الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٢

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-43-2
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٨٠٨

الآية

(كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٢١٦))

التّفسير

التضحية بالنفس والمال :

الآية السابقة تناولت مسألة الإنفاق بالأموال ، وهذه الآية تدور حول التضحية بالدم والنفس في سبيل الله ، فالآيتان يقترن موضوعهما في ميدان التضحية والفداء ، فتقول الآية (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ).

التعبير بكلمة (كتب) إشارة إلى حتميّة هذا الأمر الإلهي ومقطوعيّته.

(كره) وإن كان مصدرا ، إلّا أنّه استعمل هنا باسم المفعول يعني مكروه ، فالمراد من هذه الجملة أنّ الحرب مع الأعداء في سبيل الله أمر مكروه وشديد على الناس العاديّين ، لأنّ الحرب تقترن بتلف الأموال والنفوس وأنواع المشقّات والمصائب ، وأمّا بالنّسبة لعشّاق الشّهادة في سبيل الحقّ ومن له قدم راسخ في المعركة

١٠١

فالحرب مع أعداء الحقّ بمثابة الشراب العذب للعطشان ، ولا شكّ في أنّ حساب هؤلاء يختلف عن سائر الناس وخاصّة في بداية الإسلام.

ثمّ تشير هذه الآية الكريمة إلى مبدأ أساس حاكم في القوانين التكوينيّة والتشريعيّة الإلهيّة وتقول : (وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ).

وعلى العكس من تجنّب الحرب وطلب العافية وهو الأمر المحبوب لكم ظاهرا ، إلّا أنّه (وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ).

ثمّ تضيف الآية وفي الختام (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فهنا يؤكّد الخالق جلّ وعلا بشكل حاسم أنّه لا ينبغي لأفراد البشر أن يحكّموا أذواقهم ومعارفهم في الأمور المتعلّقة بمصيرهم ، لأنّ علمهم محدود من كلّ جانب ومعلوماتهم بالنّسبة إلى مجهولاتهم كقطرة في مقابل البحر ، وكما أنّ الناس لم يدركوا شيئا من أسرار الخلقة في القوانين التكوينيّة الإلهيّة،فتارة يهملون شيئا ولا يعيرونه اهتماما في حين أنّ أهميّته وفوائده في تقدّم العلوم كبيرة،وهكذا بالنسبة إلى القوانين التشريعيّة فالإنسان لا يعلم بكثير من المصالح والمفاسد فيها،وقد يكره شيئا في حين أنّ سعادته تكون فيه ، أو أنّه يفرح لشيء ويطلبه في حين أنّه يستبطن شقاوته.

فهؤلاء النّاس لا يحقّ لهم مع الالتفات إلى علمهم المحدود أن يتعرضوا على علم الله اللّامحدود ويعترضوا على أحكامه الإلهيّة ، بل يجب أن يعلموا يقينا أنّ الله الرّحمن الرّحيم حينما يشرّع لهم الجهاد والزكاة والصوم والحجّ فكلّ ذلك لما فيه خيرهم وصلاحهم.

ثمّ إنّ هذه الحقيقة تعمق في الإنسان روح الانضباط والتسليم أمام القوانين الإلهيّة وتؤدي إلى توسعة آفاق إدراكه إلى أبعد من دائرة محيطه المحدود وتربطه

١٠٢

بالعالم اللّامحدود يعني علم الله تعالى.

* * *

بحوث

١ ـ لماذا كان الجهاد مكروها

وهنا يمكن أن يطرح هذا السؤال وهو أنّ الجهاد الّذي هو أحد أركان الشّريعة المقدّسة والأحكام الإلهيّة كيف أصبح مكروها في طبع الإنسان مع أنّنا نعلم أنّ الأحكام الإلهيّة امور فطريّة وتتوافق مع الفطرة ، فالمفروض على الأمور المتوافقة مع الفطرة أن تكون مقبولة ومطلوبة؟

في الجواب عن هذا السؤال يجب الالتفات إلى هذه النقطة ، وهي أنّ المسائل والأمور الفطريّة تتناغم وتوافق مع طبع الإنسان إذا اقترنت بالمعرفة ، مثلا الإنسان يطلب النّفع ويتجنّب الضرر بفطرته ، ولكنّ هذا يتحقّق في موارد أن يعرف الإنسان مصاديق النفع والضرر ويتجنب الضرر بالنّسبة له ، فلو اشتبه عليه الأمر في تشخيص المصداق ولم يميّز بين الموارد النافعة من الضّارة ، فمن الواضح أنّ فطرته ونتيجة لهذا الاشتباه سوف تكره الأمر النافع ، والعكس صحيح.

وفي مورد الجهاد نجد أنّ الأشخاص السطحيّين لا يرون فيه سوى الضرب والجرح والمصائب ، ولهذا قد يكون مكروها لديهم وأمّا بالنسبة إلى الأفراد الّذين ينظرون إلى أبعد من هذا المدى المحدود فإنهم يعلمون أنّ شرف الإنسان وعظمته وافتخاره وحريّته تكمن في الإيثار والجهاد ، وبذلك يرحبون بالجهاد ويستقبلوه بفرح وشوق ، كما هو الحال في الأشخاص الّذين لا يعرفون آثار الأدوية المرّة والمنفرّة ، فهم في أوّل الأمر يظهرون عدم رغبتهم فيها ، إلّا أنّهم بعد أن يروا

١٠٣

تأثيرها الإيجابي في سلامتهم ونجاتهم من المرض ، فحين ذاك يتقبّلوا الدّواء برحابة صدر.

٢ ـ القانون الكلّي

ما ورد في الآية الشريفة آنفا لا ينحصر بمسألة الجهاد والحرب مع الأعداء ، بل أن الآية تكشف عن قانون كلّي وعام ، وهو أنّ الآية تجعل من جميع الشدائد والمصاعب في سبيل الله سهلة وميسورة ولذيذة للإنسان بمقتضى قوله تعالى (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ).

فعلم الله تعالى ورحمته ولطفه لعباده يتجلّى في كلّ أحكامه المقدّسة فيرى ما فيه نجاتهم وسعادتهم ، وعلى هذا الأساس يستقبل المؤمنون هذه الأوامر والأحكام الإلهيّة فيعتبروها كالأدوية الشافية لهم ويطبّقونها بمنتهى الرضا والقبول.

* * *

١٠٤

الآيتان

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٢١٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢١٨))

سبب النّزول

قيل إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعث سرية (١) من المسلمين وأمر عليهم عبد الله

__________________

(١) السرية : هي الحرب الإسلامية التي لم يشترك فيها رسول الله (ص) ، وقيل إنّها مجموعة من الجيش تتكون من ٥ إلى ٣٠٠ رجل.

١٠٥

ابن جحش الأسدي ـ وهو ابن عمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وذلك قبل بدر بشهرين ، على رأس سبعة عشر شهرا من مقدم النبيّ المدينة ، فانطلقوا حتّى هبطوا نخلة ـ وهي أرض بين مكّة والطائف ـ فوجدوا بها عمرو بن الحضرميّ في قافلة تجارة لقريش في آخر يوم من جمادي الآخرة ، وكانوا يرون أنه من جمادي وهو رجب ـ من الأشهر الحرم ـ فاختلف المسلمون أيقتلون الحضرميّ ويغنمون ماله ، لعدم علمهم بحلول الشهر الحرام ، أم يتركونه احتراما لحرمة شهر رجب ، وانتهى بهم الأمر أن شدّوا على الحضرميّ فقتلوه وغنموا ماله ، فبلغ ذلك كفّار قريش فطفقوا يعيّرون المسلمين ويقولون إنّ محمّدا أحلّ سفك الدماء في الأشهر الحرم ، فنزلت الآية الاولى.

ثمّ نزلت الآية الثانية حين سأل عبد الله بن جحش وأصحابه عمّا إذا كانوا قد أدركوا أجر المجاهدين في انطلاقتهم أو لا (١)؟!

التّفسير

القتال في الأشهر الحرم :

كما مرّ بنا في سبب النّزول ويشير إلى ذلك السياق أيضا فإنّ الآية الاولى تتصدّى للجواب عن الأسئلة المرتبطة بالجهاد والاستثنائات في هذا الحكم الإلهي فتقول الآية (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ) ثمّ تعلن الآية حرمة القتال وأنّه من الكبائر (قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ) أي إثم كبير.

وبهذا يمضي القرآن الكريم بجديّة السنّة الحسنة الّتي كانت موجودة منذ قديم الأزمان بين العرب الجاهليّين بالنسبة إلى تحريم القتال في الأشهر الحرم

__________________

والسرية من «السري» أي الشيء النفيس ، وإنّما سمّيت بذلك لأن أفرادها ممتازون.

وقال المطرزي : السرية من «السرى» وهو المشي ليلا ، لأنّ هذه المجموعة كانت تستتر بالليل في حركتها ، وذهب إلى ذلك أيضا ابن حجر في الملتقطات.

(١) سيرة ابن هشام : ج ٢ ص ٢٥٢.

١٠٦

(رجب ، ذي القعدة ، ذي الحجّة ، محرم).

ثمّ تضيف الآية أنّ هذا القانون لا يخلوا من الاستثنائات ، فلا ينبغي السّماح لبعض المجموعات الفاسدة لاستغلال هذا القانون في إشاعة الظلم والفساد ، فعلى الرّغم من أنّ الجهاد حرام في هذه الأشهر الحرم ، ولكنّ الصد عن سبيل الله والكفر به وهتك المسجد الحرام وإخراج الساكنين فيه وأمثال ذلك أعظم إثما وجرما عند الله (وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ) (١).

ثمّ تضيف الآية بأنّ إيجاد الفتنة والسعي في إضلال الناس وحرفهم عن سبيل الله ودينه أعظم من القتل (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) لأنّ القتل ما هو إلّا جناية على جسم الإنسان، والفتنة جناية على روح الإنسان وإيمانه (٢) ، ثمّ إنّ الآية تحذّر المسلمين أن لا يقعوا تحت تأثير الإعلان الجاهلي للمشركين ، لأنّهم لا يقنعون منكم إلّا بترككم لدينكم إن استطاعوا (وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا).

فينبغي على هذا الأساس أن تقفوا أمامهم بجزم وقوّة ولا تعتنوا بوسوساتهم وأراجيفهم حول الأشهر الحرم ، ثمّ تنذر الآية المسلمين وتحذّرهم من الارتداد عن دين الله (وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

فما أشدّ عقاب المرتد عن الإسلام ، لأنّ ذلك يبطل كلّما قدّمه الفرد من عمل صالح ويستحق بذلك العذاب الإلهي الأبدي.

ومن الواضح أنّ الأعمال الصّالحة لها آثار طيّبة في الدنيا والآخرة ،

__________________

(١) «صدّ» مبتدأ ، «كفر» و «إخراج أهله» معطوف عليه ، و «اكبر» خبرها وهو ما ذهب إليه الطبرسي في «مجمع البيان» والقرطبي في تفسير «الجامع».

(٢) قدمنا بحثا مفصلا عن معنى «الفتنة» في ذيل الآية (١٩١) من هذه السورة المبحوثة.

١٠٧

والمرتدّون سوف يحرمون من هذه البركات بسبب ارتدادهم ، مضافا إلى محو جميع معطيات الإيمان الدنيويّة للفرد حيث تنفصل عنه زوجته وتنتقل أمواله إلى ورثته فور ارتداده.

الآية التالية تشير إلى النقطة المقابلة لهذه الطائفة ، وهم المؤمنون المجاهدون وتقول:(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

أجل ، فهذه الطائفة الّتي يتحلّى أفرادها بهذه الصّفات الثلاث المهمّة (الإيمان والهجرة والجهاد) قد يرتكبون خطأ بسبب جهلهم وعدم اطّلاعهم (كما صدر ذلك من عبد الله بن جحش الوارد في سبب النزول) إلّا أنّ الله تعالى يغفر لهم زلّتهم بلطفه ورحمته(١).

* * *

بحث

الإحباط والتكفير :

(حبط) في الأصل كما يقول الراغب في مفرداته بمعنى أنّ الحيوان قد يأكل كثيرا حتّى تنتفخ بطنه ، وبما أنّ هذه الحالة تؤدّي إلى فساد الغذاء وعدم تأثيره الإيجابي في الحيوان استعملت هذه الكلمة بمعنى البطلان وذهاب الأثر ، ولذلك ورد في معجم مقاييس اللّغة أنّ معنى هذه الكلمة هو البطلان ، ومن ذلك ما ورد في آية (١٦) من سورة هود حيث أوردت هذه الكلمة مساوقة للبطلان (أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ).

__________________

(١) أشرنا إلى معنى «المرتد الفطري والحلي» في ذيل الآية (١٠٦) من سورة النحل ، وسيأتي الكلام عنه في ذيل الآية (٨٩) من سورة آل عمران من هذا المجلد.

١٠٨

وأمّا (الإحباط) فكما يقول علماء العقائد والمتكلّمون أنّها تعني إبطال ثواب الأعمال السابقة بسبب ارتكاب الذنوب اللّاحقة ، ويقابله «التكفير» بمعنى زوال العقوبات وآثار الذنوب السابقة بسبب الأعمال الصالحة بعد ذلك.

وهناك بحث بين علماء العقائد في صحّة الإحباط والتكفير بالنّسبة لثواب الأعمال الصالحة وعقوباتها وعقاب الأعمال الطالحة والمشهور بين المتكلّمين الإماميّة كما يقول العلّامة المجلسي هو بطلان الإحباط والتكفير ، غاية الأمر إنهم يرون أنّ تحقق الثواب مشروط أن يستمر الإنسان على إيمانه في الدنيا إلى النهاية ، والعقاب مشروط كذلك بأن يرحل من هذه الدنيا بدون توبة ، ولكنّ العلماء المعتزلة يعتقدون بصحّة الإحباط والتفكير بالنّظر إلى ظواهر بعض الآيات والروايات (١).

ويرى الخواجة نصر الدين الطوسي في كتاب (تجريد العقائد) بطلان القول بالإحباط، واستدلّ على ذلك بالدليل العقلي والنقلي ، أما الدليل العقلي فهو أنّ الإحباط نوع من الظلم (لأنّ الشخص الّذي قلّت حسناته وكثرت ذنوبه سيكون بعد الإحباط بمنزلة من لم يأت بعمل حسن إطلاقا وهذا نوع من الظلم بحقّه) ، وأمّا الدليل النقلي فالقرآن يصرّح (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) (٢) (٣).

بعض علماء المعتزلة مثل (أبو هاشم) ذهب إلى اقتران الإحباط والتكفير بشكل متوازن ، بهذا المعنى أنّه جمع بين العقاب والثواب في ميزان واحد وبعد حدوث الكسر والانكسار بينهما يتمّ الحصول على النتيجة النهاية.

ولكنّ الحقّ هو أنّ الإحباط والتكفير من الأمور الممكنة ، ولا تستلزم الظلم

__________________

(١) بحار الأنوار : ج ٥ ص ٣٣٢.

(٢) الزلزلة : ٧ و ٨.

(٣) تجريد العقائد : ص ٣٢٧.

١٠٩

مطلقا ، وتدل على ذلك الآيات والرّوايات الصّريحة ، والظاهر أنّ ما ذهب إليه المنكرون هو نوع من الالتباس اللّفظي.

وتوضيح ذلك : تارة يعمل الإنسان سنوات طويلة بمشّقة كبيرة وينفق رأس مال كثير،ولكنّه قد يخسر كلّ تلك الأفعال بخطإ بسيط ، فهذا يعني أنّ حسناته السابقة قد أحبطت ، وعلى العكس من ذلك فيما لو كان قد خسر كثيرا في السابق لارتكابه بعض الأخطاء والحماقات ، ولكنّه يجبر ذلك بعمل عقلائيّ واحد ، فهذا نوع من أنواع التكفير(التكفير نوع من أنواع التغطية والجبران) وكذلك يصدق هذا الأصل في المسائل المعنوية أيضا.

* * *

١١٠

الآيتان

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (٢١٩) فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٢٢٠))

سبب النّزول

قيل في سبب نزول الآية الاولى أنّ جماعة سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن حكم الخمر الّذي يذهب بالعقل ، والميسر الّذي يبدّل المال ، فنزلت الآية.

وعن سبب نزول الآية الثانية فقد ورد في تفسير القمّي عن إمام الصادق عليه‌السلام وفي مجمع البيان عن ابن عباس أنّه لمّا نزلت الآية (وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)(١) والآية (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ

__________________

(١) الإسراء : ٣٤.

١١١

ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً) (١) تخلّى الناس عن اليتامى ، وعمد بعضهم على إخراج اليتيم من بيته، وأولئك الّذين احتفظوا بهم في بيوتهم عزلوا طعامهم عن طعام اليتيم ، وجعلوا لا يجالسونهم على مائدة واحدة ولا يستفيدون ممّا بقي من طعامهم ، بل يحتفظون به له لوجبات اخرى ، فإن فسد يلقونه ، كلّ ذلك ليتخلّصوا من أكل مال اليتامى ، واشتدّ ذلك على اليتامى وعلى من يرعاهم ، فجاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يخبرونه بذلك ، فنزلت الآية.

التّفسير

الجواب على أربعة أسئلة :

الآية الاولى تجيب عن سؤالين حول الخمر والقمار (يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ).

(الخمر) في اللّغة بقول الرّاغب بمعنى الغطاء وكلّ ما يخفي شيئا وراءه هو (خمار) بالرّغم من أنّ الخمار يستعمل في الاصطلاح لغطاء الرّأس بالنسبة للمرأة.

وفي معجم مقاييس اللّغة ورد أنّ الأصل في كلمة (الخمر) هو الدلالة على التغطية والاختلاط الخفي وقيل للخمر خمر ، لأنّه سبب السكر الّذي يغطي على عقل الإنسان ويسلبه قدرة التمييز بين الحسنة والقبيح.

أمّا في الاصطلاح الشرعي فيأتي (الخمر) بمعنى كلّ مايع مسكر ، سواء أخذ من العنب أو الزبيب أو التمر أو شيء آخر ، بالرّغم من أنّ الوارد في اللّغة أسماء مختلفة لكلّ واحد من أنواع المشروبات الكحوليّة.

(الميسر) من مادّة (اليسر) وإنّما سمّي بذلك لأنّ المقامر يستهدف الحصول على ثروة بيسر ودون عناء.

ثمّ تقول الآية في الجواب (قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما).

__________________

(١) النساء : ١٠.

١١٢

ومع الالتفات إلى أنّ المجتمع الجاهلي كان غارقا في الخمر والقمار ، ولذلك جاء الحكم بتحريمهما بشكل تدريجي وعلى مراحل ، كما نرى من اللّين والمداراة والأسلوب الهاديء في لحن الآية إنّما هو بسبب ما ذكرناه.

في هذه الآية وردت مقايسة بين منافع الخمر والميسر وأضرارهما وأثبتت أنّ ضررهما وإثمهما أكثر من المنافع ، ولا شكّ أنّ هناك منافع ماديّة للخمر والقمار أحيانا يحصل عليها الفرد عن طريق بيع الخمر أو مزاولة القمار ، أي تلك المنفعة الخياليّة الّتي تحصل من السكر وتخدير العقل والغفلة عن الهموم والغموم والأحزان ، الّا أنّ هذه المنافع ضئيلة جدّا بالنسبة إلى الأضرار الأخلاقيّة والاجتماعيّة والصحيّة الكثيرة المترتّبة على هذين الفعلين.

وبناء على ذلك ، فكلّ إنسان عاقل لا يقدم على الإضرار بنفسه كثيرا من أجل نفع ضئيل.

(الإثم) كما ورد في معجم مقاييس اللّغة أنّه في الأصل بمعنى البطء والتأخّر ، وبما أنّ الذنوب تؤخّر الإنسان عن نيل الدّرجات والخيرات ، ولذلك أطلقت هذه الكلمة عليها ، بل أنّه ورد في بعض الآيات القرآنية هذا المعنى بالذّات من كلمة الإثم مثل (وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ) (١) أي أنّ الغرور والمقامات الموهومة تؤخّره عن الوصول إلى التّقوى.

وعلى كلّ حال ، فالمراد من الإثم هو كلّ عمل وشيء يؤثّر تأثيرا سلبيّا في روح وعقل الإنسان ويعيقه عن الوصول إلى الكمالات والخيرات ، فعلى هذا يكون وجود (الإثم الكبير) في الخمر والقمار دليل على التأثير السلبي لهما في وصول الإنسان إلى التقوى والكمالات المعنويّة والإنسانيّة الّتي سوف يأتي شرحها.

السؤال الثالث المذكور في الآية محلّ البحث هو السؤال عن الإنفاق فتقول الآية (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ).

__________________

(١) البقرة : ٢٠٦.

١١٣

ورد في تفسير «الدّر المنثور» في شأن نزول هذه العبارة من الآية عن ابن عبّاس أنّ المسلمين سألوا الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند نزول آيات الحثّ على الإنفاق : ماذا ينفقون؟ أينفقون كلّ أموالهم أم بعضها؟ فنزلت الآية لتأمر برعاية (العفو) (١). ولكن ما المراد من «العفو» في الآية؟

(العفو) في الأصل ـ كما يقول الرّاغب في المفردات ـ بمعنى القصد إلى أخذ شيء،أو بمعنى الشيء الّذي يؤخذ بسهولة ، وبما أنّ هذا المعنى واسع جدّا ويطلق على مصاديق مختلفة منها : المغفرة والصفح وإزالة الأثر الحد الوسط بين شيئين.

المقدار الإضافي لشيء. وأفضل جزء من الثروة. فالظاهر أنّ المعنى الأوّل والثاني لا يتناسب مع مفهوم الآية ، والمراد هو أحد المعاني الثلاثة المتأخّرة ، يعني رعاية الحد الوسط في الإنفاق ، أو إنفاق المقدار الزائد عن الحاجة ، أو إنفاق القسم الجيّد للأموال وعدم بذل الحصّة الرخيصة والعديمة النفع من المال.

وهذا المعنى وارد أيضا في الروايات الإسلاميّة في تفسير هذه الآية ، وقد ورد عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : العفو الوسط(٢) (أي أنّ المراد من العفو في الآية أعلاه هو الحد الوسط).

وورد في تفسير علي بن إبراهيم (لا إقتار ولا إسراف)(٣).

وفي مجمع البيان عن الإمام الباقر عليه‌السلام (العفو ما فضل عن قوت السّنة) (٤).

ويحتمل أيضا أن يكون العفو في الآية (وإن لم أجده في كلمات المفسّرين) هو المعنى الأوّل ، أي الصفح عن أخطاء الآخرين ، وبذلك يكون معنى الآية الكريمة : أنفقوا الصفح والمغفرة فهو أفضل الإنفاق.

ولا يبعد هذا الاحتمال لو أخذنا بنظر الاعتبار أوضاع شبه جزيرة العربيّة

__________________

(١) الدر المنثور : ج ١ ص ٢٥٣.

(٢ ، ٣) ـ نور الثقلين : ج ١ ص ٢١٠.

(٤) مجمع البيان : ج ١ ص ٣١٦.

١١٤

عامّة وخاصّة مكّة والمدينة محل نزول القرآن من حيث هيمنة روح التنافر والعداء والحقد بين الناس ، وخاصّة أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو النموذج الكامل لهذا المعنى ، كما أعلن العفو العامّ عن مشركي مكّة الّذين هم أشدّ الناس عداوة للإسلام والمسلمين ، والجواب بهذا المعنى لا يتنافى مع سؤالهم بشأن الإنفاق المالي ، لأنّهم قد يسألون عن موضوع كان ينبغي أن يسألوا عن أهم منه ، والقرآن يستثمر فرصة سؤالهم المعبّر عن استعدادهم للسّماع والقبول ليجيبهم بما هو أهم وألزم ، وهذا من شؤون الفصاحة والبلاغة حيث يترك سؤالهم ليتناول موضوعا أهم. ولا يوجد تعارض بين هذه التفاسير ، فيمكن أن تكون مرادة بأجمعها من مفهوم الآية.

وأخيرا يقول تعالى في ختام الآية : (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ).

ويذكر بدون فصل في الآية التالية المحور الأصلي للتفكّر ويقول (فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ).

أجل ، يجب أن تكون جميع نشاطات الإنسان الماديّة والمعنوية في الحياة مشفوعة بالفكر والتدبّر ، ويتّضح من هذه العبارة أمران :

الأوّل : إنّ الإنسان إضافة إلى وجوب التسليم أمام أوامر الله يجب أن يطيع هذه الأوامر عن تفكّر وتعقّل لا عن اتّباع أعمى ، وبعبارة اخرى على الإنسان المؤمن أن يعي أسرار الأحكام وروحها ليس فقط في مجال تحريم الخمر والقمار ، بل في جميع المجالات ولو إجمالا.

ولا يعني هذا الكلام أنّ إطاعة الأحكام الإلهيّة مشروطة بإدراك فلسفتها وحكمتها،بل المراد أنّ الإنسان يجب عليه بموازاة الطّاعة العمليّة أن يسعى إلى فهم أسرار وروح الأحكام الإلهيّة.

الثاني : إنّ على الإنسان أن لا يحصر تفكيره في عالم المادّة وحده أو عالم

١١٥

المعنى وحده ، بل عليه أن يفكّر في الإثنين معا ، لأنّ الدنيا والآخرة مرتبطتان وكلّ خلل في أحدهما يخلّ بالآخر ، وأساسا لا يمكن أن يؤدي أحدهما إلى رسم صورة صحيحة عن الواقعيّات في هذا العالم ، لأنّ كلّا منهما هو قسم من هذا العالم ، فالدنيا هي القسم الأصغر والآخرة القسم الأعظم ، فمن حصر فكره في أحدهما فإنّه لا يمتلك تفكيرا سليما عن العالم.

ثمّ تذكر الآية السؤال الرابع وجوابه وتقول : (وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ) (١).

وعلى هذا الأساس فالقرآن يوصي المسلمين بعدم إهمال اليتامى ، فإنّ الإعراض عن تحمّل مسئوليتهم وتركهم وشأنهم أمر مذموم ، فالأفضل أن يتقبّلوا المسؤوليّة ويصلحوا أمر اليتامى وإن اختلطت معيشتهم بمعيشتكم فعاملوهم معاملة الأخ لأخيه ، فلا حرج في الاختلاط الأموال إذا كان الدافع هو الإصلاح.

ثمّ تضيف الآية (وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ) أجل ، إنّ الله مطلّع على نيّاتكم ويعلم من يقصد السوء بالاستفادة من أموال اليتامى ليحيف عليهم ومن هو مخلص لهم.

والفقرة الأخيرة من الآية تؤكّد بأنّ الله تعالى قادر على أن يضيّق ويشدّد عليكم برعاية اليتامى مع فصل أموالهم عن أموالكم ، لكنّ الله لا يفعل ذلك أبدا ، لأنّه عزيز وحكيم ، ولا داعي لأن يضيّق على عباده (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (٢).

* * *

__________________

(١) جملة شرطية ، فيها محذوف وتقديره «لا بأس به» أو «فلكم ذلك».

(٢) «اعنتكم» من مادة «عنت» وفي الأصل بمعنى الوقوع في أمر مخوف ، وعلى قول مقاييس اللغة أنه يعني كلّ أمر شاق. وعبارة «فإخوانكم» بمثابة الدليل على ذلك.

١١٦

بحوث

١ ـ الترابط ببين الأحكام الأربعة

رأينا أنّ الآيتين أعلاه ذكرتا أربعة مسائل عن الخمر والقمار والإنفاق والأيتام مع أجوبتها ، ويمكن أن يكون ذكر هذه الأسئلة والأجوبة الأربعة مع بعضها لأنّ الناس كانوا مبتلين بهذه المسائل واقعا ، ولذلك كانوا يسألون الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هذه الأسئلة تباعا (مع الالتفات إلى أنّ يسألونك فعل مضارع ويدلّ على الاستمرار).

ويحتمل أنّ هذه المسائل ترتبط مع بعضها باشتراكها في الأمور الماليّة فالخمر والقمار هما سبب لتلف الأموال والإنفاق على العكس من ذلك سبب لنماء الأموال ، وأمّا مسئوليّة اليتامى فيمكن أن تكون مفيدة أو مخرّبة.

والآخر أنّ : الإنفاق له جنبة عموميّة شاملة وجنبة اخرويّة ، والخمر والقمار لهما طابع شخصي ومادّي مخرّب وإصلاح أمر اليتامى له جنبتين عموميّة وخصوصيّة ، وبهذا الترتيب يكون مصداق للتفكّر في الدنيا والآخرة ، ومن هنا يتّضح الارتباط الوثيق بين الخمر والقمار ، لأنّ كلّا منهما يؤدّي إلى تلف الأموال وفساد المجتمع وانتشار الأمراض البدنيّة والروحيّة.

٢ ـ أضرار المشروبات الكحولية

ألف : أثر الكحول في العمر

ذكر أحد علماء الغرب المشهورين أنه لو كان عدد الوفيات بين الشباب المدمنين البالغة أعمارهم بين ٢١ إلى ٢٣ سنة يصل إلى ٥١ شابّا ، فإنّ عدد الوفيات من غير المدمنين في تلك الأعمار لا يبلغ ١٠ أشخاص.

وقال عالم مشهور آخر : الشباب في سنّ العشرين الذين يتوقّع أن تطول

١١٧

أعمارهم إلى خمسين عاما ، لا يعمّرون بسبب معاقرة الخمرة أكثر من خمسة وثلاثين عاما.

التجارب التي أجرتها شركات التأمين على الحياة أثبتت أنّ أعمار المدمنين على الكحول أقلّ من أعمار غيرهم بنسبة ٢٥ ـ ٣٠ بالمائة.

وتذكر إحصائيات أخرى أنّ معدّل أعمار المدمنين على الكحول يبلغ حوالي ٣٥ ـ ٥٠ سنة ، بينما معدّل العمر الاعتيادي مع رعاية القواعد الصحية يبلغ ستين عاما فصاعدا.

ب : أثر الكحول على النسل

٣٥ بالمائة من عوارض الإدمان الحادّة تنتقل إلى الوليد إذا كان أبوه ـ حين انعقاد النطفة ـ سكرانا ، وإن كان الوالدان سكرانين فتر تفع نسبة هذه العوارض إلى مائة في المائة. وهذه إحصائيات تبيّن آثار الإدمان على الجنين :

الأطفال الذين ولدوا قبل موعد ولادتهم الطبيعي : من أبوين مدمنين ٤٥ بالمائة. ومن أمّ مدمنة ٣١ بالمائة. ومن أب مدمن ١٧ بالمائة.

الأطفال الذين ولدوا وهم لا يحملون مقوّمات استمرار الحياة : من أب مدمن ٦ بالمائة ، ومن أمّ مدمنة ٤٥ بالمائة.

الأطفال الذين لا يتمتّعون بطول طبيعي : من والدين مدمنين ٧٥ بالمائة ، ومن أمّ مدمنة ٤٥ بالمائة.

وأخيرا الأطفال الذين يفتقدون القوّة العقلية والروحية الكافية : من أمّهات مدمنات ٧٥ بالمائة ، ومن آباء مدمنين ٧٥ بالمائة أيضا.

ج : أثر الكحول في الأخلاق

العاطفة العائلية في الشخص المدمن تضعف ، ويقلّ انشداده بزوجته وأبنائه ، حتّى يحدث أن يقدم المدمن على قتل أبنائه بيده.

١١٨

د : أضرار الكحول الاجتماعية

حسب الاحصائيّة التي نشرها معهد الطب القانوني في مدينة (نيون) عام ١٩٦١ ، كانت الجرائم الاجتماعية للمدمنين على النحو التالي :

القتلة : ٥٠ بالمائة ، المعتدون بالضرب والجرح بين المدمنين : ٨ ، ٧٧ بالمائة ، السرقات بين المدمنين : ٥ ، ٨٨ بالمائة ، الجرائم الجنسية المرتبطة بالمدمنين : ٨ ، ٨٨ بالمائة. هذه الإحصائيات تشير إلى أنّ الأكثرية الساحقة من الجرائم ترتكب في حالة السكر.

ه : الأضرار الاقتصادية للمشروبات الكحوليّة

أحد علماء النفس المشهورين يقول : من المؤسف أنّ الحكومات تحسب ما تدر عليها المشروبات الكحولية من ضرائب ، ولا تحسب الميزانية الضخمة التي تنفق لترميم مفاسد هذه المشروبات. فلو حسبت الحكومات الأضرار الناتجة من المشروبات الكحولية ، مثل زيادة الأمراض الروحية ، وإهدار الوقت والاصطدامات الناتجة عن السكر ، وفساد الجيل ، وانتشار روح التقاعس والتحلّل ، والتخلّف الثقافي ، والمشاكل التي تواجه رجال الشرطة ودور الحضانة المخصّصة لرعاية أبناء المخمورين ، وما تحتاجه جرائم المخمورين من مستشفيات وأجهزة قضائيّة وسجون ، وغيرها من الخسائر والأضرار الناتجة عن تعاطي الخمور ، وقارنت هذه الخسائر بما تحصل عليه من ضرائب على هذه المشروبات لوجدت أنّ الأرباح تكاد تكون تافهة أمام الخسائر ، هذا إضافة إلى أنّ الخسائر المؤسفة الناتجة عن المشروبات الكحولية لا يمكن حسابها بالدولار ، لأنّ موت الأعزّاء وتشتّت العوائل وتبدّد الآمال وفقدان الأدمغة المفكّرة لا يمكن حسابه بالمال.

أضرار المشروبات الكحولية فظيعة للغاية ، حتّى أنّ أحد العلماء قال : لو أنّ

١١٩

الحكومة ضمنت لي غلق حانات الخمور لضمنت لها غلق نصف المستشفيات ودور المجانين.

ممّا تقدّم يتّضح بجلاء معنى الآية الكريمة بشأن الخمر ، فلو كان في الخمرة فائدة تجارية، ولو كان السكران يحسب لحظات غفلته عن عمومه أثناء السكر فائدة له ، فإنّ الأضرار التي تترتب عليها أكثر بكثير وأوسع دائرة وأبعد مدى من فوائدها ، حتّى لا يمكن المقارنة بين الاثنين.

٣ ـ آثار القمار المشؤومة

أضرار القمار لا تخفى على أحد ، ولمزيد من التوضيح نذكر باختصار جانبا من المآسي المترتّبة على هذه الظاهرة الخطرة :

الف : القمار أكبر عوامل الهياج والانفعال

يجمع علماء النفس على أنّ الهياج هو النفسي هو العامل الأساسي في كثير من الأمراض ، مثل : نقص الفيتامينات ، وقرحة المعدة ، والجنون ، والأمراض العصبية والنفسية الخفيفة والحادّة. والقمار أكبر عامل على إثارة الهياج ، حتّى أنّ عالما أمريكيا يقول : في أمريكا يموت ألفا شخص سنويا نتيجة هياج القمار ، وقلب لاعب البوكر «نوع من القمار» تزيد عدد ضرباته على مائة ضربة في الدقيقة ، وقد يؤدّي القمار إلى سكتة قلبيّة ودماغيّة أيضا ، ومن المؤكّد أنّه يدفع إلى شيخوخة مبكّرة.

إضافة إلى ما سبق فإنّ المقامر ـ كما يقول العلماء ـ يصاب بتوتّر روحي ، بل أنّ جميع أجهزة جسمه تصاب بحالة استثنائيّة ، كأن يزداد ضربان القلب وتزداد نسبة السكّر في الدم ، ويختلّ ترشّح الغدد الداخلية ، ويشحب لون الوجه ، وتقلّ الشهية ، ويمرّ المقامر بعد اللعب بفترة حرب أعصاب وحالة أزمة نفسية ، وقد يلجأ

١٢٠