الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

الأنبياء في الفكر والعمل ، لأن هذه الرّسالة هي آخر حلقة من السلسلة التكاملية للأديان ، وعدم انتهاجها يعني التخلف عن المسيرة التكاملية للبشرية.

٥ ـ الإيمان بيوم القيامة :

آخر صفة في هذه السلسلة من الصفات التي قررها القرآن للمتقين (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ).

إنهم يوقنون بأن الإنسان لم يخلق هملا وعبثا ، فالخليقة عينت للكائن البشري مسيرة تكاملية لا تنتهي إطلاقا بموته ، إذ لو كان الموت نهاية المسير لكانت حياة الإنسان عبثا لا طائل تحته.

المتّقون يقرّون بأن عدالة الله المطلقة تنتظر الجميع ، ولا شيء من أعمال البشر في هذه الدنيا يبقى بدون جزاء.

هذا اللون من التفكير يبعث في نفس حامله الهدوء والسكينة ، ويجعله يتحمل أعباء المسؤولية ومشاقها بصدر رحب ، ويقف أمام الحوادث كالطود الأشمّ ، ويرفض الخضوع للظلم. وهذا التفكير يملأ الإنسان ثقة بأن الأعمال ـ صالحها وطالحها ـ لها جزاء وعقاب ، وبأنه ينتقل بعد الموت إلى عالم أرحب خال من كل ألوان الظلم ، يتمتع فيه برحمة الله الواسعة وألطافه الغزيرة.

الإيمان بالآخرة يعني شقّ حاجز عالم المادة والدخول إلى عالم أسمى. ويعني أن عالمنا هذا مزرعة لذلك العالم الأسمى ومدرسة إعدادية له ، وأنّ الحياة في هذا العالم ليست هدفا نهائيّا ، بل تمهيد وإعداد للعالم الآخر.

الحياة في هذا العالم شبيهة بحياة المرحلة الجنينية ، فهي ليست هدفا لخلقة الإنسان ، بل مرحلة تكاملية من أجل حياة اخرى. وما لم يولد هذا الجنين سالما خاليا من العيوب ، لا يستطيع أن يعيش سعيدا في الحياة التالية.

الإيمان بيوم القيامة له أثر عميق في تربية الإنسان. يهبه الشجاعة والشهامة ،

٨١

لأن أسمى وسام يتقلده الإنسان في هذا العالم ، هو وسام «الشهادة» على طريق هدف مقدس إلهي ، والشهادة أحبّ شيء للإنسان المؤمن ، وبداية لسعادته الأبديّة.

الإيمان بيوم القيامة يصون الإنسان من ارتكاب الذّنوب. بعبارة اخرى ، يتناسب ارتكابنا للذنوب مع إيماننا بالله واليوم الآخر تناسبا عكسيا ، فكلما قوي الإيمان قلت الذنوب. يقول الله سبحانه لنبيّه داود : (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ) (١).

نسيان يوم الحساب أساس كل طغيان وظلم وذنب ، وبالتالي أساس استحقاق العذاب الشديد.

آخر آية في هذا البحث تشير إلى النتيجة التي يتلقاها المؤمنون المتصفون بالصفات الخمس المذكورة ، تقول : (أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ ... وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ).

وقد ضمن ربّ العالمين لهؤلاء هدايتهم وفلاحهم ، وعبارة (مِنْ رَبِّهِمْ) إشارة إلى هذه الحقيقة.

واستعمال حرف (على) في عبارة (عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ) يوحي بأن الهداية الإلهية مثل سفينة يركبها هؤلاء المتقون لتوصلهم إلى السعادة والفلاح. (لأن حرف ـ على ـ يوحي غلبا معنى الاستعلاء).

واستعمال كلمة «هدى» في حالة نكرة يشير إلى عظمة الهداية التي شملهم الله بها.

وتعبير (هُمُ الْمُفْلِحُونَ) يفيد الانحصار كما يذكر علماء البلاغة ، أي إن الطريق الوحيد للفلاح هو طريق هؤلاء المفلحين (٢)!

__________________

(١) ص ، ٢٦.

(٢) صاحب «المنار» يصر على أن تكرار كلمة «أولئك» في الآية يفيد الإشارة إلى مجموعتين :

٨٢

بحثان

١ ـ مواصلة طريق الإيمان والعمل :

الآيات المذكورة استعملت الفعل المضارع الذي يشير عادة إلى الاستمرار يؤمنون بالغيب ـ يقيمون الصلاة ـ ينفقون ـ وبالآخرة هم يوقنون. وهذا يعني أن المتقين والمؤمنين الحقيقيين هم الذين يواصلون مسيرتهم الحياتية بثبات واستمرار ، دون تعثر أو تلكّؤ أو توقف.

