الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

تقول الآية إنّ من بلغته نصيحة الله بتحريم الربا واتّعظ فله الأرباح التي أخذها من قبل «أي أنّ القانون ليس رجعيا» لأنّ القوانين الرجعية تولد الكثير من المشاكل والاضطرابات في حياة الناس ، ولذلك فإنّ القوانين تنفّذ عادة من تاريخ سنّها.

وهذا لا يعني بالطبع أنّ للمرابين أن يتقاضوا أكثر من رؤوس أموالهم من المدينين بعد نزول الآية ، بل المقصود إباحة ما جنوه من أرباح قبل نزول الآية.

ثمّ يقول (وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ) أي أنّ النظر إلى أعمال هؤلاء يوم القيامة يعود إلى الله ، وإن كان ظاهر الآية يدلّ على أنّ مستقبل هؤلاء من حيث معاقبتهم أو العفو عنهم غير واضح ، ولكن بالتوجّه إلى الآية السابقة نفهم أنّ القصد هو العفو. ويظهر من هذا أنّ إثم الربا من الكبر بحيث إنّ حكم العفو عن الذين كانوا يتعاطونه قبل نزول الآية لا يذكر صراحة.

وردت احتمالات اخرى في معنى هذه الجملة ، أعرضنا عن ذكرها كونها خلاف الظاهر (١).

(وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

أي أنّ من يواصل تعاطي الربا على الرغم من كلّ تلك التحذيرات ، فعليه أن ينتظر عذابا أليما في النار دائما.

إنّ العذاب الخالد لا يكون نصيب من آمن بالله. لكن الآية تعد المصرّين على الربا بالخلود في النار ، ذلك لأنّهم بإصرارهم هذا يحاربون قوانين الله ، ويلجّون في ارتكاب الإثم ، وهذا دليل على عدم صحّة إيمانهم ، وبالتالي فهم يستحقّون الخلود في النار.

__________________

(١) تفسير القرطبي : ج ٢ ص ١٦٩ ، هنا ذكر أربع تفاسير ، وفي مجمع البيان ذيل الآية مورد البحث وذكرت احتمالات عديدة اخرى أيضا.

٣٤١

كما يمكن القول إنّ خلود العذاب هنا كما في الآية ٩٣ من سورة النساء ، يعني العذاب المديد الطويل الأمد لا الأبديّ الدائم.

ثمّ أن الآية التالية تبيّن الفرق بين الربا والصدقة وتقول :

(يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ).

ثمّ يضيف : (وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) يعني الذين تركوا ما في الصدقات من منافع طيبة والتمسوا طريق الربا الذي يوصلهم إلى نار جهنم.

«المحق» النقصان التدريجي. و «الربا» هو النموّ التدريجي. فالمرابي بما لديه من رأسمال وثروة يستحوذ على أتعاب الطبقة الكادحة ، وقد يؤدّي عمله هذا إلى القضاء عليهم، أو يبذر على الأقل بذور العداء والحقد في قلوبهم بحيث يصبحون بالتدريج متعطّشين إلى شرب دماء المرابين ويهدّدون أموالهم وأرواحهم. فالقرآن يقول إنّ الله يسوق رؤوس الأموال الربوية إلى الفناء.

إنّ هذا الفناء التدريجي الذي يحيق بالفرد المرابي يحيق بالمجتمع المرابي أيضا.

وبالمقابل ، فالأشخاص الذين يتقدّمون إلى المجتمع بقلوب مليئة بالعواطف الإنسانية وينفقون من رؤوس أموالهم وثرواتهم يقضون بها حاجات المحتاجين من الناس يحظون بمحبّة الناس وعواطفهم عموما ، وأموال هؤلاء فضلا عن عدم تعرّضها لأيّ خطر تنمو بالتعاون العامّ نموّا طبيعيا. وهذا ما يعنيه القرآن بقوله :

(وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ).

وهذا الحكم يجري في الفرد كما يجري في المجتمع. فالمجتمع الذي يعني بالحاجات العامّة تتحرّك فيه الطاقات الفكرية والجسمية للطبقة الكادحة التي تؤلّف أكثرية المجتمع وتبدأ العمل، وعلى أثر ذلك يظهر إلى حيّز الوجود ذلك النظام الاقتصادي القائم على التكافل وتبادل المنافع العامّة.

