الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

الآيتان

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٨) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٧٩))

سبب النّزول

شاع بين القبائل العربية انتقام قبيلة من قبيلة اخرى ، ولم يكن لهذا الانتقام حدود ، فقد يقتل رجل فتهدد قبيلته قتل كل رجال قبيلة القاتل ، فنزلت الآية وشرعت حكم القصاص.

وهذا الحكم الإسلامي جاء ليقرر الموقف من عرفين قائمين عن العرب ، عرف يرى حتمية القصاص ، وعرف يرى حتمية الدية. فجاءت الآية لتقرر القصاص عند عدم موافقة أولياء المقتول على أخذ الدية ، وإن وافقوا فالدية.

التّفسير

في القصاص حياة

الآيات السابقة طرحت المنهج الإسلامي في «البرّ» ، وهنا يقدّم القرآن

٥٠١

الكريم ـ وهكذا في الآيات التالية ـ مجموعة من الأحكام الإسلامية ، إكمالا لبيان المنهج الإسلامي في الحياة.

تبدأ هذه الأحكام من مسألة حفظ حرمة الدماء ، وهي مسألة هامة في الحياة الاجتماعية ، فتنفي العادات والتقاليد الجاهلية ، وتقول للمؤمنين : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى).

عبارة (كُتِبَ عَلَيْكُمُ) تبيّن أهمية الموضوع ، وتوحي بالتأكيد عليه ، وذكرت في آيات اخرى بشأن الصوم والوصيّة ، ولا يكتب من المسائل عادة إلّا ما كان قاطعا وجادّا.

و «القصاص» من «قصّ» ، يقال قصّ أثره : أي تلاه شيئا بعد شيء. ومنه القصاص لأنه يتلو أصل الجناية ويتبعه ، وقيل هو أن يفعل بالثاني مثل ما فعله هو بالأول ، مع مراعاة المماثلة ، ومنه أخذ القصص كأنه يتبع آثارهم شيئا بعد شيء (١).

الآية كما ذكرنا تستهدف بيان الموقف الصحيح من المجرم ، ولفظ القصاص يدلّ على إنزال عقوبة بالمجرم مماثلة لما ارتكبه هو ، لكن الآية لا تكتفي بذلك ، بل بينت التفاصيل فقالت : (الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى).

وسنوضح إن شاء الله مسألة قصاص الأنثى بالأنثى ، ونبيّن أنّ الرجل قاتل المرأة يمكن إنزال عقوبة القتل بحقّه ضمن شروط.

ثم تبين الآية أنّ القصاص ، حق لأولياء المقتول ، وليس حكما إلزاميا ، فإن شاؤوا أن يعفوا ويأخذوا الدية ، وإن شاؤوا ترك الدية فلهم ذلك ، وتقول : (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) فبعد تبدل حكم القصاص عند عفو أولياء المقتول إلى دية (فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ) أي فعل العافي إتباع بالمعروف ، وهو أن لا يشدّد في طلب الدّية وينظر من عليه الدية (وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ) أي على المعفوّ عنه أن يبادر إلى

__________________

(١) مجمع البيان ، الآية.

٥٠٢

دفع الدية عند الإمكان ، وأن لا يماطل.

التوصية إلى من له الدية أن لا يشددّ في طلبه ، وأن يستوفي حقّه بشكل معقول...وعلى من عليه الدية أن يؤديها بإحسان ، وأن لا يسوّف ويماطل.

ثم تؤكد الآية على ضرورة الالتزام بحدود ما أقرّه الله ، وعدم تجاوز هذه الحدود:(ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ).

وهذا الأمر بالقصاص وبالعفو يشكل تركيبا انسانيا منطقيا. فهو من جهة يدين التقاليد السائدة في الجاهلية الأولى والجاهليات التالية إلى يومنا هذا القاضية بالانتقام للمقتول الواحد بقتل الآلاف.

ومن جهة اخرى ، يفتح باب العفو أمام المذنب ، مع الحفاظ على احترام الدم وردع القاتلين.

ومن جهة ثالثة ، لا يحقّ للطرفين بعد العفو وأخذ الدية التّعدّي ، خلافا للجاهليين الذين كانوا يقتلون القاتل أحيانا حتى بعد العفو وأخذ الدية.