هؤلاء ينطلقون منذ البدء بروح البحث عن الحق ، وهذا يؤدي بهم إلى تلبية دعوة القرآن ، والقرآن بعد ذلك يوجد فيهم الخصائص الخمس المذكورة.

٢ ـ ما هي حقيقة التقوى؟

التقوى من الوقاية ، أي الحفظ والصيانة (١) ، وهي بعبارة اخرى جهاز الكبح الداخلي الذي يصون الإنسان أمام طغيان الشهوات.

لهذا السبب وصف أمير المؤمنين علي عليه‌السلام التقوى بأنها الحصن الذي يقي الإنسان أخطار الانزلاق إذ قال : «اعلموا عباد الله أنّ التّقوى دار حصن عزيز» (٢).

وفي النصوص الدينية والأدبية تشبيهات كثيرة تجسّم حالة التقوى ، فعن الامام عليعليه‌السلام قال : «ألا وإنّ التّقوى مطايا ذلل ، حمل عليها أهلها ، وأعطوا أزمّتها ، فأوردتهم الجنّة» (٣).

__________________

الاولى ـ أولئك الذين يتصفون بالإيمان بالغيب ، وبإقامة الصلاة ، وبالإنفاق. والثانية ـ هم المؤمنون بالوحي السماوي وبالاخرة. نحن نستبعد كثيرا هذا التّفسير ، لأن الصفات الخمس المذكورة مترابطة لا يمكن التفكيك بينها، وكلها تصف مجموعة واحدة.

(١) يقول الراغب في مفرداته : الوقاية حفظ الشيء ممّا يؤذيه ويضرّه ، والتقوى جعل النفس في وقاية ممّا يخاف ، لذلك يسمى الخوف تارة تقوى بينما الخوف سبب للتقوى. وفي عرف الشرع ، التقوى حفظ النفس عمّا يؤثم. و «كمال التقوى» اجتناب المشتبهات.

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٥٧.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ١٦.

٨٣

وعبد الله بن المعتز شبّه التقوى بحالة رجل يسير على طريق شائكة ، ويسعى إلى أن يضع قدمه على الأرض بتأنّ وحذر ، كي لا تخزه الأشواك ، أو تتعلق بثيابه ، يقول :

خل الذّنوب صغيرها

وكبيرها فهو التّقى

واصنع كماش فوق أر

ض الشّوك يحذر ما يرى

لا تحقرنّ صغيرة

إنّ الجبال من الحصى! (١)

هذا التشبيه يفيد أيضا أن التقوى لا تعني العزلة والانزواء عن المجتمع ، بل تعني دخول المجتمع ، وخوض غماره ، مع الحذر من التلوّث بأدرانه إن كان المجتمع ملوثا.

بشكل عام ، فانّ حالة التقوى والضبط المعنوي من أوضح آثار الإيمان بالله واليوم الآخر. ومعيار فضيلة الإنسان وافتخاره ، ومقياس شخصيته في الإسلام ، حتى أضحت الآية الكريمة : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) (٢) شعارا إسلاميا خالدا.

يقول الامام عليّ عليه‌السلام «انّ تقوى الله مفتاح سداد ، وذخيرة معاد ، وعتق من كلّ ملكة ، ونجاة من كلّ هلكة» (٣).

جدير بالذكر أن التقوى ذات شعب وفروع ، منها التقوى المالية والاقتصادية ، والتقوى الجنسية والاجتماعية والتقوى السياسية ....

* * *

__________________

(١) تفسير أبو الفتوح الرازي ، ج ١ ، ص ٦٢.

(٢) الحجرات ، ١٤.

(٣) نهج البلاغة ، الخطبة ٢٣٠.

٨٤

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٦) خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (٧))

التّفسير

المجموعة الثّانية : الكفّار المعاندون

هذه المجموعة تقف في النقطة المقابلة تماما للمتقين ، والآيتان المذكورتان بيّنتا باختصار صفات هؤلاء.

الآية الاولى تقول إن الإنذار لا يجدي نفعا مع هؤلاء ، فهم متعنتون في كفرهم (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) بعكس الطائفة الاولى المستعدّة لقبول الحق لدى أول ومضة.

هذه المجموعة غارقة في ضلالها وترفض الانصياع للحق حتى لو اتضح لديها. من هنا كان القرآن غير مؤثر في هؤلاء. وهكذا الوعد والوعيد ، لأنهم يفتقدون الأرضية اللازمة لقبول الحق والاستسلام له.

الآية الثّانية تشير إلى سبب هذا اللجاج والتعصب وتقول : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) ، ولذلك استحقوا أن يكون (لَهُمْ

٨٥

عَذابٌ عَظِيمٌ).

