الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (٢٦٤) وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٦٥))

التّفسير

دوافع الإنفاق ونتائجه :

في هاتين الآيتين نهي للمؤمنين عن المنّ والأذى عند إنفاقهم في سبيل الله ، لأنّ ذلك يحبط أعمالهم. ثمّ يضرب القرآن مثلا للإنفاق المقترن بالمنّ والأذى ، ومثلا آخر للإنفاق المنطلق من الإخلاص والعواطف الإنسانية.

٣٠١

يقول تعالى في المثال الأوّل : (فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ) ....

تصوّر قطعة حجر صلد تغطّيه طبقه خفيفة من التراب ، وقد وضعت في هذا التراب بذور سليمة ، ثمّ عرّض الجميع للهواء الطلق وأشعة الشمس ، فإذا سقط المطر المبارك على هذا التراب لا يفعل شيئا سوى اكتساح التراب والبذور وبعثرتها ، ليظهر سطح الحجر بخشونته وصلابته التي لا تنفذ فيها الجذور ، وهذا ليس لأنّ أشعة الشمس والهواء الطلق والمطر كان لها تأثير سيء ، بل لأنّ البذر لم يزرع في المكان المناسب ، ظاهر حسن وباطن خشن لا يسمح بالنفوذ إليه. قشرة خارجية من التربة لا تعين على نموّ النبات الذي يتطلّب الوصول إلى الأعماق لتتغذّى الجذور.

ويشبّه القرآن الإنفاق الذي يصاحبه الرياء والمنّة والأذى بتلك الطبقة الخفيفة من التربة التي تغطّي الصخرة الصلدة والتي لا نفع فيها ، بل أنّها بمظهرها تخدع الزارع وتذهب بأتعابه أدراج الرياح. هذا هو المثل الذي ضربه القرآن في الآية الاولى للإنفاق المرائي الذي يتبعه المنّ والأذى (١).

وفي نهاية الآية يقول تعالى : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) وهو إشارة إلى أنّ الله تعالى سوف يسلبهم التوفيق والهداية ، لأنّهم أقدموا على الرياء والمنّة والأذى باقدامهم، واختاروا طريق الكفر باختيارهم ، ومثل هذا الشخص لا يليق بالهداية ، وبذلك وضع القرآن الكريم الإنفاق مع الرياء والمنّة والأذى في عرض واحد.

__________________

(١) صفوان : جمع مفرده صفوانة ، وتعني الصخرة الصافية. والوبل : هو المطر الشديد الكبير والصلد : بمعنى الحجر الأملس. وضعفين : تثنية الضعف ولكنه لا يعني أربع مرّات بل مرّتين مثل زوجين التي تعني طرفين ، تأمّل بدقّة.

٣٠٢

مثال رائع آخر

في الآية التالية نقرأ مثالا جميلا آخر يقع في النقطة المقابلة لهذه الطائفة من المنفقين، وهؤلاء هم الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله بدافع من الإيمان والإخلاص فتقول الآية :(وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ).

تصوّر هذه الآية مزرعة خضراء يانعة تقع على أرض مرتفعة خصبة تستقبل لنسيم الطلق وأشعة الشمس الوافرة والمطر الكثير النافع ، وإذا لم يهطل المطر ينزل الطلّ وهو المطر الخفيف وذرّات الهباب ليحافظ على طراوة المزرعة ولطافتها ، فتكون النتيجة أنّ مزرعة كهذه تعطي ضعف ما تعطي المزارع الاخرى ، فهذه الأرض فضلا عن كونها خصبة بحيث يكفيها الطلّ والمطر الخفيف ناهيك عن المطر الغزير لأيناع حاصلها ، وفضلا عن كونها تستفيد كثيرا من الهواء الطلق وأشعّة الشمس وتلفت الأنظار لجمالها ، فإنّها لوقوعها على مرتفع تكون في مأمن من السيول.

فالآية الشريفة تريد أن تقول : إنّ الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله لتمكّن الإيمان واليقين في قلوبهم وأرواحهم هم أشبه بتلك المزرعة ذات الحاصل الوافر المفيد والثمين.