الآية التالية قصيرة العبارة وافرة المعنى ، تجيب على كثير من الأسئلة المطروحة في حقل القصاص ، ويقول : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا؟ أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

هذه الآية بكلماتها العشر ، تضع الإطار العام ـ ببلاغة وفصاحة متناهيتين ـ للقصاص في الإسلام ، وتبين أن القصاص ليس انتقاما ، بل السبيل إلى ضمان حياة النّاس.

إنه يضمن حياة المجتمع ، إذ لو انعدم حكم القصاص ، وتشجّع القتلة القساة على تعريض أرواح النّاس للخطر ـ كما هو الحال في البلدان التي ألغت حكم القصاص ـ لارتفعت إحصائيات القتل والجريمة بسرعة.

وهو من جهة اخرى ، يصون حياة القاتل ، بعد أن يصدّه إلى حدّ كبير عن

٥٠٣

ارتكاب جريمته.

كما أنه يصون المجتمع بجعله قانون المماثلة من الانتقام والإسراف في القتل على طريقة التقاليد الجاهلية التي تبيح قتل الكثير مقابل فرد واحد. وهو بذلك يصون حياة المجتمع.

ومع الأخذ بنظر الاعتبار أن القصاص مشروط بعدم العفو عن القاتل فهذا الشرط نافذة أمل للحياة أيضا بالنسبة للقاتل.

وعبارة (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) تحذير من كل عدوان لتكميل هذا الحكم الإسلامي العادل الحكيم.

* * *

بحوث

١ ـ القصاص والعفو تركيب عادل

النظرة الإسلامية نظرة شمولية في كل المجالات ، قائمة على احتساب جميع جوانب الأمر الذي تعالجه. مسألة صيانة دم الأبرياء عالجها الإسلام بشكل دقيق بعيد عن كل إفراط أو تفريط ، لا كما عالجتها الديانة اليهودية المحرّقة التي اعتمدت القصاص ، ولا الديانة المسيحية المحرّفة التي ركزت على العفو ... لأن في الاولى خشونة وانتقاما ، وفي الثانية تشجيعا على الإجرام.

ولو افترضنا أنّ القاتل والمقتول أخوان أو قريبان أو صديقان ، فإن الإجبار على القصاص يدخل لوعة اخرى في قلب أولياء المقتول ، خاصّة إذا كان هؤلاء من ذوي العواطف الإنسانية المرهفة. وتحديد الحكم بالعفو يؤدي إلى تجرّؤ المجرمين وتشجيعهم.

لذلك ذكرت الآية حكم القصاص باعتباره أساسا للحكم ، ثم ذكرت إلى

٥٠٤

جانبه حكم العفو.

بعبارة أوضح ، إن لأولياء المقتول أن ينتخبوا أحد ثلاثة أحكام :

١ ـ القصاص.

٢ ـ العفو دون أخذ الدية.

٣ ـ العفو مع أخذ الدية (وفي هذه الحالة تشترط موافقة القاتل أيضا).

٢ ـ هل يتعارض القصاص مع العقل والعواطف الإنسانية؟

ثمّة فئة يحلو لها أن توجه إلى الإسلام ـ دون تفكير ـ اعتراضات وكثير شبهات ، خاصة بالنسبة لمسألة القصاص. يقول :

١ ـ الجريمة لا تزيد على قتل إنسان واحد ، والقصاص يؤدّي إلى تكرار هذا العمل الشنيع.

٢ ـ القصاص ينمّ عن روح الانتقام والتشفّي والقسوة ، ويجب إزالة هذه الروح عن طريق التربية ، بينما يعمّق القصاص هذه الروح.

٣ ـ القتل لا يصدر عن إنسان سالم ، لا بدّ أن يكون القاتل مصابا بمرض نفسي ، ويجب علاجه ، والقصاص ليس بعلاج.

٤ ـ قوانين النظام الاجتماعي يجب أن تتطور مع تطور المجتمع. ولا يمكن لقانون سنّ قبل أربعة عشر قرنا أن يطبق اليوم.

٥ ـ من الأفضل الاستفادة من القاتل بتشغيله في معسكرات العمل الإجباري ، وبذلك نستفيد من طاقاته ونصون المجتمع من شروره.

هذا ملخص ما يوجه للقصاص من اعتراضات.

الجواب

لو أمعنا النظر في آيات القصاص ، لرأينا فيها الجواب على كل هذه

٥٠٥

الاعتراضات : (وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ).

