الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

غير أنّ القرآن الكريم يشير إلى الجواب القاطع على هذا الاعتراض إذ يقول :(إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ).

فأفهمهم بذلك أنّ اختيار الله طالوت ملكا وقائدا لما يتمتّع به من علم وحكمة وعقل، ومن الناحية البدنيّة فهو قوي ومقتدر.

وهذا يعني أوّلا ، أنّ هذا الإختيار هو إختيار الله تعالى.

وثانيا : إنّكم على خطأ كبير في تشخيص شرائط القيادة ، لأنّ النسب الرّفيع والثروة الكبيرة ليستا امتيازين للقائد إطلاقا ، لأنّهما من الامتيازات الاعتبارية الخارجيّة ، أمّا العلم والمعرفة وكذلك القوّة الجسميّة فهما امتيازان واقعيّان ذاتيان حيث يلعبان دورا مهمّا في شخصيّة القائد.

إنّ قائد العالم يعرف طريق سعادة المجتمع ويرسم الخطط للوصول إليه بعلمه وحنكته ، وكذلك يرسم الأسلوب الصحيح في مواجهة الأعداء ، ثمّ يقوم بقوّته الجسمانيّة بتمثيل هذا المخطّط على أرض الواقع.

كلمة (بسطة) إشارة إلى اتساع وجود الإنسان في أنوار العلم والقوّة ، أي أنّ الإنسان بالعلم والحكمة والقوّة الجسميّة الكافية يزداد سعة في وجوده ، وهنا نلحظ أنّ البسطة في العلم تقدّمت على القوّة الجسميّة ، لأنّ الشرط الأوّل هو العلم والمعرفة.

ويستفاد ضمنا من هذا التعبير أنّ مقام الإمامة والقيادة من الأحكام الإلهيّة وأنّ الله تعالى هو الذي يشخّص اللّائق لها ، فلو رأى اللّياقة الكافية في أولاد الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجعل الإمامة عندهم ، ولو توفّرت عند أشخاص آخرين لجعلها فيهم ، وهذا هو ما يعتقد به علماء الشيعة ويدافعون عنه.

ثمّ تضيف الآية (وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ).

هذه الجملة يمكن أن تكون إشارة إلى شرط ثالث للقائد ، وهو توفير الله

٢٢١

تعالى الإمكانيّات وآليات القيادة ووسائل الحكم ، لأنّه من الممكن أن يكون قائدا كاملا من حيث العلم والقوّة ولكنّه محاط بظروف لا تمنحه أيّ استعداد للوصل إلى أهدافه المقدّسة، ولا شكّ أنّ قائدا مع هذه الظّروف لا يمكن أن ينتصر وينجح في قيادته ، ولذلك يقول القرآن هنا أنّ الله تعالى يمنح الحكومة الإلهيّة لمن يشاء ، أي أنّه يهيّا الظروف اللازمة لنجاحه.

الآية التالية تبيّن أنّ بنى إسرائيل لم يكونوا قد اطمأنوا كلّ الاطمئنان إلى أنّ طالوت مبعوث من الله تعالى لقيادتهم على الرّغم من أن نبيّهم صرّح ذلك لهم ، ولهذا طلبوا منه الدّليل ، فكان جوابه أنّ الدليل سيكون مجيء التابوت أو صندوق العهد إليهم (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ).

فما هو تابوت بني إسرائيل أو صندوق العهد؟ ومن الذي صنعه؟ وما هي محتوياته؟ فإنّ في تفاسيرنا وأحاديثنا ، وكذلك في العهد القديم ـ التوراة ـ كلاما كثيرا عنه. إلّا أنّ أوضحها هو ما جاءنا في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام وأقوال بعض المفسّرين من أمثال ابن عبّاس ، حيث قالوا إنّ التابوت هو الصندوق الذي وضعت فيه أمّ موسى ابنها موسى وألقته في اليمّ ، وبعد أن انتشل أتباع فرعون الصندوق من البحر وأتوا به إليه وأخرجوا موسى منه،ظلّ الصندوق في بيت فرعون ثمّ وقع بأيدي بني إسرائيل ، فكانوا يحترمونه ويتبرّكون به.

موسى عليه‌السلام وضع فيه الألواح المقدّسة ـ التي تحمل على ظهرها أحكام الله ـ ودرعه وأشياء أخرى تخصّه وأودع كلّ ذلك في أواخر عمره لدى وصيّه يوشع ابن نون.

