الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

إلى الخمور والمخدّرات لتهدئة أعصابه ، فيزيد في الطين بلّة وتتضاعف بذلك أضرار القمار.

ويقول عالم آخر : المقامر إنسان مريض يحتاج إلى إشراف مريض يحتاج إلى إشراف نفسي مستمر ، ويجب تفهيمه بأنّ الفراغ الروحي هو الذي يدفعه لهذا العمل الشنيع ، كي يتّجه لمعالجة نفسه.

ب : علاقة القمار بالجرائم

إحدى مؤسسات الإحصاء الكبرى ذكرت : أنّ ٣٠ بالمائة من الجرائم ناتجة مباشرة عن القمار ، و ٧٠ بالمائة من الجرائم ناتجة بشكل غير مباشر عن القمار أيضا.

ج : الأضرار الاقتصادية للقمار

الملايين بل المليارات من ثروات الأفراد تبدّد سنويات على هذا الطريق ، إضافة إلى المقدار الهائل من الوقت ومن الطاقات الإنسانية.

وجاء في أحد التقارير : في مدينة «مونت مونت كارلو» حيث توجد أكبر دور القمار في العالم ، خسر شخص خلال مدّة ١٩ ساعة من اللعب المستمر أربعة ملايين دولار ، وحين أغلقت دار القمار اتّجه مباشرة إلى الغابة ، وانتحر بإطلاق رصاصة على رأسه، ويضيف التقرير : أنّ غابات «مونت كارلو» تشهد باستمرار انتحار مثل هؤلاء الخاسرين.

د : الأضرار الاجتماعية للقما

القمار يصدّ أصحابه عن التفكير بالعمل الجادّ الإنتاجي المثمر في الحقل الاقتصادي ، ويشدّهم دائما إلى أمل الحصول على ثروة طائلة بدون عناء عن طريق القمار ، وهذا يؤدّي إلى إهدار الطاقات الإنتاجية لهؤلاء المقامرين وبالتالي إلى ضعف الإنتاج على قدر نسبتهم.

١٢١

المقامرون وعوائلهم يعيشون عادة حياة طفيلية في الجانب الاقتصادي ولا ينتجون ، بل يجنون ثمار الآخرين ، وقد يضطرّون في حالات الإفلاس إلى السرقة.

أضرار القمار فادحة إلى درجة دفعت حتّى ببعض البلدان غير الإسلامية إلى إعلان منعه ، كما حدث في بريطانيا عام ١٨٥٣ ، وأمريكا عام ١٨٥٥ ، والاتحاد السوفيتي عام ١٨٥٤ ، والمانيا عام ١٨٧٣.

ولا بأس أن نشير في الخاتمة إلى إحصائية أجراها بعض المحقّقين تذكر أنّ القمار وراء٩٠ بالمائة من السرقات ، و ١٠ بالمائة من المفاسد الخلقية ، و ٤٠ بالمائة من الاعتداءات بالضرب والجرح ، و ١٥ بالمائة من الجرائم الجنسية ، و ٣٠ بالمائة من الطلاق ، و ٥ بالمائة من عمليات الانتحار.

لو أردنا أن نعرّف القمار تعريفا شاملا علينا أن نقول : إنّه إهدار للمال والشرف،للحصول على أموال الآخرين بالخدعة والتزوير ، وللترويج عن النفس أحيانا ، ثمّ عدم الحصول على كلا الهدفين.

* * *

استعرضنا الأضرار الفادحة المترتّبة على «الخمر والميسر» ، وتلزم الإشارة إلى مسألة أخرى في هذا المجال وهي سبب إشارة الآية الكريمة إلى منافع الخمر والميسر ، عند ما تعرّضت إلى ذمّهما ، بينما نعلم أن منافعهما تافهة بالنسبة إلى أضرارهما.

قد يكون السبب هو أنّ سوق الخمرة والقمار كانت رائجة في الجاهلية مثل عصرنا هذا ، ولو لم تشر الآية إلى مسألة المنافع لظنّ ذووا الأفق الفكري الضيّق أنّ القرآن تناول المسألة من جانب واحد.

أضف إلى ما سبق أن أفكار الإنسان تدور عادة حول محور المنفعة والضرر،

١٢٢

وتجب الاستفادة من هذا المنطق لإنقاذ الفرد من المفاسد الأخلاقية الكبرى.

