الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

الأموات إلى الحياة مرّة اخرى ، ففكّر وتأمّل في نفسه أنّه لو حصل مثل هذا الحادث لبدن الإنسان وأصبح طعاما لحيوانات كثيرة ، وكان بالتالي جزء من بدن تلك الحيوانات ، فكيف يحصل البعث ويعود ذلك الجسد الإنساني نفسه إلى الحياة؟

فخاطب إبراهيم عليه‌السلام ربّه وقال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى).

فأجابه الله تعالى : أو لم تؤمن بالمعاد؟ فقال عليه‌السلام : بلى ولكن ليطمئّن قلبي.

فأمره الله أن يأخذ أربعة طيور ويذبحها ويخلط لحمها ، ثمّ يقسّمها عدّة أقسام ويضع على كلّ جبل قسما منها ، ثمّ يدعو الطيور إليه ، وعندئذ سوف يرى مشهد يوم البعث، فامتثل إبراهيم للأمر واستولت عليه الدهشة لرؤيته أجزاء الطيور تتجمّع وتأتيه من مختلف النقاط وقد عادت إليها الحياة.

وثمّة تفسير آخر للآية نقله الفخر الرازي عن أحد المفسّرين يدعى (أبو مسلم) يخالف آراء بقيّة المفسّرين ولكنّنا نذكره هنا لئنّ مفسّرا معاصرا وهو صاحب المنار قد اختار هذا الرأي.

يقول هذا المفسّر : ليس في هذه الآية ما يدلّ على أنّ إبراهيم عليه‌السلام ذبح الطيور وبعد ذلك عادت إلى الحياة من جديد بأمر الله تعالى ، بل أنّ الآية في صدد بيان مثال لتوضيح مسألة المعاد ، يعني أنّك يا إبراهيم خذ أربعة من الطير فضمّها إليك حتّى تستأنس بك بحيث تعجيب دعوتك إذا دعوتها ، فإنّ الطيور من أشدّ الحيوانات استعدادا لذلك ، ثمّ اجعل كلّ واحدة منهنّ على جبل ثمّ ادعها ، فإنّها تسرع إليك ، وهذه المسألة اليسيرة بالنسبة لك تماثل في سهولتها ويسرها مسألة إحياء الأموات وجمع إجزائها المتناثرة بالنسبة إلى الله تعالى.

فعلى هذا يكون أمر الله تعالى لإبراهيم عليه‌السلام في الطيور الأربعة لا يعني أن يقدم إبراهيم على هذا العمل حتما ، بل أنّه مجرّد بيان مثال وتشبيه كأن يقول شخص

٢٨١

لآخر لبيان سهولة الأمر عليه : اشرب هذا القدح من الماء حتّى أنهي هذا العمل ويريد بذلك بيان سهولته ، لا أنّ الآخر يجب عليه أن يشرب الماء.

وأستدلّ أنصار النظريّة الثانية بكلمة (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) وقالوا إنّ هذه الجملة إذا كانت متعدّية بحرف (إلى) فتكون بمعنى الأنس والميل ، فعلى هذا يكون مفهوم الجملة أنّه (خذ هذه الطيور وآنسهن بك) مضافا إلى أنّ الضمائر في (صرهنّ) و (منهنّ) و (ادعهنّ) كلّها تعود إلى الطيور ، وهذا لا يكون سليما إلّا إذا أخذنا بالتفسير الثاني ، لأنّه على التفسير الأوّل تعود بعض هذه الضمائر على نفس الطيور وتعود البعض الآخر على أجزائها ، وهذا غير مستساغ في الاستعمال.

الجواب على هذه الاستدلالات سيأتي ضمن تفسيرنا للآية الشريفة ولكن ما تجدر الإشارة إليه هنا هو أنّ الآية تبيّن بوضوح هذه الحقيقة ، وهي أنّ إبراهيم عليه‌السلام طلب من الله تعالى المشاهدة الحسيّة للمعاد والبعث لكي يطمئنّ قلبه ، ولا شكّ أنّ ضرب المثل والتشبيه لا يجسّد مشهدا ولا يكون مدعاة لتطمين الخاطر ، وفي الحقيقة أنّ إبراهيم كان مؤمنا عقلا ومنطقا بالمعاد ، ولكنّه كان يريد أن يدرك ذلك عن طريق الحس أيضا.

والآن نبدأ بتفسير الآية ليتّضح لنا أيّ التفسيرين أقرب وأنسب :

(وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى).

سبق أن قلنا إنّ هذه الآية تكملة للآية السابقة في موضوع البعث ، يفيد تعبير (أَرِنِي كَيْفَ) ... أنّه طلب الرؤية والشهود عيانا لكيفيّة حصول البعث لا البعث نفسه.

(قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

كان من الممكن أن يتصور بعضهم أنّ طلب إبراهيم عليه‌السلام هذا إنّما يدلّ على تزلزل إيمان إبراهيم عليه‌السلام ، ولإزالة هذا التوهّم أوحى إليه السؤال : «أو لم تؤمن؟»

٢٨٢

لكي يأتي جوابه موضحا الأمر ، ومزيلا كلّ التباس قد يقع فيه البعض في تلك الحادثة، لذلك أجاب إبراهيم عليه‌السلام (بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي).