وبهذا ازدادت أهميّة هذا الصندوق عند بني إسرائيل فكانوا يحملونه معهم كلّما نشبت حرب بينهم وبين الأعداء ، ليصعّد معنوياتهم ، لذلك قيل : إنّ بني إسرائيل كانوا أعزّة كرماء ما دام ذلك الصندوق بمحتوياته المقدّسة بينهم ، ولكن

٢٢٢

بعد هبوط التزاماتهم الدينية وغلبة الأعداء عليهم سلب منهم الصندوق. واشموئيل ـ كما تذكر الآية ـ وعدهم بإعادة الصندوق باعتباره دليلا على صدق قوله.

(فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ).

هذه الفقرة من الآية تبيّن أنّ الصندوق كما قلنا كان يحتوي على أشياء تضفي السكينة على بني إسرائيل وترفع معنوياتهم في الحوادث المختلفة (فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ).

ثمّ إنّ محتويات الصندوق كانت تضمّ آثارا ممّا خلف آل موسى وآل هارون أضيفت إلى ما كان فيه من قبل ، وممّا يجدر ذكره هو أنّ «السكينة» بمعنى الهدوء ، ويقصد بها هنا هدوء النفس والقلب.

قال لهم اشموئيل : إنّ الصندوق سوف يعود إليكم لتستعيدوا الهدوء الذي فقدتموه. وفي الحقيقة أنّ هذا الصندوق بطابعه المعنوي والتاريخيّ كان أكثر من مجرّد لواء لبني إسرائيل وشعار لهم. كان يمثّل رمز استقلالهم ووجودهم وبرؤيته كانوا يسترجعون ذكرى عظمتهم السابقة. لذلك كان الوعد بعودته بشارة عظيمة لهم.

(تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ).

كيف جاء الملائكة بصندوق العهد؟ في هذا أيضا للمفسّرين كلام كثير أوضحها قولهم : جاء في التاريخ أنّه عند ما وقع صندوق العهد بين عبدة الأصنام في فلسطين وأخذوه إلى حيث يعبدون فيه أصنامهم ، أصابتهم على أثر ذلك مصائب كثيرة ، فقال بعضهم : ما هذه المصائب إلّا بسبب هذا الصندوق ، فعزموا على إبعاده عن مدينتهم وديارهم ، ولمّا لم يرض أحد بالقيام بالمهمّة اضطّروا إلى ربط الصندوق ببقرتين وأطلقوهما في الصحراء. واتّفق هذا في الوقت الذي تمّ فيه نصب طالوت ملكا على بني إسرائيل. وأمر الله الملائكة أن يسوقوا الحيوانين نحو

٢٢٣

مدينة اشموئيل. وعند ما رأى بنو إسرائيل الصندوق بينهم ، اعتبروه إشارة من الله على اختيار طالوت ملكا عليهم.

وعليه نسب حمل الصندوق إلى الملائكة ، لأنّهم هم الذين ساقوا البقرتين إلى بني إسرائيل.

في الحقيقة أنّ للملائكة معنى واسعا في القرآن والروايات ، يشمل فضلا عن الكائنات الروحية العاقلة ، مجموعة من القوى الغامضة الموجودة في هذا العالم.

ويستفاد ممّا تقدّم أنّه بالرّغم من ثبوت مسألة القيادة الإلهيّة لطالوت بالأدلّة والمعاجز الإلهيّة ، فهناك بعض الأفراد لضعف إيمانهم لم يسلّموا إلى هذا الحقّ ، وقد ظهرت هذه الحقيقة على أعمالهم العباديّة ومن ذلك تشير الجملة الأخيرة في هذه الآية (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ).

ثمّ أنّ بني إسرائيل رضخوا لقيادة طالوت فصنع منهم جيوشا كثيرة وساروا إلى القتال ، وهنا تعرّض بني إسرائيل لاختبار عجيب ، ومن الأفضل أن نجمع تلك الأحداث ومجريات الأمور من القرآن نفسه حيث يقول : (فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) (١).

ويتّضح في هذه الموارد الامتحان الكبير الذي تعرّض له بنو إسرائيل وهو المقاومة الشديدة للعطش ، وكان هذا الامتحان ضروريّا لجيش طالوت وخاصّة مع السّوابق السيّئة لهذا الجيش في بعض الحروب السابقة ، لأنّ الانتصار يتوقّف على مقدار الانضباط وقدرة الإيمان والاستقامة في مقابل الأعداء والطّاعة لأوامر القيادة.