والآية تجيب ضمنيا على بعض أقوال الأطباء بشأن إمكان الاستفادة من المشروبات الكحولية لمعالجة قسم من الأمراض ، وتؤكّد أنّ الأضرار المترتّبة عليها أكبر بكثير من نفعها ، أي إذا كان لها أثر إيجابي على الشفاء من مرض معيّن ، فإنّها منشأ لأمراض خطرة اخرى ، وقد تكون هذه الحقيقة هي التي تشير إليها الروايات القائلة : إن الله لم يجعل الشفاء في الخمر.

٤ ـ الاعتدال في مسألة الإنفاق

بالرغم من أنّ الإنفاق من أهم المسائل أكّد عليها الإسلام والقرآن الكريم إلّا أنّه لم يتركها بدون حساب لتؤدّي إلى الإفراط الشديد بحيث تشلّ حياة الإنسان ، فالآية محل البحث ناظرة إلى هذا المعنى كما ذهب إليه بعض المفسّرون ، ويمكن أن تكون إشارة إلى أنّ بعض الأشخاص يتذرّعون باحتياجاتهم الشخصيّة للتخلّص من هذا الحكم الإسلامي المهم ، فالقرآن الكريم يقول : أنّكم تتمتّعون في الحياة بالكثير من الأمور الزّائدة عن الحاجة فعليكم بانتخاب مقدار منها وإنفاقه.

٥ ـ التفكّر في كلّ شيء

جملة (لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) عبارة عن درس مهم للمسلمين في أنّهم لا يخوضون في جميع أمورهم الماديّة والمعنويّة بدون تفكّر وتدبّر حتّى تبين الآيات الإلهيّة إلى النّاس لبعث روح التفكّر والتدبّر فيهم ، فما أسوأ حال الأشخاص الّذين لا يتفكّرون في أمورهم وأعمالهم الدينيّة ولا في أعمالهم الدنيويّة.

* * *

١٢٣

الآية

(وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٢١))

سبب النّزول

نزلت في «مرثد الغنوي» بعثه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى مكّة ليخرج منها جماعة من المسلمين. وكان قويا شجاعا ، فدعته امرأة يقال لها «عناق» إلى نفسها ، فأبى وكانت صديقته في الجاهلية ، فقالت له : هل لك أن تتزوج بي؟ فقال : حتّى استأذن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا رجع استأذن في التزويج بها ، فنزلت الآية تنهي عن الزواج بالمشركات حتى يؤمنّ.

التّفسير

حرمة الزواج مع المشركين :

هذه الآية وطبقا لسبب النزول المذكور أعلاه بمثابة جواب عن سؤال آخر

١٢٤

حول الزّواج مع المشركين فتقول (وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ) ثمّ تضيف مقايسة وجدانيّة فتقول (وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ).

فصحيح أنّ نكاح الجواري وخاصّة الجواري اللّاتي ليس لهنّ مال ولا جمال غير محبّب في عرف النّاس ولا محمود لا سيّما إذا كانت هناك امرأة مشركة في مقابل ذلك تتمتّع بجمال وثروة ماديّة ، ولكنّ قيمة الإيمان تجعل الكفّة تميل لصالح الجواري ، لأنّ الهدف من الزواج ليس هو اللّذة الجنسيّة فقط ، فالمرأة شريكة عمر الإنسان ومربيّة لأطفاله وتشكّل قسما مهمّا من شخصيّته ، فعلى هذا الأساس كيف يصحّ استقبال الشرك وعواقبه المشؤومة لاقترانه بجمال ظاهري ومقدار من الأموال والثروة.

ثمّ أنّ الآية الشّريفة تقرّر حكما آخر وتقول (وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ).

وبهذا الترتيب منع الإسلام من زواج المرأة المؤمنة مع الرجل المشرك كما منع نكاح الرجل المؤمن من المرأة المشركة حتّى أنّ الآية رجّحت العبد المؤمن أيضا على الرجال المشركين من أصحاب النفوذ والثروة والجمال الظاهري ، لأنّ هذا المورد أهم بكثير من المورد الأوّل وأكثر خطورة ، فتأثير الزوج على الزوجة أكثر عادة من تأثير الزوجة على زوجها.

وفي ختام الآية تذكر دليل هذا الحكم الإلهي لزيادة التفكّر والتدبّر في الأحكام وتقول (أُولئِكَ) ـ أي المشركين ـ (يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ) ثمّ تضيف الآية (وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ).

* * *

بحوث

١ ـ الحكمة في تحريم نكاح المشركين

كما رأينا في الآية مورد البحث أنّها تبيّن الغرض والحكمة من هذا التحريم

١٢٥

بجملة قصيرة ، ولو أنّنا توغّلنا في المراد منها يتّضح : أنّ الزّواج هو الدّعامة الأساسيّة لتكثير النسل وتربية أولاد وتوسعة المجتمع وأنّ المحيط العائلي مؤثّر جدّا لتربية الأولاد ، هذا من جهة.

