على أنّه كتاب سماوي هو المجموعة التي يطلق عليها اسم «العهد الجديد».

«العهد الجديد» الذي يبلغ نحو ثلث «العهد القديم» يتألّف من ٢٧ كتابا ورسالة تشمل موضوعات عامّة متناثرة ومختلفة ، على النحو التالي :

١ ـ إنجيل متّى (١) : وهو الإنجيل الذي كتبه «متّى» أحد حواريّي المسيح عليه‌السلام الاثني عشر في سنة ٣٨ ميلادية ، وبعض يقول في سنة ٥٠ أو ٦٠ ميلادية (٢).

٢ ـ إنجيل مرقس (٣) : بحسب ما جاء في كتاب «القاموس المقدّس» صفحة ٧٩٢، لم يكن مرقس من الحواريّين ، ولكنّه كتب إنجيله بإشراف «بطرس». قتل مرقس سنة ٦٨ م.

٣ ـ إنجيل لوقا : كان «لوقا» رفيق سفر «بولس» الرسول. كان «بولس» على عهد المسيح يهوديا متعصّبا ، ولكنه اعتنق المسيحية بعده. يقال إنّه توفي في سنة ٧٠ م ، وحسبما يقول مؤلّف «القاموس المقدّس» ص ٧٧٢ : «إنّ تاريخ كتابة إنجيل لوقا يعود إلى حوالي سنة ٦٣ م».

٤ ـ إنجيل يوحنا : «يوحنا» كان من تلامذة المسيح عليه‌السلام ومن أصحاب «بولس». يقول صاحب القاموس المذكور ، اعتمادا على عدد من المحقّقين : إنّه ألف في أواخر القرن الأول الميلادي (٤).

يتّضح من محتويات هذه الأناجيل ، التي تشرح عموما حكاية صلب المسيح وما جرى بعد ذلك ، أنّ جميع هذه الأناجيل قد كتبت بعد المسيح بسنوات وليست كتبا سماوية نزلت على المسيح عليه‌السلام.

٥ ـ أعمال الرسل : «أعمال الحواريّين ودعاة الصدر الأوّل».

__________________

(١) متّى : على وزن حتّى ، بمعنى عطاء الله.

(٢) كتاب القاموس المقدّس : ص ٧٨٢.

(٣) مرقس : على وزن قنفذ ، وقيل على وزن أسهم ، جمع سهم.

(٤) القاموس المقدّس : ص ٩٦٦.

٣٨٨

٦ ـ رسائل بولس الأربعة عشرة إلى جهات مختلفة.

٧ ـ رسالة يعقوب : «الرسالة العشرون من الرسائل السبع والعشرين في العهد الجديد».

٨ ـ رسالتا بطرس : «الرسالتا ٢١ و ٢٢ من العهد الجديد».

٩ ـ رسائل يوحنا : «الرسائل ٢٣ و ٢٤ و ٢٥ من العهد الجديد».

١٠ ـ رسالة يهودا : «الرسالة ٢٦ من العهد الجديد».

١١ ـ مكاشفة يوحنا : «القسم الأخير من العهد الجديد».

استنادا إلى المؤرّخين المسيحيّين وحسبما ورد في هذه الأناجيل والكتب والرسائل في العهد الجديد ، فإنّ أيّا منها ليس كتابا سماويا ، بل هي كتب كتبت بعد المسيح عليه‌السلام، ونستنتج من ذلك أنّ الإنجيل الأصلي السماوي الذي نزل على المسيح عليه‌السلام قد فقد وليس له وجود الآن. إنّما تلامذة المسيح أدرجوا بعضا منه في أناجيلهم ومزجوه ـ مع الأسف ـ بالخرافات.

أمّا القول بأنّ على المسلمين أن لا يشكّوا في صحّة الأناجيل والتوراة الموجودة ـ على اعتبار أنّ القرآن قد صدقّها وشهد لها ـ فإنّه قول مردود ، وقد أجبنا عليه في المجلّد الأوّل عند تفسير الآية : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ).

٤ ـ بعد ذكر التوراة والإنجيل ، يشار إلى نزول القرآن ، ولكنّه سمّي الفرقان ، لأنّ لفظة «الفرقان» تستعمل في التفريق بين الحقّ والباطل وكلّ ما يميّز الحقّ عن الباطل يقال له «الفرقان». ولذلك يسمّي القرآن حرب بدر «يوم الفرقان» (١) ، ففي ذلك اليوم انتصر فريق صغير مفتقر لكلّ أنواع المعدّات الحربيّة على جيش كبير مسلّح ومتفوّق تفوّقا كبيرا. وكذلك يطلق على معجزات موسى عليه‌السلام العشر اسم «الفرقان» أيضا (٢).

* * *

__________________

(١) الأنفال : ٤١.

(٢) البقرة : ٥٣.

٣٨٩

الآيتان

(إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

التّفسير

علم الله وقدرته المطلقة :

هاتان الآيتان تكمّلان الآيات السابقة التي قرأنا فيها أنّ الله تعالى حيّ وقيّوم وهو مدبّر الكون بأجمعه وسيعاقب الكافرين المعاندين (حتّى لو لم يظهروا كفرهم وعنادهم) ومن البديهي أنّ هذه الإحاطة والقدرة لتدبير العالم بحاجة إلى علم غير محدود وقدرة مطلقة ، ولهذا أشارت الآية الأولى إلى علم الله تعالى ، وفي الآية الثانية إلى قدرته المطلقة.

في البداية تقول الآية الشريفة (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ).

فكيف يمكن أن يختفي عن أنظاره شيء من الأشياء في حين أنّه حاضر وناظر في كلّ مكان ، فلا يخلو منه مكان ، وبما أنّ وجوده غير محدود ، فلا يخلو منه

٣٩٠

مكان معين ، ولهذا فهو أقرب إلينا من كلّ شيء حتّى من أنفسنا ، وفي نفس الوقت الذي يتنزّه فيه الله تعالى عن المكان والمحل ، فإنّه محيط بكل شيء ، وهذه الإحاطة والحضور الإلهي بالنسبة لجميع المخلوقات بمعنى (العلم الحضوري) لا (العلم الحصولي) (١).

ثمّ تبيّن الآية التالية واحدة من علم وقدرة الله تعالى الرائعة ، بل هي في الحقيقة إحدى روائع عالم الخلقة ومظهر بارز لعلم الله وقدرته المطلقة حيث تقول الآية (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ) ثمّ تضيف (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).

إنّه لأمر عجيب ومحيّر حقّا أن يصوّر الله الإنسان وهو في رحم أمّه صورا جميلة ومتنوّعة في أشكالها ومواهبها وصفاتها وغرائزها.

وهذه الآية تؤكّد أنّ المعبود الحقيقي ليس سوى الله القادر الحكيم الذي يستحقّ العبادة ، فلما ذا إذن يختارون مخلوقات كالمسيح عليه‌السلام ويعبدونها ، ولعلّ هذه العبارة إشارة إلى سبب النزول المتقدّم في بداية السورة من أنّ المسيحيّين أنفسهم يوافقون على أنّ المسيح كان جنينا في بطن أمّه مريم ، ثمّ تولّد منها ، إذن فهو مخلوق وليس بخالق فكيف يكون معبودا؟!

* * *

بحوث

١ ـ مراحل تطوّر الجنين من روائع الخلق

إنّ عظمة مفهوم هذه الآية تجلّت اليوم أكثر من ذي قبل نتيجة للتقدّم الكبير

__________________

(١) العلم الحضوري : يعني أن يكون المعلوم ذاته حاضرا عند العلم. أمّا في العلم الحصولي فإنّ الحاضر عند العالم هو صورة المعلوم ورسمه ، فمثلا أنّ علمي بنفسي علم حضوري لأنّ نفسي ذاتها حاضرة في نفسي ، أمّا بالنسبة للموجودات الأخرى فعلمنا بها حصولي ، لأنّ صورتها فقط هي الحاضرة في أذهاننا.

