الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

الآيتان

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٢٦) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٧))

التّفسير

القضاء على تقليد جاهلي :

القسم على ترك وطء الزوجة أو الإيلاء (١) تقليد جاهلي كان شائعا بين العرب،واستمرّ معمولا به عند المسلمين الجدد قبل نزول حكم الطلاق.

كان الرجل في الجاهلية ـ حين يغضب على زوجته ـ يقسم على عدم وطئها،فيشدّد عليها بهذه الطريقة الفضّة ، لا هو يطلق سراحها بالطلاق لتتزوج من رجل آخر ، ولا يعود إليها بعد هذا القسم ليصالحها ويعايشها. وطبعا لا يواجه الرجل غالبا صعوبة في ذلك لأنه يتمتع بعدة زوجات.

__________________

(١) كلمة «إيلاء» من مادة «الو» بمعنى القدرة والعزم ، وبما أن القسم نموذج من هذا المعنى ولذا اطلق على الطلاق.

١٤١

الآية الكريمة وضعت لهذه القضية حدّا ، فذكرت أنّ الرجل يستطيع خلال مدّة أقصاها أربعة أشهر أن يتّخذ قرارا بشأن زوجته : إمّا أن يعود عن قسمه ويعيش معها ، أو يطلّقها ويخلّي سبيلها.

(لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ).

والغاية من الامهال أربعة أشهر هو إعطاء الفرصة للزوج ليفكر في أمره مع زوجته وينقذها من هذا الحال. ثمّ تضيف : (فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أي إن عادوا وجدوا الله غفورا رحيما ، والعبارة تدلّ أيضا أنّ العودة عن هذا القسم ليس ذنبا ، بالرغم من ترتب الكفّارة عليه.

(وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي فلا مانع من ذلك مع توفّر الشروط اللازمة.

وفيما لو أهمل الزوج كلا الطريقين ولم يختر أحدهما ، فلم يرجع إلى الحياة الزوجية السليمة ، ولم يطلّق. ففي هذه الصورة يتدخّل حاكم الشرع ويأمر بإلقاء الزوج في السجن،ويشدد عليه حتّى يختار أحدهما ، وينقذ الزوجة من حالتها المعلّقة.

ينبغي التأكيد هنا على أنّ الإسلام ، وإن لم يلغ حكم الإيلاء نهائيا ، فقد أزال آثار هذه الظاهرة ، لأنّه لم يسمح للرجل أن ينفصل عن زوجته بالإيلاء. وتعيينه مدّة للذين يؤلون من نسائهم لا يعني إلغاء حقّ من حقوق الزوجيّة ، لأنّ حقّ المرأة على زوجها ـ في إطار الوجوب الشرعي ـ الوطء كلّ أربعة أشهر ، هذا طبعا في حالة عدم انجرار المرأة إلى الذنب على أثر طول المدّة ، وإلّا يجب أن تقلّل المدّة إلى مقدار تأمين الحاجة الجنسية وخاصّة بالنسبة للمرأة الشابّة التي يخشى انحرافها.

* * *

١٤٢

بحوث

١ ـ الإيلاء حكم استثنائي

تقدّم الحديث في الآيات السّابقة عن القسم اللّغو ، وقلنا أنّ كلّ قسم على فعل ما يخالف الشّريعة المقدّسة فهو من مصاديق اللّغو في القسم ، فلا إشكال من نقضه ، وعلى ذلك فالقسم على ترك الواجبات الزوجيّة لا أثر له إطلاقا ، في حين أنّ الإسلام قد جعل له كفّارة (١) (وهي كفّارة نقض القسم واليمين المذكورة في الأبحاث السّابقة) وهذا في الحقيقة عبارة عن عقوبة لبعض الرجال الّذين يتوسّلون بهذه الذريعة لتضييع حقوق الزّوجة حتّى لا يقوموا بتكرار هذا العمل مرّة اخرى.

٢ ـ الإيلاء في حكم الإسلام والغرب

في اوروبا نلاحظ وجود ما يشبه الإيلاء ويطلقون عليه الانفصال البدني وتوضيحه : أنه بما أن الطلاق كان محضورا في الديانة المسيحية لذا قام الغربيّين بعد الثورة الفرنسيّة الكبرى باستخدام ظاهرة الانفصال الجسمي بين الزوجين باعتبارها إحدى سبل الطّلاق ، وذلك بأن يعيش الرجل في مكان والمرأة في مكان آخر عند عدم وجود الوفاق بينهما ، وتبقى كلّ الحقوق الزوجيّة محفوظة سوى نفقة الرجل وتمكين المرأة ، فالرجل لا يستطيع أن يتزوّج بامرأة اخرى ولا المرأة كذلك على أن لا تتجاوز مدّة الانفصال ثلاث سنوات يجب على الزوجين بعدها أن يعودا إلى حياتهم الزوجيّة (٢) ، فالبرّغم من أنّ القانون الغربي سمح للزّوجين أن ينفصلا في ثلاث سنين ، إلّا أنّ الإسلام لم يسمح لهذا الانفصال أن

