الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

ناسخة ولا منسوخة ، لأن منع المسلمين من قتال الكفّار كان في زمن لم يكن للمسلمين القوّة الكافية ، ومع تغيّر الظروف صدر الأمر لهم بالدفاع عن أنفسهم ، وكذلك قتال المشركين فهو في الواقع استثناء من الآية ، فعلى هذا يكون تغيير الحكم بسبب تغيير الظروف لا من قبيل النسخ ولا الاستثناء ، ولكن القرائن تدلّ على أن النسخ في الروايات وفي كلمات القدماء له مفهوم غير مفهومه في العصر الحاضر ، أي له معنى واسع يشمل هذه الموارد أيضا.

* * *

في الآية التالية الّتي تعتبر مكملّة للأمر الصادر في الآية السابقة تتحدّث هذه الآية بصراحة أكثر وتقول : إنّ هؤلاء المشركين هم الّذين أخرجوا المؤمنين من ديارهم وصبّوا عليهم ألوان الأذى والعذاب ، فيجب على المسلمين أن يقتلوهم أينما وجدوهم ، وأنّ هذا الحكم هو بمثابة دفاع عادل ومقابلة بالمثل ، لأنّهم قاتلوكم وأخرجوكم من مكّة (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ). ثمّ يضيف الله تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).

أمّا المراد من (الفتنة) ما هو؟ فهناك أبحاث عديدة بين المفسرين وأرباب اللّغة ، فهذه المفردة في الأصل من (فتن) على وزن متن ، ويقول الراغب في مفرداته أنّها تعني وضع الذهب في النار للكشف عن درجة جودته وأصالته ، وقال البعض أنّ المعنى هو وضع الذهب في النار لتطهيره من الشوائب (١) ، وقد وردت مفردة الفتنة ومشتقاتها في القرآن الكريم عشرات المرّات وبمعان مختلفة.

فتارة جاءت بمعنى الامتحان مثل (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٢).

__________________

(١) روح المعاني ، المجلد الثاني ، ص ٦٥.

(٢) العنكبوت : ٢.

٢١

وتارة وردت بمعنى المكر والخديعة في قوله تعالى (يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ)(١).

وتارة بمعنى البلاء والعذاب مثل قوله (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ)(٢).

وتارة وردت بمعنى الضّلال مثل قوله (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئاً)(٣).

وتارة بمعنى الشرك وعبادة الأوثان أو سد طريق الإيمان أمام الناس كما في الآية مورد البحث وبعض الآيات الواردة بعدها فيقول تعالى : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

ولكنّ الظاهر أنّ جميع هذه المعاني المذكورة للفتنة تعود إلى أصل واحد (كما في أغلب الألفاظ المشتركة) ، لأنه مع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ معنى الأصل هو وضع الذهب في النار لتخليصه من الشوائب فلهذا استعملت في كلّ مورد يكون فيه نوع من الشّدة ، مثل الامتحان الّذي يقترن عادة بالشّدة ويتزامن مع المشكلات ، والعذاب أيضا نوع آخر من الشّدة ، وكذلك المكر والخديعة التي تتّخذ عادة بسبب أنواع الضغوط والشدائد ، وكذلك الشرك وإيجاد المانع في طريق ايمان الناس حيث يتضمّن كلّ ذلك نوع من الشّدة والضغط.

والخلاصة أنّ عبادة الأوثان وما يتولّد منها من أنواع الفساد الفردي والاجتماعي كانت سائدة في أرض مكّة المكرّمة حيث لوّثت بذلك الحرم الإلهي الآمن ، فكان فسادها أشد من القتل فلذلك تقول هذه الآية مورد البحث مخاطب

__________________

(١) الأعراف : ٢٧.

(٢) الذاريات : ١٣ ، ١٤.

(٣) المائدة : ٤١.

٢٢

المسلمين : أنّه لا ينبغي لكم ترك قتال المشركين خوفا من سفك الدماء فإنّ عبادة الأوثان أشد من القتل.

وقد أورد بعض المفسّرين احتمالا آخر ، وهو أن يكون المراد من الفتنة هنا الفساد الاجتماعي من قبيل تبعيد المؤمنين من أوطانهم حيث تكون هذه الأمور أحيانا أشد من القتل أو سببا في قتل الأنفس والأفراد في المجتمع ، فنقرأ في الآية (٧٣) من سورة الأنفال قوله تعالى (إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ) أي إذا لم تقطعوا الرابطة مع الكفّار فسوف تقع فتنة كبيرة في الأرض وفساد عظيم.

ثمّ تشير الآية إلى مسألة اخرى في هذا الصدد فتقول : إنّ على المسلمين أن يحترموا المسجد الحرام دائما وأبدا ، ولذلك لا ينبغي قتال الكفّار عند المسجد الحرام ، إلّا أن يبدئوكم بالقتال (وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ). (فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ) لأنّهم عند ما كسروا حرمة هذا الحرم الإلهي الآمن فلا معنى للسكوت حينئذ ويجب مقابلتهم بشدّة لكي لا يسيئوا الاستفادة من قداسة الحرم واحترامه.

ولكن بما أنّ الإسلام في منهجه التربوي للناس يقرن دائما الإنذار والبشارة معا ، والثواب والعقاب كذلك ، لكي يؤثّر في المسلمين تأثيرا سليما ، فلذلك فسح المجال في الآية التالية للعودة والتوبة فقال (فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أجل فلو أنّهم تركوا الشرك وأطفؤوا نيران الفتنة والفساد فسوف يكونون من إخوانكم ، وحتّى بالنّسبة إلى الغرامة والتعوضيات الّتي تجب على سائر المجرمين بعد قيامهم للجريمة فإنّ هؤلاء المشركون معفون من ذلك ولا يشملهم هذا الحكم.

وذهب البعض إلى أنّ جملة (فَإِنِ انْتَهَوْا) بمعنى ترك الشرك والكفر (كما ذكرنا أعلاه).

٢٣

وذهب البعض إلى أنّ المعنى هو ترك الحرب والقتال في المسجد الحرام أو أطرافه.

ولكنّ الجمع بين هذين المعنيين ممكن أيضا.

الآية التالية تشير إلى هدف الجهاد في الإسلام وتقول : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ).

ثمّ تضيف : فإن ترك هؤلاء المشركون عقائدهم الباطلة وأعمالهم الفاسدة فلا تتعرّضوا لهم (فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ).

وحسب الظاهر ذكر في هذه الآية ثلاثة أهداف للجهاد وهي :

١ ـ إزالة الفتنة.

٢ ـ محو الشرك وعبادة الأوثان.

٣ ـ التصدّي للظلم والعدوان.

ويحتمل أن يكون المراد من الفتنة هو الشرك أيضا وعلى هذا يكون الهدف الأوّل والثاني واحدا ، وهناك أيضا احتمال آخر وهو أنّ المراد من الظلم هنا هو الشرك أيضا كما ورد في الآية (١٦) من سورة لقمان (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

وعلى هذا الأساس فإنّ هذه الأهداف الثلاثة تعود إلى هدف واحد وهو التصدي للشرك وعبادة الأوثان والّذي يمثّل المصدر الأساس لكلّ أنواع الفتن والمظالم والعدوان.

وذهب البعض إلى أنّ الظلم في هذه الآية بمعنى الابتداء بالحرب أو القتال في الحرم الإلهي الآمن ، ولكنّ الاحتمال الأوّل وهو أنّ المراد من الآية هو الأهداف الثلاثة المتقدّمة أقوى ، فصحيح أنّ الشرك هو أحد مصاديق الفتنة ، ولكنّ الفتنة لها مفهوم أوسع من الشرك ، وصحيح أيضا أنّ الشرك أحد مصاديق الظلم ، ولكنّ الظلم له مفهوم أوسع أيضا ، فعند ما نرى تفسيره بالشرك أحيانا فهو لبيان المصداق.

٢٤

وعلى هذا الأساس لا يكون الجهاد في الإسلام لغرض التسلّط على البلدان والفتوحات ، وليس لغرض تحصيل الغنائم ، ولا بهدف تملّك الأسواق للتّجارة أو السيطرة على ثروات ومعادن البلدان الاخرى ، أو من أجل غلبة العنصر القومي على آخر.

فالهدف هو أحد الثلاثة المتقدّمة : إزالة الفتن والفوضى الّتي تؤدّي إلى سلب حريّة الناس وأمنهم ، وكذلك محو آثار الشرك وعبادة الأوثان ، وأيضا التصدّي للظّالمين والمعتدين والدفاع عن المظلومين.

* * *

بحوث

١ ـ مسألة الجهاد في الإسلام

نلاحظ في الكثير من المذاهب الوضعيّة المنحرفة أنّه لا وجود للجهاد لديهم إطلاقا ، فكلّ ما فيه يدور حول محور النصائح والمواعظ الأخلاقية ، حتّى أنّ البعض عند ما يسمع بوجود مقالة الجهاد واستعمال القوّة كأحد الأركان المهمّة في التعاليم الإسلاميّة يتعجّب كثيرا على اقتران الدين بالحرب.

ولكن مع ملاحظة أنّ الحكّام الطواغيت والفراعنة وأمثالهم من النمروديّين والقارونيّين الّذين يعترضون دائما على دعوة الأنبياء الإصلاحيّة ويقفون بوجهها ولا يرضون إلّا بإزالة الدين الإلهي من الوجود يتّضح أنّ على المؤمنين والمتديّنين في الوقت الّذي يعتمدون على العقل والمنطق والأخلاق في تفاعلهم الاجتماعي مع الآخرين عليهم أن يتصدّوا لهؤلاء الظالمين والطّواغيت ويشقّوا طريقهم بالجهاد وتحطيم هذه الموانع والعوائق الّتي يقيمها حكّام الجور في طريقهم.

٢٥

وأساسا فإنّ الجهاد هو من علامات الحياة لكلّ موجود ويمثّل قانونا عامّا في عالم الأحياء ، فجميع الكائنات الحيّة أعم من الإنسان والحيوان والنبات تجاهد عوامل الفناء من أجل بقائها ، وسيأتي مزيد من التوضيح في هذا المجال في سورة النساء ذيل الآية ٩٥ و ٩٦.

وعلى كلّ حال فإنّ من افتخاراتنا نحن المسلمين أنّ ديننا يقرن المسائل الدينيّة بالحكومة ويعتمد على الجهاد كأحد أركان المنظومة العقائديّة لهذا الدين ، غاية الأمر يجب ملاحظة أهداف هذا الجهاد الإسلامي ، وهذا هو الّذي يفصل بيننا وبين الآخرين.

٢ ـ أهداف الجهاد في الإسلام

يصرّ البعض من المتغرّبين أنّ الجهاد الإسلامي منحصر في الجهاد الدفاعي ويحاولون توجيه جميع غزوات النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو الحروب الّتي حدثت بعده في هذه الدائرة ، في حين أنّه لا يوجد دليل على هذه المسألة ، ولم تكن جميع غزوات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دفاعيّة ، فمن الأفضل العودة إلى القرآن الكريم بدل هذه الاستنباطات الخاطئة لاستجلاء أهداف الجهاد من القرآن الكريم ، تلك الأهداف المنطقيّة القابلة للعرض على الصّديق والعدو.

وكما تقدّم في الآيات أعلاه أنّ الجهاد في الإسلام يتعقّب عدّة أهداف مباحة :

الف : الجهاد من أجل إطفاء الفتن

وبعبارة اخرى الجهاد الابتدائي من أجل التحرير،فنحن نعلم أنّ الله عزوجل قد أنزل على البشريّة شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم إلى السعادة والرفاه ، وأوجب على الأنبياء عليهم‌السلام أن يبلّغوا هذه الشرائع والإرشادات إلى الناس ، فلو تصوّر أحد الأفراد أو طائفة من الناس أنّ إبلاغ هذه

٢٦

الشرائع للناس سوف يعيقه عن نيل منافعه الشخصيّة وسعى لإيجاد الموانع ووضع العصي في عجلات الدعوة الإلهيّة ، فللأنبياء الحقّ في إزالة هذه الموانع بطريقة المسالمة أوّلا وإلّا فعليهم استخدام القوّة في إزالة هذه الموانع عن طريق الدّعوة لنيل الحريّة في التبليغ.

وبعبارة اخرى : أنّ الناس في جميع المجتمعات البشريّة لهم الحقّ في أن يسمعوا مقالة منادي الحقّ وهم أحرار في قبول دعوة الأنبياء ، فلو تصدّى فرد أو جماعة لسلب هذا الحقّ المشروع للناس وحرمانهم منه ومنعوا صوت الحقّ من الوصول إلى الناس ليحرّرهم من قيود الأسر والعبوديّة الفكريّة والاجتماعيّة ، فلاتباع الدين الحقّ في الاستفادة من جميع الوسائل لتهيئة هذه الحريّة ، ومن هنا كان (الجهاد الابتدائي) في الإسلام وسائر الأديان السماويّة ضروريّا.

وكذلك إذا استخدم البعض القوّة والإرهاب في حمل جماعة من المؤمنين على ترك دينهم والعودة إلى الدين السابق لهم ، فللمؤمنين الحقّ في الاستفادة من جميع الوسائل لرفع هذا الإكراه والإرهاب.

ب ـ الجهاد الدفاعي.

هل من الصحيح أن يواجه الإنسان هجوما وعدوانا عليه ولا يدافع عن نفسه؟ أو أن يقوم جيش معتدي بالهجوم على بعض الشعوب الاخرى ولا تقوم تلك الشعوب بالدفاع عن نفسها وعن بلدها بل تقف موقف المتفرّج؟

هنا نجد أنّ جميع القوانين السماويّة والبشريّة تبيح للفرد أو الجماعة الدّفاع عن النفس والاستفادة ممّا وسعهم من قوّة في هذا السبيل ، ويسمّى مثل هذا الجهاد ب (الجهاد الدفاعي) ومن ذلك غزوة الأحزاب واحد ومؤتة وتبوك وحنين ونظائرها من الحروب الإسلاميّة الّتي لها جنبة دفاعيّة.

وفي هذا الزمان نجد أنّ الكثير من أعداء الإسلام يعتدون على المسلمين

٢٧

ويشعلون نيران الحروب للسّيطرة على البلاد الإسلاميّة ونهب ثرواتها ، فكيف يبيح الإسلام السكوت أمام هذا العدوان؟

ج ـ الجهاد لحماية المظلومين

ونلاحظ فرعا آخر من فروع الجهاد في الآيات القرآنية الكريمة ، وهو الجهاد لحماية المظلومين ، فتقرأ في الآية (٧٥) من سورة النساء (وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً).

وعلى هذا الأساس فالقرآن يطلب من المسلمين الجهاد في سبيل الله وكذلك في سبيل المستضعفين المظلومين ، وأساسا إنّ هاتين الغايتين متحدتان ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار عدم وجود قيد أو شرط في الآية أعلاه نفهم من ذلك وجوب الدفاع عن جميع المظلومين والمستضعفين في كلّ نقطة من العالم القريبة منها أو البعيدة ، وفي الداخل أو الخارج.

وبعبارة أخرى : أنّ حماية المظلومين في مقابل عدوان الظّالمين هو أصل في الإسلام يجب مراعاته ، حتّى لو أدّى الأمر إلى الجهاد واستخدام القوّة ، فالإسلام لا يرضى للمسلمين الوقوف متفرّجين على ما يرد على المظلومين في العالم ، وهذا الأمر من الأوامر المهمّة في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة الّتي تحكي عن حقانيّة هذا الدّين.

د ـ الجهاد من أجل دحر الشرك وعبادة الأوثان

الإسلام يدعو البشريّة إلى اعتناق الدّين الخاتم الأكمل وهو يحترم مع ذلك حريّة العقيدة ، وبذلك يعطي أهل الكتاب الفرصة الكافية للتّفكير في أمر اعتناق الرّسالة الخاتمة ، فإن لم يقبلوا بذلك فإنّه يعاملهم معاملة الأقليّة المعاهدة (أهل الذّمة) ويتعايش معهم تعايشا سلميّا ضمن شروط خاصّة بسيطة وميسورة ، لكنّ

٢٨

الشرك والوثنيّة ليسا بدين ولا عقيدة ولا يستحقّان الاحترام ، بل هما نوع من الخرافة والحمق والانحراف ونوع من المرض الفكري والأخلاقي الّذي ينبغي أن يستأصل مهما كلّف الثمن.

كلمة حريّة العقيدة واحترام أفكار الآخرين تصدق في مواقع يكون لهذه العقيدة والأفكار على أقلّ تقدير أساس من الصحّة ، أما الانحراف والخرافة والضلال فليست بأشياء تستحق الاحترام ، ولذلك يأمر الإسلام بضرورة اقتلاع جذور الوثنيّة من المجتمع ولو كلّف ذلك خوض الحرب ، وضرورة هدم آثار الشرك والوثنيّة بالطرق السلميّة أوّلا ، فإن تعذّرت الطرق السلميّة فبالقوّة.

أجل فالإسلام يرى ضرورة تطهير الأرض من أدران الشرك والوثنيّة ويعد المسلمين بمستقبل مشرق للبشريّة في العالم تحت ظل حكومة التوحيد وزوال كلّ أنواع الشرك والوثنيّة.

وممّا تقدّم من ذكر أهداف الجهاد يتّضح أنّ الإسلام أقام الجهاد على أسس منطقيّة وعقلية ، فلم يجعله وسيلة للتّسلّط والسيطرة على البلدان الاخرى وغصب حقوق الآخرين وتحميل العقيدة واستعمار واستثمار الشعوب الاخرى ، ولكنّنا نعلم أنّ أعداء الإسلام وخاصّة القائمون على الكنيسة والمستشرقين المغرضين سعوا كثيرا لتحريف الحقائق ضد مسألة الجهاد الإسلامي ، واتّهموا الإسلام باستعمال الشدّة والقوّة والسيف من أجل تحميل الإيمان به وتهجموا كثيرا على هذا القانون الإسلامي.

والظّاهر أنّ خوفهم وهلعهم إنّما هو من تقدّم الإسلام المطرد في العالم بسبب معارفه السّاميّة وبرنامجه السّليم ، ولهذا سعوا لإعطاء الإسلام صبغة موحشة كيما يتمكنّوا من الوقوف أمام انتشار الإسلام.

٢٩

٣ ـ لماذا شرّع الجهاد في المدينة

نعلم أنّ الجهاد وجب على المسلمين في السنّة الثانية بعد الهجرة ، ولم يكن قد شرّع قبلها ، والسبب واضح فهو يعود من جهة إلى قلّة عدد المسلمين في مكّة بحيث يكون الأمر بالكفاح المسلّح في مثل هذه الحالة هو الانتحار بعينه ، ومن جهة اخرى كان العدو في مكّة قويّا جدّا ، فمكّة في الواقع كانت مركز القوى المعادية للإسلام ، ولم يكن بالإمكان حمل السّلاح فيها.

أمّا حين قدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى المدينة إزداد عدد المؤمنين واتسع نطاق الدّعوة داخل المدينة وخارجها ، وتأسّست الحكومة الإسلاميّة الصالحة ، وتهيّأت وسائل الجهاد ضدّ العدو على صعيد العدّة والعدد ، وبما أنّ المدينة المنوّرة كانت بعيدة عن مكّة استطاع المسلمون في حالة من الأمن والطمأنينة أن يبنوا وجودهم ويعدّوا أنفسهم لمواجهة العدو والدفاع عن رسالتهم.

* * *

٣٠

الآية

(الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (١٩٤))

التّفسير

احترام الأشهر الحرم والمقابلة بالمثل :

هذه الآية الشريفة تكمّل البحث الوارد في الآيات السّابقة عن الجهاد بشكل عام ، فهي في الواقع إجابة على من يتصوّر أنّه لا يمكن القتال في الأشهر الحرم ، فكيف أمر الإسلام بالقتال فيها.

ولتوضيح الأمر : كان المشركون على علم بأنّ الإسلام يحضر الحرب في الأشهر الحرم (ذي القعدة وذي الحجة ومحرم ورجب) خاصّة في حرم مكّة والمسجد الحرام ، وبعبارة اخرى أنّ الإسلام أمضى هذه السنّة التي كانت موجودة من قبل ، فكان نبي الإسلام ملتزم بهذا الحضر ، لذلك أرادوا أن يشنّوا هجوما مباغتا على المسلمين في هذه الأشهر الحرم متجاهلين حرمتها ضانّين أنّ المسلمين ممنوعون من المواجهة ، وفي هذه الحالة يستطيعون أن يحقّقوا هدفهم.

٣١

الآية الكريمة تكشف مؤامرة المشركين وتحمّل المسلمين مسئوليّة مواجهة العدوان حتّى في الأشهر الحرم فتقول الآية : (الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ) أي أنّ الأعداء لو كسروا حرمة واحترام هذه الأشهر الحرم وقاتلوكم فيها فلكم الحقّ أيضا في المقابلة بالمثل ، لأن (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ).

(حرمات) جمع «حرمة» وتعني الشيء الّذي يجب حفظه واحترامه ، وقيل للحرم:حرم لأنّه مكان محترم ولا يجوز هتكه. ويقال الأعمال الممنوعة والقبيحة حرام لهذا السبب ، ولهذا أيضا كانت بعض الأعمال محرّمة في الشهر الحرام والأرض الحرم.

وهذه العبارة (وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ) تتضمنّ جوابا رابعا لأولئك الّذين اعترضوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لإباحته الحرب في الأشهر الحرم ، أو أرض مكّة المكرّمة الحرم الإلهي الآمن ، وتعني أنّ احترام الأشهر الحرم ضروري أمام العدو الّذي يراعي حرمة هذه الأشهر ، أمّا العدو الّذي يهتك هذه الحرمة فلا تجب معه رعاية الاحترام وتجوز محاربته حتّى في هذه الأشهر ، وامر المسلمون أن يهبّوا للجهاد عند اشتعال نار الحرب كي لا تخامر أذهان المشركين فكرة انتهاك حرمة هذه الشّهور.

ثمّ تشرّع الآية حكما عامّا يشمل ما نحن فيه وتقول : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).

فالإسلام ـ وخلافا للمسيحيّة الحاليّة الّتي تقول (إذا لطمك شخص على خدّك الأيمن فأدر له الأيسر) (١) ـ لا يقول بمثل هذا الحكم المنحرف الّذي يبعث على جرأة المعتدي وتطاول الظّالم ، وحتّى المسيحيّون في هذا الزّمان لا يلتزمون مطلقا بهذا الحكم أيضا ، ويردّون على كلّ عدوان مهما كان قليلا بعد وان أشد ، وهذا أيضا مخالف لدستور الإسلام في الرّد ، فالإسلام يقول : يجب التصدّي للظّالم

__________________

(١) إنجيل متّى ـ الباب ٥ ـ الرقم ٣٩.

٣٢

والمعتدي ، ويعطي الحقّ للمظلوم والمعتدى عليه المقابلة بالمثل ، فالاستسلام في منطق الإسلام يعني الموت ، والمقاومة والتصدّي هي الحياة.

والجدير بالذكر أنّ مفهوم الآية يشمل دائرة وسيعة ولا ينحصر بمسألة القصاص في مقابل القتل أو الجنايات الاخرى ، بل يشمل حتّى الأمور الماليّة القصاص في مقابل القتل أو الجنايات الأخرى ، بل يشمل حتّى الأمور الماليّة وسائر الحقوق الاخرى.

وهذا طبعا لا يتعارض مع مسألة العفو والصفح عن الإخوان والأصدقاء النادمين.

أحيانا يتصوّر بعض العوام أنّ معنى الآية هو أنّه لو قتل شخص شخصا آخر فإنّ معنى المقابلة بالمثل تبيح لأب المقتول أن يقتل ابن القاتل ، وإذا ضرب أخاه فيجوز له أن يضرب أخا الضّارب ، ولكن هذا اشتباه كبير ، لأنّ القرآن يقول (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ) لا الأفراد الأبرياء.

وأيضا لا ينبغي أن يتصوّر أنّ مفهوم الآية هو أنّه أن أقام شخص بإحراق بيت آخر فيجوز للمعتدى عليه أن يقوم بحرق بيت المعتدي ، بل مفهومه أن يؤدّي المعتدي ما يعادل قيمة البيت المحترق إلى المعتدى عليه.

وعبارة (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) تأكيد آخر على ضرورة عدم تجاوز الحدّ في الدّفاع والمقابلة ، لأنّ الإفراط في المقابلة يبعد المواجهة عن إطار التقوى.

وقوله تعالى (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) إشارة إلى أنّ الله لا يهمل المتقي في خضمّ المشكلات ، بل يعينه ويرعاه ، لأنّ من كان مع شخص آخر فمفهومه أنّه يعينه في مشكلاته ويحميه مقابل الأعداء.

* * *

٣٣

الآية

(وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٩٥))

التّفسير

الإنفاق والخلاص من المازق :

هذه الآية تكمّل ما مرّ من آيات الجهاد فكما أنّ الجهاد بحاجة إلى الرجال المخلصين والمجرّبين كذلك بحاجة إلى المال والثروة أي بحاجة إلى الاستعداد البدني والمعنوي والمعدّات الحربيّة ، صحيح أن العامل الحاسم في تقرير مصير الحرب هو الرجال بالدّرجة الاولى ، ولكنّ الجندي بحاجة إلى أدوات الحرب (أعمّ من السلاح والأدوات ووسائل النقل والغذاء والوسائل الصحيّة) فإنّه بدونها لا يمكنه أن يفعل شيئا.

من هنا أوجب الإسلام تأمين وسائل الجهاد مع الأعداء ، ومن ذلك ما ورد في الآية أعلاه حيث تأمر بصراحة (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ).

٣٤

وهذا المعنى يتأكّد خاصّة في عصر نزول هذه الآيات حيث كان المسلمون في شوق شديد إلى الجهاد كما يحدّثنا القرآن عن أولئك الّذين أتوا النبي يطلبون منه السلاح ليشاركوا في ساحة الجهاد وإذ لم يجدوا ذلك عادوا مهمومين محزونين (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ) (١).

فعبارة (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بالرّغم من أنّها واردة في ترك الإنفاق في الجهاد الإسلامي ، ولكنّ مفهومها واسع يشمل موارد اخرى كثيرة ، منها أنّ الإنسان ليس له الحقّ في اتّخاذ الطرق الخطرة للسّفر (سواء من الناحية الأمنيّة أو بسبب العوامل الجويّة أو غير ذلك) دون أن يتّخذ لنفسه الاحتياطات اللّازمة لذلك ، كما لا يجوز له تناول الغذاء الّذي يحتمل قويّا أن يكون مسموما وحتّى أن يرد ميدان القتال والجهاد دون تخطيط مدروس،ففي جميع هذه الموارد الإنسان مسئول عن نفسه في ما لو ألقى بها في الخطر بدون عذر مقبول.

وتصوّر بعض الجهلاء من أنّ كلّ ألوان الجهاد الابتدائي هو إلقاء النفس في التّهلكة وحتّى أنهم أحيانا يعتبرون قيام سيد الشهداء الإمام الحسين عليه‌السلام في كربلاء مصداق لهذه الآية ، وهذا ناشئ من الجهل المطبق وعدم درك مفهوم الآية الشريفة ، لأنّ إلقاء النفس بالتّهلكة يتعلّق بالموارد الّتي لا يكون فيها الهدف أثمن من النفس وإلّا فلا بدّ من التضحية بالنفس حفاظا على ذلك الهدف المقدّس كما صنع الإمام الحسين وجميع الشهداء في سبيل الله كذلك.

فهل يتصوّر أحد أنّ الشّخص الّذي يرى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في خطر فيحميه بنفسه ويذبّ عنه معرّضا نفسه للخطر فداء لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (كما صنع علي عليه‌السلام في حرب احد أو في ليلة المبيت) فهل يعني هذا إلقاء للنفس بالتّهلكة وإنّه صنع حراما؟ وهل

__________________

(١) التوبة : ٩٢.

٣٥

يعني ذلك أن يقف موقف المتفرّج حتّى يقتل رسول الله ويقول أنّ إلقاء النفس في التّهلكة حرام؟

والحقّ أنّ مفهوم الآية واضح والتمسّك بها في مثل هذه الموارد نوع من الجهل والحمق.

أجل ، إذا لم يكن الهدف مهمّا ولا يستحق أن يضحّي الإنسان بنفسه في سبيله ، أو أنّه يكون مهمّا ولكن بإمكانه تحقيقه بوسائل وطرق اخرى أفضل ، ففي هذه الموارد لا ينبغي إلقاء النفس في الخطر (كموارد التقيّة مثلا من هذا القبيل).

وفي آخر الآية أمر بالإحسان ويقول (أَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).

أمّا ما هو المراد بالإحسان هنا؟ فهناك عدّة احتمالات في كلمات المفسّرين ، منها:أنّ المراد هو حسن الظن بالله (فلا تظنّوا أنّ إنفاقكم هذا يؤدي إلى الاختلال في معاشكم)،والآخر هو الاقتصاد والاعتدال في مسألة الإنفاق ، واحتمال ثالث هو دمج الإنفاق مع حسن الخلق للمحتاجين بحيث يتزامن مع البشاشة وإظهار المحبّة وتجنّب أي لون من ألوان المنّة والأذى للشخص المحتاج ، ولا مانع من أن يكون المراد في مفهوم الآية جميع هذه المعاني الثلاث.

* * *

بحوث

١ ـ الإنفاق مانع عن انهيار المجتمع

هناك ارتباط معنوي بين جملة (وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) و (لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) بملاحظة أنّ عبارات الآيات القرآنية مترابطة ومتلازمة ، والظّاهر أنّ الرّابطة بين هاتين العبارتين هو أنّكم لو لم تنفقوا في سبيل الله وفي مسار الجهاد فقد ألقيتم أنفسكم في التّهلكة.

٣٦

ويمكن أن يكون الارتباط أكثر من ذلك وهو أن نقول : إنّ هذه الآية بالرّغم من أنّها وردت في ذيل آيات الجهاد ، ولكنّها تبيّن حقيقة كليّة واجتماعيّة ، وهي أنّ الإنفاق بشكل عام سبب لنزاهة المجتمع من المفاسد المدمّرة ، لأنه حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب المجتمع تنشأ طبقة محرومة بائسة ، ولا يلبث أن يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم ويتّضح من ذلك ارتباط الإنفاق بابعاد التهلكة.

ومن هنا فالإنفاق يعود بالخير على الأثرياء قبل أن يصيب خيره المحرومين ، لأنّ تعديل الثروة يصون الثروة كما قال الإمام علي عليه‌السلام (حصّنوا أموالكم بالزّكاة) (١).

وبتعبير بعض المفسّرين أنّ الامتناع من الإنفاق في سبيل الله يؤدّي إلى موت الرّوح الإنسانيّة في الفرد بسبب البخل ، وكذلك يؤدّي إلى موت المجتمع بسبب الضعف الاقتصادي وخاصّة في النظام الإسلامي المبتني على أساس الإحسان والخير (٢).

٢ ـ سوء الاستفادة من مضمون الآية

تقدّم أنّ بعض أهل الدنيا من طلّاب العافية تمسّكوا في هذه الجملة من هذه الآية (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) للفرار من الجهاد في سبيل الله حتّى أنّهم وسموا ثورة الإمام الحسين عليه‌السلام في عاشوراء الّتي كانت سبب نجاة الإسلام وبقائه إمام الأعداء كبني أميّة أنّها مصداق لهذه الآية ، وغفلوا عن أنه لو كان الأمر كما يقولون لانسدّ باب الجهاد تماما.

__________________

(١) نهج البلاغة ، الحكمة ١٤٦.

(٢) تفسير في ظلال القرآن ، ج ١ ، ص ٢٧٦.

٣٧

وأساسا هناك تباين بين مفهومي التهلكة والشّهادة ، فالتّهلكة تعني الموت بدون دليل موجّه ، في حين أنّ الشهادة تعني تضحية الفرد في سبيل هدف مقدّس ونيل الحياة الأبديّة الخالدة.

ويجب الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ نفس الإنسان ليست أثمن شيء في وجوده ، فهناك حقائق أثمن للنفس مثل الإيمان بالله والاعتقاد بالإسلام وحفظ القرآن وأهدافه المقدّسة ، بل حفظ حيثيّة وعزّة المجتمع الإسلامي ، فهذه أهداف أسمى من التّهلكة، ولم ينه عنها الشرع المقدّس إطلاقا. وقد ورد في الحديث أنّ مجموعة من المسلمين توجّهوا إلى القسطنطنيّة للجهاد ، فهجم أحد المسلمين الشجعان على جيش الرّوم وفي صفوفهم فقال الحاضرين (القى بيده إلى التّهلكة) فقال أبو أيّوب الأنصاري :

٣ ـ ما هو المنظور من الإحسان

المراد من الإحسان عادة هو الإنفاق وبذل الخير إلى الآخرين ولكن تارة يأتي بمعنى أوسع ويشمل بذلك كلّ عمل صالح بل حتّى الدوافع في العلم الصالح أيضا كما ورد في الحديث النبوي الشريف في تفسير الإحسان (أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك).

ومن البديهي أنّه لو كان إيمان الفرد بحيث كأنّه يرى الله سبحانه تعالى ويعتقد بأنّه حاضر وناظر في كلّ الأحوال فسوف يهتم بالإتيان بالأعمال الصالحة ويتجنّب كلّ ذنب ومعصية.

* * *

٣٨

الآية

(وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (١٩٦))

التّفسير

بعض أحكام الحجّ المهمّة :

لا يعلم بدقّة تاريخ نزول الآيات المتعلّقة بالحجّ في القرآن الكريم ، ولكن يرى بعض المفسّرين العظام أنّها نزلت في حجّة الوداع (١) ، في حين يرى بعضهم أنّ

__________________

(١) الميزان ، المجلد ٢ ، ص ٧٥ (ذيل الآية مورد البحث).

٣٩

جملة (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) ناظرة إلى حادثة (الحديبيّة) الواقعة في السنّة السادسة للهجرة حيث منع المسلمون من زيارة بيت الله الحرام (١).

ففي هذه الآية ذكرت أحكام كثيرة :

١ ـ في مطلع الآية تأكيدا على أنّ أعمال العمرة والحجّ ينبغي أن تكون لله وطلب مرضاته فقط (وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ) من هنا لا ينبغي أن يشوب أعمال الحجّ نيّة اخرى غير الدافع الإلهي وكذلك الإتيان بالعمل العبادي هذا كاملا وتامّا بمقتضى جملة (وَأَتِمُّوا).

٢ ـ ثمّ أنّ الآية تشير إلى الأشخاص الّذين لا يحالفهم التوفيق لأداء مناسك الحجّ والعمرة بعد لبس ثياب الإحرام بسبب المرض الشديد أو خوف العدو وأمثال ذلك ، فتقول (فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) فمثل هذا الشخص عليه أن يذبح ما تيّسر له من الهدي ويخرج بذلك من إحرامه (٢).

وعلى كلّ حال فإنّ الأشخاص الّذين منعهم مانع ولم يتمكنّوا من أداء مراسم الحجّ والعمرة فيمكنهم بالاستفادة من هذه المسألة أن يحلّوا من إحرامهم.

ونعلم أيضا أنّ الهدي يمكن أن يكون بعيرا أو بقرة أو خروفا ، وهذا الأخير أقلّ الهدي مؤنة ، ولهذا كانت جملة (فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) تشير غالبا إلى الغنم.

٣ ـ ثمّ أنّ الآية الشريفة تشير إلى أمر آخر من مناسك الحجّ فتقول : (وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ).

فهل أنّ هذا الأمر يتعلّق بالأشخاص المحصورين الممنوعين من أداء مراسم

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ، ج ١ ، ص ٢٧٧.

(٢) ذكر احتمالان في تفسير الآية ، أحدهما أن «ما» في «ما استيسر» مبتدأ ، وخبرها محذوف بتقدير «عليكم» فتكون الجملة «فعليكم ما استيسر من الهدي» والثاني أن «ما» مفعول لفعل مقدّر تقديره : «فاهدوا ما استيسر من الهدي».

٤٠