ومن جهة اخرى التأثير الحتمي للوراثة على أخلاق الأولاد وسلوكهم ، فالطّفل يتربّى في أحضان الاسرة منذ تولّده وينمو ويترعرع تحت رعاية امّه وأبيه غالبا ، وهذه المرحلة هي المرحلة الحسّاسة في تكوين شخصيّة الطفل.

ومن جهة ثالثة أنّ الشرك هو المصدر الأساس لأنواع الانحرافات ، وفي الحقيقة هو النار المحرقة في الدنيا والآخرة ، ولذلك فالقرآن الكريم لا يبيح للمسلمين أن يلقوا بأولادهم في هذا النّار. مضافا إلى أنّ المشركين الّذين هم بالحقيقة أجانب عن الإسلام والمجتمع الإسلامي سوف ينفذون إلى مفاصل المجتمع الإسلامي وبيوت المسلمين من هذا الطريق ، فيؤدّي ذلك إلى تنامي قدرة الأعداء في الداخل والفوضي السياسيّة والاجتماعيّة في أوساط المجتمع ، وهذا الحال إنّما يكون في ما لو أصرّ المشركون على شركهم ، ولكنّ الباب مفتوح أمامهم فبإمكانهم اعتناق الإسلام والانخراط في صفوف المسلمين وبذلك يستطيعون الزواج من أكفّائهم المسلمين.

كلمة (النكاح) وردت في اللّغة فتارة بمعنى المقاربة الجنسيّة ، واخرى بمعنى عقد الزّواج ، والمراد هنا في هذه الآية هو الثاني ، أي عقد الزّواج بالرّغم من أنّ الرّاغب في المفردات يقول : (النكاح) في الأصل بمعنى العقد ، ثمّ استعمل مجازا في العمليّة الجنسيّة.

٢ ـ حقيقة المشركين

مفردة (المشرك) تطلق غالبا في القرآن الكريم على من يعبد الأوثان ، ولكنّ

١٢٦

بعض المفسرين ذهب إلى أنّ المشرك يشمل سائر الكفّار كاليهود والنّصارى والمجوس (وبشكل عام أهل الكتاب) أيضا ، لأنّ كلّ واحدة من هذه الطوائف يعتقد بوجود شريك للباري عزوجل ، فالنّصارى يعتقدون بالتثليث ، والمجوس يذهبون إلى الثنويّة وأنّ ربّ العالم هو مزدا وأهريمن ، واليهود يرون أنّ «عزير» ابن الله.

ولكن بالرّغم من أنّ هذه الإعتقادات الباطلة موجبة للشّرك إلّا أنّ الآيات الشريفة الّتي تتحدّث عن المشركين في مقابل أهل الكتاب ومع الأخذ بنظر الإعتبار أنّ اليهود والنصارى والمجوس يرتكزون في أساس ديانتهم على النبوّات الحقّة والكتب السماويّة فيتّضح أنّ منظور القرآن الكريم من المشرك هو عبّاد الوثن.

وقد ورد في الحديث النبوي المعروف في ضمن وصايا متعدّدة (أخرجوا المشركين من جزيرة العرب) وهو شاهد على هذا المدّعى ، لأنّ من المسلّم أنّ أهل الكتاب لم يخرجوا من جزيرة العرب ، بل بقوا هناك يعيشون جنبا إلى جنب مع المسلمين بعنوان أقلية دينيّة ، ويلتزمون بما أمر به القرآن الكريم من أداء الجزية إلى المسلمين.

٣ ـ هل نسخت هذه الآية؟

ذهب بعض المفسّرين إلى أنّ حكم الآية أعلاه قد نسخ والناسخ له الآية الشريفة (الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) (١) حيث أجازت نكاح نساء أهل الكتاب.

وقد نشأ هذا التصور من الإعتقاد أنّ الآية مورد البحث قد حرّمت الزواج مع

__________________

(١) المائدة : ٥.

١٢٧

جميع الكفّار ، فعلى هذا تكون الآية (٥) من سورة المائدة الّتي أجازت الزواج من كفّار أهل الكتاب ناسخة لهذا الحكم (أو مخصّصة له) ولكن مع ملاحظة ما ذكرناه من تفسير الآية يتّضح أنّ نظر هذه الآية خاص بالزّواج من المشركين وعبّاد الأوثان لا كفّار أهل الكتاب كاليهود والنّصارى (وطبعا في مورد الزواج من كفّار أهل الكتاب هناك قرائن في الآية وما ورد من الأحاديث عن أهل البيت عليهم‌السلام أنّ المراد هو الزّواج الموقّت).