أجهزة استقبال الحقائق معطوبة عند هؤلاء ... العين التي يرى المتقون فيها آيات الله، والاذن التي يسمعون بها نداء الحق ، والقلب الذي يدركون به الحقائق ، كلها قد تعطّلت وتوقفت عن العمل لدى الكافرين. هؤلاء لهم عيون وآذان وعقول ، لكنهم يفتقدون قدرة «الرؤية» و «الإدراك» و «السمع». لأن انغماسهم في الانحراف وعنادهم ولجاجهم ، كلها عناصر تشكل حجابا أمام أجهزة المعرفة.

الإنسان قابل للهداية طبعا ـ إن لم يصل إلى هذه المرحلة ـ مهما بلغ به الضلال أمّا حينما يبلغ في درجة يفقد معها حسّ التشخيص «فلات حين نجاة» لأنه افتقد أدوات الوعي والفهم ، ومن الطبيعي أن يكون في انتظاره عذاب عظيم.

* * *

بحوث

١ ـ سلب قدرة التشخيص ومسألة الجبر

أول سؤال يطرح في هذا المجال يدور حول مسألة الجبر ، التي قد تتبادر إلى الأذهان من قوله تعالى : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ) ... فهذا الختم يفيد بقاء هؤلاء في الكفر إجبارا ، دون أن يكون لهم اختيار في الخروج من حالتهم هذه. أليس هذا بجبر؟ وإذا كان جبرا فلما ذا العقاب؟

القرآن الكريم يجيب على هذه التساؤلات ويقول : إن هذا الختم وهذا الحجاب هما نتيجة إصرار هؤلاء ولجاجهم وتعنتهم أمام الحق ، واستمرارهم في الظلم والطغيان والكفر. يقول تعالى : (بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) (١) ويقول :

__________________

(١) النساء ، ١٥٥.

٨٦

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (١) ويقول أيضا : (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (٢).

كل هذه الآيات تقرر أنّ السبب في سلب قدرة التشخيص ، وتوقف أجهزة الإدراك عن العمل يعود إلى الكفر والتكبر والتجبر واتباع الهوى واللجاج والعناد أمام الحق ، هذه الحالة التي تصيب الإنسان ، هي في الحقيقة ردّ فعل لأعمال الإنسان نفسه.

من المظاهر الطبيعية في الموجود البشري ، أن الإنسان لو تعوّد على انحراف واستأنس به ، يتخذ في المرحلة الاولى ماهية ال «حالة» ثمّ يتحول إلى «عادة» وبعدها يصبح «ملكة» وجزء من تكوين الإنسان حتى يبلغ أحيانا درجة لا يستطيع الإنسان أن يتخلّى عنها أبدا. لكن الإنسان اختار طريق الانحراف هذا عن علم ووعي ، ومن هنا كان هو المسؤول عن عواقب أعماله ، دون أن يكون في المسألة جبر. تماما مثل شخص فقأ عينيه وسدّ أذنيه عمدا ، كي لا يسمع ولا يرى.

ولو رأينا أن الآيات تنسب الختم وإسدال الغشاوة إلى الله ، فذلك لأن الله هو الذي منح الانحراف مثل هذه الخاصية. (تأمّل بدقّة).

عكس هذه الظاهرة مشهود أيضا في قوانين الطبيعة ، أي إن الفرد السائر على طريق الطهر والتقوى والاستقامة تمتد يد الله عزوجل إليه لتقوّي حاسّة تشخيصه وإدراكه ورؤيته، هذه الحقيقة توضحها الآية الكريمة. (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً)(٣).

في حياتنا اليومية صور عديدة لأفراد ارتكبوا عملا محرّما ، فتألموا في البداية لما فعلوه واعترفوا بذنبهم ، لكنهم استأنسوا تدريجيا بفعلهم ، وزالت من

__________________

(١) المؤمن ، ٣٥.

(٢) الجاثية ، ٢٣.

(٣) الأنفال ، ٢٩.

٨٧

نفوسهم حساسيتهم السابقة تجاه الذنب ، ووصل أمرهم إلى حدّ يجدون اللذة والإنشراح في الانحراف ، وقد يضفون عليه صفة الواجب الإنساني! أو الواجب الديني!!

وفي تاريخنا الإسلامي ظهر مجرمون سفّاكون مولعون بإزهاق الأرواح والتنكيل بالمسلمين كما ذكر في حالات «الحجاج بن يوسف الثقفي» أنه كان يضع لأعماله الإجرامية تبريرات دينية، ويقول مثلا : إن الله سلّطنا على هؤلاء النّاس المذنبين لنظلمهم ، فهم مستحقون لذلك!!