٣٤٢

(وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).

«الكفّار» من الكفور ، بوزن فجور ، وهو المغرق في نكران الجميل والكفر بالنعمة،و «الأثيم» هو الموغل في ارتكاب الآثام.

هذه الفقرة من الآية تشير إلى أنّ المرابين بتركهم الإنفاق والإقراض والبذل في سبيل رفع الحاجات العامّة يكفرون بما أغدق الله عليهم من النعم ، بل أكثر من ذلك يسخّرون هذه النعم على طريق الإثم والظلم والفساد ، ومن الطبيعي أنّ الله لا يحبّ أمثال هؤلاء.

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

مقابل المرابين الآثمين الكافرين بأنعم الله هناك أناس من المؤمنين تركوا حبّ الذات،وأحيوا عواطفهم الفطرية ، وارتبطوا بالله بإقامة الصلاة ، وأسرعوا لمعونة المحتاجين بدفع الزكاة،وبذلك يحولون دون تراكم الثروة وظهور الاختلاف الطبقي المؤدّي إلى الكثير من الجرائم. هؤلاء ثوابهم محفوظ عند الله ويرون نتائج أعمالهم في الدنيا والآخرة.

ثمّ إنّ هؤلاء لا يعرفون القلق والحزن ، ولا يهدّدهم الخطر الذي يتوجّه إلى المرابين من قبل ضحاياهم في المجتمع.

وأخيرا فإنّهم يعيشون في اطمئنان تام (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

* * *

٣٤٣

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٧٨) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (٢٧٩) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٨٠) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٨١))

سبب النّزول

جاء في تفسير علي بن إبراهيم (١) أنّه بعد نزول آيات الربا جاء «خالد بن الوليد» إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : كانت لأبي معاملات ربوية مع بني ثقيف ، فمات ولم يتسلّم دينه ، وقد أوصاني أن أقبض بعض الفوائد التي لم تدفع بعد. فهل يجوز لي ذلك؟ فنزلت الآيات المذكورة تنهي الناس عن ذلك نهيا شديدا.

وفي رواية أخرى أنّه بعد نزول هذه الآية قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ألا كلّ ربا

__________________

(١) تفسير علي بن إبراهيم : ج ١ ص ٩٣.

٣٤٤

من ربا الجاهلية موضوع ، وأول ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطّلب» (١).

يتضح من هذا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حملته لإلغاء الديون الربوية في الجاهلية قد بدأ بأقربائه أوّلا. وإذا كان بينهم أشخاص أثرياء مثل العبّاس ممّن كانوا مثل غيرهم يتعاطون الربا في الجاهليّة ، فقد ألغى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أوّلا ـ ربا هؤلاء.

وجاء في الروايات أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد نزول هذه الآيات امر أمير مكّة بأنه لو استمر آل المغيرة الذين كانوا معروفين بالربا في عملهم فليقاتلهم (٢).

التّفسير

في الآية الأولى يخاطب الله المؤمنين ويأمرهم بالتقوى ثمّ يأمرهم أن يتنازعوا عمّا بقي لهم في ذمّة الناس من فوائد ربوية.

يلاحظ أنّ الآية بدأت بذكر الإيمان بالله واختتمت بذكره ، ممّا يدلّ بوضوح على عدم انسجام الربا مع الإيمان بالله.

(فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ).

تتغيّر في هذه الآية لهجة السياق القرآني ، فبعد أن كانت الآيات السابقة تنصح وتعظ ، تهاجم هذه الآية المرابين بكلّ شدة ، وتنذرهم بلهجة صارمة أنّهم إذا واصلوا عملهم الربوي ولم يستسلموا لأوامر الله في الحقّ والعدل واستمرّوا في امتصاص دماء الكادحين المحرومين فلا يسع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أن يتوسّل بالقوّة لإيقافهم عند حدّهم وإخضاعهم للحق ، وهذا بمثابة إعلان الحرب عليهم.

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٣٩٢ ، والدر المنثور : ج ٢ ص ١٠٩ مع تفاوت يسير.

(٢) الدر المنثور : ج ٢ ص ١٠٨ ـ ١٠٧.

٣٤٥

وهي الحرب التي تنطلق من قانون : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ)(١).

لذلك عند ما سمع الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ مرابيا يتعاطى الربا بكلّ صراحة ويستهزئ بحرمته هدّده بالقتل.

