الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

الجاهليّة سنة كاملة تمرّ خلالها الارملة بكثير من التقاليد والعادات الخرافيّة الشّاقة ، فجاء الإسلام وألغى تلك العادات وأبقى مدّة العدّة سنة في بداية الأمر ، ثمّ جعلها أربعة أشهر وعشرة أيّام ، كما منع المرأة فقط من الزّينة خلال هذه المدّة.

ويستفاد من كلام «الفخر الرازي» هو أن الآية أعلاه نسخت بآيات الإرث وعدّة أربعة أشهر وعشرة أيّام (١).

ولكن لو لا إجماع العلماء والروايات المتعدّدة في هذا المجال لأمكن القول بعدم وجود التعارض بين هذه الآيات ، فإنّ الحكم بأربعة أشهر وعشرة أيّام للعدّة هو حكم إلهي ، وأمّا المحافظة على العدّة لمدّة سنة كاملة والبقاء في بيت الزوج والاستفادة من النفقة فإنّه حقّ لها، أي أنّه قد اعطي الحقّ للمرأة أن تبقى في بيت زوجها المتوفّى سنة كاملة إن أرادت ذلك وتستفيد من النفقة طبقا لوصيّة زوجها في جميع هذه المدّة ، وإن رفضت ذلك ولم ترغب في البقاء ، فيجوز لها الخروج من البيت بعد أربعة أشهر وعشرة أيّام ، ويمكنها كذلك اختيار زوج آخر ، وحينئذ سوف تقطع عنها بطبيعة الحال النفقة من مال زوجها السابق.

ولكن مع ملاحظة الروايات المتعدّدة عن أهل البيت عليهم‌السلام وشهرة حكم النسخ أو اتفاق العلماء على ذلك ، فلا يمكن قبول مثل هذا التفسير رغم أنّه موافق لظواهر الآيات الشريفة.

في الآية الثانية يبيّن القرآن الكريم حكما آخر من أحكام الطّلاق ويقول:(وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) أي أنّ المتقين يجب عليهم تقديم هديّة لائقة للنساء المطلّقات.

وبالرّغم من أنّ ظاهر الآية يشمل جميع النساء المطلّقات ، ولكن بقرينة الآية ٢٣٦ السابقة نفهم أنّ هذا الحكم يختص بمورد النسوة التي لم يقرّر لهنّ مهر بعد

__________________

(١) الفخر الرازي : ج ٦ ص ١٥٨.

٢٠١

وقوع الطّلاق قبل الوطء ، وفي الحقيقة فإنّ هذه الجملة تأكيد للحكم المذكور كيلا يتعرّض للإهمال ، ويحتمل أيضا أنّ الحكم المذكور يشمل جميع النسّاء المطلّقات ، غاية الأمر أنّ المورد أعلاه من الموارد الوجوبيّة والموارد الاخرى لها جنبة استحبابيّة.

وعلى كلّ حال فإنّ هذا الحكم هو أحد الأحكام الإنسانيّة والأخلاقيّة في الإسلام والتي لها أثر إيجابي على إزالة الرسوبات المتخلّفة من عملية الطّلاق ومنع حالة العداوة والانتقام والكراهيّة الناشئة منه.

وذكر البعض أن دفع هدية لائقة للنساء المطلّقات أمر واجب وهو غير المهر ، ولكنّ الظاهر بين علماء الشيعة كما يستفاد من عبارة المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أنّه لا قائل بهذا القول (ويصرّح المرحوم صاحب الجواهر أيضا أنّ الهديّة المذكورة لا تجب إلّا في ذلك المورد الخاص وأنّ هذه المسألة إجماعيّة) (١).

وقد احتمل البعض أنّ المراد من المتاع هنا النفقة وهو احتمال بعيد جدّا.

وعلى كلّ حال أنّ هذه الهديّة وطبق الرّوايات الواردة من الأئمّة المعصومين تعطى إلى المرأة بعد تمام العدّة والإفتراق الكامل لا في عدّة الطّلاق الرّجعي ، وبعبارة أخرى أنّ هذه الهديّة ليست وسيلة للعودة ، بل للوداع النهائي (٢).

وفي آخر آية من الآيات مورد البحث والتي هي آخر آية من الآيات المتعلّقة بالطّلاق تقول : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

ومن البديهي أنّ المراد من التفكّر والتعقّل هو ما يتعقّبه التحرّك نحو العمل ، وإلّا فإنّ التفكّر والتعقّل لوحده في الأحكام والآيات لا يثمر نتيجة ، ويتبيّن من دراسة الآيات والأحاديث الإسلاميّة أن لفظة «العقل» تستعمل غالبا عند إيراد

__________________

(١) جواهر الكلام : ج ٣١ ص ٥٨.