وكذلك قيل إن أحد جنود المغول خطب في أحد مدن ايران الحدودية وقال : ـ ألستم يعتقدون أن عذاب الله يصيب المذنبين؟ فنحن عذاب الله عليكم ، فلا ينبغي لكم المقاومة.

٢ ـ لماذا يصرّ الأنبياء على هداية هؤلاء ، إذا كانوا لا يهتدون؟

وهذا سؤال آخر يطرح في إطار الآيات المذكورة. والجواب عليه يتضح لو عرفنا أن العقاب الإلهي يرتبط بمواقف الإنسان العملية وسلوكه الفعلي ، لا بما يكنّه في قلبه من زيغ وضلال فقط. من هنا كان لا بدّ من توجيه الدعوة حتى إلى هؤلاء الذين لا يهتدون. بعد ذلك يستحق الفرد العقاب تبعا لموقفه من الدعوة. بعبارة اخرى لا بدّ من «إتمام الحجّة» قبل العقاب.

بعبارة موجزة : الثّواب والعقاب يتوقفان حتما على العمل بعد إنجازه ، لا على المحتوى الفكري والروحي للفرد.

أضف إلى ما سبق : أن الأنبياء بعثوا للناس جميعا ، وهؤلاء الذين (طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) قليلون في المجتمع ، أما الأكثرية فهم التائهون الذين يتقبّلون الهداية ضمن برنامج تعليمي تربوي صحيح.

٨٨

٣ ـ الختم على القلوب :

في الآيات المذكورة وآيات اخرى عبّر القرآن عن عملية سلب حسّ التشخيص والإدراك الواقعي للأفراد بالفعل «ختم» ، وأحيانا بالفعل «طبع» و «ران».

في اللغة «ختم» الإناء بمعنى سدّه بالطين أو غيره ، وأصلها من وضع الختم على الكتب والأبواب كي لا تفتح ، والختم اليوم مستعمل في الاستيثاق من الشّيء والمنع منه كختم سندات الأملاك والرسائل السرّية الهامة.

وهناك شواهد من التأريخ تدلّ على أن الملوك وأرباب السلطة كانوا سابقا يختمون صرر الذهب بخاتمهم الخاص ويبعثون بها إلى المنظورين للاطمئنان على سلامة الصرر وعدم التلاعب في محتوياتها.

والشائع في هذا الزمان الختم على الطرود البريدية أيضا ، وقد استعمل القرآن كلمة «الختم» هنا للتعبير عن حال الأشخاص المعاندين الذين تراكمت الذنوب والآثام على قلوبهم حتى منعت كلمة الحق من النفوذ إليها وأمست كالختم لا سبيل إلى فتحه.

و «طبع» بمعنى ختم أيضا.

أما «ران» فمن «الرين» وهو صدأ يعلو الشيء الجليّ ، واستعمل القرآن هذه الكلمة في حديثه عن قلوب الغارقين في أوحال الفساد والرّذيلة : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

المهم أن الإنسان ينبغي أن يكون حذرا لدى صدور الذنب منه ، فيسارع إلى غسله بماء التوبة والعمل الصالح ، كي لا يتحول إلى صفة ثابتة مختوم عليها في القلب.

__________________

(١) المطففين ، ١٤.

٨٩

في حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام : «ما من عبد مؤمن إلّا وفي قلبه نكتة بيضاء ، فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النّكتة نكتة سوداء ، فإذا تاب ذهب ذلك السّواد ، فإن تمادى في الذّنوب زاد ذلك السّواد حتّى يغطّي البياض ، فإذا غطّي البياض لم يرجع صاحبه إلى خير أبدا ، وهو قول الله عزوجل : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) (١).

٤ ـ المقصود من «القلب» في القرآن

لماذا نسب إدراك الحقائق في القرآن إلى القلب ، بينما القلب ليس بمركز للإدراك بل مضخة لدفع الدم إلى البدن؟!

 الجواب على ذلك ، أن القلب في القرآن له معان متعددة منها :

١ ـ بمعنى العقل والإدراك كقوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ)(٢).

٢ ـ بمعنى الروح والنفس كقوله سبحانه : (وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) (٣).

٣ ـ بمعنى مركز العواطف ، كقوله : (سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) (٤) وقوله: (فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (٥).

لمزيد من التوضيح نقول :

في وجود الإنسان مركزان قويّان هما :

١ ـ مركز الإدراك ، ويتكون من الدماغ وجهاز الأعصاب. لذلك نشعر أننا

__________________

(١) اصول الكافي ، ج ٢ ، باب الذنوب ، ح ٢٠ ، ص ٢٠٩.

(٢) ق ، ٣٧.

(٣) الأحزاب ، ١٠.

(٤) الأنفال ، ١٢.

(٥) آل عمران ، ١٥٩.