ويستفاد من هذا الحديث أن حكم القتل إنّما هو لمنكر تحريم الربا. (فَأْذَنُوا) من مادة «اذن» وكلما كانت متعدية بالأمر بالمعنى هو السماح وإذا تعدت بالياء فتعني العلم فعلى هذا يكون قوله (فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ) (٢) يعني أعلموا أنّ الله ورسوله سيحاربوكم وهذا في الحقيقة بمثابة إعلان الحرب على هذه الفئة ، فعلى هذا ليس من الصحيح ما ذهب إليه البعض في معنى هذه الآية بأنه «اسمحوا بإعلان الحرب من الله».

عن أبي بكير قال : بلغ أبا عبد الله الصادق عليه‌السلام عن رجل أنّه كان يأكل الربا ويسمّيه اللبأ.

فقال : لئن أمكنني الله منه لأضربنّ عنقه (٣).

يتّضح من هذا أنّ هذا الحكم يخصّ الذين ينكرون تحريم الربا في الإسلام.

على كلّ حال يستفاد من هذه الآية أنّ للحكومة الإسلامية أن تتوسّل بالقوّة لمكافحة الربا (٤).

(وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ).

أمّا إذا تبتم ورجعتم عن غيّكم وتركتم تعاطي الربا فلكم أن تتسلّموا من الناس المدينين لكم رؤوس أموالكم فقط «بغير ربح». وهذا قانون عادل تماما ،

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢ ، ٣) ـ وسائل الشيعة : ج ١٢ ص ٤٣٩ باب ثبوت القتل والكفر باستحلال الربا ح ١.

(٤) فسّر «فأذنوا» بـ «فاعلموا» غالبا من قبل المفسّرين أمثال : الطبري في مجمع البيان ، أبو الفتوح الرازي،الفخر الرازي ، الآلوسي في روح المعاني ، العلّامة الطباطبائي في الميزان ... وغيرهم.

٣٤٦

لأنّه يحول دون أن تظلموا الناس ودون أن يصيبكم ظلم.

إنّ تعبير (لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ) وإن كان قد جاء بشأن المرابين ، ولكنّه في الحقيقة شعار إسلامي واسع وعميق ، يعني أنّ المسلمين بقدر ما يجب عليهم تجنّب الظلم ، يجب عليهم كذلك أن لا يستسلموا للظلم. وفي الحقيقة لو قلّ الذين يتحمّلون الظلم لقلّ الظالمون أيضا ، ولو أنّ المسلمين أعدّوا العدّة الكافية للدفاع عن حقوقهم لما تمكّن أحد أن يعتدي على تلك الحقوق ويظلمهم. فقبل أن نقول الظالم : لا تظلم ، علينا أن نقول المظلوم: لا تستسلم للظلم.

(وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ) (١).

استكمالا لبيان حقّ الدائن في الحصول على رأسماله «بدون ربح» تبيّن الآية هنا حقّا من حقوق المدين إذا كان عاجزا عن الدفع ، ففضلا عن عدم جواز الضغط عليه وفرض فائدة جديدة عليه كما كانت الحال في الجاهلية ، فهو حقيق بأن يمهل مزيدا من الوقت لتسديد أصل الدين عند القدرة والاستطاعة.

إنّ القوانين الإسلامية التي جاءت لتوضيح مفهوم هذه الآية تمنع الدائن من استيلاء على دار المدين وأمتعته الضرورية اللازمة لقاء دينه ، إنّما للدائن أن يأخذ الزائد على ذلك. وهذا قانون صريح وإنساني يحمي حقوق الطبقات الفقيرة في المجتمع.

(وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) وهذه في الواقع خطوة أبعد من المسائل الحقوقية. أي أنّها مسألة أخلاقية وإنسانية تكمل البحث الحقوقي المتقدّم.

تقول الآية للدائنين أن الأفضل من كلّ ما سبق بشأن المدين العاجز عن الدفع هو

__________________

(١) يحتمل أن تكون (كان) في الجملة أعلاه تامّة حيث لا تحتاج إلى خبر أو ناقصة ويكون التقدير «إن كان هناك ذو عسرة».

٣٤٧

ان يخطو الدائن خطوة إنسانية كبيرة فيتنازل للمدين عمّا بقي له بذمتّه ، فهذا خير عمل إنساني يقوم به ، وكلّ من يدرك منافع هذا الأمر يؤمن بهذه الحقيقة.

* * *

من المألوف في القرآن أنّه بعد بيان تفاصيل الأحكام وجزئيّات الشريعة الإسلامية يطرح تذكيرا عامّا شاملا يؤكّد به ما سبق قوله ، لكي تنفذ الأحكام السابقة نفوذا جيّدا في العقل والنفس.

لذلك فإنّه في هذه الآية يذكّر الناس بيوم القيامة ويوم الحساب والجزاء ، ويحذّرهم من اليوم الذي ينتظرهم حيث يوضع أمام كلّ امرئ جميع أعماله دون زيادة ولا نقصان ، وكلّ ما حفظ في ملفّ عالم الوجود يسلّم إليه دفعة واحدة ، عندئذ تهوله النتائج التي تنتظره. ولكن ذلك حصيلة ما زرعه بنفسه وما ظلمه فيه أحد ، إنّما هو نفسه ظلم نفسه (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ).

جدير بالذكر أنّ هذه الآية من الأدلّة الأخرى على تجسّد أعمال الإنسان في العالم الآخر.

ومما يلفت النظر أنّ تفسير «الدرّ المنثور» ينقل بطرق عديدة أنّ هذه الآية هي آخر آية نزلت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولا يستبعد هذا إذا أخذنا مضمونها بنظر الاعتبار.

وهذا لا يتناقض مع كون سورة البقرة ليست آخر سورة نزلت على رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ بعض الآيات كما نعلم كانت توضع في سورة سابقة عليها أو لا حقة لها،وذلك بأمر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفسه.

* * *

أضرار الربا

١ ـ الربا يخلّ بالتوازن الاقتصادي في المجتمع ، ويؤدي إلى تراكم الثروة

٣٤٨

لدى فئة قليلة ، لأنّ هذه الفئة هي وحدها التي تستفيد من الأرباح بينما لا يجني الآخرون سوى الخسائر والأضرار والضغوط.

الربا يشكّل اليوم أهم عوامل اتّساع الهوة المستمر بين الدول الغنية والدول الفقيرة ، وما يعقب ذلك من حروب دموية طاحنة.

٢ ـ الربا لون من ألوان التبادل الاقتصادي غير السليم ، يضعف العلائق العاطفية ، ويغرس روح الحقد في القلوب ، ذلك لأنّ الربا يقوم في الواقع على أساس أنّ المرابي لا ينظر إلّا إلى أرباحه ، ولا يهمّه الضرر الذي يصيب المدّين.

هنا يبدأ المدين بالاعتقاد بأنّ المرابي يتّخذ من أمواله وسيلة لتدمير حياة الآخرين.

٣ ـ صحيح أنّ دافع الربا يرضخ لعمله هذا نتيجة حاجة قد ألجأته إلى ذلك.

ولكنّه لن ينسى هذا الظلم أبدا ، وقد يصل به الأمر إلى الإحساس بأصابع المرابي تشدّد من ضغطها على عنقه وتكاد تخنقه. وفي هذه الحالة تبدأ كلّ جوارح المدين المسكين ترسل اللعنات على المرابي ، ويتعطّش لشرب دمه. إنّه يرى بأمّ عينيه كيف أنّ حاصل شقاءة وتعبه وثمن حياته يدخل إلى جيب هذا المرابي ، في مثل هذه الحالة الهائجة ترتكب عشرات الجرائم المرعبة ، فقد يقدم المدين على الانتحار ، وقد تدفعه حالته اليائسة إلى أن يقتل المرابي شرّ قتلة ، وقد ينفجر الشعب المضطهد انفجارا عامّا في ثورة عارمة.

إنّ انفصام علائق التعاون بين الدول المرابية والدول التي تستقرض منها بالربا واضح للعيان أيضا. إنّ الدول التي تجد ثرواتها تصبّ في خزائن دولة أخرى باسم الربا تنظر دون شكّ بعين البغض والحقد إلى الدولة المرابية ، وفي الوقت الذي هي تستقرض منها لحاجتها الماسة فإنّها تتحيّن الفرصة للإعراب عن نقمتها وكرهها بشتّى الوسائل والطرق.

٣٤٩

وهذا هو الذي يحدونا إلى القول بأنّ للربا أثرا أخلاقيا سيئا جدّا في نفسيّة المدين ويثير في قلبه الكره والضغينة ، ويفصم عرى التعاون الاجتماعي بين الأفراد والملل.

٤ ـ في الأحاديث الإسلامية إشارة إلى آثار الربا الأخلاقية السيئة وردت في جملة قصيرة ولكنها عميقة المعنى. جاء في كتاب «وسائل الشيعة» عن علّة تحريم الربا عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «إنّما حرّم الله عزوجل الربا لكي لا يمتنع الناس عن اصطناع المعروف»(١).

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٢ ، أبواب الربا ، الباب ١ ، ص ٤٢٢.

٣٥٠

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٨٢))

٣٥١

التّفسير

تدوين الأوراق التجارية :

بعد أن شنّ القرآن على الربا والاحتكار والبخل حربا شعواء ، وضع تعليمات دقيقة لتنظيم الروابط التجارية والاقتصادية ، لكي تنمو رؤوس الأموال نموّا طبيعيا دون أن تعتريها عوائق أو تنتابها خلافات ومنازعات.

تضع هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تسعة عشر بندا من التعليمات التي تنظّم الشؤون المالية ، نذكرها على التوالي : (١)

١ ـ إذا أقرض شخص شخصا أو عقد صفقة ، بحيث كان أحدهما مدينا ، فلكي لا يقع أيّ سوء تفاهم واختلاف في المستقبل ، يجب أن يكتب بينهما العقد بتفاصيله (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ).

من الجدير بالذكر أنّه يستعمل كلمة «دين» هنا ولا يستعمل كلمة «قرض» ، وذلك لأنّ القرض هو تبادل شيئين متشابهين كالنقود أو البضاعة التي يقترضها المقترض ويستفيد منها ، ثمّ يعيد نقودا أو بضاعة إلى المقرض مثلا بمثل. أمّا «الدين» فأوسع معنى،فهو يشمل كلّ تعامل ، مثل المصالحة والإيجار والشراء والبيع وأمثالها ، بحيث إنّ أحد الطرفين يصبح مدينا للطرف الآخر. وعليه فهذه الآية تشمل جميع المعاملات التي فيها دين يبقى في ذمّة المدين ، بما في ذلك القرض.

٢ ـ لكي يطمئن الطرفان على صحّة العقد ويأمنا احتمال تدخّل أحدهما فيه ، فيجب أن يكون الكاتب شخصا ثالثا (وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ).

على الرغم من أنّ ظاهر الآية يدلّ على وجوب كتابة العقد ، يتبيّن من الآية

__________________

(١) وطبعا يستفاد من بعض الأحكام ضمنا «وليس بالدلالة المطابقية» أنه لو أضيفت تلك الأحكام إلى الأحكام التسعة عشر المذكورة لبلغت أكثر من واحد وعشرين حكما.

٣٥٢

التالية (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) أنّ لزوم الكتابة يتحقّق إذا لم يطمئن الطرفان أحدهما إلى الآخر واحتمل حصول خلافات فيما بعد.

٣ ـ على كاتب العقد أن يقف إلى جانب الحقّ ، وأن يكتب الحقيقة الواقعة (بِالْعَدْلِ).

٤ ـ يجب على كاتب العقد ، الذي وهبه الله علما بأحكام كتابة العقود وشروط التعامل ، أن لا يمتنع عن كتابة العقد ، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا الأمر الاجتماعي (وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللهُ فَلْيَكْتُبْ).

إنّ تعبير (كَما عَلَّمَهُ اللهُ) حسب التفسير المذكور للتوكيد ولزيادة الترغيب. ويمكنالقول إنّه يشير إلى أمر آخر ، وهو ضرورة التزامه الأمانة ، وأن يكتب العقد، كما علّمه الله ، كتابة متقنة.

بديهيّ أنّ قبول الدعوة إلى تنظيم العقود ليست واجبا عينيا ، كما يتّضح من قوله سبحانه (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً).

٥ ـ على أحد الطرفين أن يملي تفاصيل العقد على الكاتب. ولكن أيّ الطرفين؟تقول الآية : المدين الذي عليه الحق : (وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ).

من المتّفق عليه أنّ التوقيع المهمّ في العقد هو توقيع المدين ، ولذلك فإنّ العقد الذي يكتب بإملائه يعتبر مستمسكا لا يمكنه إنكاره (١).

٦ ـ على المدين عند الإملاء أن يضع الله نصب عينيه ، فلا يترك شيئا إلّا قاله ليكتبه الكاتب (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً).

٧ ـ إذا كان المدين واحدا ممّن تنطبق عليه صفة «السفيه» ، وهو الخفيف العقل الذي يعجز عن إدارة أمواله ولا يميّز بين ضرره ومنفعته ، أو «الضعيف» القاصر في

__________________

(١) «وليملل» من مادة «ملة» بمعنى الدين والأحكام الإلهية وقال بعض أنها من مادة «ملال» وبما أن في الملاء هناك تكرار مملل أطلقت هذه الكلمة عليه (تارة بصورة إملاء واخرى بصورة املال).

٣٥٣

فكره والضعيف في عقله المجنون ، أو «الأبكم والأصم» الذي لا يقدر على النطق ، فإنّ لوليّه أن يملي العقد فيكتب الكاتب بموجب إملائه (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ).

٨ ـ على «الولي» في الإملاء والاعتراف بالدّين ، أن يلتزم العدل وأن يحافظ على مصلحة موكّله ، وأن يتجنّب الابتعاد عن الحقّ (فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ).

٩ ـ بالإضافة إلى كتابة العقد ، على الطرفين أن يستشهدا بشاهدين (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ) (١).

١٠ و ١١ ـ يجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين وهذا يستفاد من عبارة (مِنْ رِجالِكُمْ) أي ممّن هم على دينكم.

١٢ ـ يجوز اختيار شاهدتين من النساء وشاهد من الرجال (فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ).

١٣ ـ لا بدّ أن يكون الشاهدان موضع ثقة (مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ). يتبيّن من هذه الآية أنّ الشهود يجب أن يكونوا ممّن يطمأنّ إليهم من جميع الوجوه ، وهذه هي «العدالة» التي وردت في الأخبار أيضا.

١٤ ـ وإذا كان الشاهدان من الرجال ، فلكلّ منهما أن يشهد منفردا. أمّا إذا كانوا رجلا واحدا وامرأتين ، فعلى المرأتين أن تدليا بشهادتهما معا لكي تذكّر إحداهما الاخرى إذا نسيت شيئا أو أخطأت فيه.

أمّا سبب اعتبار شهادة امرأتين تعدل شهادة رجل واحد ، فهو لأنّ المرأة كائن عاطفي وقد تقع تحت مؤثّرات خارجية ، لذلك فوجود امرأة أخرى معها يحول بينها وبين التأثير العاطفي وغيره : (أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى).

__________________

(١) قال بعض ان التفاوت بين «شاهد» و «شهيد» هو أن الشاهد يقال لمن حضر الواقعة حتّى يمكنه أن يشهد عليها والشهيد هو الذي يؤدي الشهادة.

٣٥٤

١٥ ـ ويجب على الشهود إذا دعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير ولا عذر كما قال : (وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا).

وهذا من أهم الأحكام الإسلامية ولا يقوم القسط والعدل إلّا به.

١٦ ـ تجب كتابة الدين سواء أكان الدين صغيرا أو كبيرا ، لأنّ الإسلام يريد أن لا يقع أيّ نزاع في الشؤون التجارية ، حتّى في العقود الصغيرة التي قد تجرّ إلى مشاكل كبيرة (وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ) (١) والسأم هو الملل من أمر لكثرة لبثه.

وتشير الآية هنا إلى فلسفة هذه الأحكام ، فتقول إنّ الدقّة في تنظيم العقود والمستندات تضمن من جهة تحقيق العدالة ، كما أنّها تطمئن الشهود من جهة أخرى عند أداء الشهادة ، وتحول من جهة ثالثة دون ظهور سوء الظنّ بين أفراد المجتمع (ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا).

١٧ ـ إذا كان التعاقد نقدا فلا ضرورة للكتابة (إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها).

«التجارة الحاضرة» تعني التعامل النقدي ، و «تديرونها» تعني الجارية في التداول لتوضيح معنى التجارة الحاضرة. وتعبير (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ) يعني : ليس هناك ما يمنع من كتابة العقود النقدية أيضا ، وهو خير ، لأنّه يزيل كلّ خطأ أو اعتراض محتملين فيما بعد.

١٨ ـ في المعاملات النقدية وإن لم تحتج إلى كتابة عقد ، لا بدّ من شهود:(وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ).

__________________

(١) تقديم «الصغير» على «الكبير» من أجل أن الناس عادة يهملون المعاملات الصغيرة أو لا يلتزمون بكتابتها وهذا يؤدي إلى التنازع أو أنه يحتمل أن الناس يظنون أن كتابة المعاملات الصغيرة دليل على البخل ، ولذلك تعرض القرآن لنفيه.

٣٥٥

١٩ ـ وآخر حكم تذكرة الآية هو أنّه ينبغي ألّا يصيب كاتب العقد ولا الشهود أيّ ضرر بسبب تأييدهم الحقّ والعدالة : (وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ).

والفعل «يضارّ» يعني ـ كما فسّرناه ـ أن لا يصيب الكتاب والشهود ضرر ، أي أنّه مجهول. ولا حاجة إلى تفسيره بأنّه يعني أن لا يصدر من الكاتب والشهود ضرر في الكتابة والشهادة ، بعبارة أخرى لا حاجة إلى اعتباره فعلا معلوما ، لأنّ هذا التأكيد ورد في فقرة سابقة من الآية.

ثمّ تقول الآية إنّه إذا آذى أحد شاهدا أو كاتبا لقوله الحق فهو إثم وفسوق يخرج المرء من مسيرة العبادة لله : (وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ).

وفي الختام ، وبعد كلّ تلك الأحكام ، تدعو الآية الناس إلى التقوى وامتثال أمر الله:(وَاتَّقُوا اللهَ) ثمّ تقول إنّ الله يعلّمكم كلّ ما تحتاجونه في حياتكم الماديّة والمعنوية :(وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) وهو يعلم كلّ مصالح الناس ومفاسدهم ويقرّر ما هو الصالح لهم:(وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

* * *

بحوث

١ ـ إنّ الأحكام الدقيقة المذكورة في هذه الآية لتنظيم الأسناد والمعاملات وذكر الجزئيّات أيضا في جميع المراحل في أطول آية من القرآن الكريم يبيّن الاهتمام الكبير الذي يليه القرآن الكريم بالنسبة للأمور الاقتصادية بين المسلمين وتنظيمها ، وخاصّة مع الالتفات إلى أنّ هذا الكتاب قد نزل في مجتمع متخلّف إلى درجة أنّ القراءة والكتابة كانتا سلعة نادرة جدّا ، وحتّى أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو صاحب القرآن لم يكن قد درس شيئا ولم يذهب إلى مدرسة أو مكتب ، وهذا بنفسه

٣٥٦

دليل على عظمة القرآن من جهة ، وأهميّة النظام الاقتصادي للمسلمين من جهة اخرى.

يقول (علي بن إبراهيم) في تفسيره المعروف : جاء في الخبر أنّ في سورة البقرة خمسمائة حكم إسلامي وفي هذه الآية ورد خمسة عشر حكما (١).

وكما رأينا أنّ عدد أحكام هذه الآية يصل إلى تسعة عشر حكما ، بل أنّنا إذا أخذنا بنظر الاعتبار الأحكام الضمنيّة لها فسيكون عدد الأحكام أكثر إلى حدّ أنّ الفاضل المقداد استفاد منها في كتابه (كنز العرفان) واحدا وعشرين حكما بالإضافة إلى الفروع المتعدّدة الاخرى ، فعلى هذا يكون قوله بأنّ عدد أحكام هذه الآية خمسة عشر حكما إنّما هو بسبب إدغام بعض أحكام هذه الآية بالبعض الآخر.

٢ ـ إنّ جملة (وَاتَّقُوا اللهَ) وجملة (وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ) رغم أنّها ذكرتا في الآية بصوره مستقلّة وقد عطفت إحداهما على الاخرى ، ولكنّ اقترانهما معا إشارة إلى الارتباط الوثيق بينهما ، ومفهوم ذلك هو أنّ التقوى والورع وخشية الله لها أثر عميق في معرفة الإنسان وزيادة علمه واطّلاعه.

أجل عند ما يتطّهر قلب الإنسان من الشوائب بوسيلة التقوى فسيغدوا كالمرآة الصافية تعكس الحقائق الإلهيّة ، وهذا المعنى لا شكّ فيه ولا إشكال من جانبه المنطقي، لأنّ الصفات الخبيثة والأعمال الذميمة تشكّل حجبا على فكر الإنسان ولا تدعه يرى وجه الحقيقة كما هي عليه ، وعند ما يقوم الإنسان بإزاحة هذه الحجب بوسيلة التقوى فإنّ وجه الحقّ سيظهر ويتجلّى.

ولكنّ بعض الصوفيّين الجهلاء أساؤوا الاستفادة من هذا المعنى وجعلوه دليلا على ترك تحصيل العلوم الرسميّة في حين أنّ هذا الكلام يخالف الكثير من آيات

__________________

(١) تفسير القمي : ج ١ ص ٩٤.

٣٥٧

القرآن والروايات الإسلامية الشريفة.

والحقّ أنّ بعض العلوم يجب اكتسابها عن طريق العلم والتعلّم بالشكل السائد والمتعارف ، وقسم آخر من العلوم الإلهيّة لا تتحصّل للإنسان إلّا بوسيلة تزكية القلب وتصفية الباطن بماء المعرفة والتقوى ، وهذا هو النور الذي ورد في الروايات أنّ الله يقذفه في قلب من يليق بهذه الكرامة «العلم نور يقذفه الله في قلب من يشاء».

* * *

٣٥٨

الآية

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))

التّفسير

هذه الآية تكمل البحث في الآية السابقة وتشتمل على احكام اخرى :

١ ـ عند التعامل إذا لم يكن هناك من يكتب لكم عقودكم ، كأن يقع ذلك في سفر، عندئذ على المدين أن يضع شيئا عند الدائن باسم الرهن لكي يطمئّن الدائن (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ).

قد يبدو من ظاهر الآية لأول وهلة أنّ تشريع «قانون الرهن» يختصّ بالسفر، ولكن بالنظر إلى الجملة التالية وهي (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) يتبيّن أنّ القصد هو بيان نموذج لحاله لا يمكن الوصول فيها إلى كاتب ، وعليه فللطرفين أن يكتفيا بالرهن حتّى في موطنهما. وكذلك وردت الأحاديث عن أهل البيت عليهم‌السلام. وفي المصادر

٣٥٩

الشيعية والسنّيّة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رهن درعه في المدينة عند شخص غير مسلم واقترض منه مبلغا من المال (١).

٢ ـ يجب أن يبقى الرهن عند الدائن حتّى يطمئن (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ).

جاء في تفسير العيّاشي أنّ الإمام الصادق عليه‌السلام قال : «لا رهن إلّا مقبوضة» (٢).

٣ ـ جميع هذه الأحكام ـ من كتابة العقد ، واستشهاد الشهود ، وأخذ الرهن ـ تكون في حالة عدم وجود ثقة تامّة بين الجانبين ، وإلّا فلا حاجة إلى كتابة عقد ، وعلى المدين أن يحترم ثقة الدائن به ، فيسدّد دينه في الوقت المعيّن ، وأن لا ينسى تقوى الله (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ).

٤ ـ على الذين لهم علم بما للآخرين من حقوق في المعاملات أو في غيرها ، إذا دعوا للإدلاء بشهادتهم أن لا يكتموها ، لأنّ كتمان الشهادة من الذنوب الكبيرة (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ).

طبيعيّ أنّ الشهادة تجب علينا إذا لم يستطع الآخرون إثبات الحقّ بشهادتهم ، أمّا إذا ثبت الحقّ فيسقط وجوب الإدلاء بالشهادة عن الآخرين ، أي أنّ أداء الشهادة واجب كفائي.

وبما أنّ كتمان الشهادة والامتناع عن الإدلاء بها يكون من أعمال القلب ، فقد نسب هذا الإثم إلى القلب (٣) ، فقال : (فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) ومرّة اخرى يؤكّد في ختام الآية ضرورة ملاحظة الأمانة وحقوق الآخرين : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ).

* * *

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي : ج ٢ ص ٤٢٠ ، وتفسير المراغي ذيل الآية المبحوثة.

(٢) نور الثقلين : ج ١ ص ٣٠١.

(٣) لتوضيح معنى القلب انظر الجزء الأوّل ص ٧٢. (المراد من القلب في القرآن هو الروح والعقل).

٣٦٠