الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

من تقبيح لعملية القتل ونهي عنها فقد جاء في قاموس الكتاب المقدس ، ص ٦٧٨ : «القتل العمدي وتقبيحه كان على درجة من الأهمية لدى بني إسرائيل ، بحيث لا تبرأ ذمّة القاتل له لولجا إلى الأماكن المقدسة ، بل لا بدّ إنزال عقوبة القصاص به بأيّ حال من الأحوال».

هذا هو معنى قتل الإنسان في نظر التوراة ، فما بالك بقتل الأنبياء؟

* * *

٣٠١

الآيات

(قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٤) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (٩٥) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (٩٦))

التّفسير

فئة مغرورة :

يبدو من تاريخ اليهود ـ مضافا لما أخبر القرآن عنه ـ أن هؤلاء القوم كانوا يعتبرون أنفسهم فئة متميزة في العنصر ، ومتفوقة على سائر الأجناس البشرية ، وكانوا يعتقدون أن الجنّة خلقت لهم لا لسواهم ، وأن نار جهنم لن تمسّهم ، وأنّهم أبناء الله وخاصته ، وأنّهم يحملون جميع الفضائل والمحاسن.

هذا الغرور الأرعن تعكسه كثير من آيات الذكر الحكيم الآية (١٨) من سورة المائدة تقول عن لسانهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). وفي الآية ١١١ من سورة

٣٠٢

البقرة نرى ادعاء آخر لهم : (وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى) ،وهكذا في الآية ٨٠ من سورة البقرة : (وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً).

هذه التصورات الموهومة كانت تدفعهم من جهة إلى الظلم والجريمة والطغيان ، وتبعث فيهم ـ من جهة اخرى ـ الغرور والتكبّر والاستعلاء.

والقرآن الكريم يجيب هؤلاء القوم جوابا دامغا إذ يقول : (قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

ألا تحبّون رحمة الله وجواره ونيل النعيم الخالد في الجنان؟ ألا يحب الحبيب لقاء حبيبه؟! لقد كان اليهود يهدفون من كلامهم هذا وأن الجنّة خالصة لنا دون سائر النّاس : أو أن النار لا تمسّنا إلّا أيّاما معدودات ـ إلى توهين إيمان المسلمين وتخدير عقائدهم.

لماذا تفرون من الموت ، وكل ما في الآخرة من نعيم هو لكم كما تدّعون؟! لماذا هذا الالتصاق بالأرض وبالمصالح الذاتية الفردية ، إن كنتم مؤمنين بالآخرة وبنعيمها حقّا؟!بهذا الشكل فضح القرآن أكذوبة هؤلاء وبيّن زيف ادعائهم.

في الآية التّالية تأكيد على ما سبق بشأن ابتعاد القوم عن الموت : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ، وَاللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ).

هؤلاء يعلمون ما في ملفّ أعمالهم من وثاق سوداء ومن صحائف إدانة ، والله عليم بكل ذلك ، ولذلك فهم لا يتمنون الموت ، لأنه بداية حياة يحاسبون فيها على كل أعمالهم.

الآية الأخيرة تذكر انشداد هؤلاء بالأرض وحرصهم الشديد على المال والمتاع:(وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) وتذكر الآية أن حرصهم هذا يفوق حرص الذين أشركوا : (وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا).

٣٠٣

المشركون ينبغي أن يكونوا أحرص من غيرهم على جمع المال والمتاع ، لكن هؤلاء من أصحاب الادعاءات الفارغة ، بلغوا من الحرص ما لم يبلغه المشركون.

وبلغ شغفهم بالدنيا أنّه (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) لجمع مزيد من متاع الدنيا، أو خوفا من عقاب الآخرة! لكن هذا العمر الذي يتمناه كل واحد منهم لا يبعده عن العذاب ، ولا يغيّر من مصيره شيئا (وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ) إذ كل شيء محصى لدى الله ، ولا يعزب عن عمله شيء (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ).