يفهم من هذه الآية أيضا على أنّ الاستدلالات العملية والمنطقية قد تؤدّي إلى اليقين ولكنها لا تؤدّي إلى اطمئنان القلب ، إنّها ترضي العقل لا القلب ولا العواطف. إنّ ما يستطيع أن يرضي الطرفين هو الشهود العيني والمشاهد الحسيّة. هذا موضوع مهمّ سوف نزيده إيضاحا في موضعه.

التعبير بالاطمئنان القلبي يدلّ على أن الفكر قبل وصوله إلى مرحلة الشهود يكون دائما في حالة حركة وتقلّب ولكن إذا وصل مرحلة الشهود يسكن ويهدأ.

(قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً).

«صرهنّ» من «الصور» أي التقطيع ، أو الميل ، أو النداء ، ومعنى التقطيع أنسب.أي خذ أربعة من الطير واذبحهنّ وقطّعهنّ واخلطهنّ.

لقد كان المقصود أن يشاهد إبراهيم عليه‌السلام نموذجا من البعث وعودة الأموات إلى الحياة بعد أن تلاشت أجسادها. وهذا لا يأتلف مع أملهنّ ولا مع صح بهنّ وعلى الأخصّ ما يأتي بعد ذلك (ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً) وهذا دليل على أنّ الطيور قد قطّعت أوّلا وصارت أجزاء. ولعلّ الذين قالوا إنّ (فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ) تعني استمالتهنّ وايناسهنّ قد غفلوا عن لفظة «جزءا» هذه ، وكذلك الهدف من هذا العمل.

وبذلك قام إبراهيم بهذا العمل وعند ما دعاهنّ تجمّعت أجزائهنّ المتناثرة وتركبّت من جديد وعادت إلى الحياة ، وهذا الأمر أوضح لإبراهيم عليه‌السلام أنّ المعاد يوم القيامة سيكون كذلك على شكل واسع وبمقياس كبير جدّا.

ويرى بعضهم أنّ كلمة (سعيّا) تعني أنّ الطيور بعد أن عادت إليهنّ الحياة لم يطرن، بل مشين مشيا إلى إبراهيم عليه‌السلام لئنّ السعي هو المشي السريع ، وينقل عن

٢٨٣

الخليل ابن أحمد الأديب المعروف أنّ إبراهيم عليه‌السلام كان يمشي عند ما جاءت إليه الطيور، أي أنّ (سعيا) حال من إبراهيم لا من الطيور (١) ، ولكن بالرغم من كلّ ذلك فالقرائن تشير إلى أنّ (سعيا) كناية عن الطيران السريع.

* * *

بحوث

١ ـ الحادثة الخارقة للعادة

لا شكّ في أنّ هذه الحادثة التي حدثت للطيور كانت أمرا خارقا للعادة تماما كما في وقوع البعث يوم القيامة ، ونعلم أنّ الله تعالى حاكم على قوانين الطبيعة وليس محكوما لها ، فعلى هذا لا يكون من العسير حدوث مثل هذه القضايا بأمره ، وكما أشرنا سابقا إلى أنّ إصرار بعض المفسّرين المثقفين على الأعراض عن التفسير المشهور. والقول بأنّ المراد هو تدجين وتأهيل هذه الطيور حتّى تستأنس به ثمّ يدعوها إليه فتستجيب ، ضعيف جدّا وكلام لا يستند على أساس منطقي ولا يتناسب مع مسألة المعاد ولا مع قصّة إبراهيم عليه‌السلام ورؤيته للجيفة على ساحل البحر ثمّ طلبه رؤية مشهد البعث والمعاد.

والجدير بالذكر أنّ (الفخر الرازي) قال بأنّ جميع المفسّرين اتّفقوا على ما ذكر من التفسير المشهور إلّا أبو مسلم حيث أنكر ذلك (٢).

٢ ـ أربع طيور مختلفة

لا شكّ أنّ الطيور الأربعة كانت من أربعة أنواع مختلفة ، وإلّا فإنّ هدف

__________________

(١) البحر المحيط : ج ٢ ص ٣٠٠ ذيل الآية المبحوثة.

(٢) تفسير الكبير : ج ٧ ص ٤١.

٢٨٤

إبراهيم عليه‌السلام من عودة كلّ جزء إلى أصله لا يتحقق. وفي بعض الروايات أنّ هذه الطيور كانت طاووسا وديكا وحمامة وغرابا ، فكان الاختلاف بينها كبيرا ، ويرى بعض أنّها مظهر للصفات والخصال المختلفة في البشر. فالطاوس يمثّل العجب والخيلاء والتكبّر ، والديك يمثّل الرغبات الجنسية الشديدة ، والحمامة تمثّل اللهو واللعب ، والغراب يمثّل الآمال والمطامح البعيدة.