وفي ختام الآية تقول : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فهو سبحانه يعلم ما إذا كان الدافع على هذا الإنفاق إلهيّا مقترنا بالمحبّة والاحترام ، أو للرياء المشفوع بالمنّة والأذى.

* * *

بحوث

١ ـ إنّ عبارة (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) تفيد بأنّ بعض الأعمال

٣٠٣

يمكن أن تبدّد نتائج بعض الأعمال الحسنة ، وهذا هو الإحباط الذي مرّ شرحه في ذيل الآية ٢١٧ من هذه السورة.

٢ ـ إنّ تشبيه العمل مع الرياء بالصخرة التي خطّتها قشرة ناعمة من التراب تشبيه دقيق جدّا لأنّ المرائي له باطن خشن ومجدب فيحاول تغطيته بمظهر حسن وجميل ، وهو حبّ الخير والإحسان للنّاس ، فأعماله غير متجذّرة في وجوده وروحه وليس لها أساس عاطفيّ ثابت فما أسرع ما ينقشع هذا الحجاب بسبب الأحداث والوقائع في الحياة فيظهر باطنهم بذلك.

٣ ـ جملة (ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ) تبيّن دوافع الإنفاق الإلهي السليم ، وهما دافعان : ابتغاء مرضاة الله ، وتقوية روح الإيمان والاطمئنان في القلب.

هذه الآية تقول إنّ المنفقين الحقيقيّين هم الذين يكون دافعهم رضا الله وتربية الفضائل الإنسانية وتثبيتها في قلوبهم ، وإزالة الاضطراب والقلق اللذين يحصلان في نفس المرء بإزاء مسئوليته نحو المحرومين. وعليه فإنّ «من» في الآية تعني «في» أي في نفوسهم.

٤ ـ وجملة (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) المذكورة في آخر الآية الثانية تحذير إلى جميع الذين يريدون القيام بعمل صالح كي يأخذوا حذرهم لئلّا يخالط عملهم ونيّتهم وأسلوب عملهم أي تلوّث ، لأنّ الله يراقب أعمالهم.

* * *

٣٠٤

الآية

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢٦٦))

التّفسير

مثال آخر للإنفاق الملوث بالرياء والمنّة :

هنا يضرب القرآن مثلا آخر يبيّن حاجة الإنسان الشديدة إلى الأعمال الصالحات يوم القيامة ، وكيف أنّ الرياء والمنّ والأذى تؤثّر على الأعمال الصالحات فتزيل بركتها.

يتجسّد هذا التمثيل في صاحب مزرعة مخضرة ذات أشجار متنوّعة كالنخيل والأعناب ، وتجري فيها المياه بحيث لا تتطلّب السقي ، لكن السنون نالت من صاحبها وتحلّق حوله أبناؤه الضعفاء ، وليس ثمّة ما يقيم أودهم سوى هذه المزرعة ، فإذا جفّت فلن يقدر هو ولا أبناؤه على إحيائها ، وفجأة تهبّ عاصفة

٣٠٥

محرقة فتحرقها وتبيدها. في هذه الحالة ترى كيف يكون حال هذا العجوز الهرم الذي لا يقوى على الارتزاق وتأمين معيشته ومعيشة أبنائه الضعفاء؟ وما أعظم أحزانه وحسراته!.

(أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ ...)).

إنّ حال أولئك الذين يعملون عملا صالحا ثمّ يحبطونه بالرياء والمنّ والأذى أشبه بحال من تعب وعانى كثيرا حتّى إذا حان وقت اقتطاف النتيجة ذهب كلّ شيء ولم يبق سوى الحسرات والآهات. وتضيف الآية :

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).

لمّا كان منشأ كلّ تعاسة وشقاء ـ وعلى الأخصّ كلّ عمل أحمق كالمنّ على الناس ـ هو عدم أعمال العقل والتفكير في الأمور ، فإنّ الله في ختام الآية يحثّ الناس على التعمّق في التفكير في آياته (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).