* * *

بحوث

١ ـ المقصود من الأعوام الألف في قوله تعالى : (يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ) ليس هذا العدد المعروف ، بل يعني العمر الطويل المديد ، فهو ليس للتعدد ، بل للتكثير.

وذهب بعض المفسرين إلى أن العرب لم تكن تعرف آنذاك عددا أكبر من الألف ، ولم يكن لما يزيد على الألف اسم عند العرب ، ولذلك كان أبلغ تعبير عن الكثرة! (١).

٢ ـ تنكير الحياة في تعبير الآية (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ) تفيد ـ كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين ـ الاستهانة والتحقير ، أي إن هؤلاء حريصون حتى على أتفه حياة وأرخصها وأشقاها ، ويفضلونها على الآخرة (٢).

__________________

(١) المنار ، ج ١ ، ص ٣٣١.

(٢) الميزان ، ج ١ ، ص ٢٣٠ ـ المنار ، ج ١ ، ص ٣٩٠.

٣٠٤

٣ ـ إفرازات العنصرية :

كان التعصّب العنصري وراء كثير من الحروب والمآسي التي حدثت على الساحة البشرية خلال جميع عصور التأريخ ، وفي عصرنا الحديث كان التعصب العرقي الألماني عاملا فعالا في إشعال لظى الحربين العالميتين الاولى والثانية.

واليهود يحتلون دون شك مكان الصدارة بين العنصريين المتعصبين على مرّ التأريخ ، وها هي دويلتهم المسماة بإسرائيل أقيمت على أساس هذه العنصرية المقيتة ، وما يرتكبه هذا الكيان العنصري الصهيوني من جرائم فظيعة إنما هو استمرار لجرائمه التأريخية الناشئة عن عنصريته البغيضة.

لقد دفعتهم عنصريتهم لأن يحتكروا حتّى تعاليم موسى ، ويزيلوا عنصر الدعوة من دينهم ، كي لا يعتنق تعاليمهم أحد غيرهم.

وهذه النزعة الأنانية هي التي جعلت هؤلاء القوم منبوذين ممقوتين من قبل كل شعوب العالم.

التعصب العنصري شعبة من الشرك ، ولذلك حاربه الإسلام بشدّة ، مؤكدا أن كل أبناء البشر من أب واحد وأمّ واحدة ، ولا تمايز إلّا بالتقوى والعمل الصالح.

٤ ـ عوامل الخوف من الموت :

أكثر النّاس يخافون من الموت ، وخوفهم هذا يعود إلى عاملين :

١ ـ الخوف من الفناء والعدم ، فالذين لا يؤمنون بالآخرة لا يرون بعد هذه الحياة استمرار لحياتهم ، ومن الطبيعي أن يخاف الإنسان من الفناء ، وهذا الخوف يلاحق هؤلاء حتى في أسعد لحظات حياتهم فيحوّلها إلى علقم في أفواههم.

٢ ـ الخوف من العقاب ، ومثل هذا الخوف يلاحق المذنبين المؤمنين بالآخرة ، فيخافون أن يحين حينهم وهم مثقلون بالآثام والأوزار ، فينالوا جزاءهم ، ولذلك يؤدّون أن تتأخّر ساعة انتقالهم إلى العالم الآخر.

٣٠٥

الأنبياء العظام أحيوا في القلوب الإيمان باليوم الآخر ، وبذلك أبعدوا شبح الفناء والانعدام من الأذهان ، وبينوا أن الموت انتقال إلى حياة أبدية خالدة منعّمة.

من جهة اخرى دعا الأنبياء إلى العمل الصالح ، كي يبتعد الإنسان عن الخوف من العقاب ، ولكي يزول عن القلوب والأذهان كل خوف من الموت.