(٢) نور الثقلين : ج ١ ص ٢٤٠ ح ٩٥٦ و ٩٥٧.

٢٠٢

التعبير عن امتزاج الإدراك والفهم مع العواطف والأحاسيس ثمّ يستتبع ذلك العمل. فعند ما يتحدّث القرآن في مواضع كثيرة عن معرفة الله مثلا يشير إلى نماذج من نظام هذا الكون العجيب ، ثمّ يقول إننا نبين هذه الآيات (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

وهذا لا يعني أنّ القصد هو ملء الأدمغة ببعض المعلومات عن نظام الطبيعة ، إذ أنّ العلوم الطبيعية إذا لم تبعث في القلب والعواطف حركة نحو معرفة الله وحبّه والانشداد به فلا ارتباط لها بقضايا التوحيد. وهكذا المعارف العلمية لا تكون تعقّلا إلّا إذا اقترنت بالعمل.

صاحب تفسير الميزان (١) يؤيّد هذا الاتجاه في فهم معنى التعقّل ، ويرى أنّه الذي يدفع الإنسان بعد الفهم والإدراك إلى مرحلة العمل ، والدليل على ذلك قوله تعالى : (لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ) (٢).

وقوله سبحانه (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) (٣) فالتعقّل الذي يتحدّث عنه المجرمون يوم القيامة هو ذلك الذي يرافقه العمل ، وهكذا التعقّل الناتج عن السير في الأرض والتفكير في خلق الله إنّما هو المعرفة التي تحمل الإنسان على تغيّر مسير حياته والاتجاه إلى الصراط المستقيم.

وبعبارة اخرى أنّ التفكّر والتعقّل والتدبّر إذا كان متعمّقا ومتجذّرا في روح الإنسان فلا يمكن أن يكون عديم الآثار في دائرة الواقع العملي ، فكيف يمكن أن يقطع الإنسان ويعتقد جازما بمسموميّة الغذاء ثمّ يتناوله؟! أو يعتقد جزما بتأثير الدّواء الفلاني على معالجة أحد الأمراض الخطرة التي يعاني منها ثمّ لا يتناوله!!

* * *

__________________

(١) الميزان : ج ٢ ص ٢٥٠ ـ ٢٤٩.

(٢) الملك : ١٠.

(٣) الحج : ٤٦.

٢٠٣

الآية

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٢٤٣))

سبب النّزول

انتشر مرض الطاعون في إحدى مدن الشام وأخذ يحصد الناس بسرعة عجيبة ، فهجر المدينة جمع من الناس أملا في النجاة من مخالب الموت. وإذ نجوا من الموت فعلا بهروبهم من ذلك الجو المبوء ، شعروا في أنفسهم بشيء من القدرة والاستقلالية ، وحسبوا أنّ نجاتهم مدينة لعوامل طبيعية غافلين عن إرادة الله ومشيئته ، فأماتهم الله في تلك الصحراء بالمرض نفسه.

قيل : إنّ نزول المرض بأهل هذه المدينة كان عقابا لهم ، لأنّ زعيمهم وقائدهم طلب منهم أن يستعدّوا للحرب وأن يخرجوا من المدينة. ولكنّهم رفضوا الخروج للحرب بحجّة أنّ مرض الطاعون متفشّي في ميادينها ، فابتلاهم الله بما كانوا يخشونه ويفرّون منه ، فانتشر بينهم مرض الطاعون ، فهجروا بيوتهم وهربوا من

٢٠٤

المرض إلى خارج المدينة حيث انشب المرض مخالبه فيهم وماتوا. ومضى زمان على هذا حتّى مرّ يوما «حزقيل» (١) أحد أنبياء بني إسرائيل بذلك المكان ودعا الله أن يحييهم، فاستجاب الله دعاءه وأحياهم.

التّفسير

كيف ماتوا وكيف عادوا إلى الحياة؟!

هذه الآية كما مرّ في سبب نزولها تشير إشارة عابرة ولكنّها معبّرة إلى قصّة أحد الأقوام السّالفة التي انتشر بين أفرادها مرض خطير وموحش بحيث هرب الآلاف منهم من ذلك المكان فتقول الآية : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ).

من الأساليب الشايعة في الأدب العربي استعمال تعبير ألم تر فيما يطلب الفات النظر إليه ، وبالرّغم من أنّ المخاطب هو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولكنّ الكلام موجّه بطبيعة الحال إلى جميع الناس.