* * *

بحوث

١ ـ هذه الأمثلة بالتوالي كلّ واحدة منها تدلّ على الأمور الزراعية اللطيفة ، لأن هذه الآيات لم تنزل على أهل المدينة الذين كانوا زرّاعا فحسب ، بل أنها نزلت على جميع الناس ، على أية حال كانت الزراعة تشكل جانبا من حياتهم.

٢ ـ يستفاد من (وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ) إنّ الإنفاق في سبيل الله

٣٠٦

ومدّ يد العون للمحتاجين أشبه بالبستان اليانع الذي ينتفع بثمره صاحبه وأبناؤه أيضا. ولكن الرياء والمنّ والأذى لا تحرم صاحبه وحده من ثمرات عمله ، بل أنّ ذلك يحرم حتّى أبناءه والأجيال التالية من بركات تلك الأعمال الصالحات. وهذا دليل على أنّ الأجيال القادمة تشارك الأجيال السابقة في الانتفاع بثمرات العلم الطيّب.

وهو كذلك أيضا على الصعيد الاجتماعي ، إذ أنّ المحبوبيّة والثقة التي ينالها الآباء نتيجة لأعمالهم الصالحة بين الناس ، وتكون خير رأسمال لأبنائهم من بعدهم.

٣ ـ عبارة (إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ) قد تكون إشارة إلى رياح السموم التي تحرق الزرع وتجفّف المياه ، أو الرياح التي تكتسب الحراة من المرور على الحرائق فتكتسح معها النيران المحرقة وتحملها إلى مناطق اخرى ، أو قد تكون إشارة إلى العواصف التي تصاحبها الصواعق فتصيب الأرض وتحيلها إلى رماد ، إنّها على كلّ حال إشارة إلى إبادة سريعة (١).

* * *

__________________

(١) «الإعصار» ريح تثير الغبار ، وهي تهبّ من اتجاهين مختلفين ، بحيث إنّها تتجه من الأرض عموديا إلى السماء.

٣٠٧

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (٢٦٧))

سبب النّزول

عن الصادق عليه‌السلام أنّها نزلت في أقوام لهم ربا في الجاهلية ، وكانوا يتصدّقون منه ، فنهاهم الله عن ذلك وأمر بالصدقة من الطيّب الحلال.

عن علي عليه‌السلام أنّها نزلت في قوم كانوا يأتون بالحشف (وهو أردأ التمر) فيدخلونه في الصدقة (١).

وليس بين الروايتين أي تعارض ، ولعلّ الآية نزلت في كلتا الفئتين ، فالشأن الأوّل يخص الطهارة المعنوية ، ويخص الثاني طيب الظاهر المادّي.

ولكن ينبغي الإشارة إلى أنّ المرابين في الجاهلية امتنعوا عن تعاطي الربا بعد

__________________

(١) تفسير مجمع البيان للطبرسي.

٣٠٨

نزول الآية ٢٧٥ من سورة البقرة ولم تحرم عليهم أموالهم السابقة ، أي أنّ الآية لم يكن لها أثر رجعي ، ولكن من الواضح أنّ هذا المال وإن يكن حلالا ، فهو يختلف عن الأموال الأخرى، فكان في الحقيقة أشبه بتحصيل أموال عن طرق مكروهة.

التّفسير

الأموال التي يمكن إنفاقها :

شرحت الآيات السابقة ثمار الإنفاق وصفات المنفقين والأعمال التي قد تبطل أعمال الإنفاق الإنسانية في سبيل الله. وهذه الآية تبيّن نوعيّة الأموال التي يمكن أن تنفق في سبيل الله.

في بداية الآية يأمر الله المؤمنين أن ينفقوا من (طيبات) أموالهم. و «الطيب» في اللغة هو الطاهر النقي من الناحية المعنوية والمادّية ، أي الأموال الجيدة النافعة والتي لا شبهة فيها من حيث حلّيتها. ويؤيّد عمومية الآية الروايتان المذكورتان في سبب النزول.