__________________

(١) إذا جامع الرجل قبل الأربعة أشهر فإن الكفّارة واجبة عليه إجماعا وإذا جامع بعد الأربعة أشهر فإن هذا الحكم مشهور بين الفقهاء ، رغم أن البعض أنكروا الكفّارة في هذه الصورة.

(٢) حقوق المرأة في الإسلام وأوروبا.

١٤٣

يستمر أكثر من أربعة أشهر واستمرار هذه المدّة جائز حتّى مع عدم القسم ، وبعد هذه المدّة يجب على الرجل أن يعيّن أمره ، فإذا أراد أن يماطل أكثر من هذه المدّة فإنّ الحكومة الإسلاميّة تستدعيه وترغمه على اتّخاذ قراره النّهائي.

٣ ـ الصّفات الإلهيّة في ختام كلّ آية

ممّا يلفت النّظر أنّ الكثير من آيات القرآن تختتم أبحاثها بصفات الله تعالى وهذه الصفات لها ارتباط مباشر بمحتوى الآيات دائما ، ومن جملة هذه الآيات ما نحن فيه ، فعند ما كان الحديث عن الإيلاء والتصميم على نقض هذا القسم الممنوع تذكر الآية بعدها جملة (غَفُورٌ رَحِيمٌ) وهي إشارة إلى أنّ هذا السلوك السليم سبب لغفران الله تعالى وشمول رحمته لهؤلاء الأشخاص ، وعند ما كان الحديث يدور حول التصميم على الطّلاق كانت العبارة (سَمِيعٌ عَلِيمٌ) يعني أنّ الله تعالى يسمع كلامكما ومطّلع على دوافع الطّلاق والفرقة وسوف يجازيكم وفقا لهذا العمل.

* * *

١٤٤

الآية

(وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٨))

التّفسير

حريم الزّواج أو العدّة :

كان الكلام في الآية السّابقة عن الطّلاق ، وهنا تذكر الآية بعض أحكام الطّلاق وما يتعلّق به حيث ذكرت خمسة أحكام له في هذه الآية.

في البداية ذكرت الآية عدّة الطّلاق (وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ).

(قروء) جمع (قرء) تطلق على الحيض وعلى النقاء منه ، ويمكن الاستفادة من كلا هذين المعنيين مفهوما كليّا يجمع بينهما ، وهو الانتقال من حالة إلى حالة

١٤٥

اخرى ويرى «الرّاغب» في المفردات أنّ «القرء» في الحقيقة هي كلمة يراد منها الانتقال من حالة الحيض إلى الطّهر ، وبما أنّ كلا هذين العنوانين مأخوذان في معنى الكلمة،فتستعمل أحيانا بمعنى الحيض واخرى بمعنى الطّهر ، ويستفاد من بعض الرّوايات وكثير من كتب اللّغة أنّ القرء تعني الجمع بين الحالتين ، وبما أنّ حالة الطّهر يجتمع في المرأة مع وجود دم الحيض في رحمها فتطلق هذه المفردة على الطّهر وعلى كلّ حال فقد ورد التّصريح في الروايات أنّ المقصود بالقروء الثلاثة في الآية أن تطهر المرأة ثلاث مرّات من دم الحيض (١).

وبما أنّ الطّلاق يشترط فيه أن تكون المرأة في حالة الطّهر الّذي لم يجامعها زوجها فيه فيحسب ذلك الطّهر مرّة واحدة ، وبعد أن ترى المرأة دم الحيض مرّة وتطهر منه حينئذ تتم عدّتها بمجرّد أن ينتهي الطّهر الثالث وتشرع ولو للحظة في العادة ، فيجوز لها حينئذ الزّواج،ومضافا إلى الروايات في هذا المجال يمكن استنباط هذه الحقيقة من نفس الآية مورد البحث لأنّ :

أوّلا : (قرء) تستبطن جمعان : قروء وأقراء ، وما كان جمعه قروء فهو طهر ، وما كان جمعه أقراء فهو بمعنى الحيض (٢).