* * *

٣٠٦

الآيتان

(قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (٩٧) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (٩٨))

اسباب النّزول

روي عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الآية ، ما روي أن ابن صوريا وجماعة من يهود أهل فدك ، لما قدم النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المدينة ، سألوه أسئلة ، وكان رسول الله يجيبهم وهم يصدّقون جوابه ، من ذلك أنهم قالوا له : يا محمّد كيف نومك؟ فقد أخبرنا عن نوم النّبي الذي يأتي في أواخر الزمان ، فقال : تنام عيناي وقلبي يقظان. قالوا : صدقت يا محمّد ...ثم قال له ابن صوريا : خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك واتبعتك : أيّ ملك يأتيك بما ينزل الله عليك؟ قال : جبريل. قال ابن صوريا : ذاك عدونا ينزل بالقتال والشدة والحرب ، وميكائيل ينزل باليسر والرخاء ، فلو كان ميكائيل هو الذي يأتيك لآمنّا بك!! (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، في تفسير الآية ، مع شيء من الاختصار.

٣٠٧

التّفسير

قوم جادلون :

سبب نزول الآية الكريمة يبيّن طبيعة العناد واللجاج والجدل في اليهود ، ابتداء من زمان موسى عليه‌السلام ومرورا بعصر خاتم الأنبياء وحتى يومنا هذا يعرضون عن الحقّ بألوان الحجج الواهية.

حجّتهم في هذا الموضع المذكور في الآية ثقل التكاليف التي يأتي بها جبرائيل ، وعداؤهم لهذا الملك ، ورغبتهم في أن يكون ميكائيل أمينا للوحي!! وكأن الملائكة هم مصدر الأحكام الإلهية! والقرآن الكريم يصرّح بأن الملائكة ينفّذون أوامر الله ولا ينحرفون عن طاعته: (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) (١).

القرآن يجيب عن ذريعة هؤلاء : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) وما جاء به جبرائيل يصدّق ما نزل في الكتب السماوية السابقة : (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) وهو إضافة إلى كل هذا : (وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ).

فالجواب في هذه الآية ينطوي على ثلاث شعب :

أوّلا : إن جبريل لا يأتي بشيء من عنده ، بل ما يأتي به هو (بِإِذْنِ اللهِ).

ثانيا : ما جاء به جبريل تصدّقه الكتب السماوية السابقة ، لانطباقه على العلامات والدلالات المذكورة في تلك الكتب.

ثالثا : محتوى ما جاء به جبرائيل يدلّ على أصالته وحقّانيته.

الآية التالية تؤكد نفس هذا الموضوع تأكيدا مقرونا بالتهديد وتقول : (مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ) (٢) مشيرة بذلك إلى أن موقف الإنسان من الله وملائكته ورسله ومن جبرئيل وميكائيل ، لا يقبل التفكيك ، وأن الموقف المعادي من أحدهم هو معاداة للآخرين (٣).

__________________

(١) التحريم ، ٦.

(٢) البقرة ، ٩٨.

(٣) الميزان ، في تفسير الآية المذكورة.

٣٠٨

وبعبارة اخرى : الأوامر الإلهية الباعثة على تكامل الإنسان ، تنزل عن طريق الملائكة على الرسل ، وإن كان بين مهمات الملائكة اختلاف ، فذلك يعود إلى تقسيم المسؤوليات لا إلى التناقض بين المهمات ، واتخاذ موقف معاد من أحدهم هو عداء الله سبحانه.

جبريل وميكال

ورد اسم جبريل ثلاث مرات ، واسم ميكال مرة واحدة في القرآن الكريم (١).

ويستفاد من الآيات أنّهما ملكان مقرّبان من ملائكة الله تعالى. قيل إن اسم جبرئيل عبري يعني «رجل الله» أو «قوة الله» (جبر : تعني الرجل أو القوّة ، وئيل : بمعنى الله).