٣ ـ عدد الجبال

لم يرد في القرآن ذكر عدد الجبال التي وضع عليها إبراهيم أجزاء الطيور ، ولكن الأحاديث التي وصلتنا عن أهل البيت عليهم‌السلام تقول أنّها عشرة. ولهذا ورد في الروايات : إنّ من يوصي بإنفاق جزء من أمواله في أمر من الأمور دون تعيين النسبة فإن صرف عشرة بالمائة يكفي (١).

٤ ـ متى وقعت هذه الحادثة؟

هل وقعت عند ما كان إبراهيم في بابل ، أم بعد نزوله بالشام؟ يظهر أنّ ذلك قد حدث في الشام ، لأنّ منطقة بابل خالية من الجبال.

٥ ـ المعاد الجسماني

معظم الآيات الواردة في القرآن المجيد بشأن البعث تشرح وتوضح المعاد الجسماني. إنّ العليم بالمفاهيم القرآنية الخاصّة بالمعاد يعلم أنّ ما يذكره القرآن هو المعاد الجسماني فقط ، أي عند ما يبعث الناس يكون البعث للجسم والروح معا.

__________________

(١) تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٢٧٨.

٢٨٥

لذلك فالقرآن يعبّر عن ذلك بأنّه إحياء الموتى ، ولو كان البعث يقتصر على الروح لما كان للإحياء أي مفهوم.

وهذه الآية تشرح بكلّ وضوح كيفيّة تجمّع أجزاء الجسد المتناثرة ، وهو ما رآه إبراهيمعليه‌السلامبعينيه.

٦ ـ شبهة الأكل والمأكول

ما ذكرناه من الدافع الذي دفع بإبراهيم عليه‌السلام إلى طلب مشاهدة إحياء الموتى وحكاية الجيفة التي كان يأكل منها حيوانات البرّ والبحر ، نفهم أنّ اهتمام إبراهيم عليه‌السلام كان منصبّا على أن يعرف كيف يمكن إرجاع جسد ميّت إلى حالته الأولى بعد أن أكلته الحيوانات وأصبح جزءا من أجساد تلك الحيوانات؟ وهذا ما يطلق عليه في علم العقائد اسم «شبهة الآكل والمأكول».

لتوضيح ذلك نقول : إنّ الله سبحانه يعيد الإنسان في يوم القيامة بهذا الجسد المادّي. وبعبارة أخرى يعود جسم الإنسان وتعود روحه أيضا.

في هذه الحالة يبرز تساؤل يقول : إذا استحال جسد الإنسان إلى تراب ، وامتصّته جذور الأشجار والنباتات وأصبح ثمرا أكله إنسان آخر وغدا جزءا من جسده. أو إذا افترضنا مثلا سنوات قحط شديدة أكل فيها إنسان لحم إنسان ، فإلى أيّ جسد ستعود هذه الأجزاء المأكولة؟ فإذا غدت جزء من الجسد الأوّل أصبح الجسد الثاني ناقصا ، وإن بقيت جزء من الجسد الثاني نقص الأول أو انعدم.

الجواب :

هذا الاعتراض القديم أجاب عليه الفلاسفة وعلماء العقائد إجابات مختلفة لا نرى ضرورة لدرجها جميعا هنا. وهناك آخرون لم يستطيعوا أن يعثروا على جواب مقنع ، فراحوا يؤوّلون الآيات المرتبطة بالمعاد الجسماني وعمدوا إلى

٢٨٦

اعتبار شخصية الإنسان منحصرة بالروح والخصائص الروحية ، مع أنّ شخصية الإنسان لا تنحصر بالروح فقط ، ولا الآيات الخاصّة بالمعاد الجسماني غامضة بحيث يمكن تأويلها ، بل هي صريحة صراحة قاطعة كما قلنا.

وهناك غيرهم قالوا بنوع من المعاد الجسماني الذي لا يختلف كثيرا عن المعاد الروحاني،إلّا أننا نجد أمامنا طريقا أكثر وضوحا بالاعتماد على النصوص القرآنية ويتّفق مع ما توصّل إليه العلم الحديث ، ويحتاج توضيحه إلى عدّة مقدّمات.

١ ـ إنّنا نعلم أنّ أجزاء جسد الإنسان تتبدّل مرّات عديدة من الطفولة إلى الموت، حتّى خلايا الدماغ التي لا تتغيّر من حيث العدد ، تتغيّر من حيث الأجزاء ، فهي من جهة تتغذّى ومن جهة اخرى تتجزّأ ، وهذا نفسه يؤدّي إلى تبديلها الكامل على مدى الزمن، بحيث إنّه بعد مرور عشر سنوات لا تبقى أيّة ذرّة من ذرّات الجسم القديمة.

ولكن الذرّات السابقة عند ما تكون على أعتاب الهلاك تنقل جميع خواصّها وآثارها إلى الخلايا الجديدة ، لذلك فإنّ مميّزات الإنسان الجسمية كالطول والشكل والهيئة وغيرها من الكيفيات الجسمانية تبقى ثابتة على مرور الزمان ، وهذا لا يكون إلّا بانتقال هذه الصفات إلى الخلايا الجديدة ، (لاحظ هذا بدقّة).