فالحياة الاجتماعية لا يمكن أن تطوي مسيرتها الحياتية التكاملية ، دون اقتلاع العوامل المضرّة الهدامة فيها. ولما كان القصاص في هذه المواضع يضمن استمرار الحياة والبقاء ، فإن الشعور بضرورة القصاص أودع على شكل غريزة في وجود الإنسان.

أنظمة الطب والزراعة والرعي قائمة على أساس هذا الأصل العقلي ، وهو إزالة الموجودات المضرة الخطرة. فنرى الطب يجيز قطع العضو الفاسد إذا شكل خطورة على بقية أعضاء الجسد ، وتقتلع النباتات والأغصان المضرة من أجل استمرار نمو النباتات المفيدة بشكل صحيح.

أولئك الذين يرون في الاقتصاص من القاتل قتلا لشخص آخر ، ينظرون إلى المسألة من منظار فردي. ولو أخذوا بنظر الإعتبار مصلحة المجتمع ، وعلموا ما في القصاص من دور في حفظ سائر أفراد المجتمع وتربيتهم ، لأعادوا النظر في أقوالهم.

إزالة مثل هؤلاء الأفراد الخطرين المضرين من المجتمع ، كقطع العضو الفاسد من جسد الإنسان ، وكقطع الغصن المضر من الشجرة. ولا أحد يعترض على قطع ذلك العضو وهذا الغصن. هذا بشأن الاعتراض الأول.

وبالنسبة إلى الاعتراض الثاني ، لا بدّ من الالتفات إلى أن تشريع القصاص لا ارتباط له بمسألة الانتقام. لأن الهدف من الانتقام إطفاء نار الغضب المتأججة لمسألة شخصية ، بينما القصاص يستهدف الحيلولة دون استمرار الظلم في المجتمع ، وحماية سائر الأبرياء.

وبشأن الاعتراض الثالث القائل إن القاتل مريض نفسيا ، ولا تصدر هذه الجريمة من إنسان طبيعي ، لا بدّ أن نقول : هذا الكلام صحيح في بعض المواضع ،

٥٠٦

والإسلام لم يشرع حكم القصاص للقاتل المجنون وأمثاله ، ولكن لا يمكن اعتبار المرض عذرا لكل قاتل ، إذ لا يخفي ما يجرّ إليه ذلك من فساد ، ومن تشجيع القتلة على ارتكاب جرائمهم.

ولو صح هذا الاستدلال بالنسبة للقاتل ، لصح أيضا بشأن جميع المعتدين على حقوق الآخرين. لأن الإنسان العاقل المعتدل لا يعتدي إطلاقا على الآخرين. وبذلك يجب حذف كل القوانين الجزائية ، ويجب إرسال المعتدين والمجرمين إلى مستشفيات الأمراض النّفسية بدل السجون.

أمّا ادعاء عدم إمكان قبول قانون القصاص اليوم بسبب تطور المجتمع ، وبسبب قدم هذا القانون ، فمردود أمام إحصائيات الجرائم الفظيعة الي ترتكب في عصرنا الراهن ، وأمام التجاوزات الوحشية التي تنتشر في بقاع مختلفة من عالمنا بسبب الحروب وغير الحروب.

ولو أتيح للبشرية أن تقيم مجتمعا إنسانيا متطورا تطورا حقيقيا ، فإن مثل هذا المجتمع يستطيع أن يلجأ إلى العفو بدل القصاص ، فقد أقرّ الإسلام ذلك ، ومن المؤكد أن المجتمع المتطور في آفاقه الإنسانية سيفضّل عفو القاتل. أمّا في مجتمعاتنا المعاصرة حيث ترتكب فيها أفظع الجرائم تحت عناوين مختلفة ، فإن إلغاء قانون القصاص لا يزيد في جرائم المجتمع إلّا اتساعا وضراوة.

وحول حفظ القتلة في السجون ، فإن هذه العملية لا تحقق هدف الإسلام من القصاص. فالقصاص ـ كما ذكرنا ـ يستهدف حفظ حياة المجتمع ، والحيلولة دون تكرار القتل والجريمة. السجون وأمثالها لا تستطيع أن تحقق هذا الهدف (خاصة السجون الحالية التي هي أفضل من أكثر بيوت المجرمين). ولا أدل على ذلك من ارتفاع إحصائيات جرائم القتل خلال فترة قصيرة ، في البلدان التي ألغت حكم الإعدام. ولو كانت أحكام السجن عرضة للتقلّص بسبب أحكام العفو ـ كما هو

٥٠٧

سائد اليوم ـ فإن المجرمين يعمدون إلى ارتكاب جرائمهم دون تخوّف أو تردّد.