__________________

(١) جنود جمع جند في الأصل بمعنى الأرض الكثيرة الأحجار والمتراكمة الصخور ثمّ أطلقت على كلّ شيء متراكم وعادة تأتي بمعنى الجيش الكبير ، وعبارة «لم يطعمه» جاءت بدل كلمة لم يشربه وهي إشارة إلى أن الجنود لا ينبغي لهم أن يشربوا منه بمقدار كف واحدة بل لا يذوقونه أيضا.

٢٢٤

وطالوت الذي كان يتّجه بجنوده للجهاد ، كان لا بدّ له أن يعلم إلى أيّ مدى يمكن الاعتماد على طاعة هؤلاء الجنود ، وعلى الأخصّ أولئك الذين ارتضوه واستسلموا له على مضض متردّدين ، ولكنّهم في الباطن كانت تراودهم الشكوك بالنّسبة لإمرته ، لذلك يؤمر طالوت أمرا إلهيّا باختبارهم ، فيخبرهم أنّهم سوف يصلون عمّا قريب إلى نهر ، فعليهم أن يقاوموا عطشهم ، وألّا يشربوا إلّا قليلا ، وبذلك يستطيع أن يعرف إن كان هؤلاء الذين يريدون أن يواجهوا سيوف الأعداء البتّارة يتحمّلون سويعات من العطش أم لا.

وشرب الأكثرية كما قلنا في سرد الحكاية ، وكما جاء بايجاز في الآية.

وهكذا جرت التصفية الثانية في جيش طالوت. وكانت التصفية الأولى عند ما نادى المنادي للاستعداد للحرب وطلب الجميع بالاشتراك في الجهاد إلّا الذين كانت لهم التزامات تجارية أو عمرانية أو نظائرها.

(فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ).

تفيد هذه الآية أنّ تلك القلّة التي نجحت في الامتحان هي وحدها التي تحرّكت معه،ولكن عند ما خطر لهؤلاء القلّة أنهم مقدمون على مواجهة جيش جرّار وقوي ، ارتفعت أصواتهم بالتباكي على قلّة عددهم ، وهكذا بدأت المرحلة الثالثة في التصفية.

(قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (١).

«الفئة» أصلا من «الفيء» بمعنى الرجوع ، ويقصد بها الجماعة الملتحمة التي يرجع بعضهم إلى بعض ليعضده. تقول الآية : إنّ الذين كانوا يؤمنون بيوم القيامة

__________________

(١) «فئة» من «فيء» في الأصل بمعنى الرجوع وبما أن كلّ جماعة تتعاضد فيما بينها وتعود أحدها على الاخرى بالعون والمساعدة أطلقت كلمة «فئة».

٢٢٥

إيمانا راسخا قالوا للآخرين : ينبغي ألّا تلتفتوا إلى (الكم) بل إلى (الكيف) إذ كثيرا ما يحدث أنّ الجماعة الصغيرة المتحلّية بالإيمان والعزم والتصميم تغلب الجماعة الكبيرة بإذن الله.

ينبغي أن ننتبه إلى أنّ «يظنّون» هنا تعني يعلمون ، أي أنّهم على يقين من قيام يوم القيامة ، ولا يعني الظنّ هنا الاحتمال ، وظنّ هذه تعني اليقين في كثير من الحالات ، حتّى لو اعتبرناها بمعنى الاحتمال ، فإنّها هنا تناسب المقام أيضا ، إذ في هذه الحالة يكون المعنى أنّ مجرّد احتمال قيام يوم القيامة يكفي ، فكيف باليقين به حيث يحمل الإنسان على اتّخاذ قرار بالنسبة للأهداف الربّانية. إنّ من يحتمل النجاح في حياته ـ في الزراعة أو التجارة أو الصناعة أو السياسة ـ يمضي في مسيرته بكلّ عزم وتصميم.

أمّا لماذا يطلق على يوم القيامة يوم لقاء الله ، فذلك ما أوضحناه في الجزء الأول من هذا التفسير.

في الآية التالية يذكر القرآن الكريم موضوع المواجهة الحاسمة بين الجيشين ويقول:(وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ).

(برزوا) من مادّة (بروز) بمعنى الظّهور ، فعند ما يستعد المحارب للقتال ويتّجه إلى الميدان يقال أنّه برز للقتال ، وإذا طلب القتال من الأعداء يقال أنّه طلب مبارزا.