وعليه فإنّ الأجزاء الأخيرة من كلّ إنسان ، عند ما تتبدّل بعد الموت إلى تراب، تكون حاوية على مجموعة من الصفات التي اكتسبتها على امتداد العمر ، فهي تاريخ ينطق بمسيرة جسم الإنسان على امتداد العمر كلّه.

٢ ـ صحيح أنّ الروح هي الأساس الذي تبنى عليه شخصية الإنسان ، ولكن ينبغي أن نعرف أنّ الروح تتكامل وتتربّى بالجسم ، وهما يتبادلان التأثير. لذلك فكما أنّ جسدين لا يتشابهان من جميع الجهات ، كذلك لا تتشابه روحان من

٢٨٧

جميع الجهات أيضا.

ولهذا السبب فإنّ الروح لا تستطيع أن تتفاعل تفاعلا كاملا إلّا مع الجسد الذي تربّت وتكاملت معه. لذلك ففي البعث لا بدّ من حضور الجسد السابق نفسه لكي تستطيع الروح الاندماج به وتستأنف نشاطها في عالم أسمى ، ولتجني ثمار أعمالها.

٣ ـ تتمثّل في كلّ ذرّة من ذرّات الجسم جميع صفاته ، أي أنّنا لو أمكننا أن نربّي كلّ خليّة من خلايا جسم الإنسان لتصبح إنسانا كاملا ، فإنّ ذلك الإنسان سوف يحمل جميع صفات الإنسان الذي أخذ منه هذا الجزء ، (لاحظ بدقّة).

هل أن الإنسان كان في اليوم الأوّل أكثر من خلية واحدة؟ خلية النطفة التي كانت تحمل جميع الصفات ، ثمّ راحت كلّ خلية تنشطر إلى خليتين على التوالي حتى اكتملت جميع خلايا الجسم ، وعليه فإنّ كلّ خلية في جسم الإنسان هي جزء من الخلية الأولى بحيث لو أنّها تربّت لاستحالت إلى إنسان شبيه بالأوّل يحمل صفاته من جميع الجهات.

والآن مع أخذ هذه المقدّمات الثلاث بنظر الإعتبار نباشر بالإجابة على الاعتراض المذكور.

في القرآن آيات تقول بوضوح : إنّ الذرّات الموجودة في جسم الإنسان عند الموت هي التي تعود إلى ذلك الجسد يوم القيامة (١). فإذا كان شخص آخر قد طعم من لحمه فإنّ الأجزاء التي طعمها تنفصل عنه وتعود إلى الجسم الأصلي ، كلّ ما في الأمر أنّ جسم الشخص الآخر يصبح ناقصا ، ولكن ينبغي أن نقول إنّه لا ينقص ، بل يصغر ، لأنّ أجزاء الجسم المأكول تكون قد انتشرت في كلّ أجزاء جسم الآكل ،

__________________

(١) انظر الآيات التي تشير إلى أنّ الله يبعث من في القبور.

٢٨٨

ولذلك فإنّ جسم الآكل حين تسترجع منه الأجزاء ينحف ويصغر بنسبة ما يؤخذ منه. فالذي يزن ستين كيلو غراما ، مثلا ، حين يؤخذ منه أربعون كيلو غراما لتعطى للشخص الأوّل يصغر بحيث لا يزيد على وزن طفل.

وهل يسبّب هذا مشكلة؟ كلّا طبعا ، لأنّ هذا الجسد الصغير يكون حاويا على جميع صفات الشخص دون زيادة ولا نقصان ، وعند البعث يكون كالطفل الذي يولد صغيرا ثمّ ينمو ويكبر ويحشر بهيئة إنسان كامل. وليس في هذا النوع من النموّ عند البعث أيّ إشكال عقلي أو نقلي.

هل هذا النموّ عند البعث فوريّ أم تدريجيّ؟ هذا ما لا نعلمه ، ولكن الذي نعلمه هو أنّه سواء أكان هذا أم ذاك ، فلا يثير أيّة مشكلة ، والمسألة محلولة في كلتا الحالتين.

ويبقى سؤال واحد ، وهو : إذا كان كلّ جسد الشخص الآكل مكوّنا من أجزاء جسد الشخص المأكول ، فما العمل؟

الجواب بسيط ، لأنّ حالة كهذه مستحيلة الوجود ، فقضية الآكل والمأكول تقتضي أن يكون هناك أوّلا جسد معيّن ، ثمّ يتغذّى على جسد آخر وينمو ، وعلى هذا فلا يمكن أن تكون جميع أجزاء جسم الآكل متكونة من أجزاء جسم المأكول ، إذ ينبغي أن نفترض أوّلا وجود جسم سابق حتى يمكن أن يتغذّى على جسم آخر ، وعليه فإنّ جسم الثاني سوف يكون جزء من جسم الأوّل لا كلّه ، فتأمّل.

يتّضح من هذا الشرح أنّ مسألة المعاد الجسماني لجسم الإنسان نفسه ليس فيه أيّ إشكال ، ولا حاجة إلى تأويل الآيات الصريحة في إثبات هذا الموضوع.