ورغم أنّ الآية أعلاه لا تشير إلى عدد خاص واكتفت بكلمة (أُلُوفٌ) ولكنّ الوارد في الروايات أنّ عددهم كان عشرة آلاف ، وذكرت روايات اخرى أنّهم كانوا سبعين ألف أو ثمانين ألف (٢).

ثمّ أنّ الآية أشارت إلى عاقبتهم فقالت : (فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ) لتكون قصّة موتهم وحياتهم مرّة اخرى عبرة للآخرين. ومن الواضح أنّ المراد من (مُوتُوا) ليس هو الأمر اللفظي بل هو أمر الله التكويني الحاكم على كلّ حيّ في

__________________

(١) في بعض الروايات أنّ حزقيل هو النبيّ الثالث بعد موسى عليه‌السلام في بني إسرائيل.

(٢) راجع التفاسير : مجمع البيان ، القرطبي ، روح البيان ، في ذيل الآية المبحوثة.

٢٠٥

عالم الوجود ، أي أنّ الله تعالى أوجد أسباب هلاكهم فماتوا جميعا في وقت قصير ، وهذه أشبه بالأمر الذي أورد في الآية ٨٢ من سورة يس (إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (١).

وجملة (ثُمَّ أَحْياهُمْ) إشارة إلى عودتهم إلى الحياة بعد موتهم استجابة لدعاء (حزقيل النبي) كما ذكرنا في سبب نزول الآية ، ولمّا كانت عودتهم إلى الحياة مرّة اخرى من النعم الإلهيّة البيّنة (نعمة لهم ونعمة لبقيّة الناس للعبرة) ففي ختام الآية تقول (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) فليست نعمة الله وألطافه وعنايته تنحصر بهؤلاء، بل لجميع الناس.

* * *

بحوث

هنا ينبغي أن نشير إلى بعض النقاط :

١ ـ هل هذه الحادثة التاريخيّة حقيقيّة ، أم مجرّد تمثيل؟

هذه الحكاية التي ذكرناها ، أهي حدث تاريخي واقعي أشار إليه القرآن إشارة عابرة، ثمّ شرحته الروايات والأحاديث ، أم أنّها أقصوصة لتجسيد الحقائق العقلية وبيانها بلغة حسّية؟

لمّا كان لهذه الحكاية جوانب غير عادية بحيث صعب هضمها على بعض المفسّرين،فإنّهم أنكروا كونها حقيقة واقعة ، وقالوا إنّ ما جاء في الآية إنّما هو من باب ضرب المثل بقوم يضعفون عن الجهاد ضدّ العدوّ فيهزمون ثمّ يعتبرون بما جرى فيستيقظون ويستأنفون الجهاد ومحاربة العدوّ وينتصرون.

وبموجب هذا التفسير يكون معنى «موتوا» الهزيمة في الحرب بسبب الضعف

__________________

(١) يس : ٨٢.

٢٠٦

والتهاون. و «أحياهم» إشارة إلى الوعي واليقظة ومن ثمّ النصر.

هذا التفسير يرى أنّ الروايات التي تعتبر هذه الحادثة واقعة تاريخية روايات مجعولة وإسرائيلية.

وعلى الرغم من أن مسألة «الهزيمة» بعد التهاون و «الانتصار» بعد اليقظة مسألة هامّة ورائعة ، ولكن لا يمكن إنكار كون ظاهر الآية يدلّ على بيان حادثة تاريخية بعينها ، وليست تمثيلا.

إنّ الآية تتحدّث عن قوم من الماضين ماتوا على أثر هروبهم من حدث مروّع ثمّأحياهم الله. فإذا كانت غرابة الحادثة وبعدها عن المألوف هو السبب في تأويلها ذاك التأويل ، فهذا إذا ما ينبغي أن نفعله بشأن جميع معاجز الأنبياء.

ولو أنّ أمثال هذه التأويلات والتوجيهات وجدت طريقها إلى القرآن لأمكن إنكار معاجز الأنبياء ، فضلا عن إنكار معظم قصص القرآن التاريخية واعتبارها من قبيل القصص الرمزي التمثيلي ، كأن نعتبر قصّة هابيل وقابيل قصّة موضوعة لتمثّل الصراع بين العدالة وطلب الحقّ من جهة ، والقسوة والظلم من جهة اخرى ، وبهذا تفقد قصص القرآن قيمتها التاريخية.

وفضلا عن ذلك فإننا لا نستطيع أن نتجاهل الروايات الواردة في تفسير هذه الآية،لأنّ بعضها قد ورد في الكتب الموثوق بها ولا يمكن أن تكون من الإسرائيليات المجعولة.

٢ ـ درس للعبرة

هدف الآية في الواقع كما ورد في سبب النزول هو إشارة إلى جماعة من بني إسرائيل الّذين كانوا يتذرّعون تهرّبا من الجهاد بمختلف المعاذير ، فابتلاهم الله بمرض الطّاعون حيث فتك بهم سريعا وأفناهم وأبادهم إلى درجة أنّه لا يستطيع

٢٠٧

أي عدوّ شرس أن يصنع ذلك في ميدان القتال ، فبهذا تقول الآية لهم أنّه لا تتصوّروا أنّ التهرّب من المسؤوليّة والتوسّل بالأعذار الواهية يجعلكم في مأمن من الخطر ، فأنتم أعجز من أن تقفوا أمام قدرة الله تعالى ، فإنّه تعالى قادر على أن يبتليكم بعدوّ صغير لا يرى بالعين وهو مكروب الطّاعون أو الوباء وأمثال ذلك فيختطف أرواحكم فيذركم كعصف مأكول.

٣ ـ مسألة الرّجعة

النقطة الاخرى التي لا بدّ من الالتفات إليها هنا هي مسألة إمكان الرّجعة التي تستفاد من الآية بوضوح.

وتوضيح ذلك : أنّ التاريخ يحدّثنا عن بعض الأقوام من السالفين ماتوا ثمّ أعيدوا إلى هذه الدنيا ، كما في حادثة طائفة من بني إسرائيل الّذين توجّهوا مع النبي موسى عليه‌السلام إلى جبل طور الواردة في آية ٥٥ و ٥٦ من سورة البقرة وقصّة «عزير» أو إرميا الواردة في الآية ٢٥٩ من هذه السورة ، وكذلك الحادثة المذكورة في هذه الآية مورد البحث.

فلا مانع أن تتكرّر هذه الحادثة مرّة اخرى في المستقبل.

العالم الشيعي المعروف بـ «الصدوق» رحمه‌الله استدلّ بهذه الآية على القول بالرّجعة وقال : (إنّ من معتقداتنا الرّجعة) أي رجوع طائفة من الناس الّذين ماتوا في الأزمنة الغابرة إلى هذه الدّنيا مرّة اخرى ، ويمكن كذلك أن تكون هذه الآية دليلا على المعاد وإحياء الموتى يوم القيامة.

* * *

٢٠٨

الآيتان

(وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٤٤) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٤٥))

سبب النّزول

قيل في سبب نزول الآية الثانية أنّ رسول الله قال : من تصدّق بصدقة فله مثلاها في الجنّة. سوف ينال ضعفه في الجنّة فقال (أبو الدحداح الأنصاري) : يا رسول الله إنّ لي حديقتين إن تصدقت بأحدهما فإن لي مثليها في الجنّة ، قال : نعم. قال : وام الدحداح معي، قال : نعم. قال : والصبية معي. قال : نعم. فتصدّق بأفضل حديقتيه فدفعها إلى رسول الله. فنزلت الآية فضاعف الله له صدقته الفي الف وذلك قوله أضعاف كثيرة.

فرجع أبو الدحداح فوجد أم الدحداح والصبية في الحديقة التي جعلها صدقة ، فقام على باب الحديقة وتحرج أن يدخلها فنادى يا أمّ الدحداح ، قالت : لبيك يا أبا الدحداح،قال : إني قد جعلت حديقتي هذه صدقة واشتريت مثليها في

٢٠٩

الجنّة وام الدحداح معي والصبية معي. قالت : بارك الله لك فيما شريت وفيما اشتريت،فخرجوا منها واسلموا الحديقة إلى النبي فقال النبي : كم نخلة متدلّ عذوقها لأبي الدحداح في الجنة (١).

التّفسير

الجهاد بالنّفس والمال :

هذه الآيات تشرع في حديثها عن الجهاد وتعقّب بذكر قصّة في هذا الصدّد عن الأقوام السّالفة ، مع الالتفات إلى الأحداث التي مرّت على جماعة من بني إسرائيل الّذين تهرّبوا من الجهاد بحجّة الإصابة بمرض الطّاعون وأخيرا ماتوا بهذا المرض ، يتّضح الارتباط بين هذه الآيات والآيات السّابقة.

في البداية تقول الآية (وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يسمع أحاديثكم ويعلم نياتكم ودوافعكم النفسية في الجهاد.

ثمّ يضيف القرآن في الآية التالية : (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً) أي ينفق من الأموال التي رزقه الله تعالى إيّاه في طريق الجهاد وحماية المستضعفين والمعوزين.

فعلى هذا يكون إقراض الله تعالى بمعنى (الإنفاق في سبيل الله) ، وكما ذكر بعض المفسّرين أنّها تعني المصارف التي ينفقها الإنسان في طريق الجهاد ، لأنّ تأمين احتياجات الجهاد في ذلك الوقت كان في عهدة المسلمين المجاهدين ، في حين أنّ البعض يرى بأنّ الآية تشمل كلّ أنواع الإنفاق (٢).

ولكنّ التفسير الثاني أقرب وأكثر انسجاما مع ظاهر الآية ، وخاصّة أنّه شامل للمعنى الأوّل أيضا ، وأساسا فإنّ الإنفاق في سبيل الله ومساعدة الفقراء والمساكين

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ و ٢ ص ٣٤٩.

(٢) راجع تفسير الكبير : ج ٦ ص ١٦٦.

٢١٠

وحماية المحرومين يعطي ثمرة الجهاد أيضا ، لأنّ كلّا منها يبعث على استقلال المجتمع الإسلامي وعزّته.

(أضعاف) جمع (ضعف) على وزن «علم». والضّعف هو أنّ تضيف إلى المقدار مثله أو أمثاله ، وقد ورد هنا الجمع مؤكّدا بالكثرة (كثيرة) كما أنّ كلمة (يضاعف) فيها تأكيد على هذا المعنى أكثر من كلمة (يضعّف) (١) ، وكلّ ذلك يدلّ على أنّ الله تعالى يعطي كلّ من ينفق في سبيله الكثير الكثير كالبذرة التي تبذر في أرض صالحة وتسقى فينمّيها ويعيدها إلى صاحبها أضعافا كثيرة كما سيأتي في الآية (٢٦١).

وفي ختام الآية يقول : (وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) وتشير الآية إلى أنّه لا تتصوروا إن الإنفاق والبذل سوف يؤدي إلى قلّة أموالكم ، لأنّ سعة وضيق أرزاقكم بيد الله فهو القادر على أن يعوض ما أنفقتموه أضعافا مضاعفا ، بملاحظة الارتباط الوثيق لأفراد المجتمع ، فإن نفس تلك الأموال التي أنفقتموها سوف تعود إليكم في الواقع.

هذا من البعد الدنيوي ، وأمّا البعد الأخروي للإنفاق فلا تنسوا أن جميع المخلوقات سوف تعود إلى الله عزوجل وسوف يثيبكم حينذاك ويجزل لكم العطاء.

* * *

بحث

لماذا ورد التعبير بالقرض؟

لقد ورد التعبير بالقرض في مورد الإنفاق في عدّة آيات قرآنية ، وهذا من جهة يحكي عظيم لطف الله بالنسبة لعباده ، وأهمية مسائلة الإنفاق من جهة أخرى ،

__________________

(١) قال الراغب في المفردات ، في مادة «ضعف» : قال البعض : ضاعفت أبلغ من ضعّفته.

٢١١

فالبرغم من أن المالك الحقيقي لجميع عالم الوجود هو الله تعالى وأن الناس يمثلون وكلاء عن الله في التصرف في جزء صغير من هذا العالم كما ورد في الآية (٧) من سورة الحديد (آمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ).

ولكن مع ذلك يعود سبحانه إلى العبد ليستقرض منه وأيضا استقراض بربح وفير جدّا (فانظر إلى كرم الله ولطفه).

يقول الإمام علي عليه‌السلام في نهج البلاغة : «واستقرضكم وله خزائن السموات والأرض وهو الغني الحميد وإنّما أراد أن يبلوكم أيّكم أحسن عملا»(١).

* * *

__________________

(١) نهج البلاغة القسم الأخير من الخطبة ١٨٣.

٢١٢

الآيات

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٢٤٦) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٢٤٧) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٢٤٨) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ

٢١٣

فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (٢٤٩) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٥٠) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٢٥١) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (٢٥٢))

حادثة ذات عبرة :

من الضروري وقبل الشروع في تفسير هذه الآيات الشريفة التعرض لجانب من تاريخ بني إسرائيل المنظور في هذه الآيات.

اليهود الذين كانوا قد استضعفوا تحت سلطة الفراعنة استطاعوا أن ينجوا من وضعهم المأساوي بقيادة موسى عليه‌السلام الحكيمة حتى بلغوا القوّة والعظمة.

لقد أنعم الله على اليهود ببركة نبيّهم الكثير من النعم بما فيها «صندوق العهد» (١) الذي حمله اليهود أمام الجند فأضفى عليهم الطمأنينة والمعنوية العالية ، وظلّت هذه الروحية فيهم بعد رحيل موسى عليه‌السلام مدّة من الزمن ، إلّا أنّ تلك النعم

__________________

(١) سوف نتطرّق قريبا إلى تاريخ هذا الصندوق ومحتوياته.

٢١٤

والانتصارات أثارت في اليهود الغرور شيئا فشيئا ، وأخذوا بمخالفة القوانين ، وأخيرا اندحروا على أيدي الفلسطينيين وخسروا قوّتهم ونفوذهم بخسارتهم صندوق العهد ، فكان أن تشتّتوا وضعفوا ولم يعودوا قادرين على الدفاع عن أنفسهم حتّى أمام أتفه أعدائهم ، بحيث إنّ هؤلاء الأعداء طردوا الكثيرين منهم من أرضهم وأسروا أبناءهم.

استمرّت حالهم على هذا سنوات طوالا ، إلى أن أرسل إليهم الله نبيّا اسمه «اشموئيل» لإنقاذهم وهدايتهم ، فتجمّع حوله اليهود الذين كانوا قد ضاقوا ذرعا بالظلم وكانوا يبحثون عن ملجأ يأوون إليه ، وطلبوا منه أن يختار لهم قائدا وأميرا لكي يتوحّدوا تحت لوائه ، ويحاربوا العدوّ متّحدين يدا ورأيا ، لاستعادة عزّتهم الضائعة.

اشموئيل الذي كان يعرف ضعفهم وتهاونهم وهبوط معنويّاتهم قال لهم :أخشى إن اخترت لكم قائدا أن تخذلوه عند ما يدعوكم إلى الجهاد ومحاربة العدو.

فقالوا : كيف يمكن أن نعصي أوامر أميرنا ونرفض القيام بواجبنا ، مع أنّ العدوّ قد شرّدنا من أوطاننا واستولى على أرضنا وأسر أبناءنا!! فرأى اشموئيل أنّ هؤلاء القوم قد شخّصوا داءهم وها هم قد اتجهوا للمعالجة ، ولعلّهم أدركوا سبب تخلّفهم ، فتوجّه إلى الله يعرض عليه ما يطلبه القوم فأوحى إليه : أن اخترنا «طالوت» ملكا عليهم.

فقال اشموئيل : ربّ إني لا أعرف طالوت ولم أره حتّى الآن. فجاءه الوحي : سنرسله إليك فأعطه قيادة الجيش ولواء الجهاد.

من هو طالوت؟

كان طالوت رجلا طويل القامة ، ضخما ، حسن التركيب ، متين الأعصاب قويّها،ذكيّا ، عالما ، مدبّرا.

٢١٥

ويقول بعض : إنّ اختيار اسم «طالوت» له كان لطوله ، ولكنّه مع كلّ ذلك لم يكن معروفا ، حيث كان يعيش مع أبيه في قرية على أحد الأنهر ، ويرعى ماشية أبيه ويشتغل بالزراعة.

أضاع يوما بعض ماشيته في الصحراء ، فراح يبحث عنها مع صاحب له بضعة أيّام حتّى اقتربا من مدينة صوف.

قال له صاحبه : لقد اقتربنا من صوف مدينة النبيّ اشموئيل ، فتعال نزوره لعلّه يدلّنا بما له من اتصال بالوحي وحصانة في الرأي على ضالّتنا. والتقيا باشموئيل عند دخولهما المدينة.

ما أن تبادل اشموئيل وطالوت النظرات حتّى تعارف قلباهما ، وعرف اشموئيل طالوت وأدرك أنّ هذا الشاب هو الذي أرسله الله ليقود الجماعة. وعند ما انتهى طالوت من قصّته عن ضياع ماشيته ، قال له اشموئيل : أمّا ماشيتك الضائعة فهي الآن على طريق القرية تتّجه إلى بستان أبيك فلا تقلق بشأنها. ولكني أدعوك لأمر أكبر من ذلك ، إنّ الله قد أختارك لنجاة بني إسرائيل.

فأصاب العجب طالوت من هذا الأمر في البداية ، ولكنّه قبل المهمّة مسرورا فقال اشموئيل لقومه : لقد اختار الله طالوت لقيادتكم ، فعليكم جميعا أن تطيعوه ، وأن تتهيّأوا للجهاد ومحاربة الأعداء.

كان بنو إسرائيل يعتقدون أنّ قائدهم يجب أن تتوفّر فيه بعض المميّزات من حيث نسبه وثروته ، ممّا لم يجدوا منها شيئا في طالوت ، فانتابتهم حيرة شديدة لهذا الإختيار،فطالوت لم يكن من أسرة لاوي التي ظهر منها الأنبياء ، ولا كان من أسرتي يوسف أو يهودا اللتين سبق لهما الحكم ، بل كان من أسرة بنيامين المغمورة الفقيرة ، فاعترضوا قائلين : كيف يمكن لطالوت أن يحكمنا ، ونحن أحقّ منه بالحكم!

فقال اشموئيل ـ الذي رآهم على خطأ كبير ـ : إنّ الله هو الذي اختاره أميرا

٢١٦

عليكم ، والقيادة تحتاج إلى كفاءة جسمية وروحية وهي متوفّرة في طالوت ، وهو يفوقكم فيها. إلّا أنّهم لم يقبلوا بهذا القول ، وطلبوا دليلا على أنّ هذا الإختيار إنّما كان من الله سبحانه.

فقال اشموئيل : الدليل هو أنّ التابوت ـ صندوق العهد ـ الذي هو أثر مهمّ من آثار أنبياء بني إسرائيل ، وكان مدعاة لثقتكم وطمئنانكم في الحروب ، سيعود إليكم يحمله جمع من الملائكة. ولم يمض وقت طويل حتّى ظهر الصندوق ، وعلى أثر رؤيته وافق بنو إسرائيل على قيادة طالوت لهم.

طالوت في الحكم

تسلّم طالوت قيادة الجيش ، وخلال فتره قصيرة أثبت لياقته وجدارته للاضطلاع بمهامّ إدارة الملك وقيادة الجيش ، ثمّ طلب من بني إسرائيل أن يعدّوا العدّة لمحاربة عدوّ كان يهدّدهم من كلّ جانب. قال لهم مؤكّدا إنّه لا يريد أن يسير معه للقتال إلّا الّذين ينحصر كلّ تفكيرهم في الجهاد ، أمّا الّذين لهم عمارة لم تتم ، أو معاملة لم تكمل ، وأمثالهم ، فليس لهم الاشتراك في الجهاد. وسرعان ما اجتمع حوله جمع تظهر عليه الكثرة والقوّة ، وتحرّكوا صوب العدو.

وفي المسيرة الطويلة وتحت أشعة الشمس المحرقة أصابهم العطش. فأراد طالوت ـ بأمر من الله ـ أن يختبرهم ويصفيهم ، فقال لهم : سوف نصل قريبا إلى نهر في مسيرتنا ، وأنّ الله يريد أن يمتحنكم به ، فمن شرب منكم منه وارتوى فليس منّي ، ومن لا يشرب إلّا قليلا منه فهو منّي. ولكنّهم ما أن وقعت أنظارهم على النهر حتّى فرحوا وهرعوا إليه وشربوا منه حتّى ارتووا ، إلّا نفر قليل منهم ظلّوا على العهد.

أدرك طالوت أنّ أكثرية جيشه يتألّف من أناس ضعفاء الإرادة وعديمي العهد ، ما خلا بعض الأفراد المؤمنين ، لذلك فقد تخلّى عن تلك الأكثرية واتّجه مع

٢١٧

النفر المؤمن القليل خارجا من المدينة إلى ميادين الجهاد.

إلّا أنّ هذا الجيش الصغير انتابه القلق من قلّته ، فقالوا لطالوت : إننا لا طاقة لنا بمقابلة جيش قويّ كثير العدد. غير أنّ الذين كان لهم إيمان راسخ بيوم القيامة ، وكانت محبّة الله قد ملأت قلوبهم ، لم يرهبوا كثرة العدوّ وقلّة عددهم ، فخاطبوا طالوت بكلّ شجاعة قائلين : قرّر ما تراه صالحا ، فنحن معك حيثما ذهبت ، ولسوف نجالدهم بهذا العدد القليل بحول الله وقوّته ، ولطالما انتصر جيش صغير بعون الله على جيش كبير ، والله مع الصابرين.

فاستعدّ طالوت بجماعته القليلة المؤمنة للحرب ، ودعوا الله أن يمنحهم الصبر والثبات،وعند التقاء الجيشين خرج جالوت من بين صفوف عسكره وطلب المبارزة بصوت قوي أثار الرعب في القلوب ، فلم يجرأ أحد على منازلته ، في تلك اللحظة خرج شاب اسمه داود من بين جنود طالوت ، ولعلّه لصغر سنّه ، لم يكن قد خاض حربا من قبل ، بل كان قد جاء إلى ميدان المعركة بأمر من أبيه ليكون بصحبة اخوته في صفوف جيش طالوت. ولكنّه كان سريع الحركة خفيفها ، وبالمقلاع الذي كان بيده رمى جالوت بحجرين ـ بمهارة شديدة ـ فأصابا جبهته ورأسه ، فسقط على الأرض ميّتا وسط تعجّب جيشه ودهشتهم. وعلى أثر ذلك استولى الرعب والهلع على جيش جالوت ، ولم يلبثوا حتّى ركنوا إلى الفرار من أمام جنود طالوت وانتصر بنو إسرائيل (١).

التّفسير

نعود إلى تفسير الآيات محلّ البحث في أوّل آية يخاطب الله تعالى نبيّه الكريم ويقول:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ

__________________

(١) عن مجمع البيان والدر المنثور وقصص القرآن باختصار.

٢١٨

ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ).

(الملأ) هم الجماعة يجتمعون على رأي فيملئون العيون رواء ومنظرا والنفوس بهاء وجلالا ولذلك يقال لأشراف كلّ قوم (الملأ) لأنّهم بما لهم من مقام ومنزلة يملأون العين.

هذه الآية ـ كما قلنا ـ تشير إلى جماعة كبيرة من بني إسرائيل طلبوا بصوت واحد من نبيّهم أن يختار لهم أميرا وقائدا ليحاربوا بقيادته (جالوت) الّذي كان يهدّد مجتمعهم ودينهم واقتصادهم بالخطر.

وعلى الرّغم من أنّ الجماعة المذكورة كانت تريد أن تدفع العدو المعتدي الذي أخرجهم من أرضهم ويعيدوا ما أخذ منهم ، فقد وصفت تلك الحرب بأنّها في سبيل الله ، وبهذا يتبيّن أنّ ما يساعد على تحرّر النّاس وخلاصهم من الأسر ورفع الظّلم والعدوان يعتبر في سبيل الله.

وقد ذكر البعض أنّ اسم ذلك النبي هو (شمعون) وذكر آخرون بأنّه (إشموئيل) وبعض (يوشع) ولكنّ المشهور بين المفسّرين أنّه (إشموئيل) أي إسماعيل بلغة العرب، وبهذا وردت رواية عن الإمام الباقر عليه‌السلام أيضا (١).

ولمّا كان نبيّهم يعرف فيهم الضعف والخوف قال لهم : يمكن أن يصدر إليكم الأمر للجهاد فلا تطيعون (قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا).

ولكنّهم قالوا : كيف يمكن أن نتملّص من محاربة العدو الذي أجلانا عن أوطاننا وفرّق بيننا وبين أبنائنا (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) وبذلك أعلنوا وو تمسّكهم بالعهد.

ومع ذلك فإنّ هذا الجمع من بني إسرائيل لم يمنعهم اسم الله ولا أمره ولا الحفاظ على استقلالهم والدفاع عن وجودهم ولا تحرير أبناءهم من نقض العهد ،

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ و ٢ ص ٣٥٠.

٢١٩

ولذلك يقول القرآن مباشرة بعد ذلك : (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

وذكر بعض المفسّرين أنّ عدّة من بقي مع طالوت (٣١٣ نفر) بعدد جيش الإسلام يوم بدر (١).

وعلى كلّ حال فإنّ نبيّهم أجابهم على طلبهم التزاما منه بواجبه وجعل عليهم طالوت ملكا بأمر من الله تعالى (وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً).

ويتّضح من هذه الآية أنّ الله هو الذي اختار طالوت ليكون ملكا على بني إسرائيل وقائدا لعسكرهم ، ولعلّ استعمال كلمة (قد بعث) يشير إلى ما ذكرنا في القصّة من الحوادث غير المتوقّعة الذي جاءت بطالوت إلى مدينة ذلك النبي والحضور في مجلسه ، فكذلك يظهر من كلمة (ملكا) أنّ طالوت لم يكن قائدا للجيش فحسب ، بل كان ملكا على ذلك المجتمع (٢).

ومن هنا بدأت المخالفات والاعتراضات وقال بعضهم : (قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ).

وهذا هو أوّل اعترضا ونقض في العهد من قبل بني إسرائيل لنبيّهم مع أنّه قد صرّح لهم أنّ الله هو اختار طالوت ، وفي الواقع أنّهم اعترضوا على الله تعالى بقولهم : (إنّنا أجدر من طالوت بالحكم لأنّ الحكم لا بدّ فيه من شرطين لا يتوفّران في طالوت وهما : الحسب والنسب من جهة ، والمال والثروة من جهة اخرى ، وقد ذكرنا في القصّة أنّ طالوت كان من قبيلة مغمورة من قبائل بني إسرائيل ، ومن حيث الثروة لم يكن سوى مزارع فقير.

__________________

(١) روح المعاني وتفسير الكبير في ذيل الآية المبحوثة.

(٢) اعتبر صاحب «الكشّاف» طالوت اسما أعجميا مثل : جالوت وداود ، وقال الآخرون : إنّه اسم عربي مأخوذ من مادة «طول» وإشارة إلى طول قامة. (تفسير الكبير : ج ٦ ص ١٧٢).

٢٢٠