كما أنّ جملة (لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) أي أنكم أنفسكم لا تأخذون غير الطيّب من المال إلّا إذا أغمضتم أعينكم كارهين ، دليل على أنّ المقصود ليس الطهارة الظاهريّة فقط ، لأنّ المؤمنين لا يقبلون مالا تافها ملوّثا في ظاهره ، كما لا يقبلون مالا مشبوها مكروها إلّا بالإكراه والتغاضي.

(وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ).

كانت عبارة (ما كَسَبْتُمْ) إشارة إلى الدخل التجاري ، وهذه العبارة إشارة إلى الدخل الزراعي وعائدات المناجم ، فهو يشمل كلّ أنواع الدخل ، لأنّ أصل دخل الإنسان ينبع من الأرض ومصادرها المتنوّعة ، بما فيها الصناعة والتجارة وتربية المواشي وغير ذلك.

تقول هذه الآية : إننا وضعنا مصادر الثروة هذه تحت تصرّفكم ، لذلك ينبغي

٣٠٩

أن لا تمتنعوا عن إنفاق خير ما عندكم في سبيل الله.

(وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) (١).

اعتاد معظم الناس أن ينفقوا من فضول أموالهم التي لا قيمة لها أو الساقطة التي لم تعد تنفعهم في شيء. إنّ هذا النوع من الإنفاق لا هو يربّي روح المنفق ، ولا هو يرتق فتقا لمحتاج،بل لعلّه إهانة له وتحقير. فجاءت هذه الآية تنهي بصراحة عن هذا وتقول للناس:كيف تنفقون مثل هذا المال الذي لا تقبلونه أنتم إذا عرض عليكم إلّا إذا اضطررتم إلى قبوله؟ أترون إخوانكم المسلمين ، بل أترون الله الذي في سبيله تنفقون أقلّ شأنا منكم؟

الآية تشير في الواقع إلى فكرة عميقة وهي أنّ للإنفاق في سبيل الله طرفين، فالمحتاجون في طرف ، والله في طرف آخر. فإذا اختير المال المنفق من زهيد الأشياء ففي ذلك إهانة لمقام الله العزيز الذي لم يجده المنفق جديرا بطيّبات ما عنده كما هو إهانة للذين يحتاجونه ، وهم ربما يكونون من ذوي الدرجات الإيمانية السامية ، وعندئذ يسبّب لهم هذا المال الرديء الألم والعذاب النفسي.

التعبير بكلمة (الطيّبات) يشمل الطيّب الظاهري الذي يستحقّ الإنفاق والمصرف، وكذلك الطيّب المعنوي ، أي الطاهر من الأموال المشتبه والحرام لأنّ المؤمنين لا يرغبون في تناول مثل هذه الأموال.

وجملة (إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) تشمل الجميع ، فما ذهب إليه بعض المفسّرين من حصرها بأحد هذين المعنيين بعيد عن الصواب ، ونظير هذه الآية ما جاء في سورة آل عمران الآية ٩٢ حيث يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وطبعا هذه الآية ناظرة أكثر إلى الآثار المعنويّة للإنفاق.

__________________

(١) «يتمم» في الأصل بمعنى القصد أي شيء وجاءت هنا بهذا المعنى وأطلقت هذه الكلمة على التيمم لأن الإنسان يقصد الاستفادة من التراب الطاهر كما يقول القرآن : (فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً) (النساء : ٤٣).

٣١٠

وفي ختام الآية يقول : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ) أي لا تنسوا أنّ الله لا حاجة به لإنفاقكم فهو غنيّ من كلّ جهة ، بل أنّ جميع المواهب والنعم تحت أمره وفي دائرة قدرته،ولذلك فهو حميد ومستحق للثناء والحمد ، لأنّه وضع كلّ هذه النعم بين أيديكم.

واحتمل البعض أنّ كلمة (حميد) تأتي هنا بمعنى اسم الفاعل (حامد) لا بمعنى محمود ، أي أنّه على الرغم من غناه عن إنفاقكم فإنّه يحمدكم على ما تنفقون.

