الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

أولا : إنّ الكافرين يظلمون أنفسهم ، فبتركهم الإنفاق الواجب وسائر التكاليف الدينية والإنسانية حرموا أنفسهم من أعظم السعادات ، وأنّ أعمالهم هذه هي التي تثقل كواهلهم في العالم الآخر ، لذلك فإنّ الله لم يظلمهم أبدا.

ثانيا : يظلم الكافرون أفراد مجتمعهم أيضا ، لأنّ الكفر منبع القسوة وتحجّر القلب والتمسّك بالمادة وعبادة الدنيا ، وهذه كلّها من مصادر الظلم ، لا بدّ من الإشارة هنا إلى أنّ الكفر في الآية يعني التمرّد والعصيان والتخلّف عن إطاعة أمر الله لورود الكلمة بعد الأمر بالإنفاق. واستعمال الكفر بهذا المعنى شائع في القرآن وغيره من النصوص الإسلامية.

* * *

٢٤١

الآية

(اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (٢٥٥))

آية الكرسي من أهم آيات القرآن :

يكفي لبيان أهميّة وفضيلة هذه الآية

قول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ما سأله (أبي بن كعب) : أي آية من آيات كتاب الله أفضل؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الله لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم.

قال : فضرب يده في صدري ثمّ قال : ليهنك العلم ، والذي نفس محمّد بيده إن لهذه الآية لسانا وشفتين يقدس الملك لله عن ساق العرض.

وفي حديث آخر عن عليّ عليه‌السلام عن رسول الله قال : سيّد القرآن البقرة وسيّد البقرة آية الكرسي، يا علي إنّ فيها لخمسين كلمة في كلّ كلمة خمسون بركة ،وفي حديث آخر عن الإمام الباقر عليه‌السلام قال : من قرأ آية الكرسي مرة صرف الله عنه ألف

٢٤٢

مكروه من مكاره الدنيا وألف مكروه من مكاره الآخرة أيسر مكروه الدنيا الفقر وأيسر مكروه الآخرة عذاب القبر. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : إن لكلّ شيء ذروة وذروة القرآن آية الكرسي (١).

والروايات الواردة في كتب العلماء الشيعة والسنّة في فضيلة هذه الآيات الشريفة كثيرة جدّا ونختتم كلامنا هذا بروايتين عن رسول الله قال : أعطيت آية الكرسي من كنز تحت العرض ولم يؤتها نبيّ كان قبلي(٢).

وفي حديث آخر أنّ أخوين جاء إلى رسول الله فقالا نريد الشام في التّجارة فعلمنا ما نقول؟ فقال : نعم ، إذا آويتما إلى منزل ، فصليا العشاء الآخرة ، فإذا وضع أحدكما جنبه على فراشه بعد الصلاة ، فليسبّح تسبيح فاطمة ، ثمّ ليقرأ آية الكرسي فإنه محفوظ من كلا شيء حتّى يصبح. وجاء في ذيل الحديث أن لصوصا تبعوهما وسعوا في سرقة ما معهما إلّا أنهم لم يفلحوا في ذلك (٣).

ومن المعلوم أنّ كلّ هذه الأهميّة والفضيلة لآية الكرسي إنّما هي للمحتوى العميق والمغزى المهم لها والّذي سوف نلحظه ضمن تفسيرها.

التّفسير

مجموعة من صفات الجمال والجلال :

تبدأ الآية بذكر الذّات المقدّسة ومسألة التوحيد في الأسماء الحسنى والصّفات العليا للهعزوجل فتقول : (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ).

(الله) يعني الذّات الواحدة الجامعة لصفات الكمال ، إنّه خالق عالم الوجود ،

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٢٦٠.

(٢) تفسير البرهان : ج ٢ ص ٢٤٥ ، بحار الأنوار : ج ٨٩ ص ٢٦٤ ، ج ٧ (باب فضائل سورة يذكر فيها البقرة وآية الكرسي) ولأجل الاطلاع أكثر راجع بحار الأنوار : ج ٨٩ ص ٢٦٢ ـ ٢٧٢.

(٣) بحار الأنوار : ج ٨٩ ص ٢٦٦ باب فضائل سورة البقرة ح ١١ (بتلخيص).

٢٤٣

لذا ليس في عالم الوجود معبود جدير بالعبادة غيره.

وبعبارة (لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) يبيّن القرآن وحدانية خالق الوجود التي هي أساس الإسلام، ولكن هذه الحقيقة ـ كما قلنا ـ موجودة في لفظة «الله».

لذلك فإنّ (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تأكيد لتلك الحقيقة نفسها.

«الحي» من كانت فيه حياة ، وهذه الصفة المشبّهة ، كمثيلاتها تدلّ على الدوام والاستمرار. وحياة الله حياة حقيقية ، لأنّ حياته عين ذاته ، وليس عارضة عليه مأخوذة من غيره. في الآية ٥٨ من سورة الفرقان يقول : (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ).