تقول هذه الآية أنّه عند ما وصل طالوت وجنوده إلى حيث ظهر لهم جالوت وجيشه القوي ووقفوا في صفوف أمامه رفعوا أيديهم بالدّعاء ، وطلبوا من الله العليّ القدير ثلاثة امور، الأوّل : الصّبر والاستقامة إلى آخر حد ، ولذا جاءت الجملة تقول : (أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً).

و (الإفراغ) تعني في الأصل صبّ السائل بحيث يخلو الإناء ممّا فيه تماما،

٢٢٦

ومجيء (صبر) بصيغة النكرة يؤكّد هذا المعنى بشكل أكبر.

الاعتماد على ربوبيّة الخالق جلّ وعلا بقولهم (ربّنا) وكذلك عبارة (إفراغ) مضافا إلى كلمة (على) التي تبيّن أنّ النزول من الأعلى ، وكذلك عبارة (صبرا) في صيغة النكرة كلّ هذه المفردات تدلّ على نكات عميقة لمفهوم هذا الدعاء وأنّه دعاء عميق المغزى وبعيد الأفق.

الثاني : أنّهم طلبوا من الله تعالى أن يثبّت أقدامهم (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) حتّى لا يرجّح الفرار على القرار ، والواقع أنّ الدعاء الأوّل اتّخذ سمة الطلب النفسي والباطني ، وهذا الدعاء له جنبة ظاهريّة وخارجيّة ، ومن المسلّم أنّ ثبّات القدم هو من نتائج روح الاستقامة والصبر.

الثالث : من الأمور التي طلبها جيش طالوت هو (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) وهو في الواقع الهدف الأصلي من الجهاد وينفّذ النتيجة النهائيّة للصبر والاستقامة وثبات الأقدام.

ومن المسلّم أنّ الله تعالى سوف لا يترك عبادة هؤلاء لوحدهم أمام الأعداء مع قلّة عددهم وكثرة جيش العدو ، ولذلك تقول الآية التالية : (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ).

وكان داوود في ذلك الوقت شابّا صغير السن وشجاعا في جيش طالوت. ولا تبيّن الآية كيفيّة قتل ذلك الملك الجبّار بيد داود الشاب اليافع ، ولكن كما تقدّم في شرح هذه القصّة أنّ داود كان ماهرا في قذف الحجارة بالقلّاب حيث وضع في قلّابه حجرا أو اثنين ورماه بقوّة وبمهارة نحو جالوت ، فأصاب الحجر جبهته بشدّة فصرعه في الوقت ، فتسرب الخوف إلى جميع أفراد جيشه ، فانهزموا بسرعة أمام جيش طالوت ، وكأنّ الله تعالى أراد أن يظهر قدرته في هذا المورد وأنّ الملك العظيم والجيش الجرّار لا يستطيع الوقوف أمام شاب مراهق مسلّح بسلاح ابتدائي لا قيمة له.

٢٢٧

تضيف الآية : (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) الضّمير في هاتين الجملتين يعود على داود الفاتح في هذه الحرب ، وعلى الرّغم من أنّ الآية لا تقول أنّ داود هذا هو داود النبي والد سليمان عليهما‌السلام ولكنّ جملة (وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ) تدلّ على أنّه وصل إلى مقام النبوّة ، لأنّ هذا ممّا يوصف به الأنبياء عادة ، ففي الآية ٢٠ من سورة ص نقرأ عن داود (وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) كما أنّ الأحاديث الواردة في ذيل هذه الآية تشير إلى أنّه كان داود النبي نفسه.

وهذه العبارة يمكن أن تكون إشارة إلى العلم الإداري وتدبير البلاد وصنع الدّروع ووسائل الحرب وأمثال ذلك حيث كان داود عليه‌السلام يحتاج إليها في حكومته العظيمة ، لأنّ الله تعالى لا يعطي منصبا ومقاما لأحد العباد إلّا ويؤتيه أيضا الاستعداد الكامل والقابليّة اللّازمة لذلك.

وفي ختام الآية إشارة إلى قانون كلّي فتقول : (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ).

فالله سبحانه وتعالى رحيم بالعباد ولذلك يمنع من تشرّي الفساد وسرايته إلى المجتمع البشري قاطبة.

وصحيح أنّ سنّة الله تعالى في هذه الدنيا تقوم على أصل الحريّة والإرادة والإختيار وأنّ الإنسان حرّ في اختيار طريق الخير أو الشر ، ولكن عند ما يتعرّض العالم إلى الفساد والاندثار بسبب طغيان الطواغيت ، فإنّ الله تعالى يبعث من عباده المخلصين من يقف أمام هذا الطغيان ويكسر شوكتهم ، وهذه من ألطاف الله تعالى على عباده. وشبيه هذا المعنى ورد في آية ٤٠ من سورة الحج (وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ) ....

وهذه الآيات في الحقيقة بشارة للمؤمنين الّذين يقفون في مواقع إماميّة من مواجهة الطّواغيت والجبابرة فينتظرون نصرة الله لهم.

٢٢٨

ويرد هنا سؤال ، وهو أنّ هذه الآية هل تشير إلى مسألة تنازع البقاء التي تعتبر أحد الأركان الأربعة لفرضية دارون في مسألة تكامل الأنواع؟ تقول الفرضيّة أنّ الحرب والنّزاع ضروريّ بين البشر ، وإلّا فالسّكون والفساد سيعم الجميع ، فتعود الأجيال البشريّة إلى حالتها الأولى ، فالتّنازع والصّراع الدائمي يؤدّي إلى بقاء الأقوى وزوال الضعفاء وانقراضهم،وهكذا يتمّ البقاء للأصلح بزعمهم.

الجواب :

إنّ هذا التفسير يصح فيما إذا قطعنا صله هذه الآية لما قبلها تماما ، وكذلك الآية المشابهة لها في سورة الحجّ ولكنّنا إذا أخذنا بنظر الإعتبار هذه الآيات رأيناها تدور حوّل محاربة الظّالمين والطّغاة ، فلو لا منع الله تبارك وتعالى لملؤوا الأرض ظلما وجورا ، فعلى هذا لا تكون الحرب أصلا كليّا مقدّسا في حياة البشريّة.

ثمّ أنّ ما يقال عن قانون (تنازع البقاء) المبني على المبادئ الأربعة لنظريّة دارون في (تطوّر الأنواع) ليست قانونا علميّا مسلّما ، به بل هو فرضيّة أبطلها العلماء ، وحتّى الّذين كانوا يؤيّدون نظريّة تكامل الأنواع لم يعدّ أيّا منهم يعوّل عليها ويعتبرون تطوّر الأحياء نتيجة الطفرة (١).

وإذا ما تجاوزنا عن كلّ ذلك واعتبرنا فرضيّة تنازع البقاء مبدء علميّا فإنّه يمكن أن يكون كذلك فيما يتعلّق بالحيوان دون الإنسان ، لأنّ حياة الإنسان لا يمكن أن تتطوّر وفق هذا المبدأ أبدا ، لأنّ تكامل الإنسان يتحقّق في ضوء التّعاون على البقاء لا تنازع البقاء.

ويبدو أنّ تعميم فرضيّة تنازع البقاء على عالم الإنسان انّما هو ضرب من الفكر الاستعماري الّذي يؤكّده بعض علماء الاجتماع في الدول الرأسمالية لتسويغ حروب حكوماتهم الدمويّة البغيضة وإطفاء الطّابع العلمي على سلوكياتهم

__________________

(١) لمزيد من الاطلاع راجع الكتاب «الفرضية الأخيرة في التكامل».

٢٢٩

وجعل الحرب والنزاع ناموسا طبيعيا لتطوّر المجتمعات الإنسانية وتقدّمها ، أمّا الأشخاص الّذين وقعوا دون وعي تحت تأثير أفكار هؤلاء اللّاإنسانيّة وراحوا يطبّقون هذه الآية عليها فهم بعيدون عن تعاليم القرآن ، لأنّ القرآن يقول بكلّ صراحة : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً) (١).

ومن العجب أنّ بعض المفسّرين المسلمين مثل صاحب المنار وكذلك (المرائي) في تفسيره وقعوا تحت تأثير هذه الفرضيّة إلى الحدّ الذي اعتبروها أحد السنن الإلهيّة ، ففسّروا بها الآية محلّ البحث وتصوّروا أنّ هذه الفرضيّة من إبداعات القرآن لا من ابتكارات واكتشافات دارون ، ولكن كما قلنا أنّ الآية المذكورة ليست ناظرة إلى هذه الفرضيّة ، ولا أنّ هذه الفرضيّة لها أساس علمي متين ، بل أنّ الأصل الحاكم على الروابط بين البشر هو التعاون على البقاء لا تنازع البقاء.

وآخر آية في هذا البحث تقول : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ).

تشير هذه الآية إلى القصص الكثيرة التي وردت في القرآن بشأن بني إسرائيل وأنّ كلّا منها دليلا على قدرة الله وعظمته ومنزّهة عن كلّ خرافة وأسطورة (بالحقّ) حيث نزلت على نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكانت إحدى دلائل صدق نبوّته وأقواله.

* * *

__________________

(١) البقرة : ٢٠٨.

٢٣٠

الجزء الثالث

من القرآن الكريم

من الآية ٢٥٣

من سورة البقرة

٢٣١
٢٣٢

الآية

(تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (٢٥٣))

التّفسير

دور الأنبياء في حياة البشر :

هذه الآية تشير إلى درجات الأنبياء ومراتبهم وجانبا من دورهم في حياة المجتمعات البشرية ، تقول الآية : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ).

«تلك» اسم إشارة للبعيد. والإشارة إلى البعيد ـ كما نعلم ـ تستعمل أحيانا لإضفاء الاحترام والتبجيل على مقام الشخص أو الشيء المشار إليه ، هنا أيضا أشير إلى الرسل باسم الإشارة «تلك» لتبيان مقام الأنبياء الرفيع.

واختلف المفسّرون في المقصود بالرسل هنا ، هل هم جميع الرسل والأنبياء؟

٢٣٣

أم هم الرسل الذين وردت أسماؤهم أو ذكرت حكاياتهم في ما سبق من آيات هذه السورة فقط ، مثل إبراهيم ، موسى ، عيسى ، داود ، اشموئيل؟ أم هم جميع الرسل الذين ذكرهم القرآن حتّى نزول هذه الآية؟

ولكن يبدو أنّ المقصود هم الأنبياء والمرسلون جميعا ، لأنّ كلمة «الرسل» جمع حلّي بالألف واللام الدالّتين على الاستغراق ، فتشمل الرسل كافّة.

(فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ).

يتّضح جليّا من هذه الآية أنّ الأنبياء ـ وإن كانوا من حيث النبوّة والرسالة متماثلين ـ هم من حيث المركز والمقام ليسوا متساوين لاختلاف مهمّاتهم ، وكذلك مقدار تضحياتهم كانت مختلفة أيضا.

(مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللهُ).

هذه إشارة إلى بعض فضائل الأنبياء ، وواضح أنّ المقصود بالآية موسى عليه‌السلام المعروف باسم «كليم الله» ، كما أنّ الآية ١٦٣ من سورة النساء تقول عنه (وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً).

أمّا القول بأنّ المقصود هو نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأنّ التكليم المنظور هنا هو التكليم الذي كان في ليله المعراج مع الرسول ، أو أنّ المراد هو الوحي الإلهي الذي ورد في آية ٥١ من سورة الشورى (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً) ...

حيث اطلق عليه عنوان التكلّم ، فإنّه بعيد جدّا ، لأنّ الوحي كان شاملا لجميع الأنبياء ، فلا يتلائم مع كلمة «منهم» لأنّ (من) تعبضيّة.

ثمّ تضيف الآية (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) ومع الالتفات إلّا أنّ الآية أشارت إلى التفاضل بين الأنبياء بالدّرجات والمراتب ، فيمكن أن يكون المراد في هذا التكرار إشارة إلى أنبياء معيّنين وعلى

٢٣٤

رأسهم نبيّ الإسلام الكريم لأنّ دينه آخر الأديان وأكملها ، فمن تكون رسالته الإبلاغ أكمل الأديان لا بدّ أن يكون هو نفسه أرفع المرسلين ، خاصّة وأنّ القرآن يقول فيه في الآية ٤١ من سورة النّساء (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً)(١).

والشاهد الآخر على هذا الموضوع ، وهو أنّ الآية السابقة تشير إلى فضيلة موسى عليه‌السلام، والآية التالية تبيّن فضيلة عيسى عليه‌السلام ، فالمقام يتطلّب الإشارة إلى فضيلة رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأنّ كلّ واحد من هؤلاء الأنبياء الثلاثة كان صاحب أحد الأديان الثلاثة العظيمة في العالم. فإذا كان اسم نبيّ الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد جاء بين اسميهما ، فلا عجب في ذلك ، أو ليس دينه الحدّ الوسط بين دينيهما وأنّ كلّ شيء قد جاء فيه بصورة معتدلة ومتعادلة؟ ألا يقول القرآن : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (٢)!

ومع ذلك ، فإنّ العبارات المتقدّمة في هذه الآية تدلّ على أنّ المقصود من (رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) هم بعض الأنبياء السابقين ، مثل إبراهيم إذ يقول سبحانه في الآية التالية : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ) أي لو شاء الله ما أخذت امم هؤلاء الأنبياء تتقاتل فيما بينها بعد رحيل أنبيائها.

(وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ).

أي أنّنا وهبنا عيسى عليه‌السلام براهين واضحة مثل شفاء المرضى المزمنين وإحياء الموتى والمعارف الدينيّة الساميّة.

أمّا المراد من (روح القدس) هل هو جبرئيل حامل الوحي الإلهي ، أو قوى اخرى غامضة موجودة بصورة متفاوتة لدى أولياء الله؟ تقدّم البحث مشروحا في الآية ٨٧ من سورة البقرة ، وعند ما تؤكّد هذه الآية على أنّ عيسى عليه‌السلام كان مؤيّدا

__________________

(١) النساء : ٤١.

(٢) البقرة : ١٤٣.

٢٣٥

بروح القدس فلأنّه كان يتمتّع بسهم أوفر من سائر الأنبياء من هذه الرّوح المقدّسة.

وتشير الآية كذلك إلى وضع الأمم والأقوام السالفة بعد الأنبياء والاختلافات التي جرت بينهم فتقول : (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ) فمقام الأنبياء وعظمتهم لن يمنعا من حصول الاختلافات والاقتتال والحرب بين أتباعهم لأنّها سنّة إلهيّة أن جعل الله الإنسان حرّا ولكنّه أساء الاستفادة من هذه الحريّة (وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ).

ومن الواضح أنّ هذا الاختلاف بين الناس ناشئ من اتّباع الأهواء والشّهوات وإلّا فليس هناك أيّ صراع واختلاف بين الأنبياء الإلهيّين حيث كانوا يتّبعون هدفا واحدا.

ثمّ تؤكّد الآية أنّ الله تعالى قادر على منع الاختلافات بين النّاس بالإرادة التكوينيّة وبالجبر ، ولكنّه يفعل ما يريد وفق الحكمة المنسجمة مع تكامل الإنسان ولذلك تركه مختارا (وَلَوْ شاءَ اللهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ).

ولا شكّ في أنّ بعض الناس أساء استخدام هذه الحريّة ، ولكنّ وجود الحريّة في المجموع يعتبر ضروريّا لتكامل الإنسان ، لأنّ التكامل الإجباري لا يعدّ تكاملا.

وضمنا يستفاد من هذه الآية الّتي تعرّضت إلى مسألة الجبر مرّة اخرى بطلان الإعتقاد بالجبر ، حيث تثبت أنّ الله تعالى ترك الإنسان حرّا فبعض آمن وبعض كفر.

* * *

مسألة :

هل الأديان تسبّب الاختلافات؟

يتّهم بعض الكتّاب الغربيين الأديان على أنّها هي سبب التفرقة والنزاع بين أفراد البشر، وهي السبب في إراقة الكثير من الدماء ، فالتاريخ شهد الكثير من

٢٣٦

الحروب الدينية ، وهكذا سعوا إلى إدانة الأديان واعتبارها من الأسباب المثيرة للحروب والمخاصمات.

وإزاء هذا القول لا بدّ من الانتباه إلى ما يلي :

أولا : أنّ الاختلافات ـ كما جاء في الآية المذكورة ـ لا تنشأ في الحقيقة بين الأتباع الصادقين لدين من الأديان ، بل هي بين أتباع الدين ومخالفيه. وإذا ما شاهدنا صراعا بين أتباع مختلف الأديان فإنّ ذلك لم يكن بسبب التعاليم الدينية ، بل بسبب تحريف التعاليم والأديان وبالتعصّب المقيت ومزج الأديان السماوية بالخرافات.

ثانيا : إنّ الدين ـ أو تأثيره ـ قد انحسر اليوم عن قسم من المجتمعات البشرية ، ومع ذلك نرى أنّ الحروب قد ازدادت قسوة واتساعا وانتشرت في مختلف أرجاء العالم. فهل أن الدين هو السبب ، أم أنّ روح الطغيان في مجموعة من البشر هي السبب الحقيقي لهذه الحروب ، ولكنّها تظهر اليوم بلبوس الدين ، وفي يوم آخر بلبوس المذاهب الاقتصادية والسياسية ، وفي أيّام اخرى بقوالب ومسمّيات أخرى؟! وعليه فالدين لا ذنب له في هذا ، إنّما الطغاة هم الذين يشعلون نيران الحروب بحجج متنوّعة.

ثالثا : إنّ الأديان السماوية ـ وعلى الأخصّ الإسلام ـ التي تكافح العنصرية والقومية ، كانت سببا في إلغاء الحدود العنصرية والجغرافية والقبلية ، فقضت بذلك على الحروب التي كانت تثار باسم هذه العوامل. وعليه فإن الكثير من الحروب في التاريخ قد خمدت نيرانها بفضل الدين. كما أنّ روح السلام والصداقة والأخلاق والعواطف الإنسانية التي ترفع لواءها جميع الأديان السماوية ، كان لها أثر عميق في تخفيض الخصومات والمشاكسات بين مختلف الأقوام.

رابعا : أنّ من رسالات الأديان السماوية تحرير الطبقات المحرومة المعذّبة ، وكانت هذه الرسالة هي سبب الحروب التي شنّها الأنبياء وأتباعهم على

٢٣٧

الظالمين والمستغلّين ، من أمثال فرعون والنمرود. إنّ هذه الحروب التي تعتبر جهادا في سبيل تحرير الإنسان ، ليست عيوبا تلصق بالأديان ، بل هي من مظاهر فخرها واعتزازها وقوّتها. إنّ حروب رسول الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المشركين من العرب والمرابين في مكّة من جهة ، ومع قيصر وكسرى من جهة أخرى ، كانت كلّها من هذا القبيل.

* * *

٢٣٨

الآية

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٥٤))

التّفسير

الإنفاق من أهمّ أسباب النجاة يوم القيامة :

بعد أن تحدّثت الآيات السّابقة عن الأمم الماضية وجهاد حكوماتها الإلهيّة والاختلافات الّتي حدثت بعد الأنبياء عليهم‌السلام تخاطب هذه الآية المسلمين وتشير إلى أحد الواجبات المهمّة عليهم الّتي تسبّب في تقوية بنيتهم الدّفاعيّة وتوحّد كلمتهم فتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ).

جملة (مِمَّا رَزَقْناكُمْ) لها مفهوم واسع حيث يشمل الإنفاق الواجب والمستحب،وكذلك الإنفاق المعنوي كالتعليم وأمثال ذلك ، ولكن مع الالتفات إلى التهديد الوارد في ذيل الآية لا يبعد أن يكون المراد به الإنفاق الواجب يعني الزكاة وأمثالها ، مضافا إلى أنّ الإنفاق الواجب هو الّذي يعزّز بيت المال ويقوّم كيان

٢٣٩

الحكومة ، وبهذه المناسبة يشير تعبير (ممّا) أنّ هذا الإنفاق يكون بجزء من المال الّذي يملكه الشخص لا كلّه.

وقد رجّح المرحوم (الطبرسي) في مجمع البيان شموليّة الآية للإنفاق الواجب والمستحب ، وذهب إلى أنّ ذيل الآية لا يعتبر تهديدا ، بل هو إخبار عن الحوادث المخوفة يوم القيامة (١).

ولكن مع ملاحظة آخر جملة في هذه الآية الّتي تقول إنّ الكافرين هم الظالمون يتضح أنّ ترك الإنفاق نوع من الكفر والظلم ، وهذا لا يكون إلّا في الإنفاق الواجب.

ثمّ تضيف الآية (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) (٢).

عليكم أن تنفقوا ما دمتم اليوم قادرين على ذلك ، لأنّ العالم الآخر الذي هو محلّ حصاد ما زرعتموه في الدنيا لن يتسنى لكم فيه أن تفعلوا شيئا ، فلا معاملات ولا صفقات تجارية تستطيعون بها أن تشتروا السعادة والخلاص من العقاب ، ولا هذه الصداقات الماديّة التي تكسبونها في الدنيا بأموالكم تنفعكم في شيء هناك ، لأنّ أصدقاءكم أنفسهم يعانون نتائج أعمالهم ولا يدفعون من أنفسهم للآخرين ، ولا تنفعكم شفاعة ، لأنكم بتخلّفكم حتّى عن الإنفاق الواجب لم تفعلوا ما هو جدير بأن يشفع لكم. وعليه فإنّ جميع أبواب النجاة مسدودة بوجوهكم.

(وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) لأنهم بتركهم الإنفاق والزكاة يظلمون أنفسهم ويظلمون الناس.

ويريد القرآن في هذه الآية أن يوضّح ما يلي :

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ وج ٢ ص ٣٦٠.

(٢) «خلّة» مأخوذة من مادة «خلل» بمعنى الفاصلة بين شيئين وبما أن المحبّة والصداقة تحل في وجود الإنسان وروحه وتملأ الفواصل لذا أطلقت هذه المفردة على الصداقة العميقة.

٢٤٠