٣٩١

في علم الأجنّة. فهذا الجنين يبدأ بخلية ، لا شكل لها ولا هيكل ولا أعضاء ولا أجهزة. ولكنّها تتّخذ أشكالا مختلفة كلّ يوم وهي في الرحم ، وكأنّ هناك فريقا من الرسّامين المهرة يحيطون بها ويشتغلون عليها ـ ليل نهار وبسرعة عجيبة ـ ليصنعوا من هذه الذرّة الصغيرة وفي وقت قصير إنسانا سويّا في الظاهر ، وفي جوفه أجهزة دقيقة رقيقة متعقّدة ومحيّرة. لو أنّ فيلما صوّر مراحل تطوّر الجنين ـ وقد صوّر فعلا ـ وشاهده الإنسان يمرّ من أمام عينيه لأدرك بأجلى صورة عظمة الخلق وقدرة الخالق.

والعجيب في الأمر أنّ كلّ هذا الرسم يتمّ على الماء الذي يضرب به المثل في عدم احتفاظه بما يرسم عليه.

من الجدير بالذكر أنّه عند ما يتمّ اللقاح ويخلق الجنين للمرّة الأولى يسرع بالانقسام التصادي على هيئة ثمرة التوت التي تكون حبّاتها متلاصقة ، ويطلق عليه اسم «مرولا». وفي غضون هذا التقدّم تخلق «المشيمة» وتتكامل ، وتتّصل من جهة قلب الأم بوساطة شريانين ووريد واحد ، ومن الجهة الأخرى تتّصل بسرّة الجنين الذي يتغذّى على الدم القادم إلى المشيمة.

وبالتدريج وعلى أثر التغذية والتطور واتجاه الخلايا نحو الخارج يتجوّف باطن «المولا»، وعندئذ يطلق عليه اسم «البلاستولا» ، ولا تلبث هذه حتى يتكاثر عدد خلاياها ، مؤلّفة كيسا ذا جدارين ، ثمّ يحدث فيه انخفاض يقسم الجنين إلى قسمي الصدر والبطن.

إلى هنا تكون جميع الخلايا متشابهة ولا اختلاف بينها في الظاهر. ولكن بعد هذه المرحلة يبدأ الجنين بالتصوّر ، وتتشكّل أجزاؤه بأشكال مختلفة بحسب وظيفتها المستقبلية،وتتكون الأنسجة والأجهزة ، وتقوم كلّ مجموعة من الخلايا ببناء أحد أجهزة الجسم وصياغته، كالجهاز العصبي وجهاز الدورة الدموية ،

٣٩٢

وجهاز الهضم ، وغيرها من الأجهزة ، حتّى يصبح الجنين بعد هذه المراحل من التطوّر في مخبئه الخفي في رحم أمّه إنسانا كامل الصورة. وسوف ندرج ـ بمشيئة الله ـ شرحا كاملا لتطوّر الجنين ومراحل تكامله في تفسير الآية ١٢ من سورة «المؤمنون».

٢ ـ (أرحام) جمع (رحم) يعني في الأصل محل نموّ الجنين في بطن الأمّ ، ثمّ أطلق على جميع الأقرباء الذين يشتركون في أمّ واحدة المتولّدون من أمّ واحدة ، وبما أنّ حالة من المحبّة والعطف والحنان ترتبط بين هؤلاء الأفراد أطلقت هذه المفردة على كلّ عطف وحنان (رحمة) ، ويرى البعض أنّ المفهوم من هذه الكلمة بالعكس ، أي أنّ المفهوم الأصلي لها هو رقّة القلب والعطف والمحبّة ، ولكن بما أنّ الأقرباء والأرحام يشتركون في هذه الصفة فيما بينهم أطلق على المكان الذي تولّدوا منه كلمة (رحم).

* * *

٣٩٣

الآية

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

سبب النّزول

جاء في تفسير «نور الثقلين» (١) نقلا عن كتاب «معاني الأخبار» حديث عن الإمام الباقر عليه‌السلام ما مضمونه : أنّ نفرا من اليهود ومعهم «حي بن أخطب» وأخوه ، جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واحتجّوا بالحروف المقطّعة «الم» وقالوا : بموجب حساب الحروف الأبجدية ، فإنّ الألف في الحساب الأبجدي تساوي الواحد ، واللام تساوي ٣٠ ، والميم تساوي ٤٠ ، وبهذه فإنّ فترة بقاء أمّتك لا تزيد على

__________________

(١) ج ١ ص ٣١٣.