٩٠

نستقبل المسائل الفكرية بدماغنا حيث يتمّ تحليلها وتفسيرها. (وإن كان الدماغ والأعصاب في الواقع وسيلة وآلة للروح).

٢ ـ مركز العواطف ، وهو عبارة عن هذا القلب الصنوبري الواقع في الجانب الأيسر من الصدر. والمسائل العاطفية تؤثر أول ما تؤثر على هذا المركز حيث تنقدح الشرارة الاولى.

حينما نواجه مصيبة فإننا نحسّ بثقلها على هذا القلب الصنوبري ، وحينما يغمرنا الفرح فإننا نحسّ بالسرور والإنشراح في هذا المركز (لا حظ بدقّة).

صحيح أن المركز الأصلي للإدراك والعواطف هو الروح والنفس الإنسانية ، لكن المظاهر وردود الفعل الجسمية لها مختلفة. ردود فعل الفهم والإدراك تظهر أولا في جهاز الدماغ ، بينما ردود فعل القضايا العاطفية كالحب والبغض والخوف والسكينة والفرح والهمّ تظهر في القلب بشكل واضح ، ويحسّها الإنسان في هذا الموضوع من الجسم.

ممّا تقدم نفهم سبب ارتباط المسائل العاطفية في القرآن بالقلب (العضو الصنوبري المخصوص) ، وارتباط المسائل العقلية بالقلب (أي العقل أو الدماغ).

أضف إلى ما تقدم أنّ عضو القلب له دور مهم في حياة الإنسان وبقائه ، وتوقفه لحظه يؤدي إلى الموت ، فما ذا يمنع أن تنسب النشاطات الفكرية والعاطفية إليه؟!

٥ ـ لماذا جاءت «قلوبهم» و «أبصارهم» بصيغة الجمع ، و «سمعهم» بصيغة المفرد؟

يتكرر في القرآن استعمال القلب والبصر بصيغة الجمع : قلوب وأبصار ، بينما يستعمل السمع دائما بصيغة المفرد ، فما السرّ في ذلك؟

قبل الإجابة لا بد من الإشارة إلى أن القرآن استعمل السمع والبصر بصيغة

٩١

المفرد أيضا كقوله تعالى : (وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً) (١).

الشّيخ الطّوسي رحمه‌الله في تفسير «التبيان» ذكر نقلا عن لغوي معروف ، أن سبب ذلك قد يعود إلى أحد أمرين :

أوّلا : إن كلمة «السمع» قد تستعمل باعتبارها اسم جمع ، ولا حاجة عندئذ إلى جمعها.

ثانيا : إن كلمة «السمع» لها معنى المصدر ، والمصدر يدل على الكثير والقليل ، فلا حاجة إلى جمعه.

ويمكننا أن نضيف إلى ما سبق تعليلا ذوقيا وعلميا هو أن الإدراكات القلبية والمشاهدات العينية تزيد بكثير على «المسموعات» ، ولذا جاءت القلوب والأبصار بصيغة الجمع ، والفيزياء الحديثة تقول لنا إن الأمواج الصوتية المسموعة معدودة لا تتجاوز عشرات الآلاف ، بينما أمواج النور والألوان المرئية تزيد على الملايين. (تأمل بدقة).

* * *

__________________

(١) الجاثية ، ٢٣.

٩٢

الآيات

(وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢))

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦))

التّفسير

المجموعة الثّالثة : المنافقون

هذه الآيات تبين ـ باختصار وعمق ـ الخصائص الروحية للمنافقين

٩٣

وأعمالهم.

الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان،ولا القدرة اللازمة للمعارضة.

هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية توغلت في أعماق المسلمين،وشكّلت خطرا كبيرا على الإسلام والمسلمين. كان تشخيصهم صعبا لأنهم متظاهرون بالإسلام ، غير أن القرآن بيّن بدقة مواصفاتهم وأعطى للمسلمين في كل القرون والأعصار معايير حيّة لمعرفتهم.

الآيات المذكورة قبلها بيّنت في مطلعها الخط العام للنفاق والمنافقين : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ).

هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعا من الشطارة والدهاء (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) بينما لا يشعر هؤلاء أنهم يسيئون بعملهم هذا إلى أنفسهم ، ويبدّدون بانحرافهم هذا طاقاتهم ، ولا يجنون من ذلك إلّا الخسران والعذاب الإلهي. (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ).

في الآية التالية يبيّن القرآن أن النفاق في حقيقته نوع من المرض. الإنسان السالم له وجه واحد فقط ، وفي ذاته انسجام تام بين الروح والجسد ، لأن الظاهر والباطن ، والروح والجسم ، يكمل أحد هما الآخر. إذا كان الفرد مؤمنا فالإيمان يتجلى في كل وجوده ، وإذا كان منحرفا فظاهره وباطنه يدلان على انحرافه.

وازدواجية الجسم والروح مرض آخر وعلّة إضافية. إنه نوع من التضاد والانفصال في الشخصية الإنسانية : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ).

وبما أنّ سنّة الله في الكون اقتضت أن يتيسّر الطريق لكل سالك ، وأن تتوفر سبل التقدّم لكل من يجهد في وضع قدمه على طريق. وبعبارة اخرى : إن تكريس أعمال الإنسان وأفكاره في خط معين ، تدفعه نحو الانغماس والثبات في ذلك الخط فقد أضاف القرآن قوله: (فَزادَهُمُ اللهُ مَرَضاً).

٩٤

وبما أن الكذب رأس مال المنافقين ، يبرّرون به ما في حياته من متناقضات ، ولهذا أشار القرآن في ختام الآية إلى هذه الحقيقة : (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ).

ثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين ، وتذكر أوّلا أنهم يتشدّقون بالإصلاح ، بينما هم يتحركون على خط التخريب والفساد : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ، قالُوا : إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ).

ذكرنا سابقا أنّ الإنسان ، لو تمادى في الغيّ والضلال ، يفقد قدرة التشخيص ، بل تنقلب لديه الموازين ، ويصبح الذنب والإثم جزء من طبيعته. والمنافقون أيضا بإصرارهم على انحرافهم يتطبّعون بخط النفاق ، وتتراءى لهم أعمالهم بالتدريج وكأنهم أعمال إصلاحية ، وتغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.

علامتهم الاخرى : اعتدادهم بأنفسهم واعتقادهم أنهم ذووا عقل وتدبير ، وأن المؤمنين سفهاء وبسطاء : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ ، قالُوا : أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟!!).

وهكذا تنقلب المعايير لدى هؤلاء المنحرفين ، فيرون الانصياع للحق وإتباع الدعوة الإلهية سفاهة ، بينما يرون شيطنتهم وتذبذبهم تعقّلا ودراية!! غير أن الحقيقة عكس ما يرون: (أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ).

أليس من السفاهة أن لا يضع الإنسان لحياته خطا معينا ، ويبقى يتلوّن بألوان مختلفة؟ أليس من السفاهة أن يضيّع الإنسان وحدة شخصيته ، ويتجه نحو ازدواجية الشخصية وتعدّد الشخصيات في ذاته ، ويهدر بذلك طاقاته على طريق التذبذب والتآمر والتخريب ، وهو مع ذلك يعتقد برجاحة عقله؟!

 العلامة الثالثة لهؤلاء ، هي تلوّنهم بألوان معينة تبعا لما تفرضه عليهم مصالحهم ، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين ولأعدائهم من الشياطين :

٩٥

(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا : آمَنَّا ، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا : إِنَّا مَعَكُمْ ، إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ)!.

يؤكدون لشياطينهم أنهم معهم ، وأن ولاءهم للمؤمنين ظاهري ، هدفه الاستهزاء.

وبلهجة قويّة حاسمة يردّ القرآن الكريم على هؤلاء ويقول : (اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ) (١).

الآية الأخيرة توضّح المصير الأسود المظلم لهؤلاء المنافقين ، وخسارتهم في سيرتهم الحياتية الضّالة : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

* * *

بحوث

١ ـ ظهور النّفاق وأسبابه :

حينما تندلع الثورة في منطقة معينة ، فإن مصالح الفئة الظالمة الناهبة المستبدة تتعرض للخطر حتما ، خاصة إذا كانت الثورة مثل ثورة الإسلام تقوم على أساس الحقّ والعدالة. هذه الفئة تسعى للإطاحة بالثورة عن طريق السخريّة والاستهزاء أوّلا ، ثمّ بالاستفادة من القوة المسلحة والضغوط الاقتصادية ، والتضليل الاجتماعي.

وحين تبدو في الأفق علامات انتصار الثورة ، تعمد فئة من المعارضين إلى تغيير موقفها ، فتستسلم ظاهريا ، وتتحول في الواقع إلى مجموعة معارضة سريّة.

هؤلاء يسمّون «منافقين» لانطوائهم على شخصيتين مختلفتين (المنافق

__________________

(١) يعمهون ، من «العمه» أي التردّد في الأمر ، وأيضا بمعنى عمي القلب والبصيرة بسبب التحيّر (راجع: مفردات الراغب ، وتفسير المنار ، وقاموس اللغة).