هذه الآيات الكريمة تعرّف جبريل أنه رسول الوحي الإلهي إلى النّبي ، ومنزّل القرآن على قلبه ، ولواسطة الوحي اسم آخر في الآية ١٠٢ من سورة النحل هو : (رُوحُ الْقُدُسِ) أمّا الآية ١٩١ من سورة الشعراء فتسميه (الرُّوحُ الْأَمِينُ) ، ويصرّح المفسرون أن المقصود من روح المقدس والروح الأمين ، هو جبرئيل.

وهناك أحاديث تدور حول تشكل جبرائيل بصور متعددة لدى نزوله على النّبي ، وكان في المدينة ينزل على صورة (دحية الكلبي) وهو رجل جميل الطلعة. يستفاد من سورة النجم أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهد جبرائيل مرّتين على هيئته الأصلية (٢).

ذكرت المصادر الإسلامية أسماء أربعة من الملائكة المقربين هم : جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وعزرائيل ، وأعظمهم مرتبة جبرائيل.

وفي كتب اليهود ورد ذكر جبريل وميكال ، ومن ذلك ما ورد في كتاب دانيال

__________________

(١) اسم «جبريل» ورد مرّتين في هذه الآيات ومرّة في سورة التحريم الآية (٤) واسم ميكال لم يرد إلّا في هذا الموضوع من القرآن.

(٢) أعلام القرآن ، ص ٢٧٧ و ٦٢٩.

٣٠٩

حيث وصف جبرائيل بأنه الغالب لرئيس الشياطين ، ووصف ميكائيل بأنه حامي قوم بني إسرائيل (١).

ذكر بعض المحققين أن المصادر اليهودية خالية من الدلالة على خصومة جبرائيل لهؤلاء القوم ، وهذا يؤيد أن ادعاءات اليهود بشأن موقفهم من جبرائيل ، لم يكن إلّا ذريعة للتنصل من الإسلام إذ لا يوجد في مصادرهم الدينية ما يشير إلى وجود مثل هذه العداوة بينهم وبين جبرئيل.

* * *

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ٢٧٧ و ٦٢٩.

٣١٠

الآيات

(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (٩٩) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (١٠٠) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٠١))

سبب النّزول

قال ابن عباس : إن ابن صوريا ـ وهو من أحبار اليهود ـ قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم:يا محمّد ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك لها ، فأنزل الله هذه الآية (١)

التّفسير

الناكثون من اليهود

الآية الاولى تشير إلى الآيات والعلامات والدلائل الكافية الواضحة التي

__________________

(١) مجمع البيان ، وتفسير القرطبي.

٣١١

توفرت لدى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتؤكد أن المعرضين عن هذه الآيات البينات أدركوا في الواقع حقّانية الدعوة ، لكنهم هبّوا للمعارضة مدفوعين بأغراضهم الشخصية:(وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ).

التفكير في آيات القرآن ينير الطريق لكل طالب حق منصف ، وبمطالعة هذه الآيات يمكن فهم صدق دعوة نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعظمة القرآن.

لكن هذه الحقيقة الواضحة لا يفهمها الذين انطفأ نور قلوبهم بسبب الذنوب ، من هنا نرى الفاسقين الملوثين بالخطايا يعرضون عن الإيمان بالرسالة.

ثم يتطرق القرآن إلى صفة مجموعة من اليهود ، وهي صفة النكول ونقض العهود والمواثيق ، وكأنها صفة تأريخية تلازمهم على مرّ العصور (أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ).

لقد أخذ الله ميثاقهم في جانب الطور أن يعملوا بالتوراة لكنهم نقضوا الميثاق ، وأخذ منهم الميثاق أن يؤمنوا بالنّبي الخاتم المذكور عندهم في التوراة فلم يؤمنوا به.

يهود «بني النضير» و «بني قريضة» عقدوا الميثاق مع النّبي لدى هجرته المباركة إلى المدينة أن لا يتواطؤوا مع أعدائه ، لكنهم نقضوا العهد ، وتعاونوا مع مشركي مكة في حرب الأحزاب ضد المسلمين.

وهذه الخصلة في هذا الفريق من اليهود نجدها اليوم متجسدة في الصهيونية العالمية التي تضع كل المواثيق والقرارات والمعاهدات الدولية تحت قدميها ، متى ما تعرّضت مصالحها للخطر.

الآية الأخيرة تؤكد بصراحة أكثر على هذا الموضوع : (وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).

كان أحبار اليهود يبشرون النّاس قبل البعثة النبوية بالرّسول الموعود

٣١٢

ويذكرون لهم علاماته وصفاته ، فلمّا بعث نبي الإسلام ، أعرضوا عمّا جاء في كتابهم ، وكأنهم لم يروا ولم يقرءوا ما ذكرته التوراة في هذا المجال.

هذه هي النتيجة الطبيعية للأفراد الغارقين في ذاتياتهم ، هؤلاء ـ حتى في دعوتهم إلى حقيقة من الحقائق ـ لا يتجردون عن ذاتياتهم ، فإن وصلوا إلى تلك الحقيقة ووجدوها تنسجم مع أهوائهم ، أعرضوا عنها ونبذوها وراء ظهروهم.

* * *

بحوث

١ ـ واضح أن تعبير «النّزول» أو «الإنزال» بشأن القرآن الكريم لا يعني الانتقال المكاني من الأعلى إلى الأسفل وأن الله مثلا في السماء وأنزل القرآن إلى الأرض ، بل التعبير يشير إلى علو مكانة ربّ العالمين.

٢ ـ كلمة «فاسق» من مادة «فسق» وتعني خروج النّواة من الرطب ، فقد تسقط الرطبة من النخلة ، وتنفصل عنها النّواة. ويقال عن هذا الانفصال في العربية «فسقت النواة»، ثم أطلقت الكلمة على كل انفصال عن خط طاعة الله ، وعن طريق العبودية.

فكما أن النّواة تفسق إذا نزعت لباسها الحلو المفيد المغذي ، كذلك الفاسق ينزع عنه بفسقه كل قيمه وشخصيّته الإنسانية.

٣ ـ القرآن في حديثه عن اليهود لا يوبّخ الجميع بسبب ذنوب الأكثرية ، بل يستعمل كلمات مثل «فريق» «أكثر» ليصون حق الأقلية المؤمنة المتقية ، وطريقة القرآن هذه في حديثه عن الأمم درس لنا كي لا نحيد في أحاديثنا ومواقفنا عن الحقّ والحقيقة.

* * *

٣١٣

الآيتان

(وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٢) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (١٠٣))

التّفسير

سليمان وسحرة بابل

يفهم من الأحاديث أن مجموعة من النّاس مارست السحر في عصر النّبي سليمانعليه‌السلام ، فأمر سليمان بجمع كل أوراقهم وكتاباتهم ، واحتفظ بها في مكان خاص.(لعل الاحتفاظ بها يعود إلى إمكان الاستفادة منها في إبطال سحر

٣١٤

السحرة).

بعد وفاة سليمان عمدت جماعة إلى إخراج هذه الكتابات ، وبدأوا بنشر السحر وتعليمه. واستغلت فئة هذه الفرصة فأشاعت أن سليمان لم يكن نبيّا أصلا ، بل كان يسيطر على ملكه ويأتي بالأمور الخارقة للعادة عن طريق السحر!

 مجموعة من بني إسرائيل سارت مع هذه الموجة ولجأت إلى السحر ، وتركت التوراة.

عند ما ظهر النّبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وجاءت آيات القرآن مؤيدة لنبوة سليمان ، قال بعض أحبار اليهود : ألا تعجبون من محمّد يقول : سليمان نبي وهو ساحر!

 وجاءت الآية ترد على مزاعم هؤلاء وتنفي هذه التّهمة الكبرى عن سليمان عليه‌السلام(١).

الآية الاولى إذن تكشف فضيحة اخرى من فضائح اليهود وهي اتهامهم لنبي الله بالسحر والشعوذة ، تقول الآية عن هؤلاء القوم : (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ).

والضمير في «واتّبعوا» قد يعود إلى المعاصرين للنبي ، أو إلى أولئك اليهود المعاصرين لسليمان ، أو لكلا الفريقين.

والمقصود بكلمة «الشّياطين» قد يكون الطغاة من البشر أو من الجن أو من كليهما.

ثم تؤكد الآية على نفي الكفر عن سليمان : (وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ).

فسليمان عليه‌السلام لم يلجأ إلى السحر ، ولم يحقق أهدافه عن طريق الشعوذة :(وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ).

هؤلاء اليهود لم يستغلوا ما تعلموه من سحر الشياطين فحسب ، بل أساؤوا

__________________

(١) سيرة ابن هشام ، ج ٢ ، ص ١٩٢. ومجمع البيان في تفسير الآية ، مع قليل من الاختلاف.

٣١٥

الاستفادة أيضا من تعليمات هاروت وماروت : (وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ) (١).

هاروت وماروت ملكان إلهيّان جاءا إلى النّاس في وقت راج السحر بينهم وابتلوا بالسحرة والمشعوذين ، وكان هدفهما تعليم النّاس سبل إبطال السحر ، وكما إن إحباط مفعول القنبلة يحتاج إلى فهم لطريقة فعل القنبلة ، كذلك كانت عملية إحباط السحر تتطلب تعليم النّاس اصول السحر ، ولكنهما كانا يقرنان هذا التعليم بالتحذير من السقوط في الفتنة بعد تعلم السحر (وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ).

وسقط أولئك اليهود في الفتنة ، وتوغلوا في انحرافهم ، فزعموا أن قدرة سليمان لم تكن من النّبوة ، بل من السحر والسحرة. وهذا هو دأب المنحرفين دائما ، يحاولون تبرير انحرافاتهم باتهام العظماء بالانحراف.

هؤلاء القوم لم ينجحوا في هذا الاختبار الإلهي ، فأخذوا العلم من الملكين واستغلّوه على طريق الإفساد لا الإصلاح ، لكن قدرة الله فوق قدرتهم وفوق قدرة ما تعلموه:(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ، وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ).

لقد تهافتوا على اقتناء هذا المتاع الدّنيوي وهم عالمون بأنه يصادر آخرتهم (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (٢). لقد باعوا شخصيتهم الإنسانية بهذا المتاع الرخيص (وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

لقد أضاعوا سعادتهم وسعادة مجتمعهم عن علم ووعي ، وغرقوا في مستنقع الكفر والانحراف (وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

__________________

(١) بعض المفسرين عطفوا جملة «ما أنزل» على «ما تتلوا» وعلى هذا الأساس فسرنا الآية أعلاه ، وبعضهم عطفوها على (السحر).

(٢) الخلاق يعني الخلق ، وقد يعني الحظّ والنصيب وهذا هو معنى الكلمة في الآية.

٣١٦

بحوث

١ ـ قصّة هاروت وماروت

كثر الحديث بين أصحاب القصص والأساطير عن هذين الملكين ، واختلطت الخرافة بالحقيقة بشأنهما ، حتى ما عاد بالإمكان استخلاص الحقائق مما كتب بشأن هذه الحادثة التاريخية ، ويظهر أن أصح ما قيل بهذا الشأن وأقربه إلى الموازين العقلية والتاريخية والأحاديث الشريفة هو ما يلي :

شاع السحر في أرض بابل وأدّى إلى إحراج النّاس وازعاجهم ، فبعث الله ملكين بصورة البشر ، وأمرهما أن يعلما النّاس طريقة إحباط مفعول السحر ، ليتخلصوا من شرّ السحرة.

كان الملكان مضطرين لتعليم النّاس اصول السحر ، باعتبارها مقدمة لتعليم طريقة إحباط السحر. واستغلت مجموعة هذه الأصول ، فانخرطت في زمرة الساحرين ، وأصبحت مصدر أذى للناس.

الملكان حذرا النّاس ـ حين التعليم ـ من الوقوع في الفتنة ، ومن السقوط في حضيض الكفر بعد التعلم ، لكن هذا التحذير لم يؤثّر في مجموعة منهم (١).

وهذا الذي ذكرناه ينسجم مع العقل والمنطق ، وتؤيده أحاديث أئمّة آل البيت عليهم‌السلام منها ما ورد في كتاب عيون أخبار الرضا (وقد أورده في أحد طرقه عن الإمام الرضا عليه‌السلامفي طريق آخر عن الامام الحسن العسكري عليه‌السلام) (٢).

أمّا ما تتحدث عنه بعض كتب التاريخ ودوائر المعارف بهذا الشأن فمشوب بالخرافات والأساطير ، وبعيد كل البعد عمّا ذكره القرآن ، من ذاك مثلا أن الملكين أرسلا إلى الأرض ليثبت لهما سهولة سقوطهما في الذنب إن كانا مكان البشر ، فنزلا وارتكبا أنواع الآثام والذنوب والكبائر!! والنص القرآني بعيد عن هذه الأساطير

__________________

(١) مجمع البيان ، في تفسير الآية المذكورة. الوسائل ، ج ١٢ ، ص ١٠٦ ـ ١٠٧.

(٢) نفس المصدر.

٣١٧

ومنزّه منها.

٢ ـ لفظ هاروت وماروت

زعم بعض المحققين أن «هاروت» و «ماروت» لفظان فارسيان قديمان.

وقال : إن كلمة «هوروت» تعني «الخصب» ، و «موروت» تعني «عديم الموت» واسما هاروت وماروت مأخوذان ، من هذين اللفظين (١). وهذا الاتجاه في فهم معنى الاسمين لا يقوم على دليل.

وفي كتاب «أوستا» وردت ألفاظ مثل : «هرودات» ويعني «شهر خرداد» ، وكذلك «أمردات» بمعنى عديم الموت ، وهو نفسه اسم «شهر مرداد» (٢). وفي معجم (دهخدا) تفسير للفظين شبيه بما سبق.

والعجيب أن البعض ذهب إلى أن هاروت وماروت من البشر ومن سكنة بابل! ، وقيل أيضا أنّهما من الشياطين!! والآيات المذكورة ترفض ذلك طبعا.

٣ ـ كيف يكون الملك معلما للإنسان؟

يبقى السّؤال عن الرابطة بين الملك والإنسان ، وهل يمكن أن تكون بينهما رابطة تعليمية؟ الآيات المذكورة تصرح بأن هاروت وماروت علّما النّاس السحر ، وهذا تمّ طبعا من أجل إحباط سحر السحرة في ذلك المجتمع. فهل يمكن للملك أن يكون معلما للإنسان؟

الأحاديث الواردة بشأن الملكين تجيب على هذا السّؤال ، وتقول : إن الله بعثهما على شكل البشر ، وهذه الحقيقة يمكن فهمها من الآية التاسعة لسورة الأنعام أيضا ، حيث يقول تعالى : (وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً).

__________________

(١) أعلام القرآن ، ص ٦٥٥.

(٢) نفس المصدر.

٣١٨

٤ ـ لا قدرة لأحد على عمل دون إذن الله

نفهم من قول الله في هذه الآيات أن السحرة ما كانوا قادرين على إنزال الضّر بأحد دون إذن الله سبحانه ، وليس في الأمر «جبر» ولا إرغام ، بل إن هذا المعنى يشير إلى مبدأ أساس في التوحيد ، وهو إن كلّ القوى في هذا الكون تنطلق من قدرة الله تعالى ، النار إذ تحرق إنما تحرق بإذن الله ، والسكين إذ تقطع إنما تقطع بأمر الله. لا يمكن للساحر أن يتدخل في عالم الخليفة خلافا لإرادة الله.

كلّ ما نراه من آثار وخواص إنما هي آثار وخواص جعلها الله سبحانه للموجودات المختلفة ، ومن هذه الموجودات من يحسن الاستفادة من هذه الهبة الإلهية ومنهم من يسيء الاستفادة منها. و «الإختيار» الذي منحه الله للإنسان إنما هو وسيلة لاختباره وتكامله.

٥ ـ السحر وتأريخه :

الحديث عن السحر وتاريخه طويل ، ونكتفي هنا بالقول إن جذوره ضاربة في أعماق التاريخ ، ولكن بداياته وتطوراته التاريخية يلفّها الغموض ولا يمكن تشخيص أول من استعمل السحر.

وبشأن معناه يمكن القول : إنه نوع من الأعمال الخارقة للعادة ، تؤثر في وجود الإنسان ، وهو أحيانا نوع من المهارة والخفة في الحركة وإيهام للأنظار ، كما إنه أحيانا ذو طابع نفسي خيالي.

والسحر في اللغة له معنيان :

١ ـ الخداع والشّعوذة والحركة الماهرة.

٢ ـ كل ما لطف ودقّ.

والراغب ذكر للفظ السحر ثلاثة معان قرآنية :

الأوّل : الخداع وتخييلات لا حقيقة لها ، نحو ما يفعله المشعبذ بصرف الأبصار

٣١٩

عما يفعله لخفة يده ، وما يفعله النمام بقول مزخرف عائق للأسماع.

الثّاني : استجلاب معاونة الشيطان بضرب من التقرب إليه.

الثّالث : هو اسم لفعل يزعمون أنه من قوّته يغيّر الصور والطبائع فيجعل الإنسان حمارا ، ولا حقيقة لذلك (١).

نستنتج من دراسة ٥١ موضعا من مواضع ذكر كلمة «سحر» في القرآن الكريم أن السحر ينقسم في رأي القرآن الكريم على قسمين :

١ ـ الخداع والشعبذة وخفة اليد وليس له حقيقة كما جاء في قوله تعالى :(فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى) (٢) وقوله : (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) (٣) ويستفاد من هذه الآيات أن السحر ليس له حقيقة موضوعية حتى يمكنه التأثير في الأشياء ، بل هو خفة حركة اليد ونوع من خداع البصر فيظهر ما هو خلاف الواقع.

٢ ـ يستفاد من آيات اخرى أن للسحر أثرا واقعيا ، كقوله سبحانه :(فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ) ، وقوله : (وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ) كما مرّ في الآيات التي نحن بصددها.

وهل إن للسحر تأثيرا نفسيا فقط ، أم يتعدى ذلك إلى الجسم أيضا؟ لم تشر الآيات أعلاه إلى ذلك ، ويعتقد بعض النّاس أن هذا التأثير نفسي لا غير.

جدير بالذكر أن بعض ألوان السحر كانت تمارس عن طريق الاستفادة من خواص المواد الكيمياوية والفيزياوية لخداع النّاس. فيحدثنا التاريخ أن سحرة فرعون وضعوا داخل حبالهم وعصيّهم مادة كيمياوية خاصّة (ولعلها الزئبق) ، كانت تتحرك بتأثير حرارة الشمس أو أية حرارة اخرى ، وتوحي للمشاهد أنها حيّة. وهذا اللون من السحر ليس بقليل في عصرنا الرّاهن.

__________________

(١) مفردات الراغب ، مادة سحر.

(٢) طه ، ٦٦.

(٣) الأعراف ، ١١٦.

٣٢٠