٣٩٤

إحدى وسبعين سنة! ومن أجل أن يلجمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تساءل وقال ما معناه : لماذا حسبتم «ألم» وحدها؟ ألم تروا أنّ في القرآن «المص» و «الر» ونظائرها من الحروف المقطّعة ، فإذا كانت هذه الحروف تدلّ على مدّة بقاء أمّتي ، فلما ذا لا تحسبونها كلّها؟ (مع أنّ القصد من هذه الحروف أمر آخر) وعندئذ نزلت هذه الآية.

في تفسير «في ظلال القرآن» سبب نزول آخر ينسجم من حيث النتيجة مع سبب النزول المذكور ، وهو أنّ جمعا من نصارى نجران جاؤوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم متذرّعين بقول القرآن «كلمة الله وروحه» بشأن المسيح عليه‌السلام في محاولة منهم لاستغلالها بخصوص مسألة «التثليث» و «ألوهيّة» المسيح ، متجاهلين كلّ الآيات الأخرى الصريحة في عدم وجود شريك أو شبيه لله إطلاقا ، فنزلت الآية المذكورة تردّ عليهم.

التّفسير

المحكم والمتشابه في القرآن :

تقدّم في الآيات السابقة الحديث عن نزول القرآن بعنوان أحد الدلائل الواضحة والمعجزات البيّنة لنبوّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ففي هذه الآية تذكر أحد مختصّات القرآن وكيفيّة بيان هذا الكتاب السماوي العظيم للمواضيع والمطالب فيقول في البداية : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ).

أي آيات صريحة وواضحة والتي تعتبر الأساس والأصل لهذا الكتاب السماوي (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) ، ثمّ أنّ هناك آيات أخرى غامضة بسبب علوّ مفاهيمها وعمق معارفها أو لجهات اخرى (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ).

هذه الآيات المتشابهة إنّما ذكرت لاختبار العلماء الحقيقيّين وتميزهم عن الأشخاص المعاندين اللجوجين الذين يطلبون الفتنة ، فلذلك تضيف الآية : (فَأَمَّا

٣٩٥

الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) فيفسّرون هذه الآيات المتشابه وفقا لأهوائهم كيما يضلّوا الناس ويسبّهوا عليهم (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) (١) (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ).

ثمّ تضيف الآية : أنّ هؤلاء أي الراسخون في العلم بسبب دركهم الصحيح لمعنى المحكمات والمتشابهات (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) أجل (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

* * *

بحوث

في هذه الآية مباحث مهمّة ينبغي بحثها بشكل مستقل كلّ على حدة :

١ ـ ما المقصود بالآيات المحكمة والمتشابهة؟

«المحكم» من «الإحكام» وهو المنع. ولهذا يقال للمواضيع الثابتة القويّة «محكمة» أي أنّها تمنع عن نفسها عوامل الزوال. كما أنّ كلّ قول واضح وصريح لا يعتوره أيّ احتمال للخلاف يقال له «قول محكم».

وعليه فإنّ الآيات المحكمات هي الآيات ذات المفاهيم الواضحة التي لا مجال للجدل والخلاف بشأنها ، كآية : (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) (٢) و (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (٣) و (اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) (٤) و (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) (٥) وآلاف أخرى

__________________

(١) «زيغ» في الأصل. بمعنى الانحراف عن الخط المستقيم والتمايل إلى جهة ، والزيغ في القلب بمعنى الانحراف العقائدي عن صراط المستقيم.

(٢) سورة الإخلاص : ١.

(٣) الشورى : ١١.

(٤) الزمر : ٢٦.

(٥) النساء : ١١.

٣٩٦

مثلها ممّا تتعلّق بالعقائد والأحكام والمواعظ والتواريخ ، فهي كلّها من «المحكمات».

هذه الآيات المحكمات تسمّى في القرآن «أمّ الكتاب» أي هي الأصل والمرجع والمفسّرة والموضّحة للآيات الأخرى.

و «المتشابه» هو ما تتشابه أجزاؤه المختلفة. ولذلك فالجمل والكلمات التي تكون معانيها معقّدة وتنطوي على احتمالات مختلفة ، توصف بأنّها «متشابهة».