ثانيا : القرء في اللّغة بمعنى الجمع ، كما تقدّم وهي أنسب لحالة الطّهر ، لأنّ الدم يتجمّع في هذه الحالة في الرّحم بينما يخرج ويتفرّق عند العادة الشهريّة (٣).

الحكم الثاني المستفاد من هذه الآية هو قوله تعالى (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ).

الإسلام قرّر أن تكون المرأة بنفسها هي المرجع في معرفة بداية العدّة

__________________

(١) راجع تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٢٣٠ و ٢٣١.

(٢) راجع قاموس اللّغة.

(٣) لسان العرب : مادة «قرء».

١٤٦

ونهايتها حيث إنّ المرأة نفسها أعلم بذلك من الآخرين ، وفي الرّواية عن الإمام الصّادق عليه‌السلام في تفسير الآية محلّ البحث قال : «قد فوّض الله إلى النّساء ثلاثة أشياء : الحيض والطّهر والحمل» (١).

ويمكن أن يستفاد من الآية هذا المعنى أيضا ، لأنّ الآية تقول (وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) ويخبرن بخلاف الواقع ، وهذا يعني أن كلامهنّ مقبول.

وجملة (ما خَلَقَ اللهُ فِي أَرْحامِهِنَ) كما ذهب إليه جماعة من المفسّرين يمكن أن يراد بها معنيان : (الجنين) و (العادة الشهريّة) لأنّ كلا هذين المعنيين قد جعلهما الله في أرحام النساء أي يجب على المرأة أن لا تكتم حملها وتدّعي العادة الشهريّة بهدف تقليل مدّة العدّة (لأنّ عدّة الحامل وضع حملها) وهكذا يجب عليها أن لا تخفي وضع حيضها وتبيّن خلاف الواقع ، ولا يبعد استفادة كلا هذين المعنيين من العبارة أعلاه.

الحكم الثالث المستفاد من الآية هو أنّ للزّوج حقّ الرّجوع إلى زوجته في عدّة الطّلاق الرّجعي ، فتقول الآية : (وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) (٢).

وبهذا يستطيع الزّوج استئناف علاقته الزوجية بدون تشريفات خاصّة إذا كانت المرأة في عدّة الطّلاق الرّجعي ، فإذا قصد الرّجوع يتحصّل بمجرّد كلمة أو عمل يصدر منه بهذا القصد ، وجملة : (إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً) في الحقيقة هي لبيان أنّ هدف الرّجوع يجب أن يكون بنيّة الإصلاح لا كما كان عليه الحال في العصر

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٣٢٦ في ذيل الآية المبحوثة.

(٢) «بعولة» جمع «بعل» بمعنى الزوج ويقول الراغب في مفرداته بأن البعض يرى إطلاقها على الزوج والزوجة. (تفسير الكبير : ج ٦ ص ٩٣) وقيل أن هذه المفردة تعطي معنى العلو والأفضلية.

١٤٧

الجاهلي من أنّ الزّوج يستخدم هذا الحق لغرض الإضرار بالزّوجة حيث يتركها في حالة معلّقة بين الزّواج والطّلاق.

فهذا الحقّ يكون للزّوج في حالة إذا كان نادما واقعا وأراد أن يستأنف علاقته الزّوجيّة بجديّة ، ولم يكن هدفه الإضرار بالزّوجة.

ضمنا يستفاد ممّا ورد في ذيل الآية من مسألة الرّجوع هو أنّ حكم العدّة والاهتمام بحساب أيّامها يتعلّق بهذه الطائفة من النساء ، وبعبارة اخرى أنّ الآية تتحدّث بشكل عام عن الطّلاق الرّجعي ولهذا فلا مانع من أن تكون بعض أقسام الطّلاق بدون عدّة أصلا.

ثمّ تبيّن الآية حكما رابعا وتقول : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ).

يقول الطبرسي في مجمع البيان أنّه يستفاد من هذه العبارة العجيبة والجامعة فوائد كثيرة جدّا (١) ، فهي قد جرّت البحث إلى مسائل أهم بكثير من الطّلاق والعدّة ، وقرّرت مجموعة من الحقوق المتبادلة بين الرّجال والنساء فتقول : كما أنّ للرّجال حقوقا على النساء ، فكذلك للنساء حقوق على الرّجال أيضا ، فيجب عليهم مراعاتها ، لأنّ الإسلام اهتمّ بالحقوق بصورة متعادلة ومتقابلة ولم يتحيّز إلى أحد الطّرفين.