٤ ـ تشكيل العائلة والدّقّة في الأمر

أشار بعض المفسّرين المعاصرين إلى نكتة ظريفة في هذه الآية ، وهي أنّ هذه الآية و (٢١) آية اخرى تأتي بعدها تبيّن الأحكام المتعلّقة بتشكيل الاسرة في أبعادها المختلفة ، وفي هذه الآيات بيّن القرآن الكريم اثني عشر حكما شرعيا :

١ ـ حكم الزواج مع المشركين. ٢ ـ تحريم الاقتراب من الزوجة في حال الحيض ، ٣ ـ حكم القسم بعنوان مقدّمة للإيلاء (المراد من الإيلاء هو أن يقسم الإنسان أن لا يجامع زوجته) ، ٤ ـ حكم الإيلاء ويتبعه حكم الطلاق ، ٥ ـ عدّة المرأة المطلّقة ، ٦ ـ عدد الطلقات ، ٧ ـ إبقاء الزّوجة بالمعروف أو تركها بالمعروف ، ٨ ـ حكم الرّضاع ، ٩ ـ عدّة المرأة المتوفّى زوجها (الأرملة) ، ١٠ ـ خطبة المرأة قبل تمام عدّتها ، ١١ ـ مهر المرأة المطلّقة قبل الدّخول ، ١٢ ـ حكم الهديّة للمرأة بعد وفاة زوجها أو طلاقها منه.

وهذه الأحكام مع مجمل الإرشادات الأخلاقيّة في هذه الآيات تبيّن أنّ مسألة تشكيل الأسرة هو نوع من العبادة لله تعالى ويجب أن يكون مقرونا بالتفكّر والتدبّر (١).

* * *

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن : ج ١ ص ٣٤٤ ـ ٣٤٦.

١٢٨

الآيتان

(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (٢٢٢) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (٢٢٣))

سبب النّزول

للنساء عادة شهرية تستمر بين ثلاثة إلى عشرة أيام. وخلالها يخرج من رحم المرأة دم ذو أوصاف خاصّة مذكورة في كتب الفقه. والمرأة في هذه الحالة تكون حائضا ، وموقف الديانتين اليهودية والنصرانية الحاليتين من المرأة الحائض متناقض يثير الاستغراب.

جمع من اليهود قالوا : إنّ معاشرة المرأة الحائض حرام حتّى المجالسة على مائدة الطعام أو في غرفة واحدة. ويذهبون إلى حظر جلوس الرجل في المكان الذي تجلس فيه الحائض،وإن فعل ذلك تنجّست ملابسه وعليه أن يغسلها ، وإن

١٢٩

رقد معها على سرير واحد تنجّس بدنه ولباسه ، فهم يعتبرون المرأة في هذه الحالة موجودا مدنسا يلزم اجتنابه.

ومقابل هؤلاء يذهب النصارى إلى عدم التفريق بين حالة الحيض والطهر في المرأة،حتّى بالنسبة للجماع.

المشركون العرب ، وخاصّة أهل المدينة منهم ، كانوا متأثرين بالنظرة اليهودية، ويعاملون المرأة الحائض على أساسها ، فينفصلون عنها خلال مدّة الحيض. وهذا الاختلاف في المواقف وما يصحبه من إفراط وتفريط دفع ببعض المسلمين لأن يسأل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن ذلك ، فنزلت الآية.

التّفسير

أحكام النساء في العادة الشهريّة :

في الآية الأولى نلاحظ سؤال آخر عن العادة الشهريّة للنّساء ، فتقول الآية :(وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) وتضيف بلا فاصلة (فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ...).

(المحيض) مصدر ميمي ويعني العادة الشهريّة للنساء ، وجاء في معجم مقاييس اللّغة أنّ أصل هذه المفردة تعني خروج سائل أحمر من شجرة تدعى «سمرة» (ثمّ استعملت للعادة الشهريّة للنساء) ولكن ورد في تفسير «الفخر الرّازي» أنّ الحيض في الأصل بمعنى السيل ولذلك يقال للسّيل عند حدوثه (حاض السّيل) ويقال للحوض هذه اللّفظة بسبب أنّ الماء يجري إليه.

ولكن يستفاد من كلمات الرّاغب في المفردات عكس هذا المطلب وأنّ هذه المفردة في الأصل تعني دم الحيض (ثمّ استعملت في المعاني الاخرى).

