الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

الجبل الذي أوحي فيه إلى موسى. وقال آخرون : إنه اسم جنس بمعنى مطلق «الجبل» لا جبل بعينه. وجاء تعبير (الجبل) بدل كلمة الطور في قوله تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ)(١).

٥ ـ خذوا تعاليم السّماء بقوّة

خاطب الله سبحانه بني إسرائيل فقال : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) وعن هذه الآية سئل الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه‌السلام عن المقصود من القوّة في هذه الآية :«أبقوّة بالأبدان أم بقوّة في القلوب»؟

قال : «بهما جميعا» (٢).

وهذا الأمر الإلهي يتجه إلى كل أتباع الأديان الإلهية في كل زمان ومكان ، ويطلب منهم أن يتجهزوا بالقوى المادية والقوى المعنوية معا ، لصيانة خط التوحيد وإقامة حاكمية الله في الأرض.

* * *

__________________

(١) تفسير أبي الرّازي والتّفسير الكبير للرّازي ، ذيل الآية التي نحن بصددها ، والآية في سورة الأعراف ، ١٧١.

(٢) رواه العياشي ، نقلا عن مجمع البيان.

٢٦١

الآيتان

(وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (٦٥) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (٦٦))

التّفسير

عصاة يوم السبت

هاتان الآيتان الكريمتان تتحدثان ـ كالآيات السابقة ـ عن روح العصيان والتمرد المتغلغلة في اليهود ، والتصاقهم الشديد بالمسائل المادية : (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) (١).

(فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها) أي جعلناها عبرة لتلك الامّة ولأمم تليها (وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ).

ملخص الحادثة التي تشير إليها الآية : «أن الله سبحانه أمر اليهود أن يسبتوا ـ أي أن يقطعوا أعمالهم ـ يوم السبت ، وهذا الأمر شمل طبعا أولئك القاطنين قرب البحر الذين يعيشون على صيد الأسماك ، وشاء الله أن يختبر هؤلاء ، فكثرت

__________________

(١) خسأ : طرد وزجر ، ويستعمل لطرد الكلب ، وللطرد المقرون بالاستهانة يقال : اخسأه.

٢٦٢

الأسماك يوم السبت قرب الساحل بينما ندرت في بقية الأيّام. طفق هؤلاء يتحايلون لصيد الأسماك يوم السبت. فعاقبهم الله على عصيانهم ومسخهم على هيئة حيوان».

وهل كان هذا المسخ جسمي أم نفسي وأخلاقي؟ وأين كان يسكن هؤلاء القوم؟ وبأية حيلة توسلوا للصيد؟ هذا ما سنجيب عليه وعلى غيره من المسائل المرتبطة بهذا الموضوع في المجلد الخامس من هذا التّفسير ، لدى توضيح الآيات ١٦٣ ـ ١٦٦ من سورة الأعراف.

وقوله تعالى : (فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ) إشارة إلى فورية المسخ الذي تمّ بأمر إلهي واحد.

ومن المفيد أن ننقل في هذا المجال رواية عن الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام في تفسير قوله تعالى (فَجَعَلْناها نَكالاً) ... قالا : (لِما بَيْنَ يَدَيْها) إي لما معها ينظر إليها من القرى (في زمان تلك الامّة) ، (وَما خَلْفَها) نحن (المسلمون) ولنا فيها موعظة (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، في تفسير الآية المذكورة.

٢٦٣

الآيات

(وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (٦٧) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (٦٨) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (٦٩) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ (٧٠) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (٧١)) (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٧٢) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ) (آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٧٣) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٧٤))

٢٦٤

التّفسير

قصّة بقرة بني إسرائيل

هذه الآيات تتحدث بالتفصيل عن حادثة اخرى من حوادث تاريخ بني إسرائيل ، هذا التفصيل لم نألفه في الآيات السابقة ، ولعله يعود إلى أن هذه الحادثة ذكرت في هذا الموضع ـ لا غير ـ من القرآن الكريم ، وإلى أنها تتضمن عبرا كثيرة تستوجب هذا التفصيل. من هذه الدروس : لجاج بني إسرائيل وعنادهم ، ومستوى إيمانهم بكلام موسى عليه‌السلام ، وأهمّ من كل هذا البرهنة على إمكان المعاد.

الحادثة (كما يبينها القرآن وكتب التّفسير) على النحو التالي : قتل شخص من بني إسرائيل بشكل غامض ، ولم يعرف القاتل.

حدث بين قبائل بني إسرائيل نزاع بشأن هذه الحادثة ، كل قبيلة تتهم الاخرى بالقتل. توجّهوا إلى موسى ليقضي بينهم. فما كانت الأساليب الاعتيادية ممكنة في هذا القضاء. وما كان بالإمكان إهمال هذه المسألة لما سيترتب عليها من فتنة بين بني إسرائيل. لجأ موسى ـ بإذن الله ـ إلى طريقة إعجازية لحل هذه المسألة كما ستوضحها الآيات الكريمة (١).

__________________

(١) في الفصل الحادي والعشرين من سفر التثنية في العهد القديم وردت إشارة عابرة لهذه القصة. وما ورد في التوراة الحالية ليس بسرد للحادثة وإنما إعطاء حكم من الأحكام ، وهذا نص السفر المذكور من الجملة ١ إلى ٩ :

«إذا وجد قتيل في الأرض التي يعطيك الرب إلهك لتمتلكها واقعا في الحقل لا يعلم من قتله ـ يخرج شيوخك وقضاتك ويقيسون إلى المدن التي حول القتيل ـ فالمدينة القربى من القتيل يأخذ شيوخ تلك المدينة عجلة من البقر لم يحرث عليها لم تجر بالنير ـ وينحدر شيوخ تلك المدينة بالعجلة إلى واد دائم السيلان لم يحرث فيه ولم يزرع ، ويكسرون عنق العجلة في الوادي ـ ثم يتقدم الكهنة بنو لاوى لأنه إياهم اختار الرب إلهك ليخدموه ويباركوا باسم الرب وحسب قولهم تكون كل خصومة وكل ضربة ـ ويغسل جميع شيوخ تلك المدينة القريبين من القتيل أيديهم على العجلة المكسورة العنق في الوادي ـ ويصرحون ويقولون أيدينا لم تسفك هذا الدّم وأعيننا لم تبصر ـ اغفر لشعبك إسرائيل الذي فديت يا رب ولا تجعل دم بريء في وسط شعبك إسرائيل فيغفر لهم الدم ـ فتنزع الدم البريء من وسطك إذا عملت الصالح في عيني الرب».

٢٦٥

يقوله سبحانه في هذه الآيات : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً)؟! (قالَ أَعُوذُ بِاللهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ).

أي إن الاستهزاء من عمل الجاهلين ، وأنبياء الله مبرّأون من ذلك. بعد أن أيقنوا جديّة المسألة ، (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ). وعبارة «ربك» تتكرر في خطاب بني إسرائيل لموسى ، وتنطوي على نوع من إساءة الأدب والسخرية ، وكأن ربّ موسى غير ربهم!! موسى عليه‌السلام أجابهم : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ) أي إنها لا كبيرة هرمة ولا صغيرة ، بل متوسطة بين الحالتين : (فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ).

لكن بني إسرائيل لم يكفوا عن لجاجتهم : (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها)؟

أجابهم موسى : (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ) أي إنها حسنة الصفرة لا يشوبها لون آخر.

ولم يكتف بنو إسرائيل بهذا ، بل أصرّوا على لجاجهم ، وضيّقوا دائرة انتخاب البقرة على أنفسهم.

عادوا و (قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ) طالبين بذلك مزيدا من التوضيح ، متذرعين بالقول : (إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ).

أجابهم موسى (قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ) أي ليست من النوع المذلل لحرث الأرض وسقيها.

(مُسَلَّمَةٌ) من العيوب كلها.

(لا شِيَةَ فِيها) أي لا لون فيها من غيرها.

حينئذ : (قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ).

٢٦٦

(فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ) أي أنهم بعد أن وجدوا بقرة بهذه السمات ذبحوها بالرغم من عدم رغبتهم بذلك.

بعد أن ذكر القرآن تفاصيل القصة ، عاد فلخص الحادث بآيتين : (وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها) أي فاختلفتم في القتل وتدافعتم فيه. (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

(فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها) أي اضربوا المقتول ببعض أجزاء البقرة ، كي يحيى ويخبركم بقاتله. (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ).

وبعد هذه الآيات البينات ، لم تلن قلوب بني إسرائيل ، بل بقيت على قسوتها وغلظتها وجفافها. (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً).

إنها أشد قسوة من الحجارة ، لأن بعض الحجارة تتفجر منها الأنهار ، أو تنبع منها المياه أو تسقط من خوف الله : (وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ).

لكن قلوب بني إسرائيل أشدّ قسوة من الحجارة ، فلا تنفجر منها عاطفة ولا علم ، ولا تنبع منها قطرة حبّ ، ولا تخفق من خوف الله.

والله عالم بما تنطوي عليه القلوب وما تفعله الأيدي : (وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ).

* * *

بحوث

١ ـ أسئلة كثيرة تافهة

«السّؤال» دون شك مفتاح لحل المشاكل ، ووسيلة لإزالة الجهل والإبهام ، لكنه مثل بقية الأمور ، إن تجاوز حدّه وجاء في غير موضعه فإنّه يدلّ على

٢٦٧

الانحراف ويؤدي إلى أضرار ، ومن ذلك ما نراه في هذه القصة.

بنو إسرائيل أمروا أن يذبحوا بقرة. وكان بإمكانهم أن يذبحوا أيّة بقرة شاؤوا ، لأن الأمر الإلهي لم يحدّد شكل البقرة ونوعها ، ولو أراد الله بقرة بعينها لحدّد مواصفاتها حين الأمر. لكن الله أمرهم أن يذبحوا «بقرة» وصيغة التنكير تدل على عدم إرادة التحديد.

هؤلاء المعاندون أبوا إلّا أن يطرحوا أسئلة متكررة ، أملا في تضييع الحقيقة وإخفاء القاتل ، وبقوا يصرون على ترددهم في الذبح حتى النهاية ، وهذا ما تشير إليه عبارة :(فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ).

وفي الآيات ما يشير إلى أن مجموعة من بني إسرائيل ـ على الأقل ـ كانت تعرف القاتل ، وقد يكون القتل قد تمّ بمؤامرة بين هؤلاء الأفراد ، لكنهم كانوا يكتمون الأمر ، ولهذا يقول سبحانه : (وَاللهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

أضف إلى ما سبق أنّ أهل العناد واللجاج يكثرون دائما من الجدل والإحتجاج على كل شيء.

وثمة قرائن في الآيات توضح أن هؤلاء القوم لم تكن لهم معرفة كاملة بالله ولا بالنبي المرسل إليهم ، لذلك قالوا له بعد كل أسئلتهم : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ) ، وكأنّ ما جاء به حتى ذلك الوقت كان باطلا!! والملاحظ أن الله سبحانه ضيّق عليهم دائرة الانتخاب ، واشتد بذلك عليهم التكليف كلّما زادوا في أسئلتهم ، لأنهم مستحقون لمثل هذا العقاب. ولذلك نرى في الأثر حثّ على السكوت عمّا سكتت عنه تعاليم السماء ففي ذلك حكمة.

عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنّهم أمروا بأدنى بقرة ولكنّهم لمّا شدّدوا على أنفسهم شدّد الله عليهم» (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، في تفسير الآية المذكورة.

٢٦٨

٢ ـ مدلول هذه الأوصاف :

كان تكليف بني إسرائيل ـ كما ذكرنا ـ مطلقا غير مقيّد بمواصفات معيّنة. لكن لجاج هؤلاء ضيّق عليهم الدائرة وغيّر عليهم حكم التكليف (١).

إلى جانب هذه الحقيقة ، ثمة حقيقة اجتماعية قد يمكن استنتاجها من الأوصاف التي ذكرت للبقرة.

يبدو أن القرآن يريد أن يبين أنّ البقرة التي كتب لها أن تحيى فردا ميّتا ينبغي أن لا تكون «ذلولا» أي تأبى التسليم والخضوع الأعمى. كما أنها ذات لون واحد خالص لا تشوبه ألوان اخرى.

وهذا يعني أن القائد الذي يستهدف إحياء المجتمع ينبغي أوّلا أن يكون متحررا من تأثيرات الضغوط الاجتماعية التي يمارسها أصحاب الثروة والجاه والقوّة ، وأن يستسلم لله وحده دون أن تأخذه في ذلك لومة لائم ، كما أن القائد يجب أن يكون مبرّءا من أي لون غير اللون التوحيدي ، ومثل هؤلاء الأفراد فقط يستطيعون أن يعالجوا أمور النّاس باتزان واعتدال ويبعثوا في قلوب وأفكار أمّتهم الخصب والحياة.

أما المنشدّ بنير الدنيا والخاضع لها والمشوب بالألوان والأهواء فلا يستطيع أن يحيي القلوب الميتة ، ولا يقدر أن ينهض بدور الإحياء.

* * *

٣ ـ ما هو دافع القتل؟

تذكر كتب التأريخ والتّفسير أن دافع القتل في هذه الحادثة إمّا المال ، أو الزّواج.

__________________

(١) هذه القصة تشير إلى جواز نسخ الحكم قبل العمل وفق ما تقتضيه المصلحة ، وتشير أيضا إلى وجود النسخ في دين موسى ، كما تدل على أن التكليف قد يكون له طابع العقاب. وهذه مباحث سنطرحها في محلها.

٢٦٩

من المفسرين من قال : إنّ ثريا من بني إسرائيل لم يكن له وارث سوى ابن عمه ، فطال عمر هذا الثري ولم يطق الوارث مزيدا من الانتظار ، فقتله خفية ليحصل على أمواله ، وألقى جسده في الطريق ، ثم بدأ بالصراخ والعويل ، وشكا الأمر إلى موسى.

وقال آخرون : إن القاتل أراد أن يتزوج من ابنة القتيل ، فرفض ذلك ، وزوّج ابنته إلى أحد أخيار بني إسرائيل. فقعد له وقتله ، ثم شكا القاتل الأمر إلى موسى.

ومن الممكن أن تشير القصة إلى حقيقة هي : إن كل المفاسد والجرائم مصدرها في الغالب أمران : الطمع في المال ، والطمع في الجنس.

* * *

٤ ـ العبر في هذه القصّة

هذه القصة لها دلالات على قدرة الله اللامتناهية ، وكذلك على مسألة المعاد ، ولذلك وردت في الآية ٧٣ عبارة (كَذلِكَ يُحْيِ اللهُ الْمَوْتى) إشارة إلى مسألة المعاد ، وعبارة (وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) تأكيد على قدرة الله وعظمته.

إضافة إلى ما سبق ، هذه القصة تتحدث عن سنّة من سنن الله تعالى ، وهي أن الامّة تستوجب غضب الله حين تصرّ على عنادها ولجاجها واستهتارها بكل شيء.

العبارات التي وردت على لسان بني إسرائيل في هذه القصة توضّح أن هؤلاء القوم بلغوا الذروة في إهانة النّبي ، بل وبلغت بهم الجرأة إلى إساءة الأدب تجاه ربّ العالمين.

في البداية قالوا لنبيّهم : (أَتَتَّخِذُنا هُزُواً)؟ وبذلك اتهموا نبيّهم بارتكاب ذنب الاستهزاء بالآخرين.

وفي مواضع عديدة خاطبوه بعبارة (ادْعُ لَنا رَبَّكَ) ، وكأن ربّ موسى غير

٢٧٠

ربّهم ، مع أن موسى قد قال لهم : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ).

وقالوا له أيضا : (ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) ويعنون بذلك أنّ كلام موسى أدّى إلى ضلالهم في تشخيص البقرة ، ثمّ يخاطبوه في النهاية : (الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ).

هذه التعبيرات تدل على جهل هؤلاء القوم وتعنّتهم وغرورهم ولجاجهم.

وهذه القصة من جهة اخرى تعلّمنا أننا ينبغي أن لا نتزمّت ولا نتشدّد في الأمور كي لا يتشدّد الله معنا.

ولعل انتخاب البقرة للذبح يستهدف غسل أدمغة هؤلاء القوم من فكرة عبادة العجل.

* * *

٥ ـ الإحسان إلى الأب

يذكر المفسرون أنّ البقرة التي ذكرت الآيات مواصفاتها ، كانت وحيدة لا تشاركها بقرة اخرى في ذلك ، ولذلك اضطر القوم إلى شرائها بثمن باهظ.

ويقولون : إن هذه البقرة كانت ملكا لشاب صالح على غاية البّر بوالده. هذا الرجل واتته سابقا فرصة صفقة مربحة ، كان عليه أن يدفع فيها الثمن نقدا. وكانت النقود في صندوق مغلق مفتاحه تحت وسادة والده. حين جاء الرجل ليأخذ المفتاح وجد والده نائما ، فأبى إيقاظه وإزعاجه ، ففضّل أن يترك الصفقة على أن يوقظ والده.

وقال بعض المفسرين : «كان البائع على استعداد لأن يبيع بضاعته بسبعين ألفا نقدا، ولكن الرجل أبى أن يوقظ والده واقترح شراء تلك البضاعة بثمانين ألفا على أن يدفع المبلغ بعد استيقاظ والده. وأخيرا لم تتم صفقة المعاملة ، ولذا أراد الله تعالى تعويضه على إيثاره هذا بمعاملة اخرى وفيرة الربح.

٢٧١

وقالوا أيضا : بعد أن استيقظ الوالد وعلمه بالأمر ، أهدى لولده البقرة المذكورة ، فدّرت عليه ربحا عظيما» (١).

وإلى هذه القصّة يشيررسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذ يقول : «أنظروا إلى البّر ما بلغ بأهله»(٢)

* * *

__________________

(١) تفسير ابن كثير ، ج ١.

(٢) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٨٨.

٢٧٢

الآيات

(أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٧٦) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (٧٧))

سبب النّزول

روي عن الإمام أبي جعفر محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام أنّه قال : «كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين المتوطئين ، إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التّوراة من صفة محمّد ، فنهاهم كبراؤهم عن ذلك ، وقالوا : لا تخبروهم بما في التّوراة من صفة محمّد فيحاجّوكم به عند ربّكم فنزلت هذه الآية» (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج ١ ، ص ١٤٢.

٢٧٣

التّفسير

لا أمل في هؤلاء

كان سياق الآيات السابقة يتجه نحو سرد تاريخ بني إسرائيل ، وفي هاتين الآيتين يتجه الخطاب نحو المسلمين ويقول لهم : لا تعقدوا الآمال على هداية هؤلاء اليهود ، فهم مصرون على تحريف الحقائق ونكران ما عقلوه (أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ)!

 وهذه عظة للمسلمين، ودفع لما قد يعتريهم من يأس نتيجة عدم استطاعتهم إقناع اليهود وجذبهم إلى الدين الجديد.

الآيتان الكريمتان توضحان أن السبب في عدم استسلام هؤلاء القوم أمام المعجزة القرآنية وسائر المعاجز النبوية الاخرى ، إنما يعود لعناد متأصل في هؤلاء ورثوه عن آبائهم الذين سمعوا كلام الله عند جبل الطور ، ثم ما لبثوا أن حرّفوه بعد عودتهم.

من عبارة (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ) ... نفهم أن بني إسرائيل لم يكونوا بأجمعهم محرفين، بل إن فريقا منهم ـ ومن المحتمل أن يشكل عددهم أكثرية بني إسرائيل ـ كانوا هم المحرفين.

ورد في أسباب النّزول أن مجموعة من بني إسرائيل حين عادوا من جبل الطور قالوا:«سمعنا أن الله قال لموسى : اعملوا بأوامري قدر استطاعتكم ، واتركوها متى تعذر عليكم العمل بها»! وكان ذلك أول تحريف في بني إسرائيل.

على أي حال ، كان من المتوقع أن يكون اليهود أول من يؤمن بالرسالة الإسلامية بعد إعلانها لأنهم أهل كتاب (خلافا للمشركين) ، ولأنهم قرءوا صفات النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في كتبهم. لكن القرآن يوجه أنظار المسلمين إلى سوء السابقة لدى هؤلاء القوم ، ويوضح لهم أن الانحراف النفسي يدفع إلى الإعراض عن الحقيقة ،

٢٧٤

مهما كانت هذه الحقيقة واضحة بيّنة.

الآية التّالية تلقي الضوء على حقيقة مرّة اخرى بشأن هذه الزمرة المنافقة وتقول:(وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ)؟!

من المحتمل أيضا أن تتحدث هذه الآية في صدرها عن المنافقين من اليهود الذين يتظاهرون بالايمان لدى لقائهم بالمسلمين ، ويبرزