الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

الآيتان

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (٢٣٤) وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٣٥))

التّفسير

خرافات تبعث على تعاسة المرأة :

إنّ واحدة من المشاكل الرئيسية في حياة المرأة هي الزواج بعد موت زوجها.

ولمّا كان بناء الأرملة بزوج جديد بعد موت زوجها السابق مباشرة لا ينسجم مع ما تكنّه من حبّ واحترام لزوجها المتوفى ، ولا مع الاطمئنان إلى عدم وجود

١٨١

حمل في رحمها منه ، وقد يؤدّي إلى جرح مشاعر أهل زوجها الأول ، فقد جاءت الآية تشترط للزواج الجديد أن يمرّ على موت زوجها السابق أربعة أشهر وعشرة أيّام.

إنّ احترام الحياة الزوجية بعد موت أحد الزوجين أمر فطري ، بحيث نجد في مختلف القبائل تقاليدا وطقوسا خاصّة بهذا الموضوع على الرغم من أنّ بعض هذه العادات كانت تبلغ حدّ الإفراط الذي يقيّد المرأة بقيود ثقيلة تبلغ حدّ القضاء على حياتها احتراما لذكرى زوجها الراحل. كقيام بعض القبائل بحرق المرأة بعد موت زوجها ، أو بدفنها حيّة معه في قبره. وبعض آخر كانوا يحرمون المرأة من الزواج بعد زوجها مدى الحياة ، وفي بعض القبائل كان على المرأة أن تقضي بعض الوقت بجانب قبر زوجها تحت خيمة سوداء قذرة وفي ملابس رثّة بعيدة عن كلّ نظافة أو زينة أو اغتسال (١).

إلّا أنّ الآية المذكورة تلغي كلّ هذه الخرافات ، ولكنّها تحافظ على احترام الحياة الزوجيّة بإقرار العدّة.

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

وبما أنّ أولياء وأقرباء المرأة يتدخّلون أحيانا في أمرها أو يأخذون بمصالحهم بنظر الإعتبار في زواجها المجدّد تقول الآية في ختامها : (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وسيجازي كلّ شخص بما عمله من أعمال سيئة أو حسنة.

وجملة (فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) والتي تشير إلى أنّ المخاطب فيها هم الرّجال من أقرباء المرأة تدلّ على أنّهم كانوا يرون في تحرّر

__________________

(١) الإسلام وعقائد الإنسان : ص ٦١٧.

١٨٢

المرأة بعد وفاة زوجها عيبا وإثما ، ويعتقدون بأنّ التضييق عليها والتشدّد في أمرها من واجباتهم ، فهذه الآية تأمر بصراحة بترك هذه الامرأة حرّة في اختيارها ولا إثم عليكم من ذلك (ويستفاد ضمنا من هذه العبارة سقوط ولاية الأب والجد أيضا عليها) ولكن في نفس الوقت تتضمّن الآية تحذيرا للمرأة بأنّه لا ينبغي أن تسيء الاستفادة من هذه الحريّة، بل تتقدّم إلى اختيار الزوج الجديد بخطّوات مدروسة وأسلوب لائق (بالمعروف).

وحسب ما وصلنا من أئمّة المسلمين فإنّ على الأرامل في هذه الفترة أن يحافظن على مظاهر الحزن ، أي ليس لهنّ أن يتزينّ مطلقا ، بل ينبغي التجرّد من كلّ زينة ، ولا شكّ أنّ فلسفة المحافظة على هذه العدّة توجب ذلك أيضا.

لقد حرّر الإسلام المرأة من الخرافات الجاهليّة واقتصر على هذه العدّة القصيرة بحيث ظنّ بعضهم أنّ لها أن تتزوّج حتّى خلال هذه الفترة ، ومن ذلك أنّ امرأة قدمت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تستجيزه أن تكتحل وهي في العدّة فنهاها رسول الله وذكّرها بما كان يفرض على المرأة في الجاهليّة خلال سنة كاملة بعد الوفاة من حداد شديد وإرهاق فظيع مشيرا إلى سماحة الإسلام في هذا الأمر (١) وإنّه ممّا يلفت النّظر أنّ الأحكام الإسلاميّة بشأن العدّة تأمر المرأة بالتزام العدّة حتّى وإن لم يكن هناك أيّ احتمال بأن تكون حاملا ، حيث إنّ عدّتها لا تبدأ بتاريخ موت زوجها ، بل بتاريخ وصول خبر موت زوجها إليها وإن يكن بعد شهور ، وهذا يدلّ دلالة قاطعة على أنّ الهدف من هذا التشريع هو الحفاظ على احترام الحياة الزوجيّة وحرمتها إضافه إلى ما لهذا التشريع من أهميّة بالنّسبة لاحتمال حمل المرأة.

__________________

(١) المنار : ج ٢ ص ٤٢٢.

١٨٣

الآية الثانية تشير إلى أحد الأحكام المهمّة للنّساء في العدّة (بمناسبة البحث عن عدّة الوفاة في الآيات السّابقة) فتقول : (وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً).

فهذه الآية تبيح للرّجال أن يخطبوا النّساء اللّواتي في عدّة الوفاة بالكناية أو الإضمار في النّفس (أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ) وهذا الحكم في الواقع من أجل الحفاظ على حريم الزّواج السّابق من جهة ، وكذلك لا يحرم الأرملة من حقّها في تعيين مصيرها من جهة اخرى، فهذا الحكم يراعي العدالة وكذلك حفظ احترام الطّرفين.

ومن الطّبيعي أن تفكّر المرأة في مصيرها بعد وفاة زوجها ، وكذلك يفكّر بعض الرّجال بالزّواج بهنّ للشروط اليسيرة السهلة في الزّواج بالأرامل ، ولكن من جهة لا بدّ من حفظ حريم دائرة الزّوجيّة السّابقة كما ورد من الحكم آنفا يدلّ بوضوح على رعاية كلّ هذه المسائل المذكورة ، ونفهم من عبارة (وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا) أنّه مضافا إلى النهي عن الخطبة العلنيّة فإنّه لا يجوز كذلك أن تصارحوهنّ بالخطبة سرّا أيضا إلّا إذا كان الكلام بهذا الشأن يتّفق مع الآداب الاجتماعيّة في موضوع موت الزّوج ، أي أن يكون الكلام بالكناية وبشكل مبطّن.

وعبارة (عرّضتم) من مادّة (التّعريض) والتي تعني كما يقول الرّاغب في المفردات :الحديث الّذي يحتمل معنيين الصدق والكذب أو الظّاهر والباطن.

وعلى قول المفسّر الكبير المرحوم الطبرسي في مجمع البيان أنّ التّعريض ضد التصريح،وهو في الأصل منمادّة (عرض) الذي هو بمعنى جانب الشيء (١).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ و ٢ ، ص ٣٣٨.

١٨٤

ويضرب أئمة الإسلام في تفسير هذه الآية بشأن الخطبة الخفيّة أو القول المعروف كما يقول القرآن أمثلة عديدة ، من ذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال (يلقاها فيقول إنّي فيك راغب وإنّي للنّساء لمكرم فلا تسبقيني بنفسك) (١).

وقد ورد هذا المضمون أو ما يماثله في كلام كثير من الفقهاء والجدير بالذّكر أنّ الآية أعلاه على الرّغم من أنّها وردت بعد الآية التي تذكر عدّة الوفاة ، ولكنّ الفقهاء صرّحوا بأنّ الحكم أعلاه لا يختصّ بعدّة الوفاة بل يشمل غيرها أيضا.

يقول المرحوم الفقيه والمحدّث المعروف صاحب الحدائق : (وقد صرّح الأصحاب بأنّه لا يجوز التعريض بالخطبة لذات العدّة الرجعيّة لأنّها زوجة ، فيجوز للمطلّقة ثلاثا من الزوج وغيره ، ولا يجوز التصريح لها منه ولا من غيره ، أمّا المطلّقة تسعا للعدّة ينكحها بينها رجلان فلا يجوز التعريض لها من الزوج ويجوز من غيره ، ولا يجوز التصريح في العدّة منه ولا من غيره.

أمّا العدّة البائنة فيجوز التعريض من الزوج وغيره والتصريح من الزوج دون غيره) (٢).

وإذا أردتم التفصيل راجعوا الكتب الفقهية بالأخص كتاب الحدائق في استمرار هذا البحث.

ثمّ تضيف الآية (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ) فمن المسلّم أنّ الشخص إذا عقد على المرأة في عدّتها يقع العقد باطلا ، بل أنّه إذا أقدم على هذا العمل عالما بالحرمة فإنّ هذه المرأة ستحرم عليها أبدا.

وبعد ذلك تعقّب الآية : (وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا

__________________

(١) تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٢٣٢ ح ٩٠٥.

(٢) الحدائق : ج ٢٤ ص ٩٠.

١٨٥

أَنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).

وبهذا لا بدّ أن تعلموا أنّ الله تعالى مطّلع على أعمالكم ونيّاتكم وفي نفس الوقت لا يؤاخذ المذنبين بسرعة.

جملة (لا تَعْزِمُوا) من مادّة (عزم) بمعنى قصد ، فعند ما تقول الآية (وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ) فهو في الواقع نهي مؤكّد عن الإقدام العملي على عقد الزّواج ويعني التّحذير حتّى من نيّة وقصد هذا العمل في زمان العدّة.

* * *

١٨٦

الآيتان

(لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (٢٣٦) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٧))

التّفسير

كيفيّة أداء المهر :

في هاتين الآيتين نلاحظ أحكام أخرى للطّلاق استمرارا للأبحاث السّابقة.

تقول الآية في البداية (لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ) (١) (أَوْ

__________________

(١) «مس» في اللغة بمعنى الملامسة ، وهنا كناية عن الجماع و «فريضة» بمعنى الواجب ، وهنا جاءت بمعنى المهر.

١٨٧

تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً) وهذا يعني جواز طلاق النساء قبل المقاربة الجنسيّة وقبل تعيين المهر،وهذا في صورة ما إذا علم الرّجل أو كلا الزّوجين بعد العقد وقبل المواقعة أنّهما لا يستطيعان استمرار الحياة الزّوجيّة هذه ، فمن الأفضل أن يتفارقا في هذا الوقت بالذّات، لأنّ الطّلاق في المراحل اللّاحقة سيكون أصعب.

وعلى كلّ حال فهذا التعبير في الآية جواب على من يتصوّر أنّ الطّلاق قبل المواقعة أو قبل تعيين المهر لا يقع صحيحا ، فالقرآن يقول أنّ هذا الطّلاق صحيح ولا إثم عليه (وقد يمنع من كثير من المفاسد).

وذهب البعض أن (جناح) في هذه الآية بمعنى (المهر) الّذي يثقل على الزّوج،يعني أنّ الرّجل حين الطّلاق وقبل المقاربة الزوجيّة وتعيين المهر ليس مكلّفا بدفع أي شيء بعنوان المهر إلى المرأة ، وبالرّغم من أنّ بعض المفسّرين (١) أورد كلاما طويلا حول هذا التفسير،ولكن استعمال كلمة «جناح» بمعنى المهر يعتبر غريبا وغير مأنوس.

واحتمل آخرون أنّ معنى الجملة أعلاه هو جواز طلاق المرأة قبل المقاربة الجنسيّة في جميع الأحوال (سواء كانت في العادة الشهريّة أو لم تكن) والحال أنّ الطّلاق بعد المواقعة الجنسيّة يجب أن يكون في الزّمان الطّهر الّذي لم يواقعها فيه حتما (٢) ، ولكن هذا التفسير بعيد جدّا لأنّه لا ينسجم مع جملة (أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً).

ثمّ تبيّن الآية حكما آخرا في هذا المجال وتقول : (وَمَتِّعُوهُنَ) أي يجب أن تمنح المرأة هديّة تناسب شؤونها فيما لو جرى الطّلاق قبل المضاجعة وقبل تعيين المهر ، ولكن يجب أن يؤخذ بنظر الإعتبار قدرة الزّوج الماليّة في هذه الهديّة ،

__________________

(١) تفسير الكبير : ج ٦ ص ١٣٧.

(٢) المصدر السابق.

١٨٨

ولذلك تعقّب الآية الشريفة بالقول (عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ).

(الموسع) بمعنى المقتدر والثّري و (المقتر) بمعنى الفقير (من مادّة قتر وكذلك وردت بمعنى البخل أيضا) كقوله تعالى (وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً) (١).

وجملة (مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ) يمكن أن تشير إلى جميع ما ذكرناه ، أي أنّ الهديّة لا بدّ أن تكون بشكل لائق وبعيدة عن الإسراف والبخل.

ومناسبة لحال المهدي والمهدى إليه.

ولمّا كان لهذه الهديّة أثر كبير للقضاء على روح الانتقام وفي الحيلولة دون إصابة المرأة بعقد نفسيّة بسبب فسخ عقد الزّواج ، فإنّ الآية تعتبر هذا العمل من باب الإحسان (حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ) (٢) أي أن يكون ممزوجا بروح الإحسان واللّطف ، ولا حاجة إلى القول بأنّ تعبير (المحسنين) لم يأت ليشير إلى أنّ الحكم المذكور ليس إلزاميّا ، بل جاء لإثارة المشاعر والعواطف الخيّرة في الناس للقيام بهذا الواجب الإلزامي.

الملاحظة الاخرى في هذه الآية هي أنّ القرآن يعبّر عن الهدية الّتي يجب أن يعطيها الرجل للمرأة باسم (متاع) فالمتاع في اللّغة هو كلّ ما يستمتع به المرء وينتفع به ، ويطلق غالبا على غير النقود ، لأنّ الأموال لا يمكن التمتّع بها مباشرة ، بل لا بدّ أوّلا من تبديلها إلى متاع ، ولهذا كان تعبير القرآن عن الهديّة بالمتاع.

ولهذا العمل أثر نفسي خاص ، فكثيرا ما يحدث أن تكون الهدية من المأكل أو الملبس ونظائرهما مهما كانت زهيدة الثمن أثر بالغ في نفوس المهدى إليهم لا يبلغه أبدا أثر الهديّة النقديّة ، لذلك نجد أنّ الروايات الواصلة إلينا عن أئمّة

__________________

(١) الاسراء : ١٠٠.

(٢) «حقّا» يمكن أن تكون صفة لـ «متاعا» ، أو حال أو مفعول مطلق لفعل محذوف ـ «متاعا» مفعول مطلق أيضا عن جملة «ومتعوهن».

١٨٩

الأطهار عليهم‌السلام تذكر هذه الهدايا بصورة مأكل أو ملبس أو أرض زراعيّة.

كذلك يتّضح من هذه الآية أنّ تعيين المهر قبل إجراء العقد في النكاح الدائم ليس ضروريّا إذ يمكن للطرفين أن يتّفقا على ذلك بعد (١) إذ كما تفيد الآية أيضا أنّه إذا حصل الطّلاق قبل تعيين المهر وقبل المضاجعة فلا يجب المهر ، بل يستعاض عنه بالهديّة المذكورة.

ويجب الالتفات إلى أنّ الزّمان والمكان مؤثّران في مقدار الهديّة المناسبة.

وتتحدّث الآية التالية عن حالة الطّلاق الّذي لم يسبقه المضاجعة ولكن بعد تعيين المهر فتبيّن أنّ الحكم في هذا اللّون من الطّلاق الّذي يكون قبل المضاجعة وبعد تعيين المهر يوجب على الزّوج دفع نصف المهر المعيّن (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ).

وهذا هو حكم القانوني لهذه المسألة ، فيجب دفع نصف المهر إلى المرأة بدون أيّة نقيصة ، ولكن الآية تتناول الجوانب الأخلاقيّة والعاطفيّة وتقول : (إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ).

والمراد من ضمير (يعفون) هم الأزواج ، أمّا في قوله (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) هو وليّ الصغير أو السفيه ، ومن الواضح أنّ الوليّ ليس له الحقّ من أن يعفو أو يتنازل عن حقّ الصغير إلّا إذا تضمّن مصلحة الصغير.

فعلى هذا يكون حكم دفع نصف المهر بغض النظر عن مسألة العفو والتنازل عن الحقّ ، وممّا تقدّم يتّضح أن من له العفو هو الولي للصّغير أو السفيه لأنّه هو الّذي بيده أمر زواج المولّى عليه ، ولكن بعض المفسّرين تصوّروا أنّ المراد هو الزّوج ، بمعنى أنّ الزوج متى ما دفع تمام المهر قبلا (كما هو المتعارف عند الكثير من

__________________

(١) لا شكّ أنّ المهر لا يسقط إن لم يذكر في العقد الدائم بل يعبر (مهر المثل) أي المهر الذي يعادل مهور نساء مماثلات إلّا إذا حصل الطلاق قبل الدخول عندئذ يتوجب تقديم هديّة كما ذكرنا.

١٩٠

العرب) فله الحقّ في أن يسترجع نصف المهر إلّا أن يعفو ويتنازل عنه.

أمّا مع الملاحظة الدقيقة في مضمون الآية يتبيّن أنّ التفسير الأوّل هو الصحيح ، وأنّ المخاطب في هذه الآية هم الأزواج حيث تقول : (وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَ) في حين أنّ الضمير في جملة (أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) جاء حكاية عن الغائب ولا يتناسب ذلك مع عوده إلى الأزواج.

أجل ، فإنّ الآية في الجملة التالية تقول (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

فمن الواضح أنّ المخاطب في هذه الجملة هم الأزواج ، فتكون النتيجة أنّ الحديث في الجملة السّابقة كان عن عفو الأولياء ، وفي هذه الجملة تتحدّث الآية عن عفو الأزواج،وجملة (وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) خطاب لعموم المسلمين أن لا ينسوا المثل الإنسانية في العفو والصفح والإيثار في جميع الموارد.

وهذا ما ورد في الروايات الّتي وصلتنا من الأئمّة المعصومين عليهم‌السلام في تفسير هذه الآية، وكذلك نرى أنّ المفسّرين الشّيعة قد اختاروا هذا الرّأي بالتّوجه إلى مضمون الآية والرّوايات الشريفة ، فذهبوا إلى أنّ المقصود في هذه العبارة هم أولياء الزّوجة.

ومن الطبيعي أن تطرأ ظروف تجعل الاضطرار إلى أخذ نصف المهر حتّى قبل الدّخول أمرا قد يثير مشاعر الرّجل وأقرباءه ويجرح عواطفهم وقد ينزعون إلى الانتقام ، ويحتمل أن تتعرّض سمعة المرأة وكرامتها إلى الخطر ، فهنا قد يرى الأب أنّ من مصلحة ابنته أن يتنازل عن حقّها.

جملة (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) تبيّن جانبا آخر من واجبات الزّوج الإنسانيّة ، وهو أن يظهر الزّوج التنازل والكرم فلا يسترجع شيئا من المهر إن كان قد دفعه ، وإن لم يكن دفعه بعد فمن الأفضل دفعه كاملا متنازلا عن النصف الّذي

١٩١

هو من حقّه ، وذلك لأنّ المرأة الّتي تنفصل عن زوجها بعد العقد تواجه صدمة نفسيّة شديدة ، ولا شكّ أنّ تنازل الرجل عن حقّه من المهر لها يكون بمثابة البلسم لجرحها.

ونلاحظ تأكيدا في سياق الآية الشريفة على أصل (المعروف) و (الإحسان) فحتّى بالنّسبة إلى الطّلاق والانفصال لا ينبغي أن يكون مقترنا بروح الانتقام والعداوة ، بل ينبغي أن يتم على أساس السماحة والإحسان بين الرّجل والمرأة ، لأنّ الزوجين إذا لم يتمكنّا من العيش سويّة وفضّلا الإفتراق بدلائل مختلفة ، فلا دليل حينئذ لوجود العداوة والبغضاء بينهما.

* * *

١٩٢

الآيتان

(حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (٢٣٨) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (٢٣٩))

سبب النّزول

تذرّع جمع من المنافقين بحرارة الجو لإلقاء التفرقة في صفوف المسلمين ، فلم يكونوا يشتركون في صلاة الجماعة ، فتبعهم آخرون وأخذوا يتخلّفون عن صلاة الجماعة ، فقلّ بذلك عدة المصلّين ، فتألّم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لذلك كثيرا حتّى أنّه هدّدهم بعقاب أليم ، وفي حديث عن زيد بن ثابت قال : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يؤدّي صلاة الظهر جماعة والحرّ على أشدّه ممّا كان يثقل على أصحابه كثيرا بحيث أنّ صلاة الجماعة أحيانا لم تتجاوز صفا واحدا أو صفّين ، فهنا هدّد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هؤلاء المنافقين ومن لم يشترك صلاة الجماعة بإحراق منازلهم ، فنزلت الآية أعلاه وبيّنت أهميّة صلاة الظهر جماعة بصورة مؤكّدة (١).

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ج ١ و ٢ ص ٣٤٢ ـ وبنفس المضمون في تفسير «الدّر المنثور» في ذيل الآية المبحوثة حسب نقل الميزان.

١٩٣

وهذا التأكيد يدلّ على أنّ مسألة عدم المشاركة في صلاة الجماعة لم تكن بسبب حرارة الجو فقط ، بل أنّ جماعة أرادوا تضعيف الإسلام بهذه الذّريعة وإيجاد الفرقة في صفوف المسلمين بحيث دعى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى أن يتّخذ مثل ذلك الموقف الحازم من هؤلاء.

التّفسير

أهميّة الصّلاة وخاصّة الوسطى :

بما أن الصلاة أفضل وسيلة مؤثرة تربط بين الإنسان وخالقه ، وإذا أقيمت على وجهها الصحيح ملأت القلب بحبّ الله واستطاع الإنسان بتأثير أنوارها أن يتجنّب الذنوب والتلوّث بالمعصية ، لذلك ورد التأكيد في آيات القرآن الكريم عليها ، ومن ذلك ما ورد في الآية محل البحث حيث تقول : (حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ).

فلا ينبغي للمسلمين أن يتركوا هذا الأمر المهم بحجّة البرد والحرّ ومشكلات الحياة ودوافع الزوجة والأولاد والأموال.

أمّا ما هو المراد بقوله (الصَّلاةِ الْوُسْطى)؟ ذكر المفسّرون معان مختلفة للمراد من الصلاة الوسطى ، وذكر صاحب تفسير مجمع البيان ستّة أقوال ، والفخر الرّازي ذكر في تفسيره سبعة أقوال ، وبلغ بها القرطبي في تفسيره إلى عشرة أقوال ، أمّا تفسير روح المعاني فذكر لها ثلاثة عشر قولا.

فالبعض يرى أنّها صلاة الظهر ، وآخر صلاة العصر ، وبعض صلاة المغرب ، وبعض صلاة العشاء ، وبعض صلاة الصبح ، وبعض صلاة الجمعة ، وبعض صلاة اللّيل أو خصوص صلاة الوتر ، وذكروا لكلّ واحد من هذه الأقوال أدلّة وتوجيهات مختلفة ، ولكنّ القرائن المختلفة المتوفّرة تثبت أنّها صلاة الظهر ، لأنّها فضلا عن

١٩٤

كونها تقع في وسط النّهار ، فإنّ سبب نزول هذه الآية يدلّ على أنّ المقصود بالصّلاة الوسطى هو صلاة الظهر التي كان الناس يتخلّفون عنها لحرارة الجو ، كما أنّ هناك روايات كثيرة تصرّح بأنّ الصلاة الوسطى هي صلاة الظّهر (١). والتأكيد على هذه الصّلاة كان بسبب حرارة الجو في الصّيف ، أو بسبب انشغال الناس في امور الدنيا والكسب فلذلك كانوا لا يعيرون لها أهميّة ، فنزلت الآية آنفة الذكر تبيّن أهميّة صلاة الوسطى ولزوم المحافظة عليها (٢).

(قانتين) من مادّة (قنوت) وتأتي بمعنيين.

١ ـ الطاعة والإتّباع.

٢ ـ الخضوع والخشوع والتّواضع.

ولا يبعد أن يكون المعنيان مرادين في هذه الآية ، كما ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير الآية (وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ) قال : «إقبال الرّجل على صلاته ومحافظته على وقتها حتّى لا يلهيه عنها ولا يشغله شيء».

وفي رواية اخرى قال :

وفي الآية الثانية تؤكّد على أنّ المسلم لا ينبغي له ترك الصلاة حتّى في أصعب الظروف والشّرائط كما في ميدان القتال ، غاية الأمر أنّ الكثير من شرائط الصّلاة في هذا الحال تكون غير لازمة كالاتّجاه نحو القبلة وأداء الرّكوع والسّجود بالشكل الطبيعي ، ولذا تقول الآية (فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً).

سواء كان الخوف في حال الحرب أو من خطر آخر ، فإنّ الصّلاة يجب أداءها

__________________

(١) انظر الكتب الفقهية للاستزادة.

(٢) المشهور بين فقهاء الشيعة أن المراد منها «صلاة الظهر» بل ادعي الإجماع على ذلك ومن عدّة روايات معتبرة وردت في كتاب وسائل الشيعة : ج ٣ ص ١٤ الباب ٥ أو هناك قول شاذ وضعيف بأن المراد منها صلاة العصر «وذهب أغلب فقهاء أهل السنّة إلى هذا الرأي» واستدلوا على ذلك بعدّة روايات ضعيفة السند وقد اعرض الأصحاب عنها (لمزيد الإيضاح راجع الكتب الفقهية).

١٩٥

بالإيماء والإشارة للرّكوع والسّجود ، سواء كنتم مشاة أو راكبين.

(فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) ففي هذه الصّورة ، أي في حالة الأمان يجب عليكم أداء الصّلاة بالصّورة الطبيعيّة مع جميع آدابها وشرائطها.

ومن الواضح أنّ أداء الشكر لهذا التعليم الإلهي للصّلاة في حالة الأمن والخوف هو العمل على وفق هذه التعليمات.

(رجال) جمع (راجل) و (ركبان) جمع (راكب) والمقصود هو أنّكم إذا خفتم العدو في ميدان القتال لكم أن تؤدّوا الصلاة راجلين أو راكبين في حالة الحركة.

وقد ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه في بعض الحروب أمر المقاتلين أن يصلّوا بالتّسبيح والتكبير وقول (لا إله إلّا الله) (١) ،وكذلك نقرأ في حديث آخر : إنّ النبي صلّى يوم الأحزاب إيماء(٢).

وكذلك ورد عن الإمام الكاظم عليه‌السلام جواز أداء الصلاة في حالة الخوف إلى غير جهة القبلة ويومي للرّكوع والسجود في حال القيام (٣).

فهذه الصلاة هي صلاة الخوف التي شرحها الفقهاء في كتبهم شرحا مفصّلا ، وعليه فالآية توضّح أنّ إقامة الصلاة والارتباط بين العبد وخالقه يجب أن يتحقّق في جميع الظروف والحالات ، وبهذا تتحصّل نقطة ارتكاز للإنسان واعتماده على الله ، فتكون مبعث الأمل والرّجاء في الحياة وتعينه في التغلّب على جميع المصاعب والمشكلات.

* * *

__________________

(١) تفسير نور الثقلين.

(٢) مجمع البيان ، في ذيل الآية المبحوثة.

(٣) وسائل الشيعة : ج ٥ ، ص ٤٨٣ الباب ٣ ، الحديث ٣ مع التلخيص ونقل الحديث بالمعنى ، ووردت أحاديث اخرى بهذا المضمون في هذا الباب.

١٩٦

بحث

دور الصلاة في تقوية المعنويّات :

قد يحسب البعض أنّ هذا الإصرار والتوكيد على الصلاة ضرب من التعسير ، ولربّما منع ذلك الإنسان من القيام بواجبه الخطير في الدّفاع عن نفسه في مثل ظروف القتال الصّعبة.

في حين أنّ هذا الكلام اشتباه كبير ، فالإنسان في مثل هذه الحالات أحوج إلى تقوية معنويّته من أي شيء آخر ، لأنّه إذا ضعفت معنويّته واستولى عليه الخوف والفزع فإنّ هزيمته تكاد تكون حتميّة ، فأيّ عمل أفضل من الصّلاة والاتّصال بالله القادر على كلّ شيء وبيده كلّ شيء من أجل تقويّة معنويّات المجاهدين أو من يواجه الخطر.

لو تركنا الشواهد الكثيرة في جهاد المجاهدين المسلمين في صدر الإسلام فإنّنا نقرأ عن حرب الصهاينة الرّابعة مع العرب في شهر رمضان عام ١٣٩٣ ه‍. ق أنّ توجّه الجنود المسلمين إلى الصّلاة والمبادئ الإسلام كان له أثر فعّال في تقوية عزائمهم وفي التالي انتصارهم على عدوّهم. وعلى أي حال فإنّ أهميّة الصلاة وتأثيرها الإيجابي في الحياة أكبر من أن يستوعبها هذا المختصر ، فلا شكّ في أنّ الصّلاة إذا روعيت معها آدابه الخاصّة وحضور القلب فيها فإنّ لها تأثيرا إيجابيّا عظيما في حياة الفرد والمجتمع ، وبإمكانها أن تحل الكثير من المشاكل وتطهّر المجتمع من الكثير من المفاسد ، وتكون للإنسان في الأزمات والشدائد خير معين وصديق (١).

* * *

__________________

(١) للاستزادة ومعرفة فوائد الصلاة تراجع الآية (٤٥) من سورة العنكبوت من هذا التفسير.

١٩٧

الآية

(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٤٠) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (٢٤١) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢٤٢))

التّفسير

قسم آخر من أحكام الطّلاق :

تعود هذه الآيات لتذكر بعض مسائل الزواج والطّلاق والأمور المتعلّقة بها ، وفي البداية تتحدّث عن الأزواج الّذين يتوسّدون فراش الاحتضار ولهم زوجات فتقول : (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ).

أي أنّ الأشخاص من المسلمين إذا حانت ساعة وفاتهم وبقيت زوجاتهم على قيد الحياة فينبغي أن يوصوا بأزواجهم في النفقة والسكن في ذلك البيت لمدّة

١٩٨

سنة كاملة ، وهذا طبعا في صورة ما إذا بقيت الزوجة في بيت زوجها ولم تخرج خارج البيت،ولهذا تضيف الآية : (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) كأن يخترن زوجا جديدا ، فلا مانع من ذلك ولا إثم عليكم ، ولكن يسقط حقّها في النفقة والسكنى.

وفي ختام الآية تشير إلى أنّه لا ينبغي التخوّف من عاقبة خروج النسوة ، فتقول بأنّ الله قادر على فتح أبواب اخرى أمامهنّ بعد وفاة الأزواج فلو حدثت مشكلة في البيت ولحقت بها مصيبة فإنّ ذلك سيكون لحكمة حتما لأنّ الله تعالى عزيز حكيم (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) ، فلو أغلق بابا بحكمته فسوف يفتح اخرى بلطفه ، فلا محلّ للقلق والتخوّف،ويعلم من ذلك أنّ جملة (يُتَوَفَّوْنَ) هنا لا تعني الموت ، بل تعني المشرف على الموت بقرينة ذكر الوصيّة.

وقوله (فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ) تدلّ على وجوب دفع ورثة الزّوج نفقة الزوجة لمدّة سنة كاملة ، وفيما إذا لم ترض هذه المرأة بالبقاء في بيت الزوج والاستفادة من النفقة ، فلا مانع من ذلك ، ولا مانع كذلك من أن تختار زوجا آخر أيضا ، ولكنّ بعض المفسّرين ذكر تفسيرا آخر لهذه العبارة وهو أنّها إذا صبرت في بيت زوجها مدّة سنة كاملة ثمّ خرجت من البيت فتزوّجت فلا مانع من ذلك.

وطبقا للتفسير الثاني يجب على المرأة العدّة لمدّة سنة كاملة ، ولكن على التفسير الأوّل لا يلزم ذلك. وبعبارة أخرى أنّ دوام العدّة لمدّة سنة كاملة على التفسير الأوّل يعتبر حقّ للمرأة ، ولكنّه على التفسير الثاني حكم وإلزام ، ولكنّ ظاهر الآية ينسجم أكثر مع التفسير الأوّل ، لأنّ ظاهر الجملة الأخيرة هو أنّه استثناء من الحكم السابق.

١٩٩

مسألة :

هل نسخت هذه الآية؟

يعتقد الكثير من المفسّرين أنّ هذه الآية قد نسخت بالآية ٢٣٤ من هذه السورة التي سبق بيانها وفيها ورد أنّ عدّة الوفاة أربعة أشهر وعشرة أيّام ، وعلى الرغم من أنّ تلك الآية تأتي قبل هذه الآية من حيث الترتيب ولكننا نعلم أنّ الآيات في السورة لم ترتّب بحسب نزولها، بل قد نجد آيات متأخّرة في النّزول وضعت متقدّمة في الترتيب ، وقد جرى ذلك للتّناسب بين الآيات ولأمر من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويرى هؤلاء المفسّرين أيضا أنّ حقّ النفقة لمدّة سنة كاملة كان قبل نزول آيات الإرث، ولكن بعد أن قرّرت آيات الإرث للزّوجين مقدارا من الإرث زال هذا الحقّ عنها ، فعلى هذا فإنّ الآية محل البحث منسوخة من جهتين (من جهة مقدار زمان العدّة ومن جهة النفقة).

وذكر المرحوم (الطبرسي) في «مجمع البيان» أنّ جميع العلماء اتّفقوا أنّ هذه الآية منسوخة. ثمّ يذكر حديثا عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّ الرجل في العصر الجاهلي إذا مات كانت زوجته تتمتّع بالنفقة لمدّة سنة كاملة ثمّ أنّها تخرج من بيت زوجها بدون ميراث،وبعد ذلك نزلت الآيات المتعلّقة بإرث الزّوجة ونسخت هذه الآية بتعيين الربع أو الثمن من الميراث لها.

وعلى هذا يجب أن تحسب نفقة المرأة في مدّة العدّة من حصّتها من الإرث ، وكذلك ورد عن الإمام الصادق أيضا أنّ الآية التي تقرّر العدّة أربعة أشهر وعشرة أيّام وكذلك آية الإرث قد نسختا هذه الآية (١).

وعلى كلّ حال ، يستفاد من كلمات العلماء أنّ عدّة الوفاة كانت في زمان

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ و ٢ ص ٣٤٥ ذيل الآية المبحوثة.

٢٠٠