الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

الإقرار التام بالعبودية المطلقة لله ، يعلمنا أن لا نحزن على ما فاتنا ، لأنه سبحانه مالكنا ومالك جميع ما لدينا من مواهب ، إن شاء منحنا إيّاها ، وإن استوجبت المصلحة أخذها منا ، وفي المنحة والمحنة مصلحة لنا.

والالتفات المستمر إلى حقيقة عودتنا إلى الله سبحانه ، يشعرنا بزوال هذه الحياة، وبأن نقص المواهب المادية ووفورها غرض زائل ، ووسيلة لارتقاء الإنسان على سلم تكامله، فاستشعار العبودية والعودة في عبارة (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) له الأثر الكبير في تعميق روح المقاومة والاستقامة والصبر في النفس.

واضح أن المقصود من قول هذه العبارة ليس ترديدها باللسان فقط ، بل استشعار هذه الحقيقة ، والالتفات إلى ما تنطوي عليه من توحيد وإيمان.

وآخر آية في بحثنا هذا ، تتحدث عن الألطاف الإلهية الكبرى ، التّي تشمل الصابرين الصامدين المتخرجين بنجاح من هذه الامتحانات الإلهية : (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ) (١).

هذه الصلوات والرحمة تجعل هؤلاء على بصيرة من أمرهم ، في مسيرتهم الحياتية المحفوفة بالمزالق والأخطار ، لذلك تقول الآية : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

وبهذه العبارات المختصرة المقتضبة ، يطرح القرآن مسألة الامتحان الكبير بأبعاده المختلفة ، وعوامل النجاح فيه ونتائجه.

* * *

__________________

(١) قيل إن الصّلوات هنا ألوان التكريم والتأييد ورفعة المقام ، وعن ابن عباس أنّها غفران الذنوب (المنار ، ج ٢ ، ص ٤٠) ، وواضح أن الصّلوات لها مفهوم واسع يشمل هذه الأمور وسائر النعم الإلهية.

٤٤١

بحوث

١ ـ لماذا الاختبار الإلهي؟

في مجال الاختبار الإلهي تطرح بحوث كثيرة ، وأوّل ما يتبادر للذهن في هذا المجال هو سبب هذا الاختبار. فنحن نختبر الأفراد لنفهم ما نجهله عنهم. فهل أن الله سبحانه وتعالى بحاجة إلى مثل هذا الاختبار لعباده ، وهو العالم بكل الخفايا والأسرار؟! وهل هناك شيء خفي عنه حتى يظهر له بهذا الامتحان؟!

 والجواب أن مفهوم الاختبار الإلهي يختلف عن الاختبار البشري.

اختباراتنا البشرية ـ هي كما ذكرت آنفا ـ تستهدف رفع الإبهام والجهل ، والاختبار الإلهي قصده «التربية».

في أكثر من عشرين موضعا تحدث القرآن عن الاختبار الإلهي ، باعتباره سنّة كونية لا تنقض من أجل تفجير الطاقات الكامنة ، ونقلها من القوّة إلى الفعل ، وبالتالي فالاختبار الإلهي من أجل تربية العباد ، فكما أن الفولاذ يتخلص من شوائبه عند صهره في الفرن ، كذلك الإنسان يخلص وينقى في خضمّ الحوادث ، ويصبح أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والتحديات.

الاختبار الإلهي يشبه عمل زارع خبير ، ينثر البذور الصالحة في الأرض الصالحة ، كي تستفيد هذه البذور من مواهب الطبيعة وتبدأ بالنمو ، ثمّ تصارع هذه البذرة كل المشاكل والصعاب بالتدريج ، وتقاوم الحوادث المختلفة كالرّياح العاتية والبرد الشديد والحر اللافح ، لتخرج بعد ذلك نبتة مزهره أو شجرة مثمرة ، تستطيع أن تواصل حياتها أمام الصعاب.

ومن أجل تصعيد معنويات القوات المسلحة ، يؤخذ الجنود إلى مناورات وحرب اصطناعية ، يعانون فيها من مشاكل العطش والجوع والحر والبرد والظروف الصعبة والحواجز المنيعة.

وهذا هو سرّ الاختبارات الإلهية.

٤٤٢

يقول سبحانه في موضع آخر من كتابه العزيز : (وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١).

ويقول أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في بيان سبب الاختبارات الإلهية : «... وإن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم ، ولكن لتظهر الأفعال الّتي بها يستحقّ الثّواب والعقاب»(٢).

أي أن الصفات الكامنة لا يمكن أن تكون وحدها معيارا للثواب والعقاب ، فلا بدّ أن تظهر من خلال أعمال الإنسان ، والله يختبر عباده ليتجلّى ما يضمرونه في أعمالهم ، ولكي تنتقل قابليّاتهم من القوّة إلى الفعل ، وبذلك يستحقون الثواب أو العقاب.

لو لم يكن الاختبار الإلهي لما تفجرت هذه القابليات ، ولما أثمرت الكفاءات ، وهذه هي فلسفة الاختبار الإلهي في منطق الإسلام.

٢ ـ الاختبار الإلهي عام

نظام الحياة في الكون نظام تكامل وتربية ، وكل الموجودات الحيّة تطوي مسيرة تكاملها ، حتى الأشجار تعبّر عن قابلياتها الكامنة بالأثمار ، من هنا فإن كل البشر ، حتى الأنبياء ، مشمولون بقانون الاختبار الإلهي كي تنجلي قدراتهم.

الامتحانات تشمل الجميع وإن اختلفت شدّتها وبالتالي تختلف نتائجها أيضا ، يقول سبحانه : (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ) (٣).

القرآن يعرض نماذج لاختبارات الأنبياء إذ يقول : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ) (٤).

ويقول في موضع آخر بشأن اختبار سليمان : (فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ : هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) ... (٥).

__________________

(١) آل عمران ، ١٥٤.

(٢) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٩٣.

(٣) العنكبوت ، ٢.

(٤) البقرة ١٢٤.

(٥) النمل ، ٤٠.

٤٤٣

٣ ـ طرق الاختبار

ذكرت الاية أعلاه نماذج ممّا يختبر به الإنسان ، كالخوف والجوع والأضرار المالية والموت ... لكن سبل الاختبار الإلهي لا تنحصر بما تقدم فذكر القرآن منها في مواضع اخرى : البنين ، والأنبياء ، وأحكام الله ، بل حتى بعض ألوان الرؤيا :(وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) (١).

نعلم أن النّاس إزاء الاختبارات الإلهية على نوعين : متفوّق في الامتحان ، وخاسر.

فحيثما تسود حالة «الخوف» مثلا ، ترى جماعة يتراجعون كي لا يصيبهم سوء ، فينفضون أيديهم من المسؤولية ، أو يلجأون إلى المداهنة أو التماس الأعذار ، كقولهم الذي يحكيه القرآن : (نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ) (٢).

وثمة جماعة تقف كالطود الأشمّ أمام كل المخاوف ، تزداد توكلا وإيمانا ، وهؤلاء الذين يقول عنهم القرآن : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ ، فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (٣).

وهكذا موقف النّاس من ألوان الامتحانات الاخرى ، يعرض القرآن نماذج لموقف النّاجحين والفاشلين في الاختبار الإلهي ، سنتناولها في مواضعها.

٤ ـ عوامل النجاح في الامتحان

هنا يتعرض الإنسان لاستفهام آخر ، وهو أنه إذا كان القرار أن يتعرض جميع أفراد البشر للامتحان الإلهي ، فما هو السبيل لاحراز النجاح والتوفيق في هذا الامتحان؟ القرآن يعرض هذه السبل في القسم الأخير من آية بحثنا وفي آيات اخرى :

__________________

(١) الأنبياء ، ٣٥.

(٢) المائدة ، ٥٢.

(٣) آل عمران ، ١٧٣.

٤٤٤

١ ـ أهمّ عامل للانتصار أشارت إليه الآية بعبارة : (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) ، فالآية تبشّر بالنجاح أولئك الصابرين المقاومين ، ومؤكدة أن الصبر رمز الإنتصار.

٢ ـ الالتفات إلى أن نكبات الحياة ومشاكلها مهما كانت شديدة وقاسية فهي مؤقّتة وعابرة وهذا الإدراك يجعل كل المشاكل والصعاب عرضا عابرا وسحابة صيف ، وهذا المعنى تضمنته عبارة : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ).

«كلمة الاسترجاع» هذه خلاصة كل دروس التوحيد ، والانقطاع إلى الله ، والاعتماد على ذاته المقدسة في كل شيء وفي كل زمان. وأولياء الله ينطلقون من هذا التعليم القرآني ، فيسترجعون لدى المصائب كي لا تهزمهم الشدائد ، وكي يجتازوا مرحلة الاختبار بسلام في ظل الإيمان بمالكية الله والرجوع إليه.

قال أمير المؤمنين علي عليه‌السلام في تفسير الاسترجاع : «إنّ قولنا : إنّا لله إقرار على أنفسنا بالملك ، وقولنا : إنا إليه راجعون إقرار على أنفسنا بالهلك».(١)

٣ ـ الاستمداد من قوّة الإيمان والألطاف الإلهية عامل مهم آخر في اجتياز الاختبار دون اضطراب وقلق وفقدان للتوازن. فالسائرون على طريق الله يتقدّمون بخطوات ثابتة وقلوب مطمئنة لوضوح النهج والهدف لديهم. وترافقهم الهداية الإلهية في اختيار الطريق الصحيح ، يقول سبحانه : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢).

٤ ـ التدقيق في تأريخ الأسلاف ، وإمعان النظر في مواقفهم من الاختبارات الإلهية ، عامل مؤثر في إعداد الإنسان لاجتياز الامتحان الإلهي بنجاح.

لو عرف الإنسان بأن ما أصيب به ليس حالة شاذّة ، وإنما هو قانون عام شامل لكل الأفراد والجماعات ، لهان الخطب عليه ، ولتفهم الحالة بوعي ، ولاجتاز المرحلة بمقاومة وثبات. ولذلك يثبّت الله سبحانه على قلب نبيّه والمؤمنين

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلمات القصار ، رقم ٩٩.

(٢) العنكبوت ، ٦٩.

٤٤٥

باستعراض تأريخ الماضين ، وما واجهه الأنبياء ، والفئات المؤمنة من محن ومصائب خلال مراحل دعوتهم ، يقول سبحانه : (وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ). (١).

ويقول تعالى : (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا) (٢).

٥ ـ الالتفات الى حقيقة علم الله سبحانه بكل مجريات الأمور ، عامل آخر في التثبيت وزيادة المقاومة.

المتسابقون في ساحة اللعب يشعرون بالارتياح حينما يعلمون أنهم في معرض أنظار أصدقائهم من المتفرجين ، ويندفعون بقوّة أكثر في تحمل الصعاب.

إذا كان تأثير وجود الأصدقاء كذلك ، فما بالك بتأثير استشعار رؤية الله لما يجري على الإنسان وهو على ساحة الجهاد والمحنة؟! ما أعظم القوّة التي يمنحها هذا الاستشعار لمواصلة طريق الجهاد وتحمل مشاقّ المحنة!

 حين واجه نوح عليه‌السلام أعظم المصائب والضغوط من قومه وهو يصنع الفلك ، جاءه نداء التثبيت الإلهي ليقول له : (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا) (٣).

وعبارة «بأعيننا» كان لها ـ دون شك ـ وقع عظيم في نفس هذا النّبي الكريم ، فاستقام وواصل عمله حتى المرحلة النهائية دون الالتفات إلى تقريع الأعداء واستهزائهم.

ورد عن سيّد الشهداء الحسين بن علي عليه‌السلام أنّه قال بعد أن تفاقم الخطب أمامه في كربلاء ، واستشهد أصحابه وأهل بيته : «هوّن عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله»(٤).

__________________

(١) الأنعام ، ١٠.

(٢) الانعام ، ٣٤.

(٣) هود ، ٣٧.

(٤) بحار الأنوار ، ج ٤٥ ، ص ٤٦.

٤٤٦

٥ ـ الاختبار بالخير والشرّ

الامتحان الإلهي لا يجري عن طريق الحوادث الصعبة القاسية فحسب ، بل قد يمتحن الله عبده بالخير وبوفور النعمة ، كما يقول سبحانه : (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) (١).

ويقول سبحانه على لسان نبيّه سليمان : (هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ) (٢).

وهنا ينبغي أن نشير إلى عدّة مسائل أحدها : أنه ليس من الضروري أن يختبر جميع النّاس بجميع وسائل الاختبار ، بل من الممكن أن يكون اختبار كل فئة بلون من الامتحان يتناسب مع الوضع الفردي والاجتماعي لتلك الفئة.

والاخرى : أنه من الممكن أن يجتاز الإنسان بعض الامتحانات ، بينما يفشل في امتحانات اخرى.

وقد يكون امتحان فرد من الأفراد موضع امتحان فرد آخر ، كأن يكون موت ولد لإنسان موضع امتحان أصدقائه وأقاربه ، ليرى مدى اتخاذهم موقف المواساة من صاحبهم.

وأخيرا ، فالاختبار الإلهي ـ كما ذكرنا ـ شامل عام يدخل في نطاقه حتى الأنبياءعليهم‌السلام،بل إن اختبارهم بسبب ثقل مسئوليتهم أشدّ بكثير من اختبار الآخرين.

القرآن الكريم يعرض صورا لاختبارات شديدة مرّ بها الأنبياء عليهم‌السلام وبعضهم مرّ بمراحل طويلة شاقة قبل وصوله إلى مقام الرسالة ، كي يكون على أتمّ الاستعداد لتحمل أعباء قيادة أمّته.

__________________

(١) الأنبياء ، ٣٥.

(٢) النمل ، ٤٠.

٤٤٧

وبين أتباع مدرسة الأنبياء نماذج رائعة للصابرين المحتسبين ، كل واحد منهم قدوة على ساحة الامتحان الإلهي.

فقد روي «أنّ أمّ عقيل كانت امرأة في البادية فنزل عليها ضيفان وكان ولدها عقيل مع الإبل فأخبرت بأنّه ازدحمت عليه الإبل فرمت به في البئر فهلك فقالت المرأة للنّاعي انزل واقض ذمام القوم ودفعت إليه كبشا فذبحه وأصلحه وقرّب إلى القوم الطّعام فجعلوا يأكلون ويتعجّبون من صبرها (قال الرّاوي) فلمّا فرغنا خرجت إلينا وقالت يا قوم هل فيكم من يحسن من كتاب الله شيئا؟ فقلت : نعم. قالت : فاقرأ عليّ آيات أتعزّى بها عن ولدي فقرأت : «وبشّر الصّابرين الّذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون إلى قوله المهتدون».

«فقالت السّلام عليكم ، ثمّ صفّت قدميها وصلّت ركعات ثمّ قالت : اللهمّ إنّي فعلت ما أمرتني فانجز لي ما وعدتني. ولو بقي أحد لأحد ـ قال فقلت في نفسي لبقي ابني لحاجتي إليه ـ فقالت لبقي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأمّته ، فخرجت» (١)

* * *

__________________

(١) سفينة البحار ، ج ٢ ، ص ٧ ، (مادة صبر).

٤٤٨

الآية

(إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (١٥٨))

النّزول

كان المشركون في الجاهلية يأتون مكة لأداء مناسك الحج ، وكانت هذه المناسك ذات أصل إبراهيمي مع كثير من التحريف والخرافات والشرك. فكانت المناسك عبارة عن الوقوف بعرفات والاضحية والطّواف والسّعي بين الصفا والمروة. ولكن بشكل خاص بالجاهليين.

وجاء الإسلام وأصلح هذه المناسك ، وطهّرها مما علق بها من تحريف ، وأقرّ ما كان صحيحا منها ومن جملتها السعي بين الصفا والمروة.

واستنادا إلى روايات المؤرخين من الشّيعة وأهل السّنة أن المشركين كانوا يسعون بين الصفا والمروة ، وقد وضعوا على الصفا صنما اسمه «أساف» ، وعلى المروة صنما آخر سموه «نائلة» وكانوا يتمسحون بهما لدى السعي ، من هنا خال المسلمون أن السعي بين الصفا والمروة عمل غير صحيح ، وكرهوا أن يفعلوا ذلك.الآية المذكورة نزلت لتعلن أن الصفا والمروة من شعائر الله ، وتلويثها بالشرك على

٤٤٩

يد الجاهليين لا يبرر إعراض المسلمين عن السعي بينهما.

واختلف المفسرون في وقت نزول الآية ، منهم من قال إنها نزلت في (عمرة القضاء) في السنة السابعة للهجرة ، وكان من شروط النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المشركين في هذه السفرة رفع الصنمين من الصفا والمروة ، وقد عملوا بهذا الشرط ، لكنهم أعادوهما إلى محلهما. وهذا أدّى إلى كراهة المسلمين والسعي بين الصفا والمروة ، فنزلت الآية لتنهاهم عن هذه الكراهة.

وقيل إنّها نزلت في حجة الوداع في السنة العاشرة للهجرة. ومن المؤكد أن مكة كانت في هذه السنة خالية من الأصنام. ومن هنا يلزمنا أن نعتبر كراهة المسلمين السعي بين الصفا والمروة بسبب السوابق التاريخية لهذين المكانين حيث انتصب فيهما «أساف ونائلة».

* * *

التّفسير

أعمال الجهلة لا توجب تعطيل الشعائر

هذه الآية الكريمة تستهدف إزالة ما علق في ذهن المسلمين ونفوسهم من رواسب بشأن الصفا والمروة كما مرّ في سبب النّزول ، وتقول للمسلمين : (إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ).

ومن هذه المقدمة تخرج الآية بنتيجة هي : (فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما).

لا ينبغي أن تكون أعمال المشركين الجاهليين عاملا على إيقاف العمل بهذه الشعيرة ، وعلى تقليل شأن وقدسية هذين المكانين.

ثم تقول الآية أخيرا : (وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ).

فالله يشكر عباده المتطوعين للخير بأن يجازيهم خيرا ، وهو سبحانه عالم

٤٥٠

بسرائرهم ، يعلم من تعلّق قلبه بهذه الأصنام ومن تبرّأ منها.

* * *

بحوث

١ ـ الصفا والمروة

الصفا والمروة اسمان لجبلين صغيرين في مكة ، يقعان اليوم بعد توسيع المسجد الحرام ، في الضلع الشرقي للمسجد ، في الجهة التي يقع فيها الحجر الأسود ومقام إبراهيم.

يفصل بين الجبلين ٤٢٠ مترا تقريبا ، والمسعى اليوم بدل بصالة كبيرة مسقّفة ذات طابقين يسعى الحجاج فيهما ، وارتفاع الصفا خمسة عشر مترا ، والمروة ثمانية أمتار.

واللفظان اليوم علمان لهذين الجبلين ، وفي الأصل الصفا هي الصخرة الملساء القوية المختلطة بالحصى والرمل ، والمروة الصخرة القوية المتعرّجة.

والشعائر جمع شعيرة أي العلامة ، وشعائر الله أي العلامات التي تذكّر الإنسان بالله ، وتعيد إلى الأذهان ذكريات مقدسة.

و «اعتمر» أي أدى العمرة ، والعمرة في الأصل الملحقات الإضافية في البناء ، وفي الشريعة تطلق على الأعمال الخاصة ، التي يؤديها المسلم إلى جانب أعمال الحج ، أو يؤديها لوحدها في العمرة المفردة. وبينها وبين أعمال الحج أوجه اشتراك وافتراق.

٢ ـ من أسرار السعي بين الصفا والمروة

صحيح أن قراءة تاريخ حياة عظماء التاريخ يدفع الإنسان إلى الاقتداء بهم ، لكن هناك طريقا أكثر تأثيرا ، وهو مشاهدة المعالم الأثرية التي كافح عليها هؤلاء

٤٥١

الرجال ، وسجلوا فيها بطولاتهم.

هذه المعالم هي في الواقع ليست مثل كتب التاريخ الميتة ، بل هي تاريخ حيّ ناطق ، يستطيع أن يحلّق بالإنسان عبر القرون والأعصار ، ليجعله يعيش مع الحوادث الماضية بكل مشاعره.

الأثر التربوي لهذه المشاهدات أعمق بكثير من تأثير الكتب والمحاضرات وأمثالها...فهنا الشعور لا الإدراك ، والتصديق لا التصور ، والعينية لا الذهنية.

من جهة اخرى ، قلّ أن يوجد بين الأنبياء نبيّ كإبراهيم عليه‌السلام ، خاض ألوان النضال وتعرض لأنواع الامتحان ، حتى قال القرآن عمّا اختبر به : (إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ)(١).

وهذه المعاناة الطويلة التي عاشها إبراهيم هي التي أهّلته لأن ينال مقام «الإمامة».

مناسك الحج تجسّد في الأذهان دورة كاملة من مشاهد كفاح إبراهيم ومراحل تكامله التوحيدي وعبوديته وتضحياته وإخلاصه.

لو فهم المسلمون ـ لدى أدائهم مناسك الحج ـ روح الحج وأسراره ، وتعمّقوا في جوانبه «الرّمزية» لكان الحج دورة تربوية في حقل معرفة الله والنّبوة والشخصية الإنسانية.

بعد هذه المقدمة نعود إلى الخلفيّة التاريخية للصّفا والمروة.

إبراهيم عليه‌السلام بلغه الكبر ولم يرزق ولدا ، فدعى ربّه أن لا يتركه فردا ، فاستجاب له ، ورزقه من جاريته هاجر ولدا سمّاه «إسماعيل».

لم تستطع «سارة» زوجته الاولى أن تطيق الحالة الجديدة ، وقد رزق إبراهيم ولدا من غيرها ، فأمر الله إبراهيم أن يهاجر بالطفل والأم إلى مكة حيث الأرض

__________________

(١) الصافات ، ١٠٦.

٤٥٢

القاحلة المجدبة آنذاك ، ويسكنهما هناك.

امتثل إبراهيم أمر ربه ، وذهب بهما إلى صحراء مكة وأسكنهما في تلك الأرض ، وهمّ بالرجوع ، فضجّت زوجته بالبكاء ، إذ كيف تستطيع أن تعيش امرأة وحيدة مع طفل رضيع في مثل هذه الأرض؟!

بكاء هاجر ومعه بكاء الطفل الرضيع هزّ إبراهيم من الأعماق ، لكنه لم يزد على أن ناجى ربّه قائلا : (رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ)(١)، ثم ودّع زوجه وطفله بحزن وألم عميقين.

لم يمض وقت طويل حتى نفذ طعام الأمّ وماؤها ، وجفّ لبنها. بكاء الطفل أضرم في نفس الأم نارا ، ودفعها لأن تبحث بقلق واضطراب عن الماء. اتجهت أولا إلى جبل «الصفا» فلم تجد للماء أثرا ، لفت نظرها بريق ماء عند جبل «المروة» فأسرعت إليه فوجدته سرابا ، ثم رأت عند المروة بريقا لدى الصفا أسرعت إليه فما وجدت شيئا ، وهكذا جالتسبع مرات بين الصفا والمروة بحثا عن الماء. وفي النهاية ، وبعد أن أشرف الطفل على الموت ، انفجرت عند رجله فجأة عين زمزم ، فشرب الطفل وأمه ونجيا من الموت المحقق.

الماء ، رمز الحياة ، وانفجار العين جرّ الطيور من الآفاق نحو هذه الأرض ، والقوافل شاهدت حركة الطيور ، فاتجهت هي أيضا نحو الماء وببركة هذه العائلة تحولت أرض مكة إلى مركز حضاري عظيم.

ويقع جوار الكعبة حجر إسماعيل حيث مدفن تلك المرأة وابنها ، وعلى الحاج أن يضمه إلى البيت في طوافه ، أي يجب على الحجاج أن يطوفوا خارج هذه الحجر وكأنه جزء من الكعبة.

__________________

(١) إبراهيم ، ٣٧.

٤٥٣

في الصفا والمروة درس في التضحية بكل غال ونفيس ، حتى بالطفل الرضيع ، من أجل المبدأ والعقيدة.

السعي بينهما يعلمنا أن نعيش دائما أمل النجاح والإنتصار ، حتى في أشدّ لحظات الشدّة ، فهاجر بذلت سعيها وجاءها رزق الله من حيث لا تحتسب.

السعي بين الصفا والمروة يقول لنا : إن هاتين الشعيرتين كانتا يوما وكرا لصنمين من أصنام العرب ، وأصبحتا اليوم معلمين من معالم التوحيد بفضل جهاد رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من حق جبل الصفا أن يفخر ويقول : أنا أول منطلق لدعوة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، فحينما كانت مكة تغطّ في ظلمات الشرك وبزغ من عندي فجر الهداية.

واعلموا أيّها الساعون بين الصفا والمروة أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صعد يوما على هذا الجبل ليدعو النّاس إلى الله ، فلم يجبه أحد ، واليوم فإن الآلاف المؤلفة تجيب الدعوة وتحج بيت الله على النهج المحمّدي الإبراهيمي. وإنه لدرس لكم يعلمكم أن تسيروا على طريق الحقّ دونما يأس ، وإن قلّ الناصر والمجيب.

السعي بين الصفا والمروة يقول لنا : اعرفوا قدر نعمة هذا الدين وهذا المركز التوحيدي ، فثمة أفراد حفظوا الشريعة وشعائرها لنا بدمائهم على مرّ التاريخ.

من أجل إحياء كل تلك الأحاسيس والمشاعر في النفوس ، أمر الله الحجيج أن يسعوا سبع مرات بين الصفا والمروة.

أضف إلى ما تقدم أن السعي يقضي على كبر الإنسان وغروره ، فلا أثر للتبختر والتصنع في السعي ، بل لا بدّ من قطع هذه المسافة ذهابا ومجيئا مع كافة النّاس ، وبنفس لباس النّاس ، وبهرولة أحيانا!! ولذلك ورد في الروايات أن السعي إيقاظ للمتكبرين.

على أية حال ، بعد أن ذكرت الآية أن الصفا والمروة من شعائر الله ، أكدت عدم وجود جناح على من يطوّف بهما في الحج والعمرة ، والطواف بين الصفا والمروة هو السعي بينهما ، لأن الحركة التي يعود فيها الإنسان إلى حيث ابتدأ هي

٤٥٤

طواف وإن لم تكن الحركة دائرية.

* * *

٣ ـ جواب على سؤال

لفظ (فَلا جُناحَ) يشير إلى عدم حرمة السعي بين الصفا والمروة وجواز ذلك ، وقد يسأل سائل عن سبب وجوب السعي في الفقه الإسلامي ، بينما الآية تبيحه فقط؟

الجواب على هذا السؤال نفهمه بوضوح من سبب نزول الآية. فالمسلمون كرهوا السعي بين الصفا والمروة ، بعد أن شاهدوا بأم أعينهم مدى عبث المشركين بهذا المكان،ومدى تلويثهم إياه بالأصنام. فخالوا أن من غير اللائق بالمسلم أن يسعى في هذا المكان.

جاءت الآية لتقول لهم : إن الصفا والمروة من شعائر الله ، وعبارة (فَلا جُناحَ) (١) لإزالة ما تصوروه من كراهة لهذا العمل.

وثمّة تعبيرات مشابهة ذكرها القرآن لأحكام اخرى كصلاة المسافر في قوله تعالى:(وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ) (٢).

ونعلم أن القصر واجب في صلاة المسافر ، لا جائز. بشكل عام قد تستعمل كلمة (لا جناح) لإزالة التوهم بحرمة الشيء أو بكراهته ، وهذا المعنى يؤكده حديث عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام في كتاب «من لا يحضره الفقيه».

٤ ـ معنى التطوع

التطوع في اللغة : قبول الطاعة والانصياع للأوامر ، وفي الفقه يطلق على

__________________

(١) (الجناح) في الأصل الميل نحو اتجاه معيّن ، وقيل للذنب جناح لأنه يميل بالإنسان عن طريق الحق. (قاله الراغب في المفردات).

(٢) النساء ، ١٠١.

٤٥٥

الأعمال المستحبة ، من هنا ذهب أغلب المفسرين إلى تفسير «ومن تطوع ...»بالحج المستحب والعمرة المستحبة ، أو الطواف، أو أي عمل مستحب آخر.فالعبارة تعني إذن أن الله شاكر لمن يعمل الخيرات امتثالا لأوامره سبحانه ، والله عليم بكل هذه الأعمال.

ومن المحتمل أيضا أن تكون العبارة تأكيدا لما سبقها ، ويكون المقصود بالتطوع حينئذ قبول الطاعة في أداء الأعمال الشاقة.

معنى العبارة ، على هذا ، على الحجاج السعي بين الصفا والمروة بكل ما فيه من مشاق ورغم كراهتكم لذلك ... هذه الكراهة الناتجة عن سوء تصرف الجاهليين بهذا المكان المقدس.

٥ ـ شكر الله

ينبغي الالتفات هنا إلى عبارة الشاكر في الآية ، وهو تعبير في غاية الروعة ، وإنه لتكريم ما بعده تكريم للإنسان ، أن يشكره الله على أعماله الخيّرة.

وحين يكون الله شاكرا لعبده على برّه ، فمن الأولى أن يكون العبد شاكرا لربّه على نعمه التي لا تحصى ، وشاكرا لمن أحسن إليه من العباد.

* * *

٤٥٦

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (١٥٩) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (١٦٠))

سبب النّزول

روى جلال الدين السيوطي عن ابن عباس ، أن عددا من المسلمين أمثال «معاذ بن جبل» و «سعد بن معاذ» و «خارجة بن زيد» سألوا أحبار اليهود عن مسائل في التوراة قد ترتبط بظهور النّبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأبى الأحبار أن يجيبوا وكتموا ما عندهم من علم (١).

التّفسير

حرمة كتمان الحق

الآية ـ وإن خاطبت كما في أسباب النّزول ، علماء اليهود ـ غير محدودة

__________________

(١) لباب النقول في أسباب النّزول ، ص ٢٢.

٤٥٧

بمخاطبيها ، بل تبين حكما عاما بشأن كاتمي الحق.

الآية الكريمة تتحدث عن هؤلاء بشدّة وتقول : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ ، أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ).

فالله سبحانه وعباده الصالحون وملائكته المقربون يلعنون من يكتم الحق ، وبعبارة اخرى ، كل أنصار الحق يغضبون على من كتم الحق. وأية خيانة للعالم أكبر من محاولة العلماء كتمان آيات الله المودعة عندهم من أجل مصالحهم الشخصية ولتضليل النّاس.

وعبارة (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ) إشارة إلى أن هؤلاء الأفراد يصادرون في الواقع جهود الأنبياء وتضحيات أولياء الله الصالحين ، وهو ذنب عظيم.

والفعل (يلعن) تكرر في الآية للتأكيد ، واستعمل بصيغة المضارع لبيان استمرار اللعن،ومن هنا فإنّ لعنة الله ولعنة اللاعنين تلاحق هؤلاء الكاتمين لآيات الله باستمرار ، وذلك أقسى صور العقاب.

«البينات» و «الهدى» لهما معنى واسع يشمل كل وسائل الهداية والتوعية والإيقاظ وإنقاذ النّاس.

ولما كان القرآن كتاب هداية ، فإنه لا يغلق منافذ الأمل والتوبة أمام الأفراد ، ولا يقطع أملهم في العودة مهما ارتكسوا في الذبوب ، لذلك تبين الآية التالية طريق النجاة من هذا الذنب الكبير وتقول : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

عبارة (أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) جاءت بعد عبارة (فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ) للدلالة على كثرة محبة الله ، وسبق عطفه على عباده التائبين. فيقول سبحانه لهؤلاء : إن تبتم ، أي عدتم إلى نشر الحقائق ، فأنا أعود أيضا إلى إغداق الرحمة والمواهب

٤٥٨

عليكم.

ومن الملفت للنظر ، أن الله لم يقل أنه يقبل التوبة ممن تاب ، بل يقول : من تاب فأنا أيضا أتوب عليه ، والفرق في التعبيرين واضح ، فالثاني فيه من التودّد والتحنن وإغداق اللطف ما لا يمكن وصفه.

ثم استعمال الضمير (أنا) في هذا الموضع يستهدف نوعا من التودّد وبيان الارتباط المباشر بين المتكلم والسّامع وخاصة إذا قال عظيم من العظماء : «أنا أتكفل لك بالعمل الفلاني» حيث يختلف عما لو قال : «سنقوم نحن بإنجاز العمل» فالمحبّة الكامنة في الأسلوب الاول غير خافية على أحد.

وكلمة «توّاب» صيغة مبالغة تبعث الأمل في نفوس المذنبين وتمزق أستار اليأس ، عن سماء أرواحهم خاصة وأنها اقترنت بكلمة (رحيم) التي تشير إلى الرحمة الالهية الخاصة.

* * *

بحوث

١ ـ مفاسد كتمان الحق

كتمان الحقائق من المسائل التي عانت منها المجتمعات البشرية على مرّ التاريخ ، وكان لها دوما آثار سيئة عميقة استمرت قرونا واعصارا. ويتحمل تبعة هذه المساوئ دون شك أولئك العلماء الذين يعلمون تلك الحقائق ويكتمونها.

لعل القرآن لم يهدد ويذمّ فئة كما هدّد وذم هذه الفئة الكاتمة للحقائق. ولم لا؟ فإن عمل هؤلاء يجرّ أجيالا متعاقبة إلى طريق الضلال والفساد ، كما أن نشر الحقائق يدفع بالأمم إلى طريق الهداية والصلاح.

البشرية تميل للحقائق بفطرتها ، وكتمان الحقائق عنها يعني صدّ البشرية عن طريق تكاملها الفطري المرسوم لها.

٤٥٩

لو أن علماء اليهود والنصارى أعلنوا ما عندهم من حقائق بشأن النّبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، ونشروا ما جاء في العهدين من بشائر حول رسول الإسلام ، لانضوى أهل الكتاب تحت راية الإسلام ، ولأصبحوا مع المسلمين أمة واحدة.

كتمان الحقائق لا ينحصر دون شك في كتمان علامات النّبوة والبشائر بالنّبي الخاتمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل يشمل كتمان كل حقيقة تستطيع أن تدفع النّاس إلى الفهم الصحيح بالمعنى الواسع لهذه الكلمة.

السكوت في مواضع يجب فيها البيان قد يكون من مصاديق كتمان الحق ، وذلك يكون في موارد يحتاج النّاس فيها بشدّة إلى فهم الحقائق ويستطيع العلماء فيها أن يلبّوا هذه الحاجة.

بعبارة اخرى : نشر الحقائق التي يعاني منها النّاس لا يتوقف على السّؤال ، وما يذهب إليه صاحب المنار من أن كتمان الحقائق يكون في مواضع السؤال ليس بصحيح. خاصة وأن القرآن لا يتحدث عن كتمان الحقائق فحسب ، بل يتحدث في مواضع اخرى عن تبيين الحقائق أيضا ، وهذا يرد على أولئك الذين يلتزمون جانب الصمت أمام الانحرافات بحجّة عدم وجود سائل يطرح عليهم سؤالا بشأن تلك الانحرافات. يقول سبحانه:(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ) (١).

جدير بالذكر أن إلهاء النّاس بالمسائل الفرعية ، لصرف أنظارهم عن المسائل السياسية الحياتية نوع من كتمان الحقائق. إذا لم يشمله فرضا تعبير «كتمان الحقائق» فهو مشمول حتما بملاك وفلسفة كتمان الحق.

__________________

(١) آل عمران ، ١٨٧.

٤٦٠