الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

(إِلَّا أَنْ يَخافا أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ) ثمّ تضيف (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ).

أي الفدية أو التعويض الّذي تدفعه المرأة للتّخلّص من الرّابطة الزّوجية ، هذه الحالة تختلف عن الاولى في أنّ الطّالب للفرقة هي المرأة نفسها ويجب عليها دفع الغرامة والتعويض للرّجل الّذي يريد ويطلب بقاء العلقة الزوجيّة ، وبذلك يتمكّن الزّوج بهذه الغرامة والفدية أن يتزوّج مرّة اخرى ويختار له زوجة ثانية.

والجدير بالذكر أنّ الضّمير في جملة (أَلَّا يُقِيما) الوارد بصورة التثنية إشارة إلى الزّوجين ، ولكنّ في جملة (فَإِنْ خِفْتُمْ) ورد بصيغة الجمع للمخاطب ، وهذا التفاوت يمكن أن يكون إشارة إلى لزوم نظارة حكّام الشرع على هذا اللّون من الطّلاق ، أو إشارة إلى أنّ تشخيص عدم إمكانيّة استمرار الحياة الزوجيّة مع رعاية حدود الإلهيّة لا يمكن أن تكون بعهدة الزّوجين ، لأنّه في كثير من الحالات يظنّ الزوجين ولأسباب نفسيّة وحالات عصبيّة عدم إمكانيّة إدامة الحياة الزّوجيّة لأسباب تافهة ، ولهذا يجب أن تطرح المسألة على العرف ومن له علاقة بهذين الزّوجين يثبت بهذه الصورة جواز الطّلاق الخلعي.

وفي ختام الآية تشير إلى مجمل الأحكام الواردة فيها وتقول : (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ).

* * *

مسائل مهمة

١ ـ لزوم تعدّد مجالس الطّلاق

يستفاد من جملة (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) أنّ تعدّد الطّلاق لا يصحّ أن يكون في مجلس واحد ، بل يجب أن يقع الطّلاق في مجالس متعدّدة ، وخاصّة إذا عرفنا بأنّ

١٦١

الغاية هو إعطاء فرصة أكثر للرّجوع واحتمال عودة المؤدة بعد النّزاع الأوّل.

فإن لم يتحقق الصلح في المرحلة الاولى فسيتحقّق في الثانية ولكنّ وقوع عدّة طلقات مرّة واحدة يوصد هذا الباب كليّا وينفصل الزّوجان بعد ذلك نهائيّا فلا أثر لتعدّد الطّلاق عملا.

وهذا الحكم المذكور آنفا مقبول لدى فقهاء الشيعة ، ولكن هناك اختلاف بين أهل السّنة بالرّغم من أنّ أكثرهم يرى جواز تعدّد الطّلاق في مجلس واحد.

أمّا كاتب تفسير المنار فينقل عن مسند أحمد بن حنبل وصحيح مسلم أنّ حكم ثلاث طلقات في مجلس واحد لا يحسب إلّا طلاق واحد ، وهذا ما كانت السّنة جارية عليه منذ حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحتّى سنتين من خلافة عمر حيث يتّفق على ذلك جميع الصّحابة ، ولكنّ الخليفة الثاني بعد ذلك حكم بأنّ الطّلاق ثلاثا في مجلس واحد صحيح ويقع ثلاثا.

٢ ـ شيخ الأزهر يأخذ برأي الشيعة

مع حكم الخليفة الثاني بوقوع الطّلاقات الثلاثة في مجلس واحد ذهب جماعة من أهل السّنة إلى عدم وقوعها ، ومنهم الشيخ الأزهر الأكبر (الشيخ محمود شلتوت) حيث كتب في مجلّة «رسالة الإسلام» وفي مقارنة بين آراء المذاهب الإسلاميّة وأخذ في كثير من الأحايين بآراء الشيعة ، لأنّها كما يقول أقوى دليلا ومن ذلك مسألة تعدّد الطّلاق وأفتى رحمه‌الله بأنّ الطلاقات الثلاثة في مجلس واحد هي بمثابة الطّلاق الواحد (١).

__________________

(١) رسالة الإسلام : العدد الأول السنة ١١ ص ١٠٨ ، نقلا عن هامش كنز العرفان : ج ٢ ص ٢٧١.

١٦٢

٣ ـ الحدود الإلهيّة

في هذه الآية وآيات كثيرة اخرى عبّرت عن القوانين الإلهيّة بكلمة (حد) وبهذا فإن المعصية ومخالفة هذه القوانين تعدّد تجاوزا للحد ، وفي الواقع فأنّ بين الأعمال التي يؤدّيها الإنسان توجد مجموعة مناطق ممنوعة ، أي يكون الدخول فيها خطرا وترسم القوانين والأحكام الإلهيّة حدود هذه المناطق الممنوعة كالعلامات المنصوبة على تلك المناطق ، ولهذا نقرأ في سورة البقرة النهي عن الاقتراب من هذه الحدود (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَقْرَبُوها)(١)لأنّ الاقتراب منها يعرّض الإنسان إلى خطر السقوط في الهاوية ، وكذلك ورد النهي في روايات أهل البيت عليهم‌السلام عن مواضع الشبهة ، لأنّه بحكم الاقتراب من شفا الهاوية الذي قد يستتبعه السقوط بأدنى غفلة (من حام حول الحمى أو شك أن يقع فيه).

* * *

__________________

(١) البقرة : ١٨٧.

١٦٣

الآية

(فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٢٣٠))

سبب النّزول

جاءت امرأة إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقالت : كنت عند ابن عمّي (رفاعة) فطلّقني ثلاثا ، فتزوّجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، ولكنّه أيضا طلّقني قبل أن يمسّني ، فهل لي أن أعود إلى زوجي الأول؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا ، حتّى يذوق عسيلتك ، وتذوقي عسيلته»

أي حتّى يتمّ النكاح مع الزوج الثاني (١).

التّفسير

جاء في الآية السابقة إجمالا أنّ للمرأة وللرجل بعد الطلاق الثاني أحد

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ و ٢ ص ٣٣٠ ، مع التلخيص من سبب النّزول الوارد في تفسير روح المعاني ، والقرطبي ، والمراغي.

١٦٤

أمرين : إمّا أن يتصالحا ويرجعا إلى الحياة الزوجية ، وإمّا أن ينفصلا انفصالا نهائيا.

هذه الآية حكمها حكم الفقرة التابعة لمادّة قانونية.

فهذه الآية تقول إن حكم الانفصال حكم دائمي ، إلّا إذا اتخذت المرأة زوجا آخر ، وطلّقها بعد الدخول بها ، فعندئذ لها أن ترجع إلى زوجها الأوّل إذا رأيا أنهما قادران على أن يعيشا معا ضمن حدود الله.

ويستفاد من الرّوايات عن أئمّة الدّين أنّ لهذا الزّواج الثاني شرطين ، أوّلا : أن يكون هذا الزّواج دائميّا ، والثاني : أن يتبع عقد الزّواج الاتّصال الجنسي ، ويمكن استفادة هذين الشرطين من مفهوم الآية أيضا ، أمّا الأوّل وهو أن يكون العقد دائميّا فلجملة (فَإِنْ طَلَّقَها) الشاهدة على هذا المعنى ، لأنّ الطّلاق لا يكون إلّا في العقد الدائمي ، وأمّا الوطء فيمكن أن يستفاد من جملة (حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ) لأنّ المستعمل في سيرة أدباء العرب أنّهم حينما يقولون (نكح فلانا فلانة) فيمكن أن يراد منه مجرّد العقد ، أمّا لو قيل (نكح زوجته) فهذا يدلّ على الوطء (لأنّه حسب الفرض أنّها زوجته فعند ما يقال (نكح) في مورد الزوجة فلا يعني سوى العمليّة الجنسيّة) (١) مضافا إلى أنّ المطلّق ينصرف إلى الفرد الغالب والغالب في عقد الزواج هو اقترانه بالوطئ ، ومضافا إلى ما تقدّم فإنّ لهذا الحكم فلسفة خاصّة لا تتحقّق بمجرّد إجراء العقد كما سنشير إلى ذلك لا حقا.

بحث

المحلّل مانع من تكرّر الطّلاق :

المعمول بين الفقهاء أنّهم يطلقون على الزّوج الثاني في هذه الموارد قسم

__________________

(١) تفسير التكبير : ج ٦ ص ١٠٤.

١٦٥

(المحلّل) لأنّه يؤدّي إلى أن تكون هذه المرأة حلال لزوجها السّابق (طبعا بعد الطّلاق والعدّة) والظّاهر أنّ مراد الشارع المقدّس من ذلك هو منع تعدّد الطّلقات.

توضيح ذلك : كما أنّ الزّواج أمر ضروريّ وحياتيّ بالنّسبة للإنسان ، فكذلك الطّلاق تحت شرائط خاصّة يكون ضروريّا أيضا ، ولذلك نجد أنّ الإسلام (وخلافا للمسيحيّة المحرّفة) يبيح الطّلاق ، ولكن بما أنّه يؤدّي إلى تشتيت العائلة وإلى إنزال ضربات موجعة بالفرد والمجتمع ، فقد وضعت شروط متنوعة للحيلولة دون وقوع الطّلاق قدر إمكان.

إنّ موضوع الزواج المجدّد أو «المحلّ» واحد من تلك الشروط ، إذ أنّ زواج المرأة من رجل جديد بعد طلاقها من زوجها الأول ثلاثا يعتبر عائقا كبيرا بوجه استمرار الطلاق أو التمادي فيه. فالذي يريد أن يطلّق زوجته الطلاق الثالث ، يشعر أنّه إن فعل ذلك فلن تعود إليه وتكون من نصيب غيره ، وهذا الشعور يجرح كرامته ، ولذلك فهو لن يقدم على هذا العمل عادة إلّا مضطرّا.

في الحقيقة أنّ قضية «المحلّل» أو الأصحّ زواج المرأة برجل آخر زواجا دائميا يعتبر مانعا يقف بوجه الرجال من ذوي الأهواء المتقلّبة والمخادعين لكي لا يجعلوا من النساء ألا عيب بين أيديهم وغرضا لخدمة أهوائهم ، وأن لا يمارسوا ـ بلا حدود ـ قانون الطلاق والعودة.

إنّ شروط هذا الزواج (كأن يكون دائميا) تدلّ على أنّ هذا الزواج ليس هدفه إيجاد وسيلة لإيصال الزوجة إلى زوجها الأول ، لأنه يحتمل أن لا يطلقها الزوج الثاني ، لذلك فلا يمكن استقلال هذا القانون ورفع العائق عن طريق زواج مؤقّت.

ومع الالتفات إلى ما ذكر أعلاه يمكن القول أنّ هدف الزّواج الثاني بعد ثلاث طلقات والسّماح لكلّ من الزوجين في تشكيل حياة زوجيّة جديدة من أجل أن لا يصبح الزّواج هذا الرّباط المقدّس مدعاة للتّغالب وفق أهواء الزوج الأوّل

١٦٦

ومشتهياته الشّيطانية ، وفي نفس الوقت إذا طلّقها الزوج الثاني فإنّ طريق العودة والرّجوع سيكون مفتوحا أمامهما فيجوز للزّوج الأوّل نكاحها من جديد ، ولذلك اطلق على الزوج الثاني (المحلّل).

ومن هنا يتّضح أنّ البحث يخص الزّواج الواقعي الجاد بالنّسبة إلى المحلّل ، أمّا إذا قصد شخص منذ البداية أن يتوسّل بزواج مؤقّت ، واعتبر القضية مجرّد شكليّات يحلّها (المحلّل) فإنّ زواجا هذا شأنه لا يؤخذ به ويكون باطلا ، كما أنّ المرأة لا تحلّ لزوجها الأوّل، ولعلّ الحديث المذكور(لعن الله المحلّل والمحلّل له)(١)يشير إلى هذا النوع من المحلّلين ، وهذا الأسلوب من الزّواج الظّاهري والشكلي.

وذهب البعض إلى أنّ الزوج الثاني إذا قصد الزّواج الدائمي الجدّي ، ولكن كانت نيّته أن يفتح طريق عودة المرأة ورجوعها إلى الزّوج الأوّل ، فإن هذا الزّواج يعتبر باطلا أيضا،وذهب البعض أيضا إلى أنّه في هذه الحالة يقع الزّواج صحيحا رغم أن نيّته هي إرجاع المرأة إلى زوجها الأوّل ، ولكنّه مكروها بشرط أن لا يذكر هذا المعنى كالجزء من شرائط العقد.

ومن هنا يتضح أيضا الضجّة المفتعلة للمغرضين الّذين اتّخذوا من (المحلّل) ذريعة لشن حملاتهم الظّالمة على أحكام الإسلام ومقدّساته ، فهذه الضجّة المفتعلة دليل على جهلهم وحقدهم على الإسلام ، وإلّا فإنّ هذا الحكم الإلهي بالشّرائط المذكورة عامل على منع الطّلاق المتكرّر والحدّ من التصرّفات الهوجاء لبعض الأزواج ، ودافع على إصلاح الوضع العائلي وإصلاح الحياة الزوجيّة.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان : ج ٢ ص ٣٣١ ، ونقل هذا الحديث تفسير القرطبي والمنار والمراغي في ذيل الآية المبحوثة أيضا.

١٦٧

الآية

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٣١))

التّفسير

تستمرّ هذه الآية في تبيان الأحكام التي أقرّها الإسلام للطلاق ، لكي لا تهمل حقوق المرأة وحرمتها.

تقول الآية : ما دامت العدّة لم تنته ، وحتّى في آخر يوم من أيامها ، فإنّ للرجل أن يصالح زوجته ويعيدها إليه في حياة زوجية حميمة : (فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

وإذا لم تتحسّن الظروف بينهما فيطلق سراحها (أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ).

ولكن كلّ رجوع أو تسريح يجب أن يكون في جوّ من الإحسان والمعروف

١٦٨

وأن لا يخالطه شيء من روح الانتقام. ثمّ تشير الآية إلى المفهوم المقابل لذلك وتقول :(وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ).

هذه الجملة في الحقيقة تفسير لكلمة «معروف» أي أنّ الرجوع يجب أن يكون على أساس من الصفا والوئام ، وذلك لأن الجاهليّين كانوا يتّخذون من الطّلاق والرجوع وسيلة للانتقام ، ولهذا يقول القرآن بلهجة قاطعة : إنّ استرجاع الزوجة يجب أن لا يكون رغبة في الإيذاء والاعتداء ، إذ أنّ ذلك ـ فضلا عن كونه ظلما للزوجة ـ ظلم لنفس الزوج أيضا.

والآن علينا أن نعرف لماذا يكون ظلم الزوج زوجته ظلما لنفسه أيضا؟

أولا : إنّ الرجوع المبني على غمط الحقوق لا يمكن أن يمنح الهدوء والاستقرار.

ثانيا : الرجل والمرأة ـ بالنظرة القرآنية ـ جزءان من جسد واحد في نظام الخلقة فكلّ غمط لحقوق المرأة هو ظلم وعدوان على الرجل نفسه.

ثالثا : إنّ من يستسيغ ظلم الآخرين يكون غرضا لنيل العقاب الإلهي ، فيكون بذلك قد ظلم نفسه.

ثمّ يحذّر القرآن الجميع : (وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللهِ هُزُواً) هذا التعبير يمكن أن يكون إشارة إلى بعض التقاليد الجاهلية المترسّخة في أفكار الناس ، ففي الرواية أنّ بعض الرجال في العصر الجاهلي يقولون حين الطّلاق : أنّ هدفنا من الطّلاق هو اللّعب والمزاح ، وكذلك الحال عند ما يعتقون عبدا أو يتزّوجون من امرأة.

فنزلت الآية أعلاه لتحذّرهم بأنّ كلّ من يطلّق زوجته أو يعتق عبده أو يتزوّج من امرأة أو يزوّجها من شخص آخر ، ثمّ يدّعي أنّه كان يمزح ويلعب فإنّه لا يقبل

١٦٩

منه ، ويتحقّق ما أقدم عليه في الواقع العملي بشكل جاد (١).

ويحتمل أيضا أنّ الآية ناظرة إلى حال الأشخاص الّذين يستغلّون الأحكام الشرعيّة لتبرير مخالفاتهم ويتمسّكون بالظّواهر من أجل بعض الحيل الشرعيّة ، فالقرآن يعتبر هذا العمل نوع من الاستهزاء بآيات الله ، ومن ذلك نفس مسألة الزّواج والطّلاق والرّجوع في زمان العدّة بنيّة الانتقام وإلحاق الضرّر بالمرأة والتّظاهر بأنّه يستفيد من حقّه القانوني.

فعلى هذا لا ينبغي الإغماض عن روح الأحكام الإلهيّة والتمسّك فقط بالظّواهر الجامدة لها ، فلا ينبغي اتّخاذ آيات الله ملعبة بيد هؤلاء ، فإنّه يعتبر ذنب عظيم ويترتّب عليه عقوبة أليمة.

ثمّ تضيف الآية (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

هذه تحذيرات من أجل أن تعلموا : أوّلا : أنّ الله تعالى عدّ تلك التصرّفات من خرافات وتقاليد الجاهليّة الشنيعة بالنّسبة إلى الزّواج والطّلاق وغير ذلك ، فأنقذكم منها وأرشدكم إلى أحكام الإسلام الحياتية ، فينبغي أن تعرفوا قدر هذه النّعمة العظيمة وتؤدّوا حقّها ، وثانيا : بالنسبة إلى حقوق المرأة ينبغي أن لا تسيئوا إليها بالاستفادة من موقعيّتكم،ويجب أن تعلموا أنّ الله تعالى مطّلع حتّى على نيّاتكم (٢).

* * *

__________________

(١) تفسير القرطبي : ج ٢ ص ٩٦٤ ، ومثله في تفسير المراغي : ج ٢ ص ١٧٩.

(٢) فعلى هذا تكون جملة «وما نزل عليكم من الكتاب والحكمة» عطف «نعمة الله» أو من قبيل عطف الخاصّ على العامّ وفي هذه الصورة يكون مفهوم «نعمة الله» واسعا حيث يشمل جميع النعم الإلهيّة التي منها نعمة المحبّة والألفة التي جعلها الله بين الزوجين.

١٧٠

الآية

(وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢٣٢))

سبب النّزول

كان أحد أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو «معقل بن يسار» يعارض زواج أخته «جملاء» من زوجها الأوّل «عاصم بن عدي» لأنّ عاصما كان قد طلّقها من قبل ، ولكن بعد انقضاء العدّة رغب الزوجان بالعودة بعقد نكاح جديد. فنزلت الآية ونهت الأخ عن معارضة هذا الزواج.

وقيل إنّ الآية نزلت في معارضة «جابر بن عبد الله» زواج ابنة عمّه من زوجها السابق (١).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ و ٢ ص ٣٣٢. ونقل أكثر المفسّرين مثل : القرطبي ، تفسير الكبير ، روح المعاني ، في ظلال القرآن أحد سبب نزول أو كلاهما في ذيل الآية المبحوثة.

١٧١

وربّما كان حقّ المنع هذا يعطي في الجاهليّة للأقربين.

لا شكّ أنّ الأخ وابن العمّ لا ولاية لهما ـ في فقهنا ـ على الاخت وابنة العم. إلّا أنّ هذه الآية تتحدّث عن حكم عام ـ كما سنرى ـ يشمل الأولياء وغير الأولياء ، وتقول أنّه حتّى الأب والأم وابن العم ، وكذلك الغرباء لا حقّ لهم في الوقوف بوجه هذا الزواج.

التّفسير

ذكرنا في البحوث السابقة كيف كانت النسوة يعشن في أسر العادات الجاهلية ، وكيف كن تحت سيطرة الرجال دون أن يعني أحد برغبتهنّ ورأيهنّ.

وإختيار الزوج كان واحدا من قيود ذلك الأسر ، إذ أنّ رغبة المرأة وإرادتها لم يكن لها أيّ تأثير في الأمر ، فحتّى من كانت تتزوج زواجا رسميا ثمّ تطلّق لم يكن لها حقّ الرجوع ثانية بمحض إرادتها ، بل كان ذلك منوطا برغبة وليّها أو أوليائها ، وكانت ثمّة حالات يرغب فيها الزوجان بالعودة إلى الحياة الزوجيّة بينهما ، ولكن أولياء المرأة كانوا يحولون دون ذلك تبعا لمصالحهم أو لتخيّلاتهم وأوهامهم.

إلّا أنّ القرآن أدان هذه العادة ، ورفض أن يكون للأولياء مثل هذا الحقّ ، إذ أنّ الزوجين ـ وهما ركنا الزواج الأصليان ، إذا توصّلا إلى اتفاق بالعودة بعد الانفصال ـ يستطيعان ذلك دون أن يكون لأحد حقّ الاعتراض عليهما. تقول الآية (وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ) هذا إذا كان المخاطب في هذه الآية هم الأولياء من الرجال الأقارب ، ولكن يحتمل أن يكون المخاطب هو الزوج الأوّل. بمعنى أنكم إذا طلقتم زوجاتكم فلا تمنعوهن من الزواج المجدّد مع رجال آخرين ، حيث إن بعض الأشخاص المعاندين في السابق وفي الحال الحاضر يشعرون بحساسية

١٧٢

شديدة تجاه زواج زوجاتهم السابقة من آخرين ، وما ذلك سوى نزعة جاهلية فحسب (١).

في الآية السابقة «بلوغ الأجل» يعني بلوغ أواخر أيام العدّة ، ولكن في هذه الآية المقصود هو انقضاء آخر يوم من العدّة ، بقرينة الزواج المجدّد. فالغاية في الآية السابقة جزء من المغيا وفي الآية محل البحث خارجة عن المغيا.

ويتبين من هذه الآية أنّ الثيّبات ـ أي اللّواتي سبق لهنّ الزواج ثمّ طلّقن أو مات أزواجهنّ ـ إذا شئن الزّواج ثانية فلا يلزمهنّ موافقة أوليائهنّ أبدا.

ثمّ تضيف الآية وتحذّر ثانية وتقول : (ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) ثمّ من أجل التأكيد أكثر تقول : (ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

يشير هذا المقطع من الآية إلى أنّ هذه الأحكام قد شرّعت لمصلحتكم غاية الأمر أنّ الأشخاص الّذين ينتفعون بها هم الّذين لهم أساس عقائدي من الإيمان بالله والمعاد ولا يتبّعون أهوائهم.

وبعبارة اخرى أنّ هذه الجملة تقول : أنّ نتيجة العلم بهذه الأحكام يصبّ في مصلحتكم ، لكنّكم قد لا تدركون الحكمة والغاية منها لجهلكم وقلّة معارفكم ، والله هو العالم بكلّ الأسرار ، ولذلك قرّر هذه الأحكام وشرّعها لما فيها من تزكيتكم وحفظ طهارتكم.

والجدير بالذّكر أنّ الآية تشير إلى أنّ العمل بهذه الأحكام يستوجب : (التزكية) و (الطهارة) فتقول (أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ) يعني أنّ العمل بها يطهّر أفراد العائلة من مختلف الأدناس والخبائث ، وكذلك يوجب لهم الخير والبركة والتكامل

__________________

(١) رجح البعض التفسير الثاني لأن المخاطب في الآيات السابقة هو الأزواج ولكنه يشكل بأن تعبير «أزواجهن» يكون تعبيرا مجازيا بالنسبة إلى الأزواج مضافا إلى انه لا ينسجم مع شأن النّزول.

١٧٣

المعنوي ، لأنّ «التّزكية» في الأصل (الزّكاة) بمعنى النمو.

وذكر بعض المفسّرين إنّ جملة (أَزْكى لَكُمْ) تشير إلى الثواب المترتّب على الأعمال، وجملة (أطهر) تشير إلى الطّهارة والنّقاء من الذّنوب. ومن البديهي أنّ الزّوجين بالرّغم من كلّ تلك العلاقة الوطيدة والحميمة التي تربط بينهما قد ينفصلا بسبب بعض الحوادث المؤسفة ، ولكن بعد الانفصال والفرقة ومشاهدة الآثار الوخيمة المترتّبة على هذه الفرقة يندمان ويصمّمان على العودة إلى الحياة المشتركة ، وهنا لا ينبغي التشدّد والتعصّب لمنع عودتهما لأنّ ذلك يخلّد آثارا سلبيّة وخيمة في روحيّة كلّ منهما ، وقد يؤدّي إلى انحرافهما وتلوّثهما بالرّذيلة ، وإن كان لهما أبناء كما هو الغالب فإنّ مصيرهم سوف يكون تعيسا جدّا ، ومسئوليّة هذه العواقب الأليمة والإفرازات المشؤومة تكون بعهدة من يمنع هذين الزّوجين من المصالحة.

* * *

١٧٤

الآية

(وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٢٣٣))

التّفسير

أحكام الرّضاع السّبعة :

هذه الآية في الواقع استمرار للأبحاث المتعلّقة بمسائل الزّواج والحياة الزّوجيّة ، وتبحث مسألة مهمّة هي مسألة (الرّضاع) ، وتذكر بعبارات مقتضبة وفي نفس الوقت ذات معنى عميق الجزئيات المتعلّقة بالرّضاع المختلفة ، فهناك على العموم سبعة أحكام في هذا الباب :

١٧٥

١ ـ تقول الآية في أوّلها (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ).

(والدات) جمع (والدة) وهي في اللّغة بمعنى الام ، ولكنّ كلمة الام لها معنى أوسع وهي قد تطلق على الوالدة وعلى الجدّة أي والدة الوالدة ، وقد تعني أصل الشيء وأساسه.

وفي هذا المقطع من الآية نلاحظ أنّ حقّ الإرضاع خلال سنتي الرضاعة يعود للام،فهي التي لها أن ترضع مولودها خلال هذه المدّة وأن تعتني به ، وعلى الرغم من أنّ (الولاية) على الأطفال الصغار قد أعطيت للأب ، ولكن لمّا كانت تغذية الوليد الجسمية والروحية خلال هذه المدّة ترتبط ارتباطا لا ينفصم بلبن الأم وعواطفها ، فقد أعطيت حقّ الاحتفاظ به ، كما تجب مراعاة عواطف الأمومة ، لأنّ الأم لا تستطيع في هذه اللحظات الحسّاسة أن ترى حضنها خاليا من وليدها وأن لا تبالي به ، وعليه فإنّ تخصيصها بحقّ الحضانة والرعاية والرضاعة يعتبر حقا ذا جانبين ، فهو يرعى حال الطفل كما يرعى حال الأم ، والتعبير بـ «أولادهن» إشارة لطيفة إلى هذا المعنى. وبالرغم من أن الجملة مطلقة ظاهرا وتشمل النساء المطلقات وغير المطلقات ، ولكن الجملة اللاحقة توضح أن الآية تقصد النساء المطلقات مع وجود هذا الحقّ لسائر الأمهات ، ولكن في صورة عدم وجود الطلاق فلا أثر عملي لهذا الحكم.

٢ ـ ليس من الضروري أن تكون مدّة رضاعة الطفل سنتين حتما ، إنّما السنتان لمن يريد أن يقضي دورة رضاعة كاملة (لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ) ولكن للأم أن تقلل من هذه الفترة حسب مقتضيات صحّة الطفل وسلامته.

في الروايات التي وصلتنا من أهل البيت عليهم‌السلام أنّ دورة رضاعة الطفل الكاملة سنتان كاملتان ، ودورتها غير الكاملة ٢١ شهرا (١) ، ولعلّ هذا يأخذ أيضا بنظر

__________________

(١) وسائل الشيعة : ج ١٥ ص ١٧٧ (باب أقلّ مدّة الرضاع وأكثره) ج ٢ و ٥ ، وورد في بعض هذه الروايات إذا نقص عن (٢١) شهرا كان ظلما للرضيع.

١٧٦

الاعتبار مفاد هذه الآية مع الآية (١٥) من سورة الأحقاف التي تقول (وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً). ولمّا كانت فترة الحمل ٩ أشهر ، فتكون فترة الرضاعة الاعتيادية ٢١ شهرا.

ولمّا لم يكن في آية سورة الأحقاف ما يفيد الإلزام والوجوب ، فإنّ للوالدات الحقّ في تخفيض فترة ال ٢١ شهرا بما يتّفق وصحّة الوليد وسلامته.

٣ ـ نفقة الأم في الطعام واللباس ، حتّى عند الطلاق أثناء فترة الرضاعة تكون على والد الطفل ، لكي تتمكن الأم من الانصراف إلى العناية بطفلها وإرضاعه مرتاحة البال وبدون قلق.

(وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ).

هنا تعبير «المولود له» بدلا من «الأب» يستلفت الانتباه ، ولعلّه جاء لاستثارة عواطف الأبوة فيه في سبيل حثّه على أداء واجبه. أي أنّه إذا كان قد وضع على عاتقه الإنفاق على الوليد وأمه خلال هذه الفترة ، فذلك لأنّ الطفل ابنه وثمرة فؤاده ، وليس غريبا عنه.

إنّ الإتيان بقيد «المعروف» يشير إلى أنّ طعام الأم ولباسها ينبغي أن يكونا من اللائق بها والمتعارف عليه ، فلا يجوز التقتير ولا الإسراف.

ولرفع كلّ غموض محتمل تشير الآية إلى أنّ على كلّ أب أن يؤدّي واجبه على قدر طاقته (لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها). ويرى البعض أن هذه الجملة بمثابة العلّة لأصل الحكم. والبعض الآخر بعنوان تفسير الحكم السابق (والنتيجة واحدة).

٤ ـ لا يحقّ لأيّ من الوالدين أن يجعلا من مستقبل وليدهما ومصيره أمرا مرتبطا بما قد يكون بينهما من اختلافات ، فيكون من أثر ذلك أن تصاب نفسية الوليد بضربة لا يمكن تفادي آثارها.

(لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ).

على الأب أن يحذر انتزاع الوليد من أحضان أمه خلال فترة الرضاعة

١٧٧

فيعتدي بذلك على حقّ الأم في حضانة وليدها. كما أنّ على الأم التي أعطيت هذا الحقّ أن لا تستغله وأن لا تتذرّع بمختلف الأعذار الموهومة للتنصّل من إرضاع وليدها ، أو أن تحرم الأب من رؤية طفله.

وذكر احتمال آخر في تفسير الآية وهو أنّ المراد أنّ الأب ليس له أن يسلب الزّوجة حقّها في المقاربة الجنسيّة بسبب الخوف من الحمل وفي النتيجة الإضرار بالمرضع ، ولا الام بإمكانها منع زوجها من هذا الحقّ لهذا السبب ، ولكنّ التفسير الأوّل أكثر انسجاما مع ظاهر الآية (١).

التعبير ب (ولدها) و (ولده) من أجل تشويق الآباء والأمّهات برعاية حال الأطفال الرّضع ، مضافا إلى أنّه إشارة إلى أنّ الرّضيع متعلّق لكليهما خلافا لما هو المرسوم من تقاليد الجاهليّة من أنّ الولد متعلّق بالأب خاصّة وليس للام سهم من الحقّ فيه.

٥ ـ ثمّ تبيّن الآية حكما آخر يتعلّق بما بعد وفاة الأب فتقول : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ).

يعني أنّ الورثة يجب عليهم تأمين احتياجات الام في مرحلة الرّضاعة للطفل ، وهناك احتمالات اخرى في تفسير الآية الشريفة ولكنّها ضعيفة.

٦ ـ وتتحدّث الآية أيضا عن مسألة فطام الطّفل عن الرّضاعة وتجعله بعهدة كلّ من الأبوين على الرّغم ممّا جاء في الآيات السابقة من تحديد فترة الرّضاعة ، إلّا أنّ للأبوين أن يفطما الطّفل وقت ما يشاءان حسب ما تقتضيه صحّة الطّفل وسلامته الجسميّة ، وتقول الآية : (فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما).

وفي الواقع أنّ الأب والام يجب أن يراعيا مصالح الطّفل ويتشاوران في ذلك

__________________

(١) على التفسير الأوّل فعل «لا تضار» فعل معلوم ، وعلى التفسير الثاني فعل مجهول وإن كان تلفظ الاثنين واحدا ، تأمل جيدا.

١٧٨

للوصول إلى التّوافق والتّراضي ، فيضعان برنامج مدروس لفطام الطّفل من الرّضاع دون أن يحدث لهما مشاجرة في هذه المسألة والتي قد تؤدّي إلى ضياع حقوق الطّفل.

٧ ـ أحيانا تمتنع الام من حضانة الطّفل وحقّها في إرضاعه ورعايته أو أنّه يوجد هناك مانع حقيقي لذلك ، ففي هذه الصّورة يجب التفكير في حلّ هذه المسألة ولهذا تقول الآية (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ).

وهناك عدّة تفاسير لجملة (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) فذهب بعض المفسّرين.

وأنّه لا مانع من اختيار مرضعة بدل الام بعد توافق الطرفين بشرط أنّ هذا الأمر لا يسبّب إهدار حقوق الام بالنسبة إلى المدّة الفائتة من الرّضاعة ، بل يجب إعطاءها حقّها في المدّة الفائتة التي أرضعت فيها الطّفل حسب ما تقتضيه الأعراف والعادات.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ العبارة ناظرة إلى حقّ المرضعة ، فيجب أداء حقّها وفقا لمقتضيات العرف والعادة ، وذهب آخرون إلى أنّ المراد من هذه الجملة هو اتّفاق الأب والأم في مسألة انتخاب المرضعة فعلى هذا تكون تأكيدا للجملة السابقة ، ولكنّ هذا التفسير ضعيف ظاهرا ، والصحيح هو التفسير الأوّل والثاني ، وقد اختار المرحوم (الطبرسي) التفسير الأوّل (١).

وفي الختام تحذّر الآية الجميع وتقول (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

فلا ينبغي للاختلافات التي تحصل بين الزّوجين أن تؤدّي إلى إيقاد روح الانتقام فيهما حيث يعرّض مستقبلهما ومستقبل الطّفل إلى الخطر ، فلا بدّ أن يعلم

__________________

(١) تفسير مجمع البيان : ج ١ و ٢ ص ٣٣٦.

١٧٩

الجميع بأنّ الله تعالى يراقب أعمالهم بدقّة.

هذه الأحكام المدروسة بدقّة والمشفوعة بالتّحذيرات تبيّن بوضوح درجة اهتمام الإسلام بحقوق الأطفال وكذلك الامّهات حيث يدعو إلى رعاية الحدّ الأكثر من العدالة في هذا المجال.

أجل ، فإنّ الإسلام ـ وعلى خلاف ما هو السائد في العالم المادي المعاصر حيث تسحق فيه حقوق الطبقة الضعيفة ـ يهتم غاية الاهتمام بحفظ حقوقهم.

* * *

١٨٠