فعلى كلّ حال فهذه العبارة تعني دم الحيض الّذي عرّفه القرآن بأنّه أذى ، وفي

١٣٠

الحقيقة أنّ هذه العبارة تبيّن علّة اجتناب الجماع في أيّام الحيض ، فهو إضافة إلى ما فيه من اشمئزاز ، ينطوي على أذى وضرر ثبت لدى الطبّ الحديث ، ومن ذلك احتمال تسبيب عقم الرجل والمرأة ، وإيجاد محيط مناسب لتكاثر جراثيم الأمراض الجنسية مثل السفلس والتهابات الأعضاء التناسلية للرجل والمرأة ، ودخول مواد الحيض المليئة بمكروبات الجسم في عضو الرجل ، وغير ذلك من الأضرار المذكورة في كتب الطب ، لذلك ينصح الأطباء باجتناب الجماع في هذه الحالة.

خروج دم الحيض يعود إلى احتقان الرحم وتسلّخ جداره ، ومع هذا الاحتقان يحتقن المبيض أيضا ، ودم الحيض في البداية يكون متقطّعا باهت اللون ثمّ يزداد ويحمرّ ويعود في الأخير إلى وضعه المتقطّع الباهت (١).

الدم الخارج في أيّام العادة الشهرية هو الدم الذي يتجمّع شهريا في العروق الداخلية للرحم من أجل تقديم الغذاء للجنين المحتمل. ذلك لأنّ مبيض المرأة يدفع كلّ شهر ببويضة إلى الرحم ، وفي نفس الوقت تمتلئ عروق الرحم بالدم استعداد لتغذية الجنين فإن انعقد الجنين يستهلك الدم لتغذيته ، وإلّا يخرج بشكل دم حيض. من هنا نفهم جانبا آخر لحظر الجماع في هذه الفترة التي يكون الرحم خلالها غير مستعد استعداد طبيعيا لقبول نطفة الرجل، حيث يواجه أذى من جراء ذلك.

جملة (يطهرن) بمعنى طهارة النساء من دم الحيض كما ذهب إليه كثير من المفسّرين،وأمّا جملة (فَإِذا تَطَهَّرْنَ) فقد ذهب الكثير منهم على أنّها تعني الغسل من الحيض،فعلى هذا الأساس وطبقا للجملة الاولى تكون المقاربة الجنسيّة بعد

__________________

(١) مقتبس من إعجاز القرآن : ص ٥٥ ـ ٥٦.

١٣١

انتهاء دم الحيض جائزة حتّى لو لم تغتسل ، وأمّا الجملة الثانيّة فتعني أنّها ما لم تغتسل فلا يجوز مقاربتها (١).

وعلى هذا فالآية لا تخلو من إبهام ، ولكن مع الالتفات إلى أنّ الجملة الثانية تفسير للجملة الاولى ونتيجة لها (ولهذا اعطفت بفاء التفريع) فالظاهر أنّ (تطهّرن) أيضا بمعنى الطهارة من دم الحيض ، وبذلك تجوز المقاربة الجنسيّة بمجرّد الطّهارة من العادة الشهريّة،وهذا هو ما ذهب إليه الفقهاء العظام في الفقه وأفتوا بحليّة المقاربة الجنسيّة بعد الطهارة من الحيض حتّى قبل الغسل ، ولكن لا شكّ في أنّ الأفضل أن تكون بعد الغسل.

الفقرة الثانية من الآية تقول (فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللهُ) أي أن يكون الجماع من حيث أمر الله ، وقد تكون هذه الفقرة تأكيدا لما قبلها ، أي آتوا نساءكم في حالة النقاء والطّهر فقط لا في غير هذه الحالة ، وقد يكون مفهومها أوسع بخصوص أنّ الجماع بعد الطّهر يجب أن يكون في إطار أوامر الله أيضا.

هذا الأمر الإلهي من الممكن أن يشمل الأمر التكويني والأمر التشريعي معا ، فالله سبحانه أودع في الرّجل والمرأة الغريزة الجنسيّة لبقاء نوع الإنسان ، وهذه الغريزة تدفع الإنسان للحصول على اللّذة الجنسيّة ، لكنّ هذه اللّذة مقدّمة لبقاء النوع فقط ، ومن هنا لا يجوز الحصول عليها بطرق منحرفة مثل الاستمناء واللّواط وأمثالهما ، لأنّ هذا الطريق نوع من الانحراف عن الأمر التكويني.

وكذلك يمكن أن يكون المراد هو الأمر التشريعي ، يعني أنّ الزوجة بعد طهارتها من العادة الشهريّة ينبغي عليها مراعاة جهات الحلال والحرام في الحكم الشرعي.