* * *

٢٨٩

الآية

(مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٦١))

التّفسير

الإنفاق وترشيد الشخصيّة :

تعتبر مسألة الإنفاق إحدى أهمّ المسائل التي أكدّ عليها الإسلام والقرآن الكريم، والآية أعلاه هي أوّل آية في مجموعة الآيات الكريمة من سورة البقرة التي تتحدّث عن الإنفاق، ولعلّ ذكرها بعد الآيات المتعلّقة بالمعاد من جهة أنّ أحد الأسباب المهمّة للنجاة في الآخرة هو الإنفاق في سبيل الله. وذهب البعض إلى أنّ الآيات لها ارتباط بآيات الجهاد المذكورة قبل آيات المعاد والتوحيد في هذه السورة.

تقول الآية الشريفة : (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) فيكون المجموع المتحصّل من حبّة واحدة

٢٩٠

سبعمائة حبّة ، وتضيف الآية بأنّ ثواب هؤلاء لا ينحصر بذلك (وَاللهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ).

وذلك باختلاف النيّات ومقدار الإخلاص في العمل وفي كفيّته وكميّته. ولا عجب في هذا الثواب الجزيل لأنّ رحمة الله تعالى واسعة وقدرته شاملة وهو مطّلع على كلّ شيء (وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

ويرى بعض المفسّرين أنّ المراد من الإنفاق في الآية أعلاه هو الإنفاق للجهاد في سبيل الله فقط لأنّ هذه الآية في الواقع تأكيد لما مرّ في الآيات التي تحدّثت عن قصة عزير وإبراهيم وطالوت ، ولكنّ الإنصاف أنّ مفهوم الآية أوسع من ذلك ومجرّد ارتباطها بالآيات السابقة لا يمكن أن يكون دليلا على تخصيص هذه الآية والآيات التالية لأنّ عبارة (فِي سَبِيلِ اللهِ) لها مدلول واسع يشمل كلّ مصارف الخير ، مضافا إلى أنّ الآيات التالية أيضا ورد فيها بحث الإنفاق بسورة مستقلّة ، وقد أشير كذلك في الروايات الإسلامية إلى عموم معنى الإنفاق في هذه الآية (١).

والجدير بالذكر أنّ هذه الآية تشبّه الأشخاص الذين ينفقون في سبيل الله بالبذرة المباركة التي تزرع في أرض خصبة في حين أنّ التشبيه عادة يجب أن يكون بين الإنفاق نفسه والبذرة أي أعمالهم لا أنفسهم ، ولذلك ذهب الكثير من المفسّرين أنّ في الآية حذف مثل كلمة (صدقات) قبل كلمة (الذين ينفقون) أو كلمة (زارع) قبل كلمة الحبّة وأمثال ذلك.

ولكن ليس هناك أي دليل على وجود الحذف والتقدير في هذه الآية ، بل إنّ تشبيه المنفقين بحبّات كثيرة البركة تشبيه رائع وعميق وكأنّ القرآن يريد أن يقول :

__________________

(١) «الطبرسي» في مجمع البيان بعد أن يذكر المفهوم الآية معنا واسعا يقول : وهو المروي عن أبي عبد اللهعليه‌السلام.

٢٩١

إنّ عمل كلّ إنسان انعكاس لوجوده ، وكلّما اتّسع العمل اتّسع في الواقع وجود ذلك الإنسان.

وبعبارة اخرى : أنّ القرآن لا يفصل عمل الإنسان عن وجوده ، بل يرى أنّهما مظهران مختلفان لحقيقة واحدة ، ووجهان لعملة واحدة ، لذلك فإنّ آية قابلة للتفسير من دون أن نفترض فيها حذفا وتقديرا ، فالآية إشارة إلى حقيقة أنّ شخصية الإنسان الصالح تنمو وتكبر معنويّا بأعماله الصالحة ، فمثل هؤلاء المنفقين كمثل البذور الكثيرة الثمر التي تمدّ جذورها وأغصانها إلى جميع الجهات وتفيض ببركتها على كلّ الأرجاء.

والخلاصة أنّه في كلّ مورد للتشبيه مضافا إلى وجود أداة التشبيه لا بدّ من وجود ثلاثة امور اخرى :

المشبّه ، والمشبّه به ، ووجه التشبيه ، ففي هذا المورد المشبّه هو الإنسان المنفق ، والمشبّه به هو البذور الكثيرة البركة ، ووجه التشبيه هو النموّ والرشد ، ونحن نعتقد أنّ الإنسان المنفق ينمو ويرشد معنويّا واجتماعيّا من خلال عمله ذاك ولا يحتاج إلى أيّ تقدير حينئذ.