وكلمة (بالمعروف) التي تأتي بمعنى الأعمال الحسنة المعقولة والمنطقيّة تكرّرت في هذه السلسلة من الآيات اثنا عشر مرّة (من الآية مورد البحث إلى الآية ٢٤١) كيما تحذّر النساء والرّجال من عاقبة سوء الاستفادة من حقوق الطّرف المقابل ، وعليهم احترام هذه الحقوق والاستفادة منها في تحكيم العلاقة

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٣٢٧.

١٤٨

الزوجيّة وتحصيل رضا الله تعالى.

جملة (وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) تكمّل القاعدة السابقة في الحقوق المتقابلة بين الرّجل والمرأة ، وفي الواقع أنّ مفهومها هو أنّ مسألة العدالة بين الرّجل والمرأة لا تكون بالضّرورة بمعنى التساوي في الحقوق وأن يكونا في عرض واحد ، فهل يلزم أن يكون الجنسان، متساويين تماما في الواجبات والحقوق؟

لو أخذنا بنظر الإعتبار الاختلافات الكبيرة بين الجنسين على صعيد القوى الجسميّة والروحيّة لا تّضح الجواب عن السؤال.

المرأة بطبيعة مسئوليتها الحسّاسة في إنجاب الأبناء وتربيتهم تتمتّع بمقدار أوفر من العواطف والمشاعر والإحساسات ، في حين أنّ الرجل وطبقا لهذا القانون انيطت به مسئولية الواجبات الاجتماعيّة التي تستلزم قوّة الفكر والابتعاد عن العواطف والأحاسيس الشخصيّة أكثر ، ولو أردنا إقامة العدالة فيجب أن نضع الوظائف الاجتماعيّة التي تحتاج إلى تفكّر وتحمّل أكثر بعهدة الرّجال ، والوظائف والمسؤوليّات التي تحتاج إلى عواطف وإحساسات أكثر بعهدة النّساء ، ولهذا السبب كانت إدارة الاسرة بعهدة الرّجل ومقام المعاونة بعهدة المرأة ، وعلى أيّ حال فلا يكون هذا مانعا من تصدّي المرأة للمسؤوليّات الاجتماعيّة المتوائمة مع قدراتها الجسميّة وملكاتها البيولوجيّة فتؤدّي تلك الوظائف والمسؤوليّات إلى جانب أداء وظيفة الامومة في الاسرة.

وكذلك لا يكون هذا التفاوت مانعا من تفوّق بعض النّساء من الجهات المعنويّة والعلميّة والتقوائيّة على كثير من الرّجال.

فما نرى من إصرار بعض المثقّفين على مقولة التساوي بين الجنسين في جميع الأمور هو إصرار لا تؤيّده الحقائق على أرض الواقع حيث ينكرون في

١٤٩

دعواهم هذه الثّوابت العلميّة في هذا المجال ، فحتّى في المجتمعات التي تنادي بالمساواة بين الجنسين في مختلف المجالات نشاهد عملا بونا شاسعا مع نداءاتهم ، فمثلا الإدارة السياسيّة والعسكريّة لجميع المجتمعات البشريّة هي في عهدة الرّجال (إلّا في موارد استثنائيّة) حيث يرى هذا المعنى أيضا في المجتمعات الغربيّة التي ترفع شعار المساواة دائما.

وعلى كلّ حال ، فالحقوق التي يختّص بها الرّجال مثل حقّ الطّلاق أو الرّجوع في العدّة أو القضاء (إلّا في موارد خاصّة اعطي فيها حقّ الطّلاق للزّوجة أو حاكم الشرع) ترتكز على هذا الأساس ونتيجة مباشرة لهذه الحقائق العمليّة.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ جملة : (لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) ناظرة إلى مسألة الرّجوع في عدّة الطّلاق فقط (١) ، ولكن من الواضح إنّ هذا التفسير لا يتواءم وظاهر الآية،لأنّ الآية ذكرت قبل ذلك قانونا كليّا حول حقوق المرأة ووجوب رعاية العدالة بجملة (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ثمّ أوردت العبارة مورد البحث بشكل قانون كلّي آخر بعد ذلك.

وأخيرا تقول الآية : (وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) وهذا إشارة إلى ما يرد في هذا المجال من إشكالات وتساؤلات وأنّ الحكمة الإلهيّة والتدبير الرّباني يستوجبان أن يكون لكلّ شخص في المجتمع وظائف وحقوق معيّنة من قبل قانون الخلقة ويتناسب مع قدراته وقابليّاته الجسميّة والرّوحيّة ، وبذلك فإنّ الحكمة الإلهيّة تستوجب أن تكون للمرأة في مقابل الوظائف والمسؤوليّات الملقاة على عاتقها حقوقا مسلّمة كيما يكون هناك تعادل بين الوظيفة والحقّ.

* * *

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن : ج ١ ص ٣٦٠.

١٥٠

بحوث

١ ـ العدّة وسيلة للعودة والصّلح

أحيانا ينشأ في مناخ الاسرة وبسبب عوامل مختلفة بعض الاختلافات الجزئيّة وتتهيّأ الأرضيّة النفسيّة لكلّ من الزّوجين بشكل يشتد فيه حس الانتقام وتنطفأ فيه أنوار العقل والوجدان. وفي الغالب تكون حالات الفرقة وتشتّت العائلة ناشئة من هذه الموارد والحالات ، ولكن يشاهد في كثير من الحالات أنّ كلّ من الزّوجة والزّوج بعد حصول النّزاع والفرقة بفترة قليلة من الزّمان يصيبهم النّدم وخاصّة بعد مشاهدة انهدام الاسرة وتلاشي المحيط العائلي الدّافئ لتصبّ حياتهم في بحر المشاكل المختلفة.

وهنا تقول الآية مورد البحث : أنّ على النّساء العدّة والصبر ريثما تهدأ تلك الأمواج النفسيّة وتنقشع سحب النّزاع والعداوة عن سماء الحياة المشتركة ، وخاصّة إذا أخذنا بنظر الإعتبار حكم الإسلام في وجوب بقاء المرأة وعدم خروجها من بيت زوجها طيلة مدّة العادة حيث يبعث ذلك على حسن التفكّر وإعادة النّظر في قرار الطّلاق ممّا يؤثّر ذلك كثيرا في رسم وصياغة علاقاتها مع زوجها ، ولذلك نقرأ في سورة الطّلاق آية (١) (لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ ... لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً).

وفي الغالب نلحظ أنّه يكفي لاستعادة المناخ الملائم والأجواء الدّافئة للاسرة قبل الطّلاق قليل من تقوية المحبّة وإعادة المياه إلى مجاريها.

٢ ـ العدّة وسيلة لحفظ النّسل

إنّ إحدى الأغراض المهمّة للعدّة هو اتّضاح حالة المرأة بالنّسبة إلى الحمل ،

١٥١

فصحيح أنّ رؤية المرأة لدم الحيض مرّة واحدة دليل على عدم الحمل ، ولكن أحيانا ترى المرأة دم العادة حين الحمل أيضا وفي بدايته ، فمن أجل رعاية هذا الموضوع والحكم بشكل كامل كان على المرأة أن تصبر لترى العدّة ثلاث مرّات وتطهر منها حتّى تقطع تماما بعدم حملها من زوجها السّابق فيمكنها بعد ذلك الزّواج المجدّد ، وطبعا هناك فوائد اخرى للعدّة سنشير إليها في مواردها.

٣ ـ تلازم الحقّ والوظيفة

هنا يشير القرآن الكريم إلى أصل أساس ، وهو أنّه كلّما كانت هناك وظيفة ومسئوليّة كان هناك حقّ إلى جانبها ، يعني أنّ الوظيفة والحقّ لا ينفصلان أبدا ، فمثلا أنّ على الوالدين وظائف بالنّسبة للأولاد ، وهذه الوظائف تسبّب إيجاد حقوق في عهدة الأولاد ، أو أنّ القاضي موظّف في تحقيق العدالة في المجتمع ما أمكنه ذلك ، وفي مقابل هذه الوظيفة والمسؤوليّة له حقوق كثيرة في عهدة الآخرين ، وهكذا بالنّسبة إلى الأنبياء عليهم‌السلام وأقوامهم.

وفي الآية مورد البحث إشارة إلى هذه الحقيقة حيث تقول أنّ النساء لهنّ من الحقوق بمقدار ما عليهنّ من الواجبات والوظائف ، وهذا التّساوي بين الحقوق والواجبات يسهّل عمليّا إجراء العدالة في حقّهن ، وكذلك يثبت عكس هذا المطلب أيضا فمن جعل له حقّا ففي مقابله عليه واجبات ومسئوليّات لا بدّ من أدائها ، ولذلك لا نجد أحدا له حقّ من الحقوق في أحد الموارد وليست في ذمتّه وظيفة ومسئوليّة.

٤ ـ قصّة المرأة في التّاريخ وحقوقها المهدورة

عانت المرأة خلال العصور التاريخيّة المختلفة ألوانا من الظلم والاضطهاد

١٥٢

والتعسّف ، ويشكّل هذا التاريخ المؤلم المرّ جزء هامّا من الدراسات الاجتماعية بشكل عامّ يمكن تقسيم تاريخ حياة المرأة إلى مرحلتين :

المرحلة الاولى : مرحلة ما قبل التاريخ ، وليس لنا معلومات صحيحة عن وضع المرأة في هذه المرحلة ، ومن الممكن أن تكون قد تمتّعت آنذاك بحقوقها الإنسانية الطبيعيّة.

والمرحلة الثانية : مرحلة التاريخ ، والمرأة كانت خلالها في كثير من المجتمعات شخصيّة غير مستقلة في جميع الحقوق الاقتصادية والسياسية والاجتماعية ، واستمرّ هذا الوضع في قسم من المجتمعات حتّى القرون الأخيرة.

هذا اللون من التفكير بشأن المرأة مشهود حتّى في القانون المدنيّ الفرنسيّ المشهور بتقدّميته ، على سبيل المثال نشير إلى بعض فقراته المتعلّقة بالشؤون المالية للزوجين :

يستفاد من المادّتين ٢١٥ و ٢١٧ أنّ المرأة المتزوجة لا تستطيع بدون إذن زوجها وتوقيعه أن تؤدّي أيّ عمل حقوقي ، وتحتاج في كلّ معاملة إلى إذن الزوج. هذا إذا لم يرد الرجل أن يستغلّ قدرته وأن يمتنع عن الإذن دون مبرّر.

وحسب المادّة ١٢٤٢ يحقّ للرجل أن يتصرّف لوحده بالثروة المشتركة بين المرأة والرجل بأيّ شكل من الأشكال ، ولا يلزمه استئذان المرأة بشرط أن يكون التّصرّف في إطار الإدارة،وإلّا لزمت موافقة المرأة وتوقيعها.

وأكثر من ذلك ورد في المادة ١٤٢٨. : إنّ حقّ إدارة جميع الأموال الخاصّة بالمرأة موكول إلى الرجل ـ على أنّ المعاملة الخارجة عن حدود الإدارة تتطلّب موافقة المرأة وتوقيعها ـ.

وفي أرض الرسالة الإسلامية ـ أي الحجاز ـ كانت المرأة تعامل معاملة الكائن غير المستقل ، وكانوا يستثمرونها بشكل فظيع قريب من حالة التوحّش.

١٥٣

وبلغ وضع المرأة من الانحطاط بحيث إن صاحبها كان يستفيد منها للارتزاق أحيانا ، فيعرضها للإيجار.

ما كان يعانيه هؤلاء من فقر حضاري وفقر مادّي جعل منهم قساة لا يتورّعون عن ارتكاب جريمة «الوأد» بحقّ الأنثى.

٥ ـ المرحلة الجديدة في حياة المرأة

مع ظهور الإسلام وانتشار تعاليمه السامية ، دخلت حياة المرأة مرحلة جديدة بعيدة كلّ البعد عمّا سبقها. في هذه المرحلة أصبحت المرأة مستقلّة ومتمتّعة بكلّ حقوقها الفردية والاجتماعية والإنسانية.

تقوم تعاليم الإسلام بشأن المرأة على أساس الآيات التي ندرسها في هذا المبحث حيث يقول تعالى : (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ) ، فالمرأة بموجب هذه الآية تتمتّع بحقوق تعادل ما عليها من واجبات ثقيلة في المجتمع.

الإسلام اعتبر الرجل كالمرأة كائنا ذا روح إنسانيّة كاملة ، وذا إرادة وإختيار ، ويطوي طريقه على طريق تكامله الذي هو هدف الخلقة ، ولذلك خاطب الرجل والمرأة معا في بيان واحد حين قال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) ... و (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا).

وضع لهما منهجا تربويا وأخلاقيا وعلميا ووعدهما معا بالسعادة الأبدية الكاملة في الآخرة ، كما جاء في قوله تعالى : (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ) (١).

وأكّد أنّ الجنسين قادران على انتهاج طريق الإسلام للوصول إلى الكمال المعنويّ والماديّ ولبلوغ الحياة الطيّبة المفعمة بالطمأنينة ، نظير ما جاء في قوله

__________________

(١) غافر : ٤٠.

١٥٤

تعالى : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١).

الإسلام يرى المرأة كالرجل إنسانا مستقلّا حرّا ، وهذا المفهوم جاء في مواضع عديدة من القرآن الكريم ، كقوله تعالى : (كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ) (٢). و (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها) (٣).

هذه الحريّة قرّرها الإسلام للمرأة والرجل ، ولذلك فهما متساويان أمام قوانين الجزاء:(الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ) (٤).

لمّا كان الاستقلال يستلزم الإرادة والإختيار ، فقد قرّر الإسلام هذا الاستقلال في جميع الحقوق الاقتصادية ، وأباح للمرأة كلّ ألوان الممارسات المالية ، وجعلها مالكة عائدها وأموالها ، يقول سبحانه في سورة النساء : (لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ) (٥).

كلمة «اكتساب» ـ خلافا لكلمة «كسب» ـ لا تستعمل إلّا فيما يعود نتيجته على الإنسان نفسه (٦).

ولو أضفنا إلى هذا المفهوم القاعدة العامّة القائلة : «الناس مسلّطون على أموالهم» لفهمنا مدى الاحترام الذي أقرّه الإسلام للمرأة بمنحها الاستقلال الاقتصادي ، ومدى التساوي الذي قرّره بين الجنسين في هذا المجال.

فالمرأة ـ في مفهوم الإسلام ـ ركن المجتمع الأساسي ، ولا يجوز التعامل معها

__________________

(١) النحل : ٩٥.

(٢) المدّثر : ٢٨.

(٣) فصّلت : ٤٦.

(٤) النور : ٢.

(٥) النساء : ٣٢.

(٦) راجع مفردات الراغب ، هذا طبعا حين تتقابل كلمتي : كسب واكتساب.

١٥٥

على أنّها موجود تابع عديم الإرادة يحتاج إلى قيّم.

٦ ـ المفهوم الصحيح للمساواة

وهنا ينبغي الالتفات إلى مسألة الاختلافات الروحية والجسمية بين المرأة والرجل، وهي مسألة التفت إليها الإسلام بشكل خاصّ وأنكرها بعضهم منطلقين من تطرّف في أحاسيسهم.

إن أنكرنا كلّ شيء فلا نستطيع أن ننكر الاختلافات الصارخة بين الجنسين في الناحية الجسمية والناحية الروحية ، وهذه مسألة تناولتها تأليفات مستقلّة ملخّصها :

إنّ المرأة قاعدة انبثاق الإنسان ، وفي أحضانها يتربّى الجيل ويترعرع ، وهي لذلك خلقت لتكون مؤهلة جسميا لتربية الأجيال ، كما أنّ لها من الناحية الروحية سهما أوفى من العواطف والمشاعر.

وهل يمكن مع هذا الاختلاف الكبير أن ندّعي تساوي الجنسين في جميع الأعمال واشتراكهما المتساوي في كلّ الأمور؟!

أليست العدالة أن يؤدّي كلّ كائن واجبه مستفيدا من مواهبه وكفاءاته الخاصّة؟! أليس خلافا للعدالة أن تقوم المرأة بأعمال لا تتناسب مع تكوينها الجسمي والروحي؟!

من هنا نرى الإسلام ـ مع تأكيده على العدالة ـ يجعل الرجل مقدّما في بعض الأمور مثل الإشراف على الأسرة و... ويدع للمرأة مكانه المساعد فيها.

العائلة والمجتمع يحتاج كلّ منهما إلى مدير ، ومسألة الإدارة في آخر

١٥٦

مراحلها يجب أن تنتهي بشخص واحد ، وإلّا ساد الهرج والمرج.

فهل من الأفضل أن يتولّى هذه المسؤولية المرأة أم الرجل؟ كلّ المحاسبات البعيدة عن التعصّب تقول : إنّ الوضع التكويني للرجل يفرض أن تكون مسئولية إدارة الأسرة بيد الرجل، والمرأة تعاونه.

مع إصرار المصرّين ولجاج المتعصّبين على إنكار الواقع ، فإنّ وضع الحياة الواقعية في عالمنا المعاصر وحتّى في البلدان التي منحت المرأة الحريّة والمساواة بالشكل الكامل ـ على زعمهم ـ يدلّ على أنّ المسألة على الصعيد العملي هي كما ذكرناه وإن كانت المزاعم خلاف ذلك.

* * *

١٥٧

الآية

(الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٢٢٩))

سبب النّزول

جاءت امرأة إلى إحدى زوجات النبيّ وشكت لها من زوجها الّذي يطلّقها مرارا ثمّ يعود إليها للإضرار بها ، وكان للزّوج في تقاليد الجهاليّة الحقّ في أن يطلّق زوجته ألف مرّة ثمّ يعود إليها وهكذا فلم يكن للطّلاق حدّ حين ذاك ، وحينما اطّلع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على شكوى هذه الامرأة نزلت الآيات أعلاه وبيّنت حدّ الطّلاق (١).