هذا من جهة ، ومن جهة أخرى تكون الحياة الكاملة حياة لا يعتريها الموت ، وعليه فإنّ الحياة الحقيقية هي حياته الباقية من الأزل إلى الأبد ، أمّا حياة الإنسان التي يخالطها الموت في هذه الدنيا فلا يمكن أن تكون حياة حقيقية ، لذلك نقرأ في الآية ٦٤ من سورة العنكبوت : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ). وعلى ذلك فإنّ الحياة الحقيقية هي التي تختصّ بالله.

ولكن ما مفهوم «الله حيّ»؟

في التعبير السائد نقول للكائن أنّه حيّ إذا كان يتّصف بالنموّ والتغذية والتكاثر والجذب والدفع ، وقد يتّصف بالحسّ والحركة. ولكن لا بدّ من الانتباه إلى أنّ بعضا من السذّج قد يحسبون حياة الله شبيهة بهذه ، مع علمنا بأنّه لا يتّصف بأيّة واحدة من هذه الصفات. هذا هو القياس الذي يوقع الإنسان في أخطاء في حقل معرفة الله ، حين يقيس صفات الله بصفاته.

«الحياة» بمعناها الواسع الحقيقي هي العلم والقدرة ، وعليه فإنّ من يملك العلم والقدرة اللامتناهيتين يملك الحياة الكاملة.

٢٤٤

حياة الله هي مجموعة علمه وقدرته ، وفي الواقع بالعلم والقدرة يمكن التمييز بين الحيّ وغير الحيّ. أمّا النموّ والحركة والتغذية والتكاثر فهي صفات كائنات ناقصة ومحدودة ، فهي تكمل نقصها بالتغذية والتكاثر والحركة ، أمّا الذي لا نقص فيه فلا يمكن أن يتّصف بمثل هذه الصفات.

«القيوم» صيغة مبالغة من القيام. لذلك فالكلمة تدلّ على الموجود الذي قيامه بذاته ، وقيام كلّ الكائنات بوجوده ، وبعبارة أخرى : جميع كائنات العالم تستند إليه.

بديهيّ أنّ القيام كما هو الشائع في الكلام اليومي هو الوقوف وبالهيئة المعروفة، ولكن بما أنّ هذا المعنى لا يتّفق مع الله المنزّه عن الصفات الجسمية ، لذلك فالمقصود به هو القيام بالخلق والتدبير والتعهّد ، فإنّه هو الذي خلق المخلوقات كلّها وتعهّد بتدبيرها وتربيتها وإدامتها ، ولن يغفل عنها لحظة واحدة ، فهو قائم دائما وأبدا وباستمرار دون توقّف.

ويتّضح من هذا أنّ «قيّوم» هي في الواقع أساس كلّ صفات الفعل ـ وهي الصفات التي تبيّن علاقة الله بالموجودات مثل الخالق ، الرزاق ، الهادي ، المحيي ، وأمثالها ـ.

فالقيام بالخلق وتدبير أمور العالم يشمل كلّ هذه الأمور ، فهو الذي يرزق ، وهو الذي يحيي ، وهو الذي يميت ، وهو الذي يهدي. وعليه فإنّ صفات الخالق والرازق والهادي والمحيي وأمثالها تتجمّع كلّها في «القيّوم».

ومن هنا يتّضح أن تحديد البعض لمفهوم هذه الجملة بالقيام بأمر الخلقة أو القيام بأمر الرّزق وأمثال ذلك ، هو في الواقع إشارة إلى أحد مصاديق القيام ، في حين أنّه مفهومه واسع ويشمل كلّ ذلك ، لأنّ مفهومه كما قلنا يعطي معنى القائم بالذّات وغيره متقوّم به ومحتاج له.

٢٤٥

وفي الحقيقة أنّ (الحيّ) يشمل جميع الصّفات الإلهيّة كالعلم والقدرة والسّميع والبصير وأمثال ذلك ، و (القيّوم) تتحدّث عن احتياج جميع المخلوقات إليه ، ولذا قيل أنّ الاسم الأعظم الإلهي هو مجموع هاتين الصّفتين.

ثمّ تضيف الآية (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ).

(سنة) من مادّة (وسن) وتعني كما يقول كثير من المفسّرين أنّها الإغفاءة والاستخراء الّذي يكون في بداية النوم ، وبعبارة اخرى أنّه النّوم الخفيف ، و (نوم) يعني الحالة الّتي تركد فيها بعض حواس الإنسان المهمّة ، وفي الواقع أنّ (سنة) عبارة عن النوم العارض للعين ، ولكن عند ما يتوغّل كثيرا في الإنسان ويتعمّق ويعرض على العقل فيقال له (نوم) وجملة (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) هي في الواقع تأكيد لصفة القيّوم التي يوصف بها الله ، لأنّ القيام الكامل والمطلق بتدبير عالم الوجود يتطلّب عدم إغفال ذلك حتّى للحظة واحدة. أي إنّ الله لا يغفل طرفة عين عن حكمه المطلق على عالم الوجود وإدارته.

لذلك فكلّ صفة لا تتفق مع قيّومية الله تنتفي من ساحة قدس الله تلقائيا ، بل انّ ذاته منزّهة حتّى عن أتفه عامل يمكن أن يؤدّي إلى أيّ تهاون في عمله ، مثل «السنّة».

أمّا سبب تقديم «السنة» على «النوم» في الآية مع أنّ القويّ يذكر عادة قبل الضعيف ، فيعود إلى التتالي الطبيعي في عملية النوم ، إذ تنتاب المرء «السنة» أوّلا ثمّ تزداد عمقا حتّى تورده في النوم العميق.

وتشير هذه الآية إلى حقيقة استمرار فيض اللطف الإلهي وديمومته وعدم انقطاعه عن وجوده لحظة واحدة ، فهو ليس كعبادة الذين يغفلون عن الآخرين بسبب النوم أو أيّ عامل آخر.

يلاحظ أنّ تعبير (لا تَأْخُذُهُ) تعبير رائع يؤدّي الغرض بدقّة ، وهو يصوّر

٢٤٦

استيلاء النوم على الإنسان تصويرا مجسّدا ، وكأنّ النوم كائن قويّ ذو مخالب تمسك بالإنسان بقوّة وتأسره ، إنّ ضعف أقوى الناس أمام سلطان النوم أمر لا اختلاف فيه.

مالكية الله المطلقة

(لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ).

لا يكون هناك قيام بشؤون العالم بغير ملكية السماوات والأرض وما فيها ، لذلك فهذه الآية ـ بعد ذكر قيّومية الله ـ تشير إلى حقيقة كون العالم كلّه ملك خاصّ لله ، وأنّ كلّ تصرّف يحدث فيه فبأمر منه.

وعليه ، فإنّ الإنسان ليس المالك الحقيقي لما عنده ولما يقع تحت تصرّفه ، بل أنّه يتصرّف فيه لمدّة محدودة ووفق شروط معيّنة قرّرها المالك الحقيقي ، لذلك فعلى هؤلاء المالكين المؤقّتين أن يلتزموا تمام الالتزام بالشروط التي وصفها المالك الحقيقي ، وإلّا فإنّ مالكيّتهم المؤقّتة هذه تصبح باطلة وتصرّفهم غير جائز.

الشروط المطلوبة للتصرّف بملك الله هي التي وردت في الشرع وأبغت للناس.

من الواضح أنّ التقيّد بهذا يعتبر في الواقع عاملا مهمّا من عوامل التربية ، إذا اعتقد الإنسان أنّه ليس المالك الحقيقي لما يملك وإنما هو يتصرّف به لفترة قصيرة من الزمن،فسيمتنع ـ دون شكّ ـ عن الاعتداء على حقوق الآخرين وعن الحرص والطمع والاحتكار والبخل وأمثالها ممّا يتولّد في الإنسان نتيجة التصاقه بالدنيا ، فيكون ذلك مدعاة لتربيته تربية تجعله قانعا بحقوقه المشروعة (١).

(مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) وهذا في الواقع ردّ على ادّعاء المشركين

__________________

(١) شرحنا معنى الأحلام في سورة يوسف شرحا وافيا.

٢٤٧

الذين يقولون إننا نعبد الأوثان لتكون شفعاءنا عند الله كما ورد في الآية ٣ من سورة الزمر (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (١).

وهذه الآية من نوع الاستفهام الاستنكاري ، أي ما من أحد يتقدّم بشفاعة إليه بإذنه. هذه الآية تكمل في الواقع معنى قيّومية الله ومالكيّته المطلقة لجميع ما في عالم الوجود. أي أننا إذا رأينا أحدا يشفع عند الله ، فليس معنى ذلك أنّه يملك شيئا وأنّ له تأثيرا مستقلّا،بل أنّ مقامه في الشفاعة هبة من الله. ولمّا كانت شفاعته بإذن الله ، فإنّ هذا بذاته دليل آخر على قيّومية الله ومالكيّته.

بحث

الشفاعة ليست محسوبية :

«الشفاعة» (٢) هي العون الذي يقدّمه قويّ لضعيف لكي يساعده على اجتياز مراحل تكامله بسهولة ونجاح.

إلّا أنّ الكلمة تستعمل عادة في التوسّط لغفران الذنوب. غير أنّ مفهوم الشفاعة أوسع من ذلك وتشمل جميع العوامل والدوافع والأسباب في عالم الوجود ، على سبيل المثال التربة والماء والهواء وأشعة الشمس هي العوامل الأربعة التي تشفع لبذرة النبات وتعينها على الوصول إلى مرحلة النضج لتصبح شجرة أو نبتة متكاملة. ولو نظرنا إلى الشفاعة في الآية الكريمة بهذا المعنى الواسع أدركنا أنّ وجود العوامل والأسباب المختلفة لا يحدّد مالكيّة الله المطلقة ولا يقلّل منها ، لأنّ تأثير هذه العوامل كافّة لا يكون إلّا بإذن الله وأمره ، وهذا أيضا

__________________

(١) وردت «ما» في جملة (ما في السموات وما في الأرض) للموجودات غير العاقلة ، ومع أن الموجودات العاقلة أيضا مملوكة لله سبحانه جاءت «ما» للتغليب لأن الغلبة الأكثرية للموجودات غير العاقلة.

(٢) تحدّثنا عن الشفاعة في المجلد الأول الآية (٤٨) من سورة البقرة بصورة مفصلة.

٢٤٨

دليل على قيّوميته ومالكيّته.

بيد أنّ بعضهم يظنّ أنّ الشفاعة في المفاهيم الدينية تشبه التوصيات والمحسوبيات والمنسوبيات ، وأنّ مفهومها العام هو السماح للإنسان أن يرتكب ما يشاء من المعاصي ، ثمّ يتوسّل بالشفاعة لغفران ذنوبه كلّها بيسر وسهولة!!

ولكن الأمر ليس كذلك ، فلا المعترضون أدركوا شيئا من منطق الدين في موضوع الشفاعة ، ولا العاصون المتجرّئون على حدود الله فهموا ذلك. فالشفاعة التي يقوم بها بعض عباد الله المقرّبين يمكن اعتبارها ـ كما قلنا ـ شفاعة تكوينية تتحقّق بوساطة عوامل طبيعية ، كما تتحقّق في بذرة النبات. وكما أنّ البذرة لا تنمو إن لم تكن فيها عوامل الحياة حتّى لو سطعت عليها الشمس وهبّت عليها الرياح وهطل عليها المطر الهتون سنوات طويلة ، كذلك شفاعة أولياء الله لغير المؤهّلين ، لن يكون لها أيّ أثر ، أو قل إنهم لا يمكن أن يشفعوا لأمثال هؤلاء.

الشفاعة تستلزم نوعا من العلاقة المعنوية بين الشفيع والمشفوع له. لذلك فإنّ على من يرجو الشفاعة أن يقيم في هذه الدنيا علائق روحية مع من يتوقّع شفاعته.

وهذه العلائق ستكون ـ في الواقع ـ وسيلة من وسائل تربية المشفوع له بحيث إنّها تقرّبه من مدرسة أفكار الشفيع وأعماله ، وهذا ما سيوصله إلى أن يكون مؤهّلا لنيل تلك الشفاعة.

وبناء على ذلك ، فالشفاعة عامل تربوي ، وليست نوعا من المحسوبية والمنسوبية ، ولا ذريعة للتنصّل عن المسؤولية.

ومن هذا يتّضح أنّ الشفاعة لا تغيّر إرادة الله بشأن العصاة المذنبين ، بل أنّ العاصي والمذنب ـ بارتباطه الروحي بشفيعه ـ يحظى بتربية تؤهّله لنيل عفو الله تعالى (١).

__________________

(١) في المجلّد الأول من هذا التفسير بحث واف تحت عنوان «القرآن والشفاعة». راجع ص ١٦٣ منه.

٢٤٩

(يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ).

بعد الإشارة إلى الشفاعة في الآية السابقة ، وإلى أنّ هذه الشفاعة لا تكون إلّا بإذن الله ، تأتي هذه الجملة لبيان سبب ذلك فتقول إنّ الله عالم بماضي الشفعاء ومستقبلهم ، وبما خفي عليهم أيضا. لذلك فهم غير قادرين على أن يبيّنوا عن المشفوع لهم أمورا جديدة تحمل الله على إعادة النظر في أمرهم بسببها وتغيير حكمه فيهم.

وذلك لأنّ الشفيع ـ في الشفاعات العادية ـ يؤثّر في المتشفّع عنده بطريقين اثنين : فهو إمّا أن يعمد إلى ذكر صفات ومؤهّلات المشفوع له التي تدعو إلى إعادة النظر في أمره. أو أن يبيّن للمتشفّع عنده العلاقة التي تربط المشفوع بالشفيع ممّا يستدعي تغيير الحكم إكراما للشفيع.

بديهيّ أنّ كلا هذين الاسلوبين يعتمدان على كون الشفيع يعلم أشياء عن المشفوع له لا يعلمها المتشفّع عنده. أمّا إذا كان المتشفّع عنده محيطا إحاطة كاملة بكلّ شيء ممّا يتعلّق بكلّ شخص ، فلا يكون لأحد أن يشفع لأحد عنده ، وذلك لأنّ المتشفّع عنده أعلم بمن يستحقّ الشفاعة فيجيز للشفيع أن يشفع له.

كلّ ذلك في صورة أن يكون ضمير (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) يعود على الشفعاء أو المشفوع لهم ، ولكن يحتمل أيضا أن يعود الضمير لجميع الموجودات العاقلة في السّموات والأرض الواردة في جملة (لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) وتعتبر تأكيدا لقدرة الله الكاملة على جميع المخلوقات وعجز الكائنات أيضا وحاجتها إليه ، لأنّ من ليس له علم بماضيه ومستقبله وغير مطّلع على غيب السّموات والأرض فإنّ قدرته محدوده جدّا،بخلاف من هو عالم ومطّلع على جميع الأشياء ، وفي جميع الأزمنة والأعصار ، في الماضي والحاضر فإنّ قدرته غير محدودة ، ولهذا السبب فكلّ عمل حتّى الشفاعة يحتاج إلى إذنه.

٢٥٠

وبهذا الترتيب يمكن الجمع بين كلا المعنيين.

أمّا المراد من جملة (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ) فإنّ للمفسّرين احتمالات متعدّدة،فبعض ذهب إلى أنّ المراد من (ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ) امور الدّنيا التي تكون أمام الإنسان وبين يديه ، وجملة (وَما خَلْفَهُمْ) يراد بها امور الآخرة التي تقع خلف الإنسان،وذهب بعض آخر إلى عكس هذا التفسير.

وبعض ثالث ذهب إلى أنّها إشارة إلى أجر الإنسان أو أعماله الخيّرة أو الشّريرة أو الأمور التي يعلمها والّتي لا يعلمها.

ولكن بمراجعة آيات القرآن الكريم يستفاد أنّ هذين التعبيرين استعملا في بعض الموارد للمكان كالآية ١٧ من سورة الأعراف حيث تحدّثت عن قول الشيطان (لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ).

وتارة تأتي بمعنى القبل والبعد الزماني كالآية ٧١ من سورة آل عمران حيث تقول (وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) فمن الواضح أنّ الآية هنا ناظرة إلى الزّمان.

أمّا في الآية التي نحن بصددها فالتعبير قد يجمع بين المكان والزمان ، أي أنّ الله يعلم ما كان في الماضي أو يكون في المستقبل وما هو أمام أنظارهم بحيث إنّهم يعلمونه ، وما هو خلفهم ومحجوب عنهم ولا يعلمون عنه شيئا ، وعلى هذا فأنّ الله محيط بكل أبعاد الزمان والمكان فكل عمل حتّى الشفاعة يجب أن تكون بإذنه.

وفي ثامن صفة مقدّسة تقول الآية (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ) (١).

هذه الفقرة أيضا توكيد لما سبق من سعة علمه اللامحدود وأنّ علم الكائنات

__________________

(١) ذهب أكثر المفسّرين إلى ان كلمة «علم» هنا بمعنى المعلوم. وهذا ما يتناسب مع معنى الآية ومن هنا تبعيضية. مجمع البيان ، تفسير الكبير ، روح البيان ، والقرطبي في ذيل الآية المبحوثة.

٢٥١

إنّما هو قبس من علمه تعالى ، فلذلك يكون علم الشفعاء محدودا بإزاء علمه تعالى ، فلا حظّ لهم من العلم إلّا بمقدار ما يريد الله تعالى لهم.

ومن هذه الفقرة من الآية يستفاد أمرين :

الأول : أنّه لا أحد يعلم شيئا بذاته ، فجميع العلوم والمعارف البشريّة إنّما هي من الله تعالى ، فهو الذي يزيح الستار عن حقائق الخلقة واسرار الطبيعة ويضع معلومات جديدة في متناول البشر فيوسّع من أفق معرفتهم.

والآخر : هو أنّ الله تعالى قد يضع بعض العلوم الغيبيّة في متناول من يشاء من عباده فيطلعهم على ما يشاء من أسرار الغيب ، وهذا رد على من يعتقد أنّ علم الغيب غير متاح للبشر ، وهو تفسير أيضا للآيات التي تنفي علم الغيب عن البشر (وسيأتي أن شاء الله مزيد من الشرح لهذا الموضوع في مكانه عند تفسير الآيات الخاصّة بالغيب كالآية ٢٦ من سورة الجن).

وجملة (لا يُحِيطُونَ) إشارة لطيفة إلى حقيقة العلم وأنّه نوع من الإحاطة.

وفي تاسع وعاشر صفة إلهيّة تقول الآية : (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما).

وفي الصفة الحادية عشر والثانية عشر تقول الآية : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

* * *

بحوث

الأوّل : المراد من العرش والكرسيّ

(الكرسي) من «كرس» بوزن إرث ، ومعناه أصل الشيء وأساسه ، كما يطلق على كلّ شيء متجمّع ومترابط ، ولهذا يطلق على المقعد الواطئ المتعارف عليه للجلوس،ويقابله «العرش» الذي يعني السقف ، أو الشيء ذا السقف ، أو الكرسي ذا

٢٥٢

القوائم المرتفعة. ولمّا كان الأستاذ أو المعلّم يجلس أحيانا على كرسي أثناء التدريس ، فقد انتقل اسم «الكرسي» ليدلّ على العلم ، وقد يستعمل رمزا للسلطة والسيطرة أو يكون كناية عن الحكومة والحكم.

في هذه الآية نقرأ عن كرسيّ الله أنّه يسع السماوات والأرض. وعليه فيمكن أن يكون للكرسيّ عدّة معان :

١ ـ منطقة نفوذ الحكم : أي أنّ حكم الله نافذ في السماوات والأرض وأنّ منطقه نفوذه تشمل كلّ مكان ، أي أنّه يشمل عالم المادّة برمّته ، بما فيه من أرض ونجوم ومجرّات وسدم.

وعلى هذا يكون «العرش» مرحلة أرفع وأعظم من عالمنا المادّي هذا ، لأنّ العرش ـ كما قلنا ـ يعني السقف أو المسقّف أو مقعدا أعلى من الكرسي. وبهذا يشمل العرش عالم الأرواح والملائكة وما وراء الطبيعة ، وهذا يكون بالطبع إذا وضع الكرسي في قبال العرش بحيث يعني الأوّل «عالم المادّة والطبيعة» ويعني الثاني «عالم ما وراء الطبيعة».

وللعرش معان أخرى كما سيأتي في تفسير الآية ٥٣ من سورة الأعراف ، خاصّة إذا لم يذكر في قبال الكرسي ، وعندئذ يمكن أن يكون بمعنى عالم الوجود كلّه.

٢ ـ منطقة نفوذ العلم : أي أنّ علم الله يحيط جميع السماوات والأرض وأنّ ما من شيء يخرج عن منطقة نفوذ علمه ، لأنّ الكرسي ـ كما قلنا ـ قد يكون كناية عن العلم. وهناك أحاديث كثيرة تعتمد هذا المعنى ، من ذلك ما رواه حفص بن غياث عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه سأله عن معنى (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) قال :هو العلم (١).

__________________

(١) نور الثقلين : ج ١ ص ٢٥٩ ح ١٠٣٩.

٢٥٣

٣ ـ شيء أوسع من السماوات والأرض كلّها بحيث إنّه يحيط بها من كلّ جانب. وعلى هذا يكون معنى الآية : كرسيّ الله يضمّ جميع السماوات والأرض ويحيط بها.

وقد نقل هذا التفسير عن الإمام علي عليه‌السلام أنّه قال : «الكرسيّ محيط بالسماوات والأرض وما بينهما وما تحت الثرى»(١).

بل يستفاد من بعض الروايات أنّ الكرسي أوسع بكثير من السماوات والأرض.

فقد جاء عن الإمام الصادق عليه‌السلام قوله : «ما السماوات والأرض عند الكرسي إلّا كحلقة خاتم في فلاة ، وما الكرسي عند العرش إلّا كحلقة في فلاة»(٢).

المعنيان الأول والثاني مفهومان ، أمّا المعنى الثالث فأمر لم يتوصّل العلم البشري بعد لمعرفته وكشف الستار عنه ، فالعالم الذي يضمّ في زاوية منه السماوات والأرض لم يثبت وجوده بالطرق العلمية حتّى الآن ، كما أنّه ليس هناك أيّ دليل على عدم وجوده ، فالعلماء يعترفون جميعا بأن اتّساع السماء والأرض يزداد بمرور الأيّام وبتقدّم وسائل المعرفة العلمية، وما من أحد يستطيع أن يزعم أنّ سعة عالم الوجود هو ما يعرفه العلم اليوم ، ولا يستبعد أن تكون هناك عوالم أخرى لا تعدّ ولا تحصى خارجة عن نطاق وسائل الأبصار عندنا اليوم.

نضيف هنا أنّ التفاسير الثلاثة المذكورة لا يتعارض بعضها مع بعض ، وأنّ عبارة (وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) يمكن أن تشير إلى حكومة الله المطلقة ونفوذ قدرته في السماوات والأرض ، كما تشير في الوقت نفسه إلى علمه النافذ ، وكذلك إلى عالم أوسع بكثير من عالمنا هذا. وهذه الآية تكمل الآيات السابقة من سعة علم الله.

__________________

(١) المصدر السابق : ص ٢٦٠ ح ١٠٤٢.

(٢) مجمع البيان : ج ١ ص ٣٦٢.

٢٥٤

بعبارة موجزة أنّ عرش حكومة الله وقدرته يهيمن على السماوات والأرض جميعا ، وأنّ كرسيّ علمه يحيط بكلّ هذه العوالم ، وما من شيء يخرج عن نطاق حكمه ونفوذ علمه.

قوله : (وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما). «يؤوده» من «أود» ـ على وزن قول ـ بمعنى الثقل والمشقة ، أي أنّ حفظ السماوات والأرض ليس فيه أيّ ثقل أو مشقّة على الله ، فهو ليس مثل مخلوقاته التي يتعبها الحفاظ على الأشياء ويوهنها ، ذلك لأنّ المخلوقات ضعيفة محدودة القدرة ، وقدرته غير محدودة ، ومن لا حدود لقدرته لا يكون للثقل والخفّة والصعب والسهل مفهوم عنده. فهذه مفاهيم تصدق عند من تكون قدراتهم محدودة.

ممّا تقدّم يتّضح أنّ الضمير في «يؤوده» يعود على الله ، ويؤكّد هذا ما سبق من آيات والآية التالية ، فضمائرها كلّها تعود على الله ، وعليه فإنّ احتمال عود هذا الضمير إلى «الكرسي» ـ باعتبار أنّ حفظ السماوات والأرض ليس ثقيلا على الكرسي ـ ضعيف جدا.

قوله : (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ). توكيد لما سبق. أي أنّ الله الذي هو أرفع وأعلى من كلّ شبيه وشريك ، ومنزّه عن كلّ نقص وعيب ، وهو العظيم اللامحدود ، لا يصعب عليه أي عمل ولا يتعبه حفظ عالم الوجود وتدبيره ، ولا يغفل عنه أبدا ، وعلمه محيط بكلّ شيء.

الثّاني : هل أنّ آية الكرسيّ هي هذه الآية فحسب؟

وقد يرد سؤال وهو : هل أنّ آيه الكرسيّ هي التي تبدأ من قوله (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) وتنتهي بقوله (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) أو أنّ الآيتين التاليتين لهذه الآية جزء من آية الكرسيّ،فعلى هذا لو ورد الأمر بقراءة آية الكرسيّ في صلاة (ليلة الدفن) مثلا

٢٥٥

فلا بدّ من قراءة الثلاث آيات هذه.

هناك قرائن تشير إلى أنّ آية الكرسيّ هي الآية المذكورة آنفا :

١ ـ إنّ جميع الروايات التي أوردت فضيلة هذه الآية وعبّرت عنها بآية الكرسي تدلّ على أنّها آية واحدة لا أكثر.

٢ ـ أنّ كلمة (الكرسيّ) وردت في الآية الاولى فقط ، فلذلك فأنّ تسميتها بآية الكرسيّ متعلّق بهذه الآية.

٣ ـ ورد في بعض الأحاديث تصريح بهذا المعنى ، فالحديث الذي ذكره الشيخ ـ في أماليه ـ

عن أمير المؤمنين عليه‌السلام حيث قال عليه‌السلام ضمن بيان فضيلة آية الكرسيّ أنّه بدأها من (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) إلى قوله (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ).

٤ ـ ذكر صاحب مجمع البيان نقلا عن مستدرك سفينة البحار أنّ (وآية الكرسيّ معروفة وهي إلى قوله وهو العليّ العظيم) (١).

٥ ـ ونقرأ في حديث عن الإمام علي بن الحسين عليهما‌السلام عن رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من قرأ أربع آيات من أول البقرة وآية الكرسي وآيتين بعدها ، وثلاث آيات من آخرها لم ير في نفسه وماله شيئا يكرهه ولا يقربه شيطان ، ولا ينسى القرآن» (٢).

ومن هذا التعبير يستفاد أيضا أنّ آية الكرسيّ آية واحدة.

٦ ـ ورد في بعض الروايات أنّ آية الكرسيّ خمسون كلمة ، وفي كلّ كلمة خمسون بركة (٣) ، وعند ما يعدّ كلمات هذه الآية إلى قوله (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) تكون خمسين كلمة.

__________________

(١) مستدرك سفينة البحار : ج ٩ ص ٩٧.

(٢) بحار الأنوار : ج ٨٩ ص ٢٦٥.

(٣) مجمع البيان : ج ١ ص ٣٦١.

٢٥٦

أجل يستفاد من بعض الروايات الأمر بقراءة هذه الثلاث آيات إلى قوله : (هُمْ فِيها خالِدُونَ) دون أن تكون معنونة بعنوان آية الكرسيّ.

وعلى كلّ حال أنّ المستفاد من القرائن أعلاه هو أنّ آية الكرسيّ آية واحدة لا أكثر.

الثّالث : الدليل على أهميّة آية الكرسيّ.

إنّ اهميّة آية الكرسيّ الكبيرة تكمن في تضمّنها لمجموعة من المعارف الإسلامية والصفات الإلهيّة أعم من صفات الذات والفعل خاصّة مسألة التوحيد في أبعادها المختلفة،وهذه الصفات البالغة إثنا عشر صفة وكلّ واحدة منها يمكن أن تكون ناظرة إلى أحد المسائل التربويّة للإنسان تستحق التأمّل والتدبّر ، وكما يقول أبو الفتوح الرازي أنّ كلّ واحدة من هذه الصفات تنفي أحد المذاهب الباطلة (وعلى هذا يمكن إصلاح وتقويم اثنا عشر فكرة باطلة وخاطئة بواسطة هذه الآية) (١).

* * *

__________________

(١) تفسير ابو الفتوح الرازي : ج ٢ ص ٣٢٧.

٢٥٧

الآية

(لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٥٦))

سبب النّزول

يقول الطبرسي في مجمع البيان في سبب نزول هذه الآية : كان لرجل من المدينة اسمه «ابو الحصين» ولدان دعاهما إلى اعتناق المسيحية بعض التجّار الذين كانوا يفدون على المدينة ، فتأثّر هذان بما سمعا واعتنقا المسيحية ، ورحلا مع أولئك التجّار إلى الشام عند عودتهم. فأزعج ذلك أبو الحصين ، وأقبل يخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بما حدث ، وطلب منه أن يعمل على الاعادة ولديه إلى الإسلام ، وسأله إن كان يجوز إجبارهما على الرجوع إلى الإسلام ، فنزلت الآية المذكورة وبيّنت أن (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ).

وجاء في تفسير المنار أنّ أبو الحصين كان يريد إكراه ولديه على الرجوع إلى أحضان الإسلام ، فجاءا مع أبيهما لعرض الأمر على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال

٢٥٨

أبو الحصين : كيف أجيز لنفسي أن أنظر إلى ولديّ يدخلان النار دون أن أفعل شيئا؟فنزلت الآية.

التّفسير

الدين ليس إجباريّا :

إنّ آية الكرسيّ في الواقع هي مجموعة من توحيد الله تعالى وصفاته الجمالية والجلالية التي تشكّل أساس الدين ، وبما أنّها قابلة للاستدلال العقلي في جميع المراحل وليست هناك حاجة للإجبار والإكراه تقول هذه الآية : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ).

(الرشد) لغويا تعني الهداية للوصول إلى الحقيقة ، بعكس (الغيّ) التي تعني الانحراف عن الحقيقة والابتعاد عن الواقع.

ولمّا كان الدين يهتّم بروح الإنسان وفكره ومبنيّ على أساس من الإيمان واليقين، فليس له إلّا طريق المنطق والاستدلال وجملة : (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ) في الواقع إشارة إلى هذا المعنى ، مضافا إلى أنّ المستفاد من شأن نزول هذه الآية وأنّ بعض الجهلاء طلبوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يقوم بتغيير عقائد الناس بالإكراه والجبر فجاءت الآية جوابا لهؤلاء وأنّ الدين ليس من الأمور التي تفرض بالإكراه والإجبار وخاصّة مع كلّ تلك الدلائل الواضحة والمعجزات البيّنة التي أوضحت طريق الحقّ من طريق الباطل ، فلا حاجة لأمثال هذه الأمور.

وهذه الآية ردّ حاسم على الذين يتهمّون الإسلام بأنّه توسّل إحيانا بالقوّة وبحدّ السيف والقدرة العسكرية في تقدّمه وانتشاره ، وعند ما نرى أنّ الإسلام لم يسوّغ التوسل بالقوّة والإكراه في حمل الوالد لولده على تغيير عقيدته الدينيّة فإنّ واجب الآخرين بهذا الشأن يكون واضحا ، إذ لو كان حمل الناس على تغيير

٢٥٩

أديانهم بالقوّة والإكراه جائزا في الإسلام ، لكان الأولى أن يجيز للأب ذلك لحمل ابنه على تغيير دينه ، في حين أنّه لم يعطه مثل هذا الحقّ.

ومن هنا يتّضح أنّ هذه الآية لا تنحصر بأهل الكتاب فقط كما ظنّ ذلك بعض المفسّرين ، وكذلك لم يمسخ حكم هذه الآية كما ذهب إلى ذلك آخرون ، بل أنّه حكم سار وعام ومطابق للمنطق والعقل.

ثمّ أنّ الآية الشريفة تقول كنتيجة لما تقدّم (فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها).

(الطاغوت) صيغة مبالغة من طغيان ، بمعنى الاعتداء وتجاوز الحدود ، ويطلق على كلّ ما يتجاوز الحدّ. لذلك فالطاغوت هو الشيطان والصنم والمعتدي والحاكم الجبّار والمتكبّر، وكلّ معبود غير الله ، وكلّ طريق لا ينتهي إلى الله. وهذه الكلمة تعني المفرد وتعني الجمع.

أمّا المقصود بالطاغوت ، فالكلام كثير بين المفسّرين. قال بعض إنّه الصنم ، وقال بعض إنّه الشيطان ، أو الكهنة ، أو السحرة ، ولكن الظاهر أنّ المقصود هو كلّ أولئك ،بل قد تكون أشمل من كلّ ذلك ، وتعني كلّ متعدّ للحدود ، وكلّ مذهب منحرف ضال.

إنّ الآية في الحقيقة تأييد للآيات السابقة التي قالت أن (لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ)،وذلك لأنّ الدين يدعو إلى الله منبع الخير والبركة وكلّ سعادة ، بينما يدعو الآخرون إلى الخراب والانحراف والفساد. على كلّ حال ، إنّ التمسّك بالإيمان بالله هو التمسّك بعروة النجاة الوثقى التي لا تنفصم.

(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

الإشارة في نهاية الآية إلى الحقيقة القائلة إنّ الكفر والإيمان ليسا من الأمور الظاهرية،لأنّ الله عالم بما يقوله الناس علانية ـ وفي الخفاء ـ وكذلك هو عالم بما

٢٦٠