وشبيه هذا المعنى ورد كذلك في الآية ٢٦٥ من هذه السورة ، وهناك بحث بين المفسّرين في التعبير بقوله (أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ) حيث أشارت الآية إلى أنّ حبّة واحدة تصير سبعمائة حبّة أو أكثر ، وأنّ هذا التشبيه لا وجود خارجي له فهو تشبيه فرضي (لأنّ حبّة الحنطة لا تبلغ في موسم الحصاد سبعمائة حبّة أبدا) وأو أنّ المقصود هو نوع خاصّ من الحبوب (كالدخن) التي تعطي هذا القدر من الناتج ، ويلفت النظر أنّ الصحف كتبت أخيرا أنّ بعض مزارع القمح أنتجت في السنوات الممطرة سنابل طويلة يحمل بعضها نحوا من اربعمائة آلاف

٢٩٢

حبّة ، وهذا يدلّ على أنّ تشبيه القرآن واقعي وحقيقي.

جملة (يضاعف) من مادّة (ضعف) ويعني مقدار المرتين أو المرّات وبالنظر إلى ما ذكرنا آنفا من وجود حبوب تعطي عدّة آلاف من المحصول نعرف بأنّ هذا التشبيه هو تشبيه واقعيّ أيضا.

* * *

بحث

الإنفاق ومشكلة الفوارق الطبقيّة :

من المشكلات الاجتماعية الكبرى التي يعاني منها الإنسان دوما ولا زال يعاني رغم كلّ ما حقّقه البشر من تقدّم صناعي ومادّي هي مشكلة التباين الطبقي المتمثّلة بالفقر المدقع في جانب ، وتراكم الثروة في جانب آخر.

إنّك لترى بعضهم يكتنز من الثروة بحيث إنّه لا يستطيع أن يحصيها ، وترى بعضهم من الفقر في عذاب ممض بحيث لا يستطيع أن يجد حتّى الضروريّ اللازم لحياته كالحدّ الأدنى من الغذاء والملبس والمأوى.

لا شكّ أنّ المجتمع الذي يقوم قسم من بنيانه على الغنى الفاحش ، والقسم الأعظم على الفقر المدقع والجوع القاتل ، لا دوام له ، ولن يصل إلى السعادة الحقيقة أبدا ، إنّ مجتمعا كهذا يسوده حتما الهلع والاضطراب والقلق والخوف وسوء الظن ، ومن ثمّ العداء والصراع.

هذا التباين الطبقي الذي كان موجودا في القديم قد تفشّى فينا اليوم ـ مع الأسف ـ بأكثر وأخطر ممّا سبق ، ذلك لأنك تجد أبواب التعاون الإنساني الحقيقي قد أغلقت بوجوه الناس ، وفتحت بمكانها أبواب الربا الفاحش الذي هو من أهمّ أسباب اتساع الهوة الطبقية بين الناس ، ولا أدلّ على ذلك من ظهور الشيوعية

٢٩٣

وأمثالها ، وإراقة الدماء في أنواع الحروب المروعة التي اندلعت في قرننا الأخير وما زالت مندلعة هنا وهناك في أنحاء مختلفة من العالم ، ومعظمها ذات منشأ اقتصادي وردّ فعل لحرمان أكثرية شعوب العالم.

وقد سعى العلماء والمذاهب الاقتصادية في العالم للبحث عن علاج ، واختار كلّ طريقا ، فالشيوعية اختارت إلغاء الملكية الفردية ، والرأسمالية اختارت طريق استيفاء الضرائب الثقيلة وإنشاء المؤسّسات الخيرية العامّة (وهي شكلية أكثر من كونها حلّا لمشكلة الطبقية) ، ظانّين أنّهم بذلك يكافحون هذه المشكلة ، لكن أيّا من هؤلاء لم يستطع في الحقيقة أن يخطو خطوة فعّالة في هذا السبيل ، وذلك لأنّ حلّ هذه المشكلة غير ممكن ضمن الروح الماديّة التي تسيطر على العالم.

بالتدقيق في آيات القرآن الكريم يتّضح أنّ واحدا من الأهداف التي يسعى لها الإسلام هو إزالة هذه الفوارق غير العادلة الناشئة من الظلم الاجتماعي بين الطبقتين الغنية والفقيرة ، ورفع مستوى معيشة الذين لا يستطيعون رفع حاجاتهم الحياتية ولا توفير حدّ أدنى من متطلّباتهم اليومية دون مساعدة الآخرين.

وللوصول إلى هذا الهدف وضع الإسلام برنامجا واسعا يتمثّل بتحريم الربا مطلقا، وبوجوب دفع الضرائب الإسلامية كالزكاة والخمس ، والحثّ على الإنفاق ، وقرض الحسنة، والمساعدات المالية المختلفة ، وأهمّ من هذا كلّه هو إحياء روح الأخوّة الإنسانية في الناس.

* * *

٢٩٤

الآية

(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٢٦٢))

التّفسير

الإنفاق المقبول :

الآية السابقة بيّنت أهميّة الإنفاق في سبيل الله بشكل عام ، ولكن في هذه الآية بيّنت بعض شرائط هذا الإنفاق (ويستفاد ضمنا من عبارات هذه الآية أنّ الإنفاق هنا لا يختصّ بالإنفاق في الجهاد).

تقول الآية (الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا ... وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) (١).