__________________

(١) الجملة الثانية مفهوم الشرط ، والأول مفهوم الغاية.

١٣٢

وذهب البعض إلى أنّ مفهوم هذه الجملة هو حرمة المقاربة الجنسيّة مع الزّوجة عن غير الطريق الطبيعي ، ولكن مع الالتفات إلى أنّ الآيات السابقة لم تتحدّث عن هذا الأمر يكون هذا التفسير غير مناسب للسّياق (١).

الآية الثانية إشارة لطيفة إلى الغاية النهائيّة من العمليّة الجنسيّة فتقول (نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ) في هذه الآية الكريمة شبّهت النساء بالمزرعة ، وقد يثقل هذا التشبيه على بعض ، ويتساءل لماذا شبّه الله نصف النوع البشري بهذا الشكل؟

ولو أمعنا النظر في قوله سبحانه لوجدنا فيه إشارة رائعة لبيان ضرورة وجود المرأة في المجتمع الإنساني. فالمرأة بموجب هذا التعبير ليست وسيلة لإطفاء الشهوة ، بل وسيلة لحفظ حياة النوع البشري.

«الحرث» مصدر يدلّ على عمل الزراعة ، وقد يدلّ على مكان الزراعة «المزرعة» و «أنّى» من أسماء الشرط ، وتكون غالبا زمانية. وقد تكون مكانية كما جاء في قوله سبحانه : (يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (٢).

يستفاد من الآية الكريمة ـ على افتراض زمانية أنّى ـ الرخصة في زمان الجماع ، أي جوازه في كلّ ساعات الليل والنهار ، وعلى افتراض مكانية أنّى يستفاد من الآية الرخصة في مكان الجماع ومحلّه وكيفيته.

(وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ)

هذا الأمر القرآني يشير إلى أنّ الهدف النهائي من الجماع ليس هو الاستمتاع باللذة الجنسية ، فالمؤمنون يجب أن يستثمروه على طريق تربية أبناء صالحين ، وأن يقدّموا هذه الخدمة التربوية المقدّسة ذخيرة لاخراهم. وبذلك يؤكّد القرآن

__________________

(١) تأتي كلمة «حيث» بعنوان اسم مكان واسم زمان ، ولكن هنا تشير إلى زمن جواز المقاربة الجنسية أي زمن الطهر.

(٢) آل عمران : ٣٧.

١٣٣

على رعاية الدقّة في انتخاب الزوجة كي تكون ثمرة الزواج إنجاب أبناء صالحين وتقديم هذه الذخيرة الاجتماعية الإنسانية الكبرى.

وفي حديث عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلّا عن ثلاث : صدقة جارية ، وعلم ينتفع به ، وولد صالح يدعو له»(١).

وجاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلّا ثلاث خصال : صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته وسنّة هدى سنّها فهي تعمل بها بعد موته وولد صالح يستغفر له»(٢).

ووردت بهذه المضمون روايات عديدة أيضا ، وقد جاء في بعضها ستّة موارد أوّلها الولد الصالح (٣).

وعلى هذا الأساس يأتي الولد الصالح من حيث الأهميّة إلى جانب الخدمات العلميّة وتأليف الكتب المفيدة وتأسيس المراكز الخيريّة كالمسجد والمستشفى والمكتبة وأمثال ذلك.

وفي ختام هذه الآية تأمر بالتقوى وتقول : (وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ).

لمّا كانت المقاربة الجنسيّة تعتبر من المسائل المهمّة ومن أشد الغرائز إلحاحا على الإنسان ، فإنّ الله تعالى يدعو في هذا الآية الإنسان إلى الدقّة في أمر ممارسة هذه الغريزة والحذر من الانحراف ، وتنذر الجميع بأنّهم ملاقوا ربّهم وليس لهم طريق للنّجاة سوى الإيمان والتقوى.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان : ج ١ ص ٣٢١.

(٢) بحار الأنوار : ج ١ ص ٢٩٤ ح ٤.

(٣) المصدر نفسه ص ٢٩٣ ح ١.

١٣٤

بحوث

١ ـ الحكم الإسلامي العادل في مسألة الحيض

هناك الاعتقادات مختلفة في الأقوام السّالفة حول العادة الشهريّة للنّساء ، فاليهود يشدّدون أمرها ويعزلون المرأة في هذه الأيّام كليّا عن كلّ شيء : عن الأكل والشرب عن المجالسة والمؤاكلة والمضاجعة ، وقد وردت في التوراة الحاليّة أوامر متشدّدة في هذا الصّدد (١).