وهذا هو المقصود من وصف بعض آيات القرآن بأنها «متشابهات» ، أي الآيات التي تبدو معانيها لأوّل وهلة معقّدة وذات احتمالات متعدّدة ، ولكنّها تتّضح معانيها بعرضها على الآيات المحكمات.

وعلى الرغم من أنّ المفسّرين أوردوا احتمالات متعدّدة في تفسير «المحكم» و «المتشابه» (١) ، ولكن الذي قلناه يناسب المعنى الأصلي لهذين المصطلحين كما يتّفق مع سبب نزول الآية ، وكذلك مع الأحاديث الواردة في تفسير هذه الآية ، ومع الآية نفسها، لأنّنا نقرأ بعد ذلك أن المغرضين يتّخذون من الآيات المتشابهات وسيلة لإثارة الفتنة. وهم بالطبع يبحثون لهذا الغرض عن الآيات التي لها تفسيرات متعدّدة. وهذا نفسه يدلّ على أن معنى «المتشابه» هو ما قلناه.

ويمكن إدراج بعض الآيات التي تخصّ صفات الله والمعاد كنماذج من الآيات المتشابهات ، مثل (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (٢) بشأن قدرة الله ، (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (٣) بشأن علم الله ، و (وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ) (٤) بشأن طريقة حساب الأعمال.

بديهيّ أنّ الله لا يد له «بمعنى العضو» ولا أذن «بالمعنى نفسه» ولا ميزان مثل

__________________

(١) ذكر «الطبرسي» في مجمع البيان خمسة تفاسير لذلك ، وذكر «الفخر الرازي» أربعة أقوال و «العلّامة» في الميزان ستة عشر قولا وفي «البحر المحيط» عشرين قولا تقريبا عن تفسيرها.

(٢) الفتح : ١٠٠.

(٣) البقرة : ٢٢٤.

(٤) الأنبياء : ٤٧.

٣٩٧

موازيننا يزن بها الأعمال. هذه كنايات عن مفاهيم كلّية لقدرة الله وعلمه وميزانه.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ كلمتي «المحكم والمتشابه» قد وردتا في القرآن بمعنى آخر. ففي أوّل سورة هود نقرأ : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ) فهنا أشير إلى أنّ جميع آيات القرآن محكمات ، والقصد هو قوّة الترابط والتماسك بينها. وفي الآية ٢٣ من سورة الزمر نقرأ:(كِتاباً مُتَشابِهاً) أي الكتاب الذي كلّ آياته متشابهات ، وهي هنا بمعنى التماثل من حيث صحّتها وحقيقتها.

يتّضح ممّا قلنا بشأن المحكم والمتشابه أنّ الإنسان الواقعيّ الباحث عن الحقيقة لا بدّ له لفهم كلام الله أن يضع الآيات جنبا إلى جنب ثمّ يستخرج منها الحقيقة. فإذا لاحظ في ظاهر بعض الآيات إبهاما وتعقيدا ، فعليه أن يرجع إلى آيات أخر لرفع ذلك الإبهام والتعقيد ليصل إلى كنهها.

تعتبر الآيات المحكمات في الواقع أشبه بالشارع الرئيسي ، والمتشابهات أشبه بالشوارع الفرعية ، لا شكّ أنّ المرء إذا تاه في شارع فرعي سعى للوصول إلى الشارع الرئيسي ليتبيّن طريقه الصحيح فيسلكه.

إنّ التعبير عن المحكمات بأم الكتاب يؤيّد هذه الحقيقة أيضا ، إذ أنّ لفظة «أم» في اللغة تعني الأصل والأساس ، وإطلاق الكلمة على «الأم» أي الوالدة لأنّها أصل الأسرة والعائلة والملجأ الذي يفزع إليه أبناؤها لحلّ مشاكلهم. وعلى هذا فالمحكمات هي الأساس والجذر والأم بالنسبة للآيات الأخرى.

