الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

المستحبّ فليس إلزاميا لذلك ، فإنّ إظهار إنفاقه قد يشوبه شيء من الرياء وعدم خلوص النيّة ، فيكون الأجدر إخفاؤه.

٢ ـ قوله : (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ) يوضّح أن للإنفاق في سبيل الله أثرا في غفران الذنوب ، فالتكفير عن السيئات ـ أي تطغية الذنوب ـ كناية عن ذلك.

بديهيّ أنّ هذا لا يعني أنّ إنفاق بعض المال يذهب بكلّ ذنوب الإنسان ، ولذلك لا بدّ من ملاحظة استعمال «من» التبعيضية ، أي أنّ الغفران يشمل قسما من ذنوب الإنسان ، وأنّ هذا القسم يتناسب مع مقدار الإنفاق وميزان الإخلاص.

هنالك أحاديث كثيرة بشأن غفران الذنوب بالإنفاق وردت عن أهل البيت عليهم‌السلام وفي كتب أهل السنّة.

من ذلك : «صدقة السرّ تطفئ غضب الربّ وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار»(١).

كما جاء أيضا : «سبعة يظلّهم الله في ظلّه يوم لا ظلّ إلّا ظلّه : الإمام العدل ، والشابّ الذي نشأ في عبادة الله تعالى ، ورجل قلبه يتعلّق بالمساجد حتّى يعود إليها ، ورجلان تحابّا في الله واجتمعا عليه وافترقا عليه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال إنّي أخاف الله تعالى ، ورجل تصدّق فأخفاه حتّى لم تعلم يمينه ما تنفق شماله ، ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه» (٢).

٣ ـ يستفاد من جملة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ). هو أنّ الله عالم بما تنفقون سواء أكان علانية أم سرّا ، كما أنّه عالم بنيّاتكم وأغراضكم من إعلان إنفاقكم ومن إخفائه. على كلّ حال أنّ الذي له تأثير في الإنفاق هو النيّة الطاهرة والخلوص في العمل لله وحده ، لأنّه هو الذي يجزي أعمال العبد ، وهو عالم بما يخفي ويعلن.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٣٨٥.

(٢) المصدر السابق.

٣٢١

الآية

(لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (٢٧٢))

سبب النّزول

جاء في تفسير مجمع البيان عن ابن عبّاس أنّ المسلمين لم يرضوا بالإنفاق على غير المسلمين ، فنزلت هذه الآية تجيز لهم ذلك عند الضرورة.

وهناك سبب نزول آخر لهذه الآية قريب من سبب النزول السابق. فقد جاء أنّ امرأة مسلمة تدعى «أسماء» كانت في رحلة عمرة القضاء مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاءتها أمّها وجدّتها تطلبان بعض العون منها ، ولكن لمّا كانتا من المشركين وعبدة الأصنام ، فقد امتنعت أسماء عن مدّيد المساعدة إليهما ، وقالت : لا بدّ أن استجيز رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ذلك لأنكما لستما على ديني. وأقبلت إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تستجيزه ، فنزلت الآية المذكورة.

التّفسير

الإنفاق على غير المسلمين :

تحدّثت الآيات السابقة عن مسألة الإنفاق في سبيل الله بشكل عام ، ولكن

٣٢٢

في هذه الآية الحديث عن جواز الإنفاق على غير المسلمين ، بمعنى أنّه لا ينبغي ترك الإنفاق على المساكين والمحتاجين من غير المسلمين حتّى تشتدّ بهم الأزمة والحاجة فيعتنقوا الإسلام بسبب ذلك.

تقول الآية (لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ) فلا يصحّ أن تجبرهم على الإيمان ، وترك الإنفاق عليهم نوع من الإجبار على دخولهم إلى الإسلام ، وهذا الأسلوب مرفوض ، ورغم أنّ المخاطب في هذه الآية الشريفة هو النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلّا أنّه في الواقع يستوعب كلّ المسلمين.

ثمّ تضيف الآية (وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) ومن تكون له اللياقة للهداية.

فبعد هذا التذكّر تستمر الآية في بحث فوائد الإنفاق في سبيل الله فتقول :(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللهِ).

هذا في صورة ما إذا قلنا أنّ جملة (وَما تُنْفِقُونَ) قد أخذت هنا بمعنى النهي ، فيكون معناها أنّ إنفاقكم لا ينفعكم شيئا إلّا إذا كان في سبيل الله تعالى.

ويحتمل أيضا أن تكون هذه الجملة خبريّة ، أي أنكم أيّها المسلمون لا تنفقون شيئا إلّا في سبيل الله تعالى وكسب رضاه.

وفي آخر عبارة من هذه الآية الكريمة نلاحظ تأكيدا أكثر على مقدار الإنفاق وكيفيّته حيث تقول الآية (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ).

يعني أنّكم لا ينبغي أن تتصوروا أنّ إنفاقكم سيعود عليكم بربح قليل ، بل أنّ جميع ما أنفقتم وتنفقون سيعود إليكم كاملا ، وذلك في اليوم الذي تحتاجون إليه بشدّة ، فعلى هذا لا تتردّدوا في الإنفاق أبدا.

ويستفاد من ظاهر هذه الجملة أنّ نفس المال المنفق سيعود على صاحبه (لاثوابه) فيمكن أن تكون الآية دليلا على تجسّم الأعمال الذي سيأتي بحثه

٣٢٣

مفصّلا في الآيات اللاحقة (١).

* * *

بحوث

١ ـ الآية أعلاه تقول أنّ نعم الله وآلاءه في هذا العالم كما أنّها تشمل الجميع بغضّ النظر عن العقيدة والدين ، كذلك ينبغي أن يشمل إنفاق المؤمنين المستحبّ رفع حاجات الناس غير المسلمين أيضا إذا اقتضت الضرورة.

ومن الواضح أنّ الإنفاق على غير المسلمين يجب أن يكون ذا طابع إنساني ففي هذه الصورة يكون جائزا ، لا ما إذا كان موجبا لتقوية الكفر ودعم خطط الأعداء المشؤومة.

٢ ـ للهداية أنواع مختلفة : من الواضح أنّ المقصود من عدم وجوب هداية الناس على الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يعني أنّه غير مكلّف بإرشاد الناس وهدايتهم لأنّ الإرشاد والدعوة من أهم جوانب مسئوليات النبي ، وإنّما المقصود أنّه غير مكلّف بممارسة الضغط وعوامل الإكراه لحمل الناس على اعتناق الإسلام.

وهل أنّ المقصود من هذه الهداية هو الهداية التكوينيّة أو التشريعيّة؟ لأن الهداية لها عدّة أنواع :

أ ـ الهداية التكوينية : وتعني أنّ الله تعالى خلق مجموعة من عوامل التقدّم والتكامل في مختلف كائنات هذا العالم ، يشمل ذلك الإنسان وجميع الكائنات الحيّة ، بل حتّى الجمادات، وهذه العوامل تدفع الموجودات نحو تكاملها.

إنّ نموّ الجنين في رحم أمّه ورشده ، ونموّ البذرة في الباطن الأرض ورشدها ،

__________________

(١) سوف تأتي هذه المسألة مفصلا في ذيل الآية (٣٠) من سورة آل عمران وفي هذا المجلد بالذات.

٣٢٤

وحركة السيارات والمنظومات الشمسية في مداراتها ، وأمثال ذلك نماذج مختلفة من الهداية التكوينية. وهذا النوع من الهداية خاصّ بالله تعالى ، ووسائلها عوامل وأسباب طبيعية وما وراء الطبيعية. يقول القرآن المجيد : (الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) (١).

ب ـ الهداية التوفيقية : وتعني هداية الناس عن طرق التعليم والتربية ، والقوانين، والحكومات العادلة ، والموعظة والنصيحة. وهذه الهداية يقوم بها الأنبياء والأئمّة والصالحون والمربّون المخلصون. وقد أشار القرآن إلى هذا بقوله :(ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ) (٢).

ج ـ الهداية التوفيقية : وهي الهداية إلى تهيئة الوسائل ووضعها في متناول الأفراد لكي يستفيدوا منها حسبما يشاءون في مظان التقدّم ، كبناء المدارس والمساجد ومعاهد التربية ، وإعداد الكتب ووضع الخطط وتدريب المربّين والمعلّمين المؤهّلين ، وهذا النوع من الهداية يقع بين الهدايتين التكوينية والتشريعية. يقول القرآن : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا)(٣).

د ـ الهداية نحو النعمة والمثوبة : وهذه تعني هداية الأفراد اللائقين للانتفاع بنتائج أعمالهم الصالحة في العالم الآخر ، وهي هداية تختصّ بالمؤمنين الصالحين. يقول القرآن : (سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) (٤).

هذه الآية جاءت بعد ذكر تضحية الشهداء في سبيل الله. واضح أنّ هذا النوع من الهداية ترتبط بتمتّع هؤلاء بثمار أعمالهم في الآخرة.

الواقع أنّ هذه الأنواع الأربعة من الهداية تشكّل مراحل مختلفة متوالية

__________________

(١) طه : ٥٠.

(٢) البقرة : ٢.

(٣) العنكبوت : ٦٩.

(٤) محمّد : ٥.

٣٢٥

لحقيقة واحدة. ففي البداية تكون الهداية التكوينية التي يهدي بها الله مخلوقاته ومنها الإنسان الذي أودع فيه العقل والفكر والقوى الأخرى.

يلي تلك الهداية هداية الأنبياء والرسل الذين يهدون الناس إلى طريق الحقّ. والهداية هنا بمعنى الإرشاد والتبليغ.

ثمّ تأتي مرحلة العمل فيشمل الله مخلوقاته بتوفيقه فتتمهّد لهم سبل وطرائق تسير عليها نحو التكامل. وهذه هي هداية التوفيق.

وفي العالم الآخر ينالون جزاء أعمالهم الصالحات.

هداية الإرشاد والدعوة التي تشكّل واحدا من أنواع الهداية الأربعة هي من واجبات الأنبياء والأئمّة ، وقسم منها ممّا يتناول تمهيد الطرق ، يدخل معظمه ضمن واجبات الحكومات الإلهية للأنبياء والأئمّة ، والباقي يختصّ بالله تعالى.

وعليه حيثما نجد في القرآن سلب الهداية عن أنبياء ، فذلك لا يخصّ النوعين الأوّلين.

(وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

وهي هداية لا تأتي ارتباطا بدون حكمة ولا حساب ، أي أنّه لا يمكن أن يهدي بهذا ويحرم ذاك بغير سبب ، فعلى الإنسان أن يكون جدير بالهداية لكي ينالها ويستفيد منها.

نستخلص من هذه الآية حقيقة أخرى ، وهي أنّه يخاطب نبيّه قائلا : إذا ظهر بين المسلمين ـ بعد كلّ ذلك التحذير من الإنفاق المصحوب بالرياء والمنّ والأذى ـ أفراد ما يزالون يلوّثون إنفاقهم بهذه الأمور ، فلا يسؤك ذلك ، إنّ واجبك هو بيان الأحكام وتهيئة المناخ الاجتماعي السليم ، وليس من واجبك أبدا أن تجبرهم على تجنّب هذه الأمور ، وهذا التفسير لا يتنافى مع التفسير السابق ، فكلاهما محتملان.

٣٢٦

٣ ـ أثر الإنفاق في حياة المنفق :

نلاحظ في جملة (وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ) أنّ فوائد الإنفاق تعود على المنفقين أنفسهم ، وبهذا تدفعهم نحو هذا العمل الإنساني ، وطبيعي أنّ الإنسان يزداد حماسا لممارسة علمه حين يعلم أنّ منافع هذا العمل تعود إليه.

قد يبدو للوهلة الأولى أنّ المنافع التي تعود على المنفق من إنفاقه هي ما يناله من ثواب في الآخرة ، هذا بالطبع صحيح ، ولكن لا ينبغي أن يتصوّر أنّ نتائج الإنفاق أخروية فحسب ، بل أنّ له منافع في هذه الدنيا أيضا مادّية ومعنوية.

ففائدته المعنوية هي أنّ روح البذل والإنسانية والتضحية والأخوّة تتربّى في المنفق. وهذه في الواقع وسيلة مؤثّرة في تكامل شخصية الإنسان وتربيته.

أمّا فائدته المادّية فإنّ وجود أناس معدمين فقراء في مجتمع ما يكون سببا في أزمات اجتماعية خطرة قد تبتلع مبدأ الملكية نفسه في ثورتها ، فلا تبقي ولا تذر.

الإنفاق يقلّل من الفواصل الطبقيّة ويزل هذا الخطر الذي يهدّد الأفراد الأثرياء في المجتمع ، فالإنفاق يطفئ ليهب غضب الطبقات المحرومة ويقضي على روح الانتقام في نفوسهم.

من هنا فالإنفاق لصالح المنفقين من حيث الأهميّة الاجتماعية والسلامة الاقتصادية والجوانب المختلفة الماديّة والمعنوية.

٤ ـ ما معنى (وَجْهِ اللهِ)؟

«وجه» بالإضافة إلى معناها المعروف قد تستعمل بمعنى ذات ، وعندئذ (وَجْهِ اللهِ) تعني ذات الله التي يجب أن يتوجّه إليها المنفقون في إنفاقهم ، وعليه فإنّ ورود كلمة «وجه» في هذه الآية وفي غيرها إنّما يقصد به التوكيد ، فمن

٣٢٧

الواضح أنّ قولنا «لوجه الله» أو «لذات الله» أكثر تأكيدا من قولنا «لله». فيكون المعنى أنّ الإنفاق لله حتما لا لغير الله.

ثمّ إنّ الوجه أشرف جزء من أجزاء الجسم الظاهرة ، ففيه أهمّ أعضاء الإنسان كالبصر والسمع والنطق. ولهذا حيثما استعملت كلمة «الوجه» كان القصد إيصال معاني الشرف والأهميّة ، واستعمالها هنا استعمال كناية يفهم منه الاحترام والأهميّة ، وإلّا فإنّ الله منزّه عن الصورة الجسدية.

* * *

٣٢٨

الآية

(لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٢٧٣))

سبب النّزول

نقل عن الإمام الباقر عليه‌السلام أنّه قال : إنّ هذه الآية نزلت في أصحاب «الصفّة».

وهم جمع نحو أربعمائة شخص من مسلمي مكّة وأطراف المدينة ممّن لم يكن لهم مأوى يأوون إليه في المدينة ، ولا قريب يؤويهم في منزله ، فاتّخذوا من مسجد النبيّ منزلا معلنين استعدادهم للذهاب إلى ميادين الجهاد دائما ، ولكن بما أنّ بقاءهم في المسجد لم يكن ينسجم مع شؤونه فقد أمروا بالانتقال إلى «صفّة» دكّة عريضة كانت خارج المسجد. ونزلت الآية تحثّ المسلمين أن يغدقوا مساعداتهم على إخوتهم هؤلاء فأعانوهم (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، أبو الفتوح الرازي ، البحر المحيط ، القرطبي ، روح المعاني ، وتفاسير اخرى ومع تفاوت في العبارات.

٣٢٩

صرّح بعض المفسّرين : «لقد كان هذا الوصف الموحي ينطبق على جماعة من المهاجرين ، تركوا وراءهم أموالهم وأهليهم ؛ وأقاموا في المدينة ووقفوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله ، وحراسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كأهل الصفة الذين كانوا بالمسجد حرسا لبيوت الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يخلص إليها من دونهم عدو ...» (١)

التّفسير

خير مواضع الإنفاق :

يبيّن الله في هذه الآية أفضل مواضع الإنفاق ، وهي التي تتّصف بالصفات التالية :

١ ـ (لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) أي الذين شغلتهم الأعمال الهامّة كالجهاد ومحاربة العدو ، وتعليم فنون الحرب ، وتحصيل العلوم الأخرى ، عن العمل في سبيل الحصول على لقمة العيش كأصحاب الصفّة الذين كانوا خير مصداق لهذا الوصف (٢).

ثمّ للتأكيد تضيف الآية : (لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ) أي الذين لا يقدرون على الترحال لكسب العيش بالسفر إلى القرى والمدن الاخرى حيث تتوفر نعم الله تعالى. وعليه فإنّ القادرين على كسب معيشتهم يجب أن يتحمّلوا عناء السفر في سبيل ذلك وأن لا يستفيدوا من ثمار أتعاب الآخرين إلّا إذا كانوا منشغلين بعمل أهمّ من كسب العيش كالجهاد في سبيل الله.

٢ ـ الذين (يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) هؤلاء الذين لا يعرف الآخرون شيئا عن بواطن أمورهم ، ولكنهم ـ لما فيهم من عفّة النفس والكرامة ـ

__________________

(١) في ظلال القرآن : ذيل الآية المبحوثة.

(٢) «حصر» بمعنى الحبس والمنع والتضييق وجاءت هنا بمعنى جميع الأمور التي تمنع الإنسان من تأمين معاشه.

٣٣٠

يظنّون أنهم من الأغنياء.

ولكن هذا لا يعني أنهم غير معروفين. لذا تضيف الآية (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ).

السيماء : العلامة (١). فهؤلاء وإن لم يفصحوا بشيء عن حالهم ، فإنّ على وجوههم علامات تنطق بما يعانون يدركها العارفون ، فلون وجناتهم ينبئ عمّا خفي من أسرارهم.

٣ ـ والثالث من صفات هؤلاء أنهم لا يصرّون في الطلب والسؤال : (لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً) (٢) أي أنّهم لا يشبهون الفقراء الشحّاذين الذين يلحّون في الطلب من الناس،فهم يمتنعون عن السؤال فضلا عن الإلحاف ، فالإلحاح في السؤال شيمة ذوي الحاجات العاديّين ، وهؤلاء ليسوا عاديّين. وقول القرآن إنّهم لا يلحفون في السؤال لا يعني أنّهم يسألون بدون إلحاف ، بل يعني أنّهم ليسوا من الفقراء العاديّين حتّى يسألوا ، ولذلك لا تتعارض هذه الفقرة من الآية مع قوله تعالى : (تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ) لأنّهم لا يعرفون بالسؤال.

ثمّة احتمال آخر في تفسير الآية ، وهو أنّهم إذا اضطرّتهم الحالة إلى إظهار عوزهم فإنّهم لا يلحفون في السؤال أبدا ، بل يكشفون عن حاجتهم بأسلوب مؤدّب أمام إخوانهم المسلمين.

(وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

في هذه الآية حثّ على الإنفاق ، وعلى الأخصّ الإنفاق على ذوي النفوس العزيزة الأبية ، لأنّ المنفقين إذا علموا أنّ الله عالم بما ينفقون حتّى وإن كان سرّا وأنّه سوف يثيبهم على ذلك ، فستزداد رغبتهم في هذا العمل الكبير.

* * *

__________________

(١) قيل أنها من مادة «وسم» ، وقيل أنها من مادة «سوم».

(٢) «الحاف» من مادة «لحاف» بمعنى الغطاء المعروف ، واطلق على الإصرار في السؤال لأنّه يغطي قلب الشخص المقابل.

٣٣١

بحث

الاستجداء بدون حاجة حرام :

إنّ أحد الذنوب الكبيرة هو السؤال والاستجداء والطلب من الناس من دون حاجة ، لذلك وقد ورد في روايات متعدّدة النهي عن هذا العمل بشدّة ، ففي الحديث عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «لا تحل الصدقة لغني».

وورد في حديث آخر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «من سأل وعنده ما يغنيه فإنّما يستكثر من جمرة جهنّم»(١) وكذلك ورد في الأحاديث الشريفة «أنّه لا تقبل شهادة من يسأل الناس بكفّه» (٢).

* * *

__________________

(١) تفسير المراغي : ج ٣ ص ٥٠.

(٢) وسائل الشيعة : ج ٨ ص ٢٨١ كتاب الشهادات ب ٣٥.

٣٣٢

الآية

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٤))

سبب النّزول

ورد في أحاديث كثيرة أنّ هذه الآية الشريفة نزلت في عليّ عليه‌السلام لأنّه كان لديه أربعة دراهم فأنفق منها درهما في الليل وآخر في النهار وثالث علانيّة ورابع (١) خفية ، فنزلت هذه الآية ، ولكن من الواضح أنّ نزول الآية في مورد خاصّ لا يحدّد مفهوم تلك الآية ولا ينفي شموليّة الحكم لغيره من الموارد.

التّفسير

الإنفاق محمود بكلّ أشكاله :

في هذه الآية يدور الحديث أيضا عن مسألة اخرى ممّا يرتبط بالإنفاق في

__________________

(١) نور الثقلين : ج ١ ص ٢٩٠ و ٢٩١. ورد مضمون هذا الحديث في كتب تفسير أهل السنّة أيضا ، وينقله صاحب (الدر المنثور) عن ابن عساكر والطبراني وأبي حاتم وابن جرير وغيرهم. ويرى البعض أن علماء الشيعة بالاتفاق وأكثر علماء السنّة ذهبوا إلى أنّ هذه الآية نزلت في علي بن أبي طالب عليه‌السلام وفي علماء السنّة ، الواحدي ، ثعلبي ، الخوارزمي ، السدّي ، العكبي ، الزمخشري ، الكافي ، القشيري ، الحاوردي ، ابن المغازلي ، ابن أبي الحديد ، وغيرهم ، وراجع تفسير البرهان.

٣٣٣

سبيل الله وهي الكيفيّات المتنوّعة والمخلفة للإنفاق فتقول الآية : (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

ومن الواضح أنّ انتخاب أحد هذه الطرق المختلفة يتمّ مع رعاية الشرائط الأفضل للإنفاق ، يعني أنّ المنفق يجب عليه مراعاة الجوانب الأخلاقية والاجتماعية في إنفاقه اللّيلي أو النهاري العلني أو السرّي ، فحين لا يكون ثمّة مبرّر لإظهار الإنفاق على المحتاجين فينبغي أن يكون في الخفاء لحفظ كرامة المحتاجين وتركيزا لإخلاص النيّة.

وإذا تطلّبت المصلحة إعلان الإنفاق كتعظيم الشعائر الدينيّة والترغيب والحثّ على الإنفاق دون أن يؤدّي ذلك إلى هتك حرمة أحد من المسلمين ، فليعلن عنه (كالإنفاق في الجهاد والمراكز الخيريّة وأمثال ذلك).

ولا يبعد أن يكون تقديم اللّيل على النهار والسرّ على العلانية في الآية مورد البحث إشارة إلى أنّ صدقة السرّ أفضل إلّا أن يكون هناك موجب لإظهاره رغم أنّه لا ينبغي نسيان الإنفاق على كلّ حال.

ومن المسلّم أنّ الشيء الذي يكون عند الله (وخاصّة بالنظر إلى صفة الربوبيّة الناظرة إلى التكامل والنمو) لا يكون شيئا قليلا وغير ذا قيمة ، بل يكون متناسبا مع ألطاف الله تعالى وعناياته التي تتضمّن بركات الدنيا وكذلك حسنات الآخرة والقرب إلى الله تعالى.

ثمّ تضيف الآية (وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

إنّ الإنسان يعلم أنّه لكي يدبّر أموره المعاشية والحياتية يحتاج إلى المال والثروة ، فإذا فقد ثروته ينتابه الحزن على ذلك ، ويشتدّ به الخوف على مستقبله ، لأنّه لا يعلم ما ينتظره في مقبلات الأيام. هذه الحالة غالبا ما تمنع الإنسان من الإنفاق ، إلّا الذين يؤمنون من جهة بوعود الله ويعرفون من جهة اخرى آثار

٣٣٤

الإنفاق الاجتماعية. فهؤلاء لا ينتابهم الخوف والقلق من الإنفاق في سبيل الله على مستقبلهم ولا يحزنون على نقص أموالهم بالإنفاق ، لأنّهم يعلمون أنّهم بإزاء ما أنفقوه سوف ينالون أضعافه من فضل الله وبركات إنفاقهم الفردية والاجتماعية والأخلاقية في الدنيا والآخرة.

* * *

٣٣٥

الآيات

(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٧٥) يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (٢٧٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٧٧))

التّفسير

الربا في القرآن :

في الآيات التي مضت كان الكلام على الإنفاق وبذل المال لمساعدة المحتاجين وفي سبيل رفاه المجتمع. وفي هذه الآيات يدور الكلام على الربا الذي يقف في الجهة المضادّة للإنفاق ، والواقع هو أنّ هذه الآيات تكمل هدف

٣٣٦

الآيات السابقة ، لأنّ تعاطي الربا يزيد من الفواصل الطبقية ويركّز الثروة في أيدي فئة قليلة، ويسبّب فقر الأكثرية ، والإنفاق سبب طهارة القلوب والنفوس واستقرار المجتمع ، والربا سبب البخل والحقد والكراهية والدنس.

هذه الآيات شديدة وصريحة في منع الربا ، ولكن يبدو منها أنّ موضوع الربا قد سبق التطرّق إليه. فإذا لا حظنا تاريخ نزول هذه الآيات تتّضح لنا صحّة ذلك ، فبحسب ترتيب نزول القرآن ، السورة التي ورد فيها ذكر الربا لأول مرّة هي سورة الروم ، وهي السورة الثلاثون التي نزلت في مكّة ، ولا نجد في غيرها من السور المكّية إشارة إلى الربا.

لكن الحديث عن الربا في السورة المكّية جاء على شكل نصيحة أخلاقية (وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) (١).

أي أنّ قصيري النظر قد يرون أنّ الثروة تزداد بالربا ، ولكنّه لا يزداد عند الله.

ثمّ بعد الهجرة ، تناول القرآن الربا في ثلاث سور أخرى من السور التي نزلت في المدينة وهي بالترتيب : سورة البقرة ، وسورة آل عمران ، وسورة النساء. وعلى الرغم من أنّ سورة البقرة قد نزلت قبل سورة آل عمران ، فلا يستبعد أن تكون الآية ١٣٠ من سورة آل عمران ـ وهي التي تحرّم الربا تحريما صريحا ـ قد نزلت قبل سورة البقرة والآيات المذكورة أعلاه.

على كلّ حال ، هذه الآية وسائر الآيات التي تخصّ الربا نزلت في وقت كان فيه تعاطي الربا قد راج بشدّة في مكّة والمدينة والجزيرة العربية حتّى غدا عاملا مهمّا من عوامل الحياة الطبقية ، وسببا من أهمّ أسباب ضعف الطبقة الكادحة وطغيان الأرستقراطية ، لذلك فإنّ الحرب التي أعلنها القرآن على الربا تعتبر من

__________________

(١) الروم : ٣٩.

٣٣٧

أهمّ الحروب الاجتماعية التي خاضها الإسلام.

يقول تعالى : (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ)(١)(الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ).

فالآية تشبّه المرابي بالمصروع أو المجنون الذي لا يستطيع الاحتفاظ بتوازنه عند السير ، فيتخبّط في خطواته.

ولعلّ المقصود هو وصف طريقة «سير المرابين الاجتماعي» في الدنيا على اعتبار أنّهم أشبه بالمجانين في أعمالهم ، فهم يفتقرون إلى التفكير الاجتماعي السليم ، بل أنّهم لا يشخّصون حتّى منافعهم الخاصّة ، وأنّ مشاعر المواساة والعواطف الإنسانية وأمثالها لا مفهوم لها في عقولهم إذ أنّ عبادة المال تسيطر على عقولهم إلى درجة أنّها تعميهم عن إدراك ما ستؤدّي إليه أعمالهم الجشعة الاستغلالية من غرس روح الحقد في قلوب الطبقات المحرومة الكادحة وما سيعقب ذلك من ثورات وانفجارات اجتماعية تعرض أساس الملكية للخطر،وفي مثل هذا المجتمع سينعدم الأمن والاستقرار ، وستصادر الراحة من جميع الناس بمن فيهم هذا المرابي ، ولذلك فإنّه يجني على نفسه أيضا بعمله الجنوني هذا.

ولكن بما أنّ وضع الإنسان في العالم الآخر تجسيد لأعماله في هذا العالم فيحتمل أن تكون الآية إشارة إلى المعنيين. أي أنّ الذين يقومون في الدنيا قياما غير معتقّل وغير متوازن يخالطه اكتناز جنوني للثروة سسيحشرون يوم القيامة كالمجانين.

الطريف الروايات والأحاديث تشير إلى كلا المفهومين. ففي حديث عن

__________________

(١) «يتخبّطه» من مادة «الخبط» هو فقدان توازن الجسم عند المشي أو القيام.

٣٣٨

الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير هذه الآية أنّه قال : «آكل الربا لا يخرج من الدنيا حتّى يتخبّطه الشيطان»(١).

وفي رواية أخرى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشأن تجسيد حال المرابين الذين لا يهمّهم غير مصالحهم الخاصّة ، وما ستجرّه عليهم أموالهم المحرّمة قال : «لمّا أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر أن يقوم من عظم بطنه ، فقلت : من هؤلاء يا جبرائيل!قال : هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كما يقوم الذي يتخبّطه الشيطان من المس»(٢).

الحديث الأوّل يبيّن اضطراب الإنسان في هذه الدنيا ، ويعكس الحديث الثاني حال المرابين في مشهد يوم القيامة ، وكلاهما يرتبطان بحقيقة واحدة ، فكما أنّ الإنسان المبطان الأكول يسمن بإفراط وبغير حساب ، كذلك المرابون الذين يسمنون بالمال الحرام لهم حياة اقتصادية مريضة تكون وبالا عليهم.

سؤال : هل الجنون والصرع اللذين أشارت إليهما الآية المذكورة من عمل الشيطان ، مع أنّنا نعلم أنّ الصرع والجنون من الأمراض النفسية التي لها أسباب معروفة في الغالب؟

الجواب : يرى بعضهم أنّ تعبير «مسّ الشيطان» كناية عن الأمراض النفسية والجنون ، وهو تعبير كان شائعا عند العرب ، ولا يعني أنّ للشيطان تأثيرا فعليا في روح الإنسان.

ولكن مع ذلك لا يستبعد أن يكون لبعض الأعمال الشيطانية التي يرتكبها الإنسان دون تروّ أثر يؤدّي إلى نوع من الجنون الشيطاني ، أي يكون للشيطان على إثر هذه الأعمال فاعلية في الشخص يسبّب اختلال تعادله النفسي. ثمّ إنّ الأعمال الشيطانية الخاطئة إذا تكرّرت وتراكمت يكون أثرها الطبيعي هو أن يفقد

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ١ ص ١٥٢ ح ٥٠٣.

(٢) تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٢٩١ ح ١١٥٧.

٣٣٩

الإنسان قدرته على تمييز من السقيم من السليم والصالح من الطالح والتفكير المنطقي من المعوج.

منطق المرابين :

(ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا).

هذه الآية تبيّن منطق المرابين فهم يقولون : ما الفرق بين التجارة والربا؟ ويقصدون أنّ كليهما يمثّلان معاملة تبادل بتراضي الطرفين واختيارهما.

يقول القرآن جوابا على ذلك : (وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا) ولم يزد في ذلك شرحا وتفصيلا ، ربما لوضوح الاختلاف :

فأوّلا : في صفقة البيع والشراء يكون كلا الطرفين متساويين بإزاء الربح والخسارة، فقد يربح كلاهما ، وقد يخسر كلاهما ، ومرّة يربح هذا ويخسر ذاك ، ومرّة يخسر هذا ويربح ذاك، بينما في المعاملة الربوية لا يتحمّل المرابي أيّة خسارة ، فكلّ الخسائر المحتملة يتحمّل ثقلها الطرف الآخر ، ولذلك نرى المؤسّسات الربوية تتوسّع يوما فيوما ، ويكبر رأس مالها بقدر اضمحلال وتلاشي الطبقات الضعيفة.

وثانيا : في التجارة والبيع والشراء يسير الطرفان في «الإنتاج والاستهلاك» ، بينما المرابي لا يخطو أيّة خطوة إيجابية في هذا المجال.

وثالثا : بشيوع الربا تجري رؤوس الأموال مجرى غير سليم وتتزعزع قواعد الإقتصاد الذي هو أساس المجتمع ، بينما التجارة السليمة تجري فيها رؤوس الأموال في تداول سليم.

ورابعا : الربا يتسبّب في المخاصمات والمنازعات الطبقية ، بينما التجارة السليمة لا تجرّ المجتمع إلى المشاحنات والصراع الطبقي.

(فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ).

٣٤٠