وعلى العكس من ذلك النّصارى حيث لا يلتزمون بأيّة محدوديّة في هذه الأيّام ، فلا فرق بين حالة الحيض والطّهر لدى المرأة. المشركون العرب ليس لديهم حكما خاصّا في هذا المجال ، ولكنّ أهالي المدينة كانوا متأثّرين بآداب اليهود وعقائدهم في معاشرتهم للنّساء أيّام الحيض فكانوا يتشدّدون مع المرأة في هذه الأيّام ، في حين أنّ سائر العرب لم يكونوا كذلك،بل قد تكون المقاربة الجنسيّة محبّبة لديهم فيها ، ويعتقدون أنّه لو حصل من تلك المقاربة ولد فإنّه سوف يكون فتّاكا ومتعطّشا للدّماء ، وهذه من الصّفات المتميّزة والمطلوبة لدى أعراب البادية (٢).

٢ ـ اقتران الطهارة بالتوبة

إنّ اقتران الطهارة والتوبة في الآيات أعلاه يمكن أن يكون إشارة إلى أنّ الطّهارة تتعلّق بالطّهارة الظاهريّة والتوبة إشارة إلى الطّهارة الباطنيّة.

__________________

(١) ورد في باب ١٥ من سفر اللاويين من التوراة : «وإذا حاضت المرأة فسبعة أيّام تكون في طمثها ، وكلّ من يلمسها يكون نجسا إلى المساء ، كل ما تنام عليه في أثناء حيضها أو تجلس عليه يكون نجسا ، وكلّ من يلمس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجسا إلى المساء ...» وأحكام اخرى من هذا القبيل.

(٢) مقتبس من تفسير الميزان : ج ٢ ص ٢٠٨ ذيل الآية مورد البحث ، كتاب أنيس الأعلام : ج ٢ ص ١٠٦ و ١٠٧ ، وكذلك شرح المبسوطي مع ذكر المصادر.

١٣٥

ويحتمل أيضا أنّ الطهارة هنا عدم التلوّث بالذنب ، يعني أنّ الله تعالى يحب من لم يتلوّث بالذنب ، وكذلك يحب من تاب بعد تلوّثه.

ويمكن أن تشير مسألة التوبة هنا إلى أنّ بعض الناس يصعب عليهم السيطرة على الغريزة الجنسيّة فيتلوّثون بالذّنب والإثم خلافا لما أمر الله تعالى ، ثمّ يعتريهم النّدم على عملهم ويتألمون من ذلك ، فالله سبحانه وتعالى فتح لهم طريق التوبة كيلا يصيبهم اليأس من رحمة الله(١).

* * *

__________________

(١) تحدّثنا تفصيلا عن حقيقة «التوبة» وشرائطها في المجلد الثالث في ذيل الآية (١٧) من سورة النساء ، وفي المجلد ١٤ ذيل الآية (٥) من سورة النور.

١٣٦

الآيتان

(وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٢٢٤) لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (٢٢٥))

سبب النّزول

حدث خلاف بين صهر أحد الصحابة وابنته ، وهذا الصحابي هو «عبد الله بن رواحة» حيث أقسم أن لا يتدخّل في الإصلاح بين الزّوجين ، فنزلت الآية تنهى عن هذا اللّون من القسم وتلغي آثاره.

التّفسير

لا ينبغي القسم حتّى الإمكان :

كما قرأنا في سبب النّزول أنّ الآيتين أعلاه ناظرتان إلى سوء الاستفادة من القسم ، فكانت هذه مقدّمة إلى الأبحاث التالية في الآيات الكريمة عن الإيلاء

١٣٧

والقسم وترك المقاربة الجنسيّة.

في الآية الاولى يقول تعالى (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (١).

(الأيمان) جمع (يمين) و (عرضة) بضم العين ، تقال للبضاعة وأمثالها التي تعرض أمام الناس في السوق. وقد تطلق العرضة على موانع الطريق لأنّها تعترض طريق الإنسان.

وذهب البعض إلى أنّ المراد بها ما يشمل جميع الأعمال ، فالآية تنهى عن القسم بالله في الأمور الصغيرة والكبيرة وعن الاستخفاف باسمه سبحانه ، وبهذا حذّرت الآية من القسم إلّا في كبائر الأمور ، وهذا ما أكّدت عليه الأحاديث الكثيرة ، وقد روي عن الصادق عليه‌السلام (لا تحلفوا بالله صادقين ولا كاذبين فإنّ الله سبحانه يقول : (وَلا تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ)) (٢).

وهناك أحاديث متعدّدة وردت في هذا المجال (٣).