* * *

ملاحظة

لا شكّ أنّ الإنفاق في سبيل الله هو من أجل نيل القرب من ساحته المقدّسة ، وعند ما يريد الناس التقرّب إلى السلاطين وأصحاب النفوذ فإنّهم يقدّمون إليهم هدايا من أفضل أموالهم وأحسن ثرواتهم ، في حين أنّ هؤلاء السلاطين أناس مثلهم فكيف يتقرّب الإنسان إلى ربّه وخالقه وربّ السموات والأرض لتقديم بعض أمواله الدنيئة كهديّة؟! فما نرى في الأحكام الشرعيّة من وجوب كون الزكاة وحتّى الهدي في الحجّ من المرغوب والجيّد يدخل في دائرة هذا الإعتبار. وعلى كلّ حال يجب الالتزام ونشر هذه الثقافة القرآنية بين صفوف المسلمين في إنفاقهم الجيّد من الأموال.

* * *

٣١١

الآية

(الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦٨))

التّفسير

مكافحة موانع الإنفاق :

تشير الآية هنا وتعقيبا على آيات الإنفاق إلى أحد الموانع المهمّة للإنفاق ، وهو الوساوس الشيطانيّة التي تخوّف الإنسان من الفقر والعوز وخاصّة إذا أراد التصدّق بالأموال الطيّبة والمرغوبة ، وما اكثر ما منعت الوساوس الشيطانيّة من الإنفاق المستحبّ في سبيل الله وحتّى من الإنفاق الواجب كالزكاة والخمس أيضا.

فتقول الآية في هذا الصدد (الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) ويقول لكم : لا تنسوا مستقبل أطفالكم وتدبّروا في غدكم ، وأمثال هذه الوساوس المظلّة ، ومضافا إلى ذلك يدعوكم إلى الإثم وارتكاب المعصية (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ).

(الفحشاء) تعني كلّ عمل قبيح وشنيع ، ويكون المراد به في سياق معنى الآية البخل وترك الإنفاق في كثير من الموارد حيث يكون نوع من المعصية والإثم

٣١٢

(رغم أنّ مفرده الفحشاء تعني عادة الأعمال المنافية للعفّة ولكنّنا نعلم أنّ هذا المعنى لا يناسب السياق).

حتّى أنّ بعض المفسّرين صرّح بأنّ العرب يسمّون الشخص البخيل (فاحش) (١).

ويحتمل أيضا أنّ الفحشاء هنا بمعنى إختيار الأموال الرديئة وغير القابلة للمصرف والتصدّق بها ، وقيل أيضا : أنّ المراد بها كلّ معصية ، لأنّ الشيطان يحمل الإنسان من خلال تخويفه من الفقر على اكتساب الأموال من الطرق غير المشروعة.

والتعبير عن وسوسة الشيطان بالأمر (وَيَأْمُرُكُمْ) إشارة لنفس الوسوسة أيضا،وأساسا فكلّ فكرة سلبيّة وضيّقة ومانعة للخير فإنّ مصدرها هو التسليم مقابل وساوس الشيطان ، وفي المقابل فإنّ كلّ فكرة إيجابيّة وبنّاءة وذات بعد عقلي فإنّ مصدرها هو الإلهامات الإلهيّة والفطرة السليمة.

ولتوضيح هذا المعنى ينبغي أن نقول : إنّ النظرة الاولى إلى الإنفاق وبذل المال توحي أنّه يؤدي إلى نقص المال ، وهذه هي النظرة الشيطانية الضيّقة ، ولكنّنا بتدقيق النظر ندرك أن الإنفاق هو ضمان بقاء المجتمع ، وتحكيم العدل الاجتماعي ، وتقليل الفواصل الطبقية، والتقدّم العام.

وبديهيّ أنّ تقدّم المجتمع يعني أنّ الأفراد الذين يعيشون فيه يكونون في رخاء ورفاه، وهذه هي النظرة الواقعية الإلهيّة.