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ و ٢ ص ٣٢٩. وورد هذا السبب في تفسير الكبير ، والقرطبي وروح المعاني أيضا في ذيل الآية المبحوثة.

١٥٨

التّفسير

إمّا الحياة الزوجيّة أو الطّلاق بالمعروف :

ذكرنا في تفسير الآية السابقة إنّ الإسلام قرّر قانون (العدّة) و (الرّجوع) لإصلاح وضع الاسرة ومنع تشتتّها وتمزّقها ، لكنّ بعض المسلمين الجدد استغلّوا هذا القانون كما كانوا عليه في الجاهليّة ، وعمدوا إلى التضييق على الزّوجة بتطليقها المرّة بعد الاخرى والرّجوع إليها قبل انتهاء العدّة ، وبهذه الوسيلة ضيّقوا الخناق على النساء.

هذه الآية تحول بين هذا السّلوك المنحط وتقرّر أنّ الطّلاق والرّجوع مشروعان لمرّتين،أمّا إذا تكرّر الطّلاق للمرّة الثالثة فلا رجوع ، والطّلاق الأخير هو الثالث ، والمراد من عبارة (الطّلاق مرّتان) هو أنّ الطّلاق الّذي يمكن معه الرّجوع مرّتان والطّلاق الثالث لا رجوع بعده ، وتضيف الآية (فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ).

فعلى هذا يكون الطّلاق الثالث هو الأخير لا رجعة فيه ، وبعبارة اخرى أنّ المحبّة والحنان المتقابل بين الزّوجين يمكن إعادتهما في المرّتين السابقتين وتعود المياه إلى مجاريها ، وفي غير هذه الصّورة إذا تكرّر منه الطّلاق في المرّة الثالثة فلا يحقّ له الرّجوع إلّا بشرائط معيّنة تأتي في الآية التالية.

ويجب الالتفات إلى أنّ (إمساك) يعني الحفظ و (تسريح) بمعنى إطلاق السّراح ومجيء جملة (تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) بعد جملة (الطَّلاقُ مَرَّتانِ) إشارة إلى الطّلاق الثالث الّذي يفصل بين الزّوجين لا بدّ أن يكون مع مراعاة موازين الحقّ والإنصاف والقيم الأخلاقيّة (جاء في أحاديث متعدّدة أنّ المراد من قوله (تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ) هو الطّلاق الثالث) (١).

__________________

(١) تفسير العياشي : ج ١ ص ١١٦.

١٥٩

فعلى هذا يكون المراد من التسريح بإحسان أن يؤدّي للمرأة حقوقها بعد الانفصال النهائي ، ولا يسعى الإضرار بها عملا وقولا بأن يعيبها في غيابها أو يتّهمها بكلمات رخيصة ويسقط شخصيّتها وسمعتها أمام الناس ، وبذلك يحرمها من إمكانيّة الزّواج المجدّد ، فكما أنّ الصّلح والرّجوع إلى الزّوجة يجب أن يكون بالمعروف والإحسان والمودّة ، فكذلك الانفصال النهائي يجب أن يكون مشفوعا بالإحسان أيضا ، ولهذا تضيف الآية الشريفة (وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً).

فعلى هذا الأساس لا يستطيع الزّوج عند الانفصال النهائي أن يأخذ ما أعطاها من مهرها شيئا ، وهذا المعنى أحد مصاديق التسريح بإحسان.

وقد ذكر هذا الحكم بالتفصيل في سورة النّساء الآيات ٢٠ و ٢١ حيث يأتي ذكره.

وذهب بعض المفسّرين إلى أنّ مفهوم هذه الجملة أوسع من (المهر) وقالوا أنّه يشمل كلّما أعطاه الزوج من الهدايا لزوجته أيضا (١).

وممّا يستجلب النظر في مورد الرّجوع والصّلح هو التعبير ب (المعروف) ولكن في مورد الفرقة والانفصال ورد التعبير (بإحسان) الّذي يفهم منه ما هو أعلى وأسمى من المعروف ، وذلك من أجل جبران ما يتخلّف من المرارة والكآبة لدى المرأة بسبب الانفصال والطّلاق (٢).

وتستطرق الآية إلى ذكر مسألة (طلاق الخلع) وتقرّر أنّه في حالة واحدة تجوز استعادة المهر وذلك عند رغبة المرأة نفسها بالطّلاق (٣) حيث تقول الآية

__________________

(١) تفسير الكبير : ج ٩ ص ٩٩.

(٢) الميزان : ج ٢ ص ٢٣٤ ذيل الآية.

(٣) وهو الطلاق الخلعي المشروح في كتب الفقه.

١٦٠