٣ ـ هل انتقص قانون القصاص المرأة؟

قد يظن البعض أن قانون القصاص الإسلامي قد انتقص المرأة حين قرّر أن «الرجل» لا يقتل «بالمرأة» ، أي إن الرجل ـ قاتل المرأة ـ لا يقتص منه.

وليس الأمر كذلك ، مفهوم الآية لا يعني عدم جواز قتل الرجل بالمرأة ، بل ـ كما هو مبين في كتب الفقه ـ يجوز لأولياء المقتولة أن يطلبوا القصاص من الرجل القاتل ، بشرط أن يدفعوا نصف ديته.

بعبارة اخرى : المقصود من عدم قصاص الرجل بالمرأة ، هو القصاص دون شرط ، أمّا إذا دفعت نصف ديته فيجوز قتله.

واضح أن دفع نصف دية الرجل القاتل ، لا يعني انتقاص الإسلام للمرأة ، بل يعني جبران الضرر المالي الذي يصيب عائلة الرجل القاتل بعد قتله ، (تأمل بدقّة).

ولمزيد من التوضيح نقول : الرجال يتحملون غالبا مسئوليات إعالة الأسرة ، ويؤمنون نفقاتها الاقتصادية ، ولا يخفى الفرق بين أثر غياب الرجل وغياب المرأة على العائلة اقتصادي، ولو لم يراع هذا الفرق لأصيبت عائلة المقتص منه بأضرار مالية ، ولوقعت في حرج اقتصادي ، ودفع نصف الدية يحول دون تزلزل تلك العائلة اقتصاديا. ولا يسمح الإسلام أن يتعرض أفراد أسرة لخطر اقتصادي وتغمط حقوقهم تحت شعار «المساواة».

قد تكون امرأة في أسرتها عضوة فعالة اقتصاديا أكثر من الرجل ، ولكن الأحكام والقوانين لا تقوم على أساس الحالات الاستثنائية ، بل على أساس الوضع العام ، وفي هذه الحالة يجب أن نقارن كل الرجال بكل النساء. (تأمل بدقّة).

٤ ـ يلفت النظر أيضا في الآية عبارة (مِنْ أَخِيهِ) ، فالقرآن يركز على مفهوم

٥٠٨

الأخوة بين المسلمين ، حتى يطلق هذا التعبير على القاتل. وبهذا التعبير يضرب القرآن على وتر العاطفة الأخوية بين المسلمين ، كي يشجع أولياء المقتول على العفو!!

هذا طبعا بالنسبة للقاتل الذي انزلق في هاوية الجريمة في ظروف عصبية خاصة ، وندم بذلك على فعلته. أمّا المجرمون الذي يفخرون بجرائمهم ، ولا يشعرون بندم على ما ارتكبوه فلا يستحقون اسم الأخ ولا العفو.

* * *

٥٠٩

الآيات

(كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (١٨٠) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٨١) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٨٢))

التّفسير

الوصية بالمعروف

الآيات السابقة ذكرت تشريع القصاص ، وهذه الآيات تذكر تشريع الوصية ، باعتباره جزءا من النظام المالي ، وتذكر بأسلوب الحكم الإلزامي فتقول : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ).

ثم تضيف الآية أن هذه الوصيّة كتبت (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ).

ذكرنا أن تعبير (كُتِبَ عَلَيْكُمْ) يدل على الوجوب ، من هنا كان هذا التعبير وقع بحث لدى المفسرين في هذه الآية ، ولهم فيها أقوال مختلفة :

١ ـ جاء في الآية الكريمة بشأن كتابة الوصية كونها (حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ) ، من

٥١٠

هنا فإنها مستحبة استحبابا مؤكدا ، ولو كانت واجبة لقالت الآية ، «حقّا على المؤمنين».

٢ ـ قيل أيضا : إن هذه الآية نزلت قبل نزول أحكام الإرث ، وكانت الوصية آنئذ واجبة ، كي لا يقع نزاع بين الورثة. ثم نسخ هذا الوجوب بعد نزول آيات الإرث ، وأصبح حكما استحبابيا. وفي تفسير «العيّاشي» حديث يؤيّد هذا الاتجاه.