ولو أخذنا سبب نزول الآية بنظر الإعتبار يكون مؤدّاها أنّ القسم ليس بعمل مطلوب في الأعمال الصالحة ، فكيف بالقسم بترك الأعمال الصالحة؟! وفي الآية التالية نلاحظ تكملة لهذا الموضوع وأنّ القسم لا ينبغي أن يكون مانعا من أعمال الخير فتقول:(لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ) أي عن إرادة وإختيار.

في هذه الآية يشير الله تعالى إلى نوعين من القسم :

__________________

(١) طبقا لهذا التفسير «لا» مقدرة وفي الأصل «لئلا تبرو» وهذا المعنى مطابق تماما لشأن النزول ويحتمل أيضا أن «عرضة» بمعنى المانع يعني لا تجعلوا القسم بالله مانعا لأداء الأعمال الصالحة والإصلاح بين الناس «بتقدير:لا تجعلوا الله بسبب ايمانكم حاجزا أن تبروا وتتقوا» ولكنّ التوجيه الأوّل أنسب.

(٢) الكافي حسب نقل تفسير نور الثقلين : ج ١ ص ٢١٨ ح ٨٣٣ ، وسائل الشيعة : ج ١٦ ص ١١٦ ح ٥.

(٣) راجع نفس المصدر : ح ٨٣٢ و ٨٣٤ ، وسائل الشيعة : ج ١٦ ص ١١٥ وما بعد.

١٣٨

الأوّل : القسم اللغو الذي لا أثر له ، ولا يعبأ به ، هذا النوع من القسم يتردّد على ألسن بعض الناس دون التفات ، ويكرّرونه في كلامهم عن عادة لهم ، فيقولون : لا والله ... بلى والله ... على كلّ شيء ، وإنّما سمّي لغوا لأنّه لا هدف له ولم يطلقه المتكلّم عن عزم ووعي ، وكلّ عمل وكلام مثل هذا لغو.

من هنا فالقسم الصادر عن الإنسان حين الغضب لغو (إذا أخرجه الغضب تماما عن حالته الطبيعية). وحسب الآية أعلاه لا يؤاخذ الإنسان على مثل هذا القسم ، وعليه أن لا يرتّب أثرا عليه ، ويجب الالتفات إلى أنّ الإنسان يجب أن يتربّى على ترك مثل هذا القسم وعلى كلّ حال فإن العمل بهذا القسم غير واجب ولا كفّارة عليه ، لأنه لم يكن عن عزم وإرادة.

النوع الثاني : القسم الصادر عن إرادة وعزم ، أو بالتعبير القرآني هو القسم الداخل في إطار كسب القلب ، ومثل هذا القسم معتبر ، ويجب الالتزام به ، ومخالفته ذنب موجب للكفّارة إلّا في مواضع سنذكرها. وقد أشارت الآية (٨٩) من سورة المائدة إلى هذا النوع من القسم بقولها «ما عقدتم الايمان».

الأيمان غير المعتبرة :

الإسلام لا يحبّذ القسم كما أشرنا آنفا ، لكنّه ليس بالعمل المحرّم ، بل قد يكون مستحبّا أو واجبا تبعا لما تترتّب عليه من آثار.

وهناك أيمان لا قيمة لها ولا اعتبار في نظر الإسلام ، منها :

١ ـ القسم بغير اسم الله وحتّى القسم باسم النبي وأئمّة الهدى عليهم‌السلام مثل هذا القسم غير المتضمّن اسم الله تعالى لا أثر له ولا يلزم العمل به ولا كفّارة على مخالفته.

٢ ـ القسم على ارتكاب فعل محرّم أو مكروه أو ترك واجب أو مستحب،

١٣٩

حيث لا يترتّب عليه شيء. كأن يقسم شخص على عدم أداء دين ، أو على قطع رحم، أو على فرار من جهاد ، وأمثالها أو يترك إصلاح ذات البين مثلا كما نلاحظ ذلك لدى بعض الأشخاص الذين واجهوا بعض السلبيات من إصلاح ذات البين فأقسموا على ترك هذا العمل. فإن أقسم على شيء من ذلك فعليه أن لا يعتني بقسمه ولا كفّارة عليه ، وقيل إنّ هذا هو معنى قوله تعالى : (لا يُؤاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ).

أمّا الأيمان ـ التي تحمل اسم الله ـ على أداء عمل صالح أو مباح على الأقل، فيجب الالتزام به ، وإلّا وجبت على صاحبه الكفّارة ، وكفّارته كما ذكرته الآية (٨٩) من سورة المائدة ، إطعام عشرة مساكين ، أو كسوتهم ، أو تحرير رقبة.

* * *

١٤٠