٩٦

مشتقة من النفق : وهو الطريق النافذ في الأرض المحفور فيها للاستتار أو الفرار) ، وهم أخطر أعداء الثورة ، لأن مواقفهم غير واضحة ، والامّة الثائرة لا تستطيع أن تعرفهم وتطردهم من صفوفها ، لذلك يتغلغلون في صفوف النّاس المخلصين الطيبين ، ويتسلمون أحيانا المناصب الحساسة في المجتمع.

ثورة الإسلام في عصرها الأوّل واجهت مثل هذه المجموعة. فبعد الهجرة المباركة وضعت أول لبنة للدولة الإسلامية في المدينة المنورة ، وازداد الكيان الإسلامي الوليد قوة بعد انتصار المسلمين في غزوة «بدر». وهذه الانتصارات عرضت للخطر مصالح زعماء المدينة ، وخاصة اليهود منهم ، لأن اليهود كانوا يتمتعون في المدينة بمكانة ثقافية واقتصادية مرموقة. وهؤلاء أنفسهم كانوا يبشّرون قبل البعثة النّبوية المباركة بظهور النّبي.

كما كان في المدينة أفراد مرشحون للزعامة والملكية ، لكن الهجرة النّبوية بدّدت آمال هؤلاء المتضررون من الدعوة رأوا أن الجماهير تندفع نحو الإسلام ، وتنقاد إلى النّبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عمّت الدعوة ذويهم وأقاربهم.

وبعد مدّة من الدين الجديد ، لم يروا بدّا من الاستسلام والتظاهر بالإسلام ، تجنبا لمزيد من الأخطار الاقتصادية والاجتماعية وحذرا من الإبادة ، خاصة وأن قوّة العربي تتمثل في قبيلته ، والقبائل أسلمت للدين الجديد لكن هؤلاء راحوا يخططون خفية للإطاحة بالإسلام.

بعبارة موجزة ، إن ظاهرة «النفاق» في المجتمع ، تعود إلى عاملين : أحد هما ، انتصار الثورة وسيطرة الرسالة الثورية على المجتمع ، والآخر : انهزام المعارضين نفسيا ، وفقدانهم للشجاعة الكافية لمواجهة المد الجديد ، واضطرارهم إلى الاستسلام الظاهري أمام الدعوة.

* * *

٩٧

٢ ـ ضرورة معرفة المنافقين في كل مجتمع

ظاهرة النفاق والمنافقين لا تختص ـ دون شك ـ بعصر الرسالة الأول ، بل هي ظاهرة عامة تظهر بشكل وآخر في كل المجتمعات. من هنا لا بدّ للجماعة المسلمة أن تعرف أوصافهم كما جاء في القرآن ، كي تحبط مؤامراتهم وتقف بوجههم. في الآيات السابقة وفي سورة المنافقين وهكذا في النصوص الإسلامية وردت للمنافقين أوصاف مختلفة منها :

١ ـ كثرة الضجيج والادعاءات الفارغة ، أو بعبارة اخرى كثرة القول وقلّة العمل المفيد المتزن.

٢ ـ التلوّن والتذبذب ، فمن المؤمنين يقولون «آمنا» ومع المعارضين يقولون «إنّا معكم».

٣ ـ الانفصال عن الامّة ، وتشكيل الجمعيات السرية وفق خطط مبيّتة.

٤ ـ المكر والخداع والكذب والتملق والنكول والخيانة.

٥ ـ التعالي على النّاس ، وتحقيرهم ، واعتبارهم بلهاء سفهاء ، إلى جانب الاعتداد بالنفس.

على أي حال ، ازدواجية الشخصية ، والتضاد بين المحتوى الداخلي والسلوك الخارجي في وجود المنافقين ، يفرز ظواهر عديدة بارزة مشهودة في أعمالهم وأقوالهم وسلوكهم الفردي والاجتماعي.

وما أجمل تعبير القرآن في حقّ هؤلاء إذ يقول : (فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ، وأيّ مرض أسوأ من ازدواجية الظاهر والباطن ، ومن التعالي على النّاس؟!!

 هذا المرض مثل سائر الأمراض الخفية التي تصيب القلب لا يمكن إخفاؤه تماما ، بل تظهر علائمه بوضوح على جميع أعضاء الإنسان.

في مجلدات هذا التّفسير شرح أو فى لحالة النفاق والمنافقين لدى البحث في الآيات١٤١ ـ ١٤٣ من سورة النساء (المجلد الثالث).

٩٨

وفي الآيات ٤٩ ـ ٥٧ من سورة التّوبة (المجلد السادس).

وفي الآيات ٦٢ ـ ٨٥ من سورة التوبة أيضا (المجلد السادس).

* * *

٣ ـ سعة معنى النفاق :

النفاق في مفهومه الخاص ـ كما ذكرنا ـ صفة أولئك الذين يظهرون الإسلام ، ويبطنون الكفر. لكن النفاق له معنى عام واسع يشمل كل ازدواجية بين الظاهر والباطن ، وكل افتراق بين القول والعمل. من هنا قد يوجد في قلب المؤمن بعض ما نسميه «خيوط النفاق».

ففي الحديث النّبوي : «ثلاث من كنّ فيه كان منافقا وإن صام وصلّى وزعم أنّه مسلم : من إذا ائتمن خان ، وإذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف» (١).

الحديث لا يدور هنا طبعا عن المنافق بالمعنى الخاص ، بل عن الذي في قلبه خيوط من النفاق ، تظهر على سلوكه بأشكال مختلفة ، وخاصة بشكل رياء ، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق عليه‌السلام : «الرّياء شجرة لا تثمر إلّا الشّرك الخفيّ ، وأصلها النّفاق» (٢).

وفي نهج البلاغة نصّ رائع في وصف المنافقين عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام يقول فيه:(٣) «أوصيكم عباد الله بتقوى الله ، وأحذّركم أهل النّفاق ، فإنّهم الضّالّون المضلّون،والزّالّون المزلّون (٤) ، يتلوّنون ألوانا ، ويفتنّون افتنانا (٥) ، ويعمدونكم بكلّ عماد،ويرصدونكم

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٦٠٥.

(٢) سفينة البحار ، ج ١ ، مادة (رئي).

(٣) ننقل نص الخطبة مع هوامشها كما جاءت في نهج البلاغة ، شرح محمّد عبده ، ص ٣٨١ (م).

(٤) الزالون من زلّ أخطأ. والمزلون من أزله إذا أوقعه في الخطأ.

(٥) يفتنون أي يأخذون في فنون من القول لا يذهبون مذهبا واحدا. ويعمدونكم أي يقيمونكم بكل عماد.

٩٩

بكلّ مرصاد ، قلوبهم دويّة (١) وصفاحهم نقيّة. يمشون الخفاء (٢) ، ويدبّون الضراء وصفهم دواء ، وقولهم شفاء ، وفعلهم الدّاء العياء (٣) ، حسدة الرّخاء (٤) ، ومؤكّدو البلاء ، ومقنطو الرّجاء ، لهم بكلّ طريق صريع (٥) وإلى كلّ قلب شفيع ، وإلى كلّ شجو دموع (٦) يتقارضون الثّناء (٧) ويتراقبون الجزاء : إن سألوا الحفوا (٨) ، وإن عذلوا كشفوا ...».

٤ ـ مؤامرة المنافقين :

المنافقون يشكّلون أخطر تجمع معارض ، لا على الإسلام فحسب ، بل على كلّ رسالة ثورية تقدمية ، حيث ينفذون بين صفوف المسلمين ، ويستغلّون كل فرصة للتآمر.

يتحدّث القرآن عن تآمر هؤلاء في صدر الإسلام ويذكر نماذج من أعمالهم.

__________________

والعماد : ما يقام عليه البناء. أي إذا ملتم عن أهوائهم أقاموكم عليها بأعمدة من الخديعة حتى توافقوهم.

والمرصاد محل الارتقاب. ويرصدونكم : يقعدون لكم بكل طريق ليحوّلوكم عن الاستقامة.

(١) دويّة أي مريضة من الدّوى بالقصر وهو المرض. والصفاح ـ جمع صفحة : والمراد منها صفاح وجوههم ، ونقاوتها : صفاؤها من علامات العداوة وقلوبهم ملتهبة بنارها.

(٢) يمشون مشي التستّر. ويدبون : أي يمشون على هيئة دبيب الضراء ، أي يسرون سريان المرض في الجسم أو سريان النقص في الأموال والأنفس والثمرات.

(٣) الداء العياء ـ بالفتح : الّذي أعيى الأطباء ولا يمكن منه الشفاء.

(٤) حسدة : جمع حاسد ، أي يحسدون على السعة ، وإذا نزل بلاء بأحد أكدوه وزادوه. وإذا رجى أحد شيئا أوقعوه في القنوط واليأس.

(٥) الصريع : المطروح على الأرض ، أي إنّهم كثيرا ما خدعوا أشخاصا حتى أوقعوهم في الهلكة.

(٦) الشجو : الحزن ، أي يبكون تصنّعا متى أرادوا.

(٧) يتقارضون : كل واحد منهم يثني على الآخر ليثني الآخر عليه ، كأنّ كلا منهم يسلف الآخر دينا ليؤديه إليه ، وكل يعمل للآخر عملا يرتقب جزاءه عليه.

(٨) ألحفوا : بالغوا في السؤال وألحوا. وإن عذلوا أي لاموا ، كشفوا أي فضحوا من يلومونه.

١٠٠