٣ ـ يحتمل أيضا أن يكون حديث الآية عن موارد الضرورة والحاجة ، أي حين يكون الإنسان مدينا ، أو في ذمته حق ، والوصية واجبة في هذه الحالات.

يبدو أن التّفسير الأول أقرب من بقية التفاسير.

يلفت النظر أن الآية الكريمة عبرت عن المال بكلمة «خير» فقالت : (إِنْ تَرَكَ خَيْراً). وهذا يعني أن الإسلام يعتبر الثروة المستحصلة عن طريق مشروع ، والمستخدمة على طريق تحقيق منافع المجتمع ومصالحه خيرا وبركة. ويرفض النظرات الخاطئة التي ترى الثروة شرا ذاتيا ، ويردّ على أولئك المتظاهرين بالزهد ، القائلين إن الزهد مساو للفقر ، مسببين بذلك ركود المجتمع الإسلامي اقتصاديا ، ومؤدين بمواقفهم الانزوائية إلى فسح المجال لاستثمار الطامعين خيرات أمتهم.

هذا التعبير يشير ضمنيا إلى مشروعية الثروة ، لأن الأموال غير المشروعة ليست خيرا بل شرا وبالا.

ويستفاد من بعض الروايات أن تعبير «خيرا» يراد به الأموال الموفورة ، لأن المال اليسير لا يحتاج إلى وصية ، ويستطيع الورثة أن يقسّموه بينهم حسب قانون الإرث. بعبارة اخرى المال اليسير ليس بشيء يستدعي أن يفصل الإنسان ثلثه

٥١١

عن طريق الوصية (١).

وجملة (إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ) تبيّن آخر فرصة للوصيّة ، وهذه الفرصة الأخيرة إن فاتت أيضا فلا فرصة بعدها ... أي لا مانع أن يكتب الإنسان وصيته قبل ذلك ، بل يستفاد من الروايات أن هذا عمل مستحسن.

ولا قيمة لتلك التصورات المتشائمة من كتابة الوصية ، فالوصية إن لم تكن باعثا على طول العمر ، لا تبعث إطلاقا على تقريب أجل الإنسان! بل هي دليل على بعد النظر وتحسّب الاحتمالات.

تقييد الوصية (بِالْمَعْرُوفِ) إشارة إلى أن الوصية ينبغي أن تكون موافقة للعقل من كل جهة ، لأن «المعروف» هو المعروف بالحسن لدى العقل. يجب أن تكون الوصية متعقلة في مقدارها وفي نسبة توزيعها ، دون أن يكون فيها تمييز ، ودون أن تؤدي إلى نزاع وانحراف عن أصول الحق والعدالة.

حين تكون الوصية جامعة للخصائص المذكورة فهي محترمة ومقدسة ، وكل تبديل وتغيير فيها محظور وحرام. لذلك تقول الآية التالية : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ).

ولا يظنّن المحرفون المتلاعبون أن الله غافل عمّا يفعلون ، كلّا (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ).

ولعل هذه الآية تشير إلى أن تلاعب «الوصيّ» (وهو المسؤول عن تنفيذ الوصية) لا يصادر أجر الموصي. فالموصي ينال أجره ، والإثم على الوصي المحرّف في كميّة الوصية أو كيفيتها أو في أصلها.

ويحتمل أيضا أن الآية تبرئ ساحة غير المستحقين الذين قسم بينهم الإرث عند عدم التزام الوصيّ بمفاد الوصية. وتقول إن هؤلاء (الذين لا يعملون

__________________

(١) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ١٥٩.

٥١٢

بتلاعب الوصي) لا إثم عليهم ، بل الإثم على الوصيّ المحرّف ، ولا تناقض بين التّفسيرين ، فالآية تجمع التّفسيرين معا.

بيّن القرآن فيما سبق الأحكام العامّة للوصية ، وأكد على حرمة كل تبديل فيها ، ولكن في كل قانون استثناء ، والآية الثالثة من آيات بحثنا هذا تبين هذا الاستثناء وتقول:(فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ).