يريد القرآن بهذا أن يعلم الناس أنّ الإنفاق وإن بدأ في الظاهر أنّه أخذ ، ولكنّه في الواقع عطاء لرؤوس أموالهم مادّيا ومعنويا.

في عالمنا اليوم حيث نشاهد نتائج الاختلافات الطبقية والمآسي الناتجة عن

__________________

(١) تفسير روح البيان : ج ١ ص ٤٣١ ذيل الآية المبحوثة.

٣١٣

الظلم واحتكار الثروة ، نستطيع أن نفهم معنى هذه الآية بوضوح.

كما أنّ الآية تفيد أيضا أنّ هناك نوعا من الارتباط بين ترك الإنفاق والفحشاء. فإذا كانت الفحشاء تعني البخل ، فتكون علاقتها بترك الإنفاق هو أنّ هذا الترك يكرّس صفة البخل الذميمة في الإنسان شيئا فشيئا. وإذا كانت تعني الإثم مطلقا أو الفحشاء في الأمور الجنسية فإن علامة ذلك بترك الإنفاق لا تخفى ، إذ أنّ منشأ كثير من المعاصي والانحرافات الجنسية هو الفقر والحاجة. يضاف إلى ذلك أن للإنفاق آثارا ونتائج معنوية مباركة لا يمكن إنكارها.

(وَاللهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً).

جاء في تفسير «مجمع البيان» عن الإمام الصادق عليه‌السلام : أنّ في الإنفاق شيئين من الله وشيئين من الشيطان ، فاللذان من الله هما غفران الذنوب والسعة في المال ، واللذان من الشيطان هما الفقر والأمر بالفحشاء».

وعليه فإنّ المقصود بالمغفرة هو غفران الذنوب ، والمقصود بالفضل هو ازدياد رؤوس الأموال بالإنفاق ، كما رواه ابن عبّاس.

وقد جاء عن الإمام علي أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «إذا أملقتم فتاجروا الله بالصدقة» (١).

(وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

في هذا إشارة إلى أنّ لله قدرة واسعة وعلما غير محدود ، فهو قادر على أن يفي بما يعد ، ولا شكّ أنّ المرء يطمئّن إلى هذا الوعد ، لا كالوعد الذي يعده الشيطان المخادع الضعيف الذي يجرّ المرء إلى العصيان ، فالشيطان ضعيف وجاهل بالمستقبل ، ولذلك ليس وعده سوى الضلال والتحريض على الإثم.

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة : الكلمات القصار : رقم ٢٥٨.

٣١٤

الآية

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٢٦٩))

التّفسير

أفضل النعم الإلهيّة :

مع الالتفات إلى ما تقدّم في الآية السابقة التي تحدّثت عن تخويف الشيطان من الفقر ووعد الرحمن بالمغفرة والفضل الإلهى ، ففي هذه الآية مورد البحث دار الحديث عن الحكمة والمعرفة والعلم لأنّ الحكمة فقط هي التي يمكنّها التفريق والتمييز بين هذين الدافعين الرحماني والشيطاني وتدعوا الإنسان إلى ساحل المغفرة والرحمة الإلهيّة وترك الوساوس الشيطانيّة وعدم الاعتناء بالتخويف من الفقر.

وبعبارة اخرى ، أنّنا نلاحظ في بعض الأشخاص نوع من العلم والمعرفة بسبب الطهارة القلبيّة ورياضة النفس حيث تترتّب عليها آثار وفوائد جمّة ، منها أن يدرك الشخص فوائد الإنفاق ودوره المهم والحيوي في المجتمع ويميّز بينه وبين ما تدعوه إليه وساوس الشيطان فتقول الآية :

٣١٥

(يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ).

وقد ذكر لكلمة (الحكمة) معان كثيرة منها (المعرفة والعلم بأسرار العالم) ومنها (العلم بحقائق القرآن) و (الوصول إلى الحقّ بالقول والعمل) و (معرفة الله تعالى) و (أنّها النور الإلهي الذي يميّز بين وساوس الشيطان وإلهامات الرحمان).