٢ ـ لماذا تشابهت بعض آيات القرآن؟

إنّ القرآن جاء نورا لهداية عموم الناس ، فما سبب احتوائه على آيات متشابهات فيها إبهام وتعقيد بحيث يستغلّها المفسدون لاثارة الفتنة؟ هذا موضوع

٣٩٨

مهمّ جدير بالبحث والتدقيق. وعلى العموم يمكن أن تكون النقاط التالية هي السرّ في وجود المتشابهات في القرآن :

أوّلا : إنّ الألفاظ والكلمات التي يستعملها الإنسان للحوار هي لرفع حاجته اليومية في التفاهم. ولكن ما إن نخرج عن نطاق حياتنا الماديّة وحدودها ، كأن نتحدّث عن الخالق الذي لا يحدّه أيّ لون من الحدود ، نجد بوضوح أنّ ألفاظنا تلك لا تستوعب هذه المعاني ، فنضطر إلى استخدام ألفاظ أخرى وإن تكن قاصرة لا تفي بالغرض تماما من مختلف الجهات. وهذا القصور في الألفاظ هو منشأ الكثير من متشابهات القرآن. إنّ آيات مثل (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) (١) أو (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى) (٢) أو (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) (٣) التي سوف يأتي تفسيرها في موضعه ، تعتبر من هذه النماذج. وهناك أيضا تعبيرات مثل «سميع» و «بصير» ، ولكن بالرجوع إلى الآيات المحكمات يمكن تفسيرها بوضوح.

ثانيا : كثير من الحقائق تختصّ بالعالم الآخر ، أو بعالم ما وراء الطبيعة ممّا هو بعيد عن أفق تفكيرنا ، وإنّنا ـ بحكم وجودنا ضمن حدود سجن الزمان والمكان ، غير قادرين على إدراك كنهها العميق. قصور أفق تفكيرنا من جهة ، وسمّو تلك المعاني من جهة أخرى ، سبب آخر من أسباب التشابه في بعض الآيات ، كالتي تتعلّق بيوم القيامة مثلا.

وهذا أشبه بالذي يريد أن يشرح لجنين في بطن أمّه مسائل هذا العالم الذي لم يره بعد،فهو إذا لم يقل شيئا يكون مقصّرا ، وإذا قال كان لا بدّ له أن يتحدّث بأسلوب يتناسب مع إدراكه.

__________________

(١) الفتح : ١٠.

(٢) طه : ٥.

(٣) القيامة : ٣.

٣٩٩

ثالثا : من أسرار وجود المتشابهات في القرآن إثارة الحركة في الأفكار والعقول وإيجاد نهضة فكرية بين الناس. وهذا أشبه بالمسائل الفكرية المعقّدة التي يعالجها العلماء لتقوية أفكارهم ولتعميق دقّتهم في المسائل.

رابعا : النقطة الأخرى التي ترد بشأن وجود المتشابهات في القرآن ، وتؤيّدها أخبار أهل البيت عليهم‌السلام ، هي أنّ وجود هذه الآيات في القرآن يصعّد حاجة الناس إلى القادة الإلهيّين والنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأوصياء ، فتكون سببا يدعو الناس إلى البحث عن هؤلاء واعتراف بقيادتهم عمليا والاستفادة من علومهم الاخرى أيضا. وهذا أشبه ببعض الكتب المدرسية التي أنيط فيها شرح بعض المواضيع إلى المدرّس نفسه ، لكي لا تنقطع علاقة التلاميذ بأستاذهم ، ولكي يستمرّوا ـ بسبب حاجتهم هذه ـ في التزوّد منه على مختلف الأصعدة.

وهذا أيضا مصداق وصيّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين قال : «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب الله وأهل بيتي وأنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض»(١).

٣ ـ ما التأويل؟

الكلام كثير بشأن معنى «التأويل» ، والأقرب إلى الحقيقة هو أنّ «التأويل» من «الأول» أي الرجوع إلى الأصل ، وهو إيصال العمل أو الكلام إلى الهدف النهائي المراد منه. فإذا أقدم أحد على عمل ولم يكن هدفه من هذا العلم واضحا ، ثمّ يتوضّح ذلك في النهاية ، فهذا هو التأويل ، كالذي نقرأه في حكاية موسى عليه‌السلام مع الحكيم الذي كان يقوم بأعمال غامضة الأهداف «مثل تحطيم السفينة» فكان هذا مدعاة لانزعاج موسى ، ولكن عند ما شرح له الحكيم في نهاية المطاف وعند

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ج ٣ ص ١٤٨.

٤٠٠