__________________

(١) «منّ» بمعنى حجر الميزان المعروف ثمّ أطلقت على النعم المهمّة التي يلاحظ فيها الجانب العملي «ومنن الله تعالى من هذا القبيل» وإن كان الملحوظ فيها الجانب اللفظي كانت قبيحة جدّا وفي الآية أعلاه وردت بهذا المعنى الثاني.

٢٩٥

يستفاد بوضوح من هذه الآية أنّ الإنفاق في سبيل الله لا يكون مقبولا عند الله تعالى إذا تبعته المنّة وما يوجب الأذى والألم للمعوزين والمحتاجين ، وعليه فإنّ من ينفق ماله في سبيل الله ولكنّه يمنّ به على من ينفق عليه ، أو ينفقه بشكل يوجب الأذى للآخرين فإنّه في الحقيقة يحبط ثوابه وأجره بعمله هذا.

إنّ ما يثير الاهتمام أكثر في هذه الآية هو أنّ القرآن لا يعتبر رأسمال الإنسان في الحياة مقتصرا على رأس المال المادّي ، بل يحسب حساب رؤوس الأموال المعنوية والاجتماعية أيضا.

إنّ من يعطي شيئا لأحد ويمنّ عليه به أو يقوم بما يثير الألم في نفس المعطي له ويجرح عواطفه فإنّه لا يكون قد أعطاه شيئا في الواقع ، لأنّه إذا كان قد أعطاه رأسمال ، فإنّه قد أخذ منه رأسمال أيضا ، بل لعلّ المنّة التي يمنّ بها عليه ونظرة التحقير التي ينظر بها إليه ذات أضرار باهضة يفوق ثمنها ما أنفقه من مال إذا لم ينل أمثال هؤلاء الأشخاص أيّ ثواب على إنفاقهم هذا فهو أمر طبيعي وعادل. وقد يصحّ القول إنّ هؤلاء في كثير من الأحوال هم المدينون لا الدائنون لأنّ كرامة الإنسان أغلى بكثير من أيّ مال وثروة.

ولاحظ في الآية إنّ كلمتي المنّ والأذى مسبوقتان ب (ثمّ) التي تفيد التراخي ، أي وجود فتره زمنية بين فعلين. فيكون معنى الآية : إنّ الذين ينفقون ، وبعد ذلك لا يمنّون على أحد ولا يؤذون أحدا يكون ثوابهم محفوظا عند الله.

ويعني هذا ضرورة الابتعاد عن المنّ والأذى لا في حالة الإنفاق فحسب ، بل عليه أن لا يمنّ عليه في أوقات تالية عن طريق تذكير المنفق عليه بالإنفاق ، وهذا دليل على الدقّة المتناهية التي يبتغيها الإسلام من الخدمات الإسلامية الخالصة.

لا بدّ من القول إنّ المنّ والأذى اللذين يحبطان قبول الإنفاق لا يختصّان بالإنفاق على الفقراء فقط ، بل تجنّبهما لازم في جميع الأعمال العامّة والاجتماعية

٢٩٦

كالجهاد في سبيل الله والأعمال ذات المنفعة العامّة التي تتطلّب بذل المال.

(لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ).

تطمئن هذه الآية المنفقين أنّ أجرهم محفوظ عند الله لكي يواصلوا هذا الطريق بثقة ويقين. فما كان عند الله باق ولا ينقص منه شيء ، بل أنّ عبارة (ربّهم) قد تشير إلى أن الله تعالى سيزيد في أجرهم وثوابهم.

(وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

سبق أن قلنا إنّ الخوف يكون من المستقبل ، والحزن على ما مضى. وعليه فإنّ المنفقين بعلمهم أنّ جزاءهم محفوظ عند الله لن ينتابهم الخوف من يوم البعث الآتي ، ولا هم يحسّون بالحزن على ما أنفقوه في سبيل الله.

وذهب البعض إلى أنّه لا خوف من الفقر والحقد والبخل والغبن وأمثال ذلك ولا حزن على ما أنفقوا في سبيل الله.

وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من أسدى إلى مؤمن معروفا ثمّ آذاه بالكلام أو منّ عليه فقد أبطل صدقته»(١) فالشخص الذي ينفق في سبيل الله ولم يرتكب مثل هذه الأعمال بعد ذلك لا يخشى بطلان إنفاقه ، والمفاهيم الإسلامية تؤكّد دقّة الشريعة المقدّسة في هذا المجال بحيث أنّ بعض العلماء الأقدمون قالوا : (إنّك إذا تصدّقت على شخص وتعلم أنّك إذا سلّمت عليه سيصعب عليه ذلك فيتذكر صدقتك عليه فلا تسلّم عليه) (٢).

* * *

__________________

(١) تفسير البرهان : ج ١ ص ٢٥٣ ح ١.

(٢) تفسير أبو الفتوح الرازي : ج ٢ ص ٣٦٤.

٢٩٧

الآية

(قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (٢٦٣))

التّفسير

الكلمة الطيبة أفضل من الصدقة مع المنّة :

هذه الآية تكمّل ما بحثته الآية السابقة في مجال ترك المنّة والأذى عند الإنفاق والتصدّق فتقول : إنّ الكلمة الطيّبة للسائلين والمحتاجين والصفح عن أذاهم أفضل من الصدقة التي يتبعها الأذى (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً).

ويجب أن يكون معلوما أنّ ما تنفقوه في سبيل الله فهو في الواقع ذخيرة لكم لإنقاذكم ونجاتكم لأنّ الله تعالى غير محتاج إليكم وإلى أموالكم وحليم في مقابل جهالاتكم (وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ).

* * *

بحوث

١ ـ تبيّن هذه الآية منطق الإسلام في قيمة الأشخاص الاجتماعيّة وكرامتهم ،

٢٩٨

وترى أن أعمال الذين يسعون في حفظ رؤوس الأموال الإنسانية ، ويعاملون المحتاجين باللطف ويقدّمون لهم التوجيه اللازم ، ولا يفشون أسرارهم ، أفضل وأرفع من إنفاق أولئك الأنانيّين ذوي النظرة الضيّقة الذين إذا قدّموا عونا صغيرا يتبعونه تجريح الناس المحترمين وتحطيم شخصيّاتهم. في الحقيقة إنّ أمثال هؤلاء الأشخاص ضررهم أكثر من نفعهم ، فهم إذا أعطوا ثروة عرضوا ثروات للإبادة والضياع.

يتّضح ممّا قلناه إنّ لتعبير (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ) مفهوما واسعا يشمل كلّ أنواع القول الطيّب والتسلية والتعزية والإرشاد.

وذهب بعضهم إلى أن المراد هو الأمر بالمعروف (١) ولكن هذا المعنى لا يتناسب مع الآية ظاهرا.

«المغفرة» بمعنى العفو بإزاء خشونة المحتاجين ، أولئك الذين طفح كيل صبرهم بسبب تراكم الابتلاءات عليهم ، فتزلّ ألسنتهم أحيانا بالخشن من القول ممّا لا يودونه قلبيا. هؤلاء بعنفهم هذا إنّما يريدون أن ينتقموا من المجتمع الذي ظلمهم وغمط حقوقهم ، فأقلّ ما يمكن للاشخاص الأثرياء في مقابل حرمان هؤلاء المحرومين هو أن يتحمّلوا منهم اندفاعاتهم اللفظية التي هي شرر النار التي تستعر في قلوبهم فتنطلق على ألسنتهم.

لا شكّ أنّ تحمّل عنفهم وخشونتهم والعفو عنها يخفّف عنهم ضغط عقدهم النفسية،وبهذا تتّضح أكثر أهميّة هذه الأوامر الإلهيّة.

يرى بعض أنّ «المغفرة» يقصد بها هنا المعنى الأصلي ، وهو الستر والإخفاء.

أي ستر أسرار المحتاجين الذين لهم كرامتهم مثل غيرهم. غير أنّ هذا التفسير لا يتعارض مع ما قلناه ، لأنّنا إذا فسّرنا المغفرة بمعناها الأوسع فهي تشمل العفو كما تشمل الستر والإخفاء أيضا.

جاء في تفسير «مجمع البيان» عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إذا سأل السائل

__________________

(١) ذكره في تفسير «البحر المحيط» : ج ٢ ص ٣٠٧ بعنوان : قيل.

٢٩٩

فلا تقطعوا عليه مسألته حتّى يفرغ منها ، ثمّ ردّوا عليه بوقار ولين إمّا ببذل يسير أو ردّ جميل، فإنّه قد يأتيكم من ليس بإنس ولا جان ينظرونكم كيف صنيعكم فيما خوّلكم الله تعالى»(١).

في هذا الحديث يبيّن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جانبا من آداب الإنفاق.

٢ ـ إن العبارات القصيرة التي تأتي في ختام الآيات عادة وتورد بعض صفات الله تعالى ترتبط حتما بمضمون الآية نفسها. وعلى هذا فمن الممكن أن يكون المقصود من (وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) هو : أنّ الإنسان ظالم بالطبع ، ولذلك فإنّه إذا نال منصبا وحصل ثروة حسب نفسه غنيا ولم يعد بحاجة إلى الآخرين ، وقد تحدو به هذه الحالة إلى استعمال الخشونة والتهجّم ضدّ المحرومين والمحتاجين. لذلك يقول القرآن إنّ الغنيّ بذاته هو الله ، فالله هو وحده الغنيّ الذي لا يحتاج شيئا ، أمّا إحساس البشر بأنّه غنيّ فسراب خادع لا ينبغي أن يؤدي إلى الطغيان والتعالي على الفقراء. ثمّ إنّ الله حليم بالنسبة للذين لا يشكرون ، فعلى المؤمنين أن يكونوا كذلك أيضا.

وقد تكون الآية إشارة إلى أنّ الله غنيّ عن إنفاقكم. وأنّ ما تنفقونه إنّما هو لخيركم أنفسكم ، فلا تمنّوا على أحد. ثمّ إنّ الله حليم باتجاه خشونتكم ولا يتعجّل معاقبتكم لعلّكم تستيقظون وتصلحون أنفسكم.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٣٧٥ ، نور الثقلين : ج ١ ص ٢٨٣.

٣٠٠