الاستثناء يرتبط بالوصية المدونة بشكل غير صحيح ، وهنا يحق للوصي أن ينبّه الموصي على خطئه إن كان حبّا ، وأن يعدّل الوصيّة إن كان ميتا ، وحدّد الفقهاء مواضع جواز التعديل فيما يلي :

١ ـ إذا كانت الوصيّة تتعلق بأكثر من ثلث مجموع الثروة ، فقد أكدت نصوص المعصومين على جواز الوصية في الثلث ، وحظرت ما زاد على ذلك (١).

من هنا لو وصّى شخص بتوزيع كل ثروته على غير الورثة الشرعيين ، فلا تصح وصيته ، وعلى الوصي أن يقلل إلى حدّ الثلث.

٢ ـ إذا كان في الوصية ما يؤدي إلى الظلم والإثم ، كالوصية بإعانة مراكز الفساد ، أو الوصية بترك واجب من الواجبات.

٣ ـ إذا أدت الوصية إلى حدوث نزاع وفساد وسفك دماء ، وهنا يجب تعديل الوصية بإشراف الحاكم الشرعي.

عبرت الآية «بالجنف» عن الانحرافات التي تصيب الموصي في وصيته عن سهو ، و «بالإثم» عن الانحرافات العمدية.

عبارة (إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) تشير إلى ما قد يقع فيه الوصي من خطأ غير عمدي عند ما يعدّل الوصية المنحرفة ، وتقول : إن الله يعفو عن مثل هذا الخطأ.

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٦١ (كتاب أحكام الوصايا ، الباب العاشر).

٥١٣

بحوث

١ ـ فلسفة الوصية

الإرث يوزع حسب القانون الإسلامي بنسب معينة على عدد محدود من الأقارب ، وقد يكون بين الأقارب والأصدقاء والمعارف من له حاجة ماسة إلى المال ، ولكن لا سهم له في قانون الإرث. وقد يكون بين الورثة من له حاجة أكبر إلى المال من بقية الورثة.

من هنا وضع الإسلام قانون الوصية إلى جانب قانون الإرث ، وأجاز للمسلم أن يتصرّف في ثلث أمواله (بعد الوفاة) بالشكل الذي يرشد لملء هذا الفراغ.

أضف إلى ما سبق ، قد يرغب إنسان أن يعمل بعد مماته الخيرات التي ما أتيح له أن يعملها في حياته ، ومنطق العقل يفرض أن لا يحرم هذا الشخص من مثل هذا العمل الخيري.

الوصية غير محصورة بالموارد المذكورة طبعا ، بل على الإنسان أن يشخّص في وصيته ما لديه من أمانات وما عليه من ديون وأمثالها ، حتى لا يبقى في أمواله شيء مبهم من حقوق النّاس وحقوق الله.

النصوص الإسلامية أكّدت على ضرورة الوصية كثيرا ، من ذلك ما روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت ليلة إلّا ووصيّته تحت رأسه»(١)

والمقصود بوضع الوصية تحت الرأس إعدادها وتهيئتها طبعا.

وفي رواية اخرى : «من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة»(٢).

٢ ـ العدالة في الوصية

في الروايات الإسلامية تأكيد وافر على «عدم الجور» و «عدم الضرار» في

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٥٢.

(٢) نفس المصدر.

٥١٤

الوصية ، يستفاد منها جميعا أنّ تعدي الحدود الشرعية المنطقية في الوصية عمل مذموم ومن كبائر الذنوب.

روي عن الإمام الباقر عليه‌السلام : «من عدل في وصيّته كان كمن تصدّق بها في حياته ، ومن جار في وصيّته لقي الله عزوجل يوم القيامة وهو عنه معرض»(١).

والجور في الوصية هو الوصية بأكثر من الثلث ، وحرمان الورثة من حقهم المشروع ، أو التمييز بين الورثة بسبب عواطف شخصية سطحية. وأوصت النصوص الإسلامية أيضا بعدم الوصية بالثلث إن كان الورثة فقراء محتاجين ، وتقليل النسبة إلى الربع وإلى الخمس (٢).

موضوع العدالة في الوصية يبلغ درجة من الأهمية نراها في هذه الرواية : «أنّ رجلا من الأنصار توفى وله صبية صغار وله ستّة من الرّقيق فأعتقهم عند موته وليس له مال غيرهم فلمّا علم النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سأل قومه ما صنعتم بصاحبكم قالوا دفنّاه قال : أما إنّي لو علمته ما تركتكم تدفنونه مع أهل الإسلام ترك ولده صغارا يتكفّفون النّاس» (٣).

٣ ـ الوصايا الواجبة والمستحبة

الوصية وإن كانت مستحبة بطبيعة حالها ـ كما أشرنا إليه ـ ولكن قد تكون واجبة لأمور طارئة ، مثل أن يكون على الإنسان حقوق واجبة للناس أو لله قصّر في أدائها ، أو كانت عنده أمانات وديون أو مثل ذلك بحيث لو لم يوص احتمل ضياع حقوق النّاس بذلك ، وأهم من الكل أن يكون للإنسان مكانة خاصة في المجتمع لو لم يوص لمن بعده وقعت اضطرابات وأمور مؤسفة ففي جميع هذه الصور تجب الوصيّة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٥٩.

(٢) وسائل الشيعة ، ج ١٣ ، ص ٣٦٠.

(٣) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٦٥٩ ، مادّة وصى.

٥١٥

٤ ـ الوصية قابلة للتغيير خلال الحياة

القوانين الإسلامية أجازت للموصي أن يعيد النظر في وصيته ما دام على قيد الحياة. وجواز هذا التغيير يشمل الوصي وكيفية الوصية. ذلك لأن مرور الزمان قد يغيّر نظرات الموصي ، ويغير المصالح المرتبطة بالوصية.

٥ ـ جدير بالذكر أن الإنسان ينبغي أن يجعل وصيته وسيلة لتلافي ما مضى من تقصير ، وأن يتودّد بها إلى من جفاه من أقاربه أيضا. وفي الروايات أن قادة الإسلام كانوا يوصون خاصة لمن جفاهم من أقاربهم ويخصصون لهم مبلغا من المال ، كي يعيدوا ما انقطع من أواصر الودّ ، ويحررون عبيدهم ، أو يوصون بتحريرهم.

٥١٦

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٥))

التّفسير

الصوم مدرسة التّقوى

في سياق طرح مجموعة من الأحكام الإسلامية ، تناولت هذه الآيات أحكام واحدة من أهم العبادات ، وهي عبادة الصوم ، وبلهجة مفعمة بالتأكيد قالت الآية :

٥١٧

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ).

ثم تذكر الآية مباشرة فلسفة هذه العبادة التربوية ، في عبارة قليلة الألفاظ ، عميقة المحتوى ، وتقول : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

نعم ، الصوم ـ كما سيأتي شرح ذلك ـ عامل فعّال لتربية روح التقوى في جميع المجالات والأبعاد.

لما كانت هذه العبادة مقرونة بمعاناة وصبر على ترك اللذائذ المادية ، وخاصة في فصل الصيف ، فإن الآية طرحت موضوع الصوم بأساليب متنوعة لتهيّئ روح الإنسان لقبول هذا الحكم.

تبتدئ الآية أولا بأسلوب خطابي وتقول : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وهو نداء يفتح شغاف القلب ، ويرفع معنويات الإنسان ، ويشحذ همته ، وفيه لذة قال عنها الإمام الصادقعليه‌السلام : «لذّة ما في النّداء ـ أي يا ايّها الّذين آمنوا ـ أزال تعب العبادة والعناء»(١).

ثمّ تبيّن الآية أن الصوم فريضة كتبت أيضا على الأمم السابقة.

ثم تبيّن الآية فلسفة الصوم وما يعود به على الإنسان من منافع ، لتكون هذه العبادة محبوبة ملتصقة بالنفس.

الآية التالية تتجه أيضا إلى التخفيف من تعب الصوم وتقول :(أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) فالفريضة لا تحتل إلّا مساحة صغيرة من أيّام السنة.

ثم تقول (فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) ، فالمريض والمسافر معفوان من الصوم ، وعليهما أن يقضيا صومهما في أيّام اخرى.

ثم تصدر الآية عفوا عن الطّاعنين في السنّ ، وعن المرضى الذين لا يرجى شفاؤهم ، وترفع عنهم فريضة الصوم ليدفعوا بدلها كفارة ، فتقول : (وَعَلَى الَّذِينَ

__________________

(١) مجمع البيان في تفسير الآية.

٥١٨

يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ). (١)

ثم يقول الآية (فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) (٢) أي من تطوع للإطعام أكثر من ذلك فهو خير له.

وأخيرا تبين الآية حقيقة هي : (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

استدل بعض بهذه الآية على أن الصوم كان في بداية التشريع واجبا تخييريا ، وكان المسلمون مخيرين بين الصوم والفدية ، ثم نسخ هذا الحكم بعد أن تعوّد المسلمون على الصوم وأصبح واجبا عينيّا ، ولكن ظاهر الآية يدلّ على تأكيد آخر على فلسفة الصوم ، وعلى أن هذه العبادة ـ كسائر العبادات ـ لا تزيد الله عظمة أو جلالا ، بل تعود كل فوائدها على النّاس.

الشاهد على ذلك ما جاء في القرآن من تعبير مشابه لذلك ، كقوله سبحانه بعد ذكر وجوب صلاة الجمعة : (ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٣).

وقوله تعالى : (وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٤).

بهذا تبين أن عبارة (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ) موجهة إلى كل الصائمين لا إلى

__________________

(١) «يطيقونه» من «الطوق» وهو الحلقة التي تلقى على العنق ، أو توجد عليه بشكل طبيعي (كطوق الحمام) ثم أطلقت الكلمة على نهاية الجهد والطاقة ، والضمير في «يطيقونه» يعود على الصوم ، أي الذين يبذلون غاية طاقتهم لدى الصوم ، أو بعبارة اخرى : الذين يجهدهم الصوم ويثقل عليهم ، وهم الطاعنون في السّن والمرضى الذين لا يرجى علاجهم ، فهؤلاء معفوون من الصوم وعليهم أن يدفعوا الفدية بدل ذلك (وعلى المرضى الذين يشفون أن يقضوا صومهم).

وقيل «الّذين يطيقونه» يعني الذين كانوا يطيقونه ، ولم يعودوا اليوم قادرين على الصوم (وهذا المعنى جاء في بعض الروايات).

(٢) قيل في عبارة «تطوّع خيرا» إنها إشارة إلى الصوم المستحب ، وقيل أيضا : إنها تأكيد على أن الصوم ينبغي أن يكون عن رغبة وطواعية ، لا عن إجبار وإكراه.

(٣) الجمعة ، ٩.

(٤) العنكبوت ، ١٦.

٥١٩

مجموعة خاصة.

آخر آية في بحثنا تتحدث عن زمان الصوم وبعض أحكامه ومعطياته تقول :(شَهْرُ رَمَضانَ) هو الشهر الذي فرض فيه الصيام.

وهو (الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ، هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ) ، أي معيار معرفة الحق والباطل.

ثم تؤكد ثانية حكم المسافر والمريض وتقول : (فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ، وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ) (١).

تكرار حكم المسافر والمريض في هذه الآية والآية السابقة ، قد يكون سبب كراهية بعض المسلمين أن لا يصوموا أيام شهر رمضان حتى ولو كانوا مرضى أو مسافرين. والقرآن بهذا التكرار يفهم المسلمين أن الصوم في حالة السلام والحضر حكم إلهي ، والإفطار في حال السفر والمرض حكم إلهي أيضا لا تجوز مخالفته.

وفي آخر الآية إشارة اخرى إلى فلسفة تشريع الصوم ، تقول : (يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ). فالصوم ـ وإن كان على الظاهر نوعا من التضييق والتحديد ـ مؤدّاه راحة الإنسان ونفعه على الصعيدين المادي والمعنوي ، (وسيأتي تفصيل ذلك في بحث فلسفة الصوم).

ولعل هذه العبارة إشارة إلى أن الأوامر الإلهية ليست كأوامر الحاكم الظالم ، ففي الصوم رخص حيثما كان فيه مشقة على الصائم ، لذلك رفع تكليف الصوم ـ على أهميته ـ عن المريض والمسافر والضعيف.

ثم تقول الآية : (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ) أي يلزم على كل إنسان سليم أن يصوم شهرا ، فذلك ضروري لتربية جسمه ونفسه. لذلك وجب على المريض والمسافر أن يقضي ما فاته من شهر رمضان ليكمل العدّة ، وحتى الحائض ـ التي أعفيت من

__________________

(١) أي من كان في حضر فليصم شهر رمضان ، وقيل إن جملة «من شهد منكم الشّهر» تعني رؤية الهلال ، وهو بعيد ، والحق ما ذكرناه وروايات أئمة أهل البيت تؤيد ذلك.

٥٢٠