والظاهر هو أنّ الحكمة تأتي بالمعنى الواسع حيث تشمل جميع هذه الأمور بما فيها النبوّة التي هي نوع من العلم والاطّلاع والإدراك ، فهي في الأصل أخذت من مادة (حكم) ـ على وزن حرف ـ بمعنى المنع ، وبما أنّ العلم والمعرفة والتدبير تمنع الإنسان من ارتباك الأعمال الممنوعة والمحرّمة ، فلذا يقال عنها أنّها حكمة.

بديهيّ أنّ القصد من (مَنْ يَشاءُ) ليس إسباغ الحكمة على كلّ من هبّ ودبّ بغير حساب ، بل أنّ مشيئة الله هي دائما منبعثة عن حكمة ، أي أنّه يمنحها لمن يستحقّها، ويرويه من سلسبيل هذه العين الزلال.

(وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً).

رغم أنّ واهب الحكمة هو الله فإنّ اسمه لم يرد في هذه الآية وإنما بني الفعل للمجهول (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ).

ولعلّ المقصود هو أنّ الحكمة أمر حسن بذاته بصرف النظر عن مصدرها ومنشئها.

من الملاحظة أنّ الآية تقول : إذا نزلت الحكمة بساحة أحد فقد نزلت بساحته البركة والخير الكثير لا الخير المطلق ، لأنّ السعادة والخير المطلق ليسا في العلم وحده ، بل العلم أهمّ عامل لهما.

(وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ).

«التذكّر» هو حفظ العلوم والعارف في داخل الروح. والألباب جمع لب وهو قلب كلّ شيء ومركزه ، ولهذا قيل العقل اللب.

٣١٦

تقول هذه الفقرة من الآية إنّ أصحاب العقول هم الذين يحفظون هذه الحقائق ويتذكّرونها. رغم أنّ جميع الناس ذو عقل ـ عدا المجانين ـ فلا يوصفون جميعا بأولي الألباب،بل هؤلاء هم الذين يستخدمون عقولهم فيشقّون طريقهم على ضوء نورها الساطع.

ونختم هذا البحث بكلام لأحد علماء الإسلام (ويحتمل أنّه مقتبس من كلام الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم) حيث يقول : قد يريد الله تعالى أحيانا تعذيب أمّة على الأرض ولكنّه يرى معلّما يعلّم الأولاد الحكمة فيرفع عن تلك الأمّة العذاب بسبب ذلك (١).

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي : ج ٢ ص ١١٣٨.

٣١٧

الآيتان

(وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (٢٧٠) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٧١))

التّفسير

كيفيّة الإنفاق :

تحدّثت الآيات السابقة عن الإنفاق وبذل المال في سبيل الله ، وأن ينفق الشخص ذلك المال من الطيّب دون الخبيث ، وأن يكون مشفوعا بالمحبّة والإخلاص وحسن الخلق،أمّا في هاتين الآيتين أعلاه فيدور الحديث عن كيفيّة الإنفاق وعلم الله تعالى بذلك.

فيقول الله تعالى في الآية الاولى : (وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللهَ يَعْلَمُهُ).

تقول الآية : إنّ كلّ ما تنفقونه في سبيل الله سواء كان قليلا أو كثيرا ، جيّدا أم رديئا،من حلال اكتسب أم من حرام ، مخلصا كان في نيّته أم مرائيا ، اتّبعه المن

٣١٨

والأذى أم لم يتبعه ، أكان الإنفاق ممّا أوجب الله تعالى عليه أم ممّا أوجبه الإنسان على نفسه بنذر وشبهه ، فإنّ الله تعالى يعلم تفاصيله ويثيب عليه أو يعاقب.

وفي ختام الآية تقول : (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ) (الظالمين) هنا إشارة إلى المحتكرين والبخلاء والمرائين والّذين ينفقون بالمنّ والأذى ، فإنّ الله تعالى لا ينصرهم ، وسوف لا ينفعهم ما أنفقوا لا في الدنيا ولا في الآخرة.

أو أنّ المراد هم الأشخاص الّذين امتنعوا من الإنفاق إلى المحرومين والمعوزين ، فإنّهم بذلك قد ظلموهم وظلموا كذلك أنفسهم ومجتمعهم.

أو أنّهم الأشخاص الّذين لا ينفقون في موارد الإنفاق ، لأنّ مفهوم الظلم واسع يشمل كلّ عمل يأتي به الإنسان في غير مورده ، وبما أنّه لا منافاة بين هذه المعاني الثلاثة لذلك يمكن أن تدخل هذه المعاني في مفهوم الآية بأجمعها.

أجل فهؤلاء ليس لهم ناصر في الدنيا ولا شفيع في الآخرة ، وهذه النتيجة من الخصائص المترتّبة على الظلم والجور بأيّ صورة كان.

ويستفاد من هذه الآية ضمنا مشروعيّة النذر ووجوب العمل بمؤدّاه ، وهو من الأمور التي كانت موجودة قبل الإسلام وقد أمضاها الإسلام وأيدّها.

في الآية الثانية إشارة إلى كيفيّة الإنفاق من حيث السرّ والعلن فتقول : (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

وسوف يعفو الله عنكم بذلك (وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ).

* * *

بحوث

١ ـ لا شكّ أنّ لكلّ من الإنفاق العلني والإنفاق الخفيّ في سبيل الله آثارا نافعة،فإذا كان الإنفاق واجبا فالإعلان عنه يشجع الآخرين على القيام بمثله ، كما

٣١٩

يرفع عن المنفق تهمة إهماله لواجبه.

أمّا إذا كان الإنفاق مستحبّا ، فإنّه يكون في الواقع أشبه بالدعاية والإعلان العملي لحثّ الناس على فعل الخير ، ومساعدة المحتاجين ، والقيام بالأعمال الخيرية الاجتماعية العامّة.

أمّا الإنفاق الخفيّ البعيد عن الأنظار فلا شكّ أنّه أبعد عن الرياء وحبّ الظهور وخلوص النيّة فيه أكثر ، خاصّة وأن مدّ يد العون إلى المحتاجين في الخفاء يحفظ لهم ماء وجههم وكرامتهم ، ولذلك تثني الآية على كلا الأسلوبين.

وذهب بعض المفسرين إلى أنّ الإخفاء يقتصر على الإنفاق المستحب ، وأمّا الإنفاق الواجب كالزكاة وغيره فيفضّل في حالة الجهر ، وليست هذه بقاعدة عامّة ، بل تختلف باختلاف حالات الإنفاق.

ففي الحالات التي يكون فيها الجانب التشجيعي أكثر ولا يصادر فيها الإخلاص فالإظهار أولى ، وفي الحالات التي يكون فيها المحتاجون من ذوي العزّة والكرامة فإن حفظ ماء وجوههم يقتضي إخفاء الإنفاق ، كما أنّه إذا خشي الرياء وعدم الإخلاص فالإخفاء أولى.

وقد جاء في بعض الأحاديث أنّ الإنفاق الواجب يفضّل فيه الإظهار ، والمستحبّ يفضّل فيه الإخفاء.

وقد نقل عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : الزكاة المفروضة تخرج علانية وتدفع علانية ، وغير الزكاة إن دفعه سرّا فهو أفضل (١).

إلّا أنّ هذه الأحاديث لا تتعارض مع ما قلناه آنفا ، لأنّ أداء الواجب يكون أقلّ امتزاجا بالرياء ، فهو واجب لا بدّ أن يؤدّيه كلّ مسلم في محيط الاسلامي كالضريبة اللازمة التي يدفعها الجميع ، وعليه فإنّ إظهار الإنفاق أفضل ، أمّا الإنفاق

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ج ١ ص ٣٨٤ نقلا عن علي بن إبراهيم : ج ١ ص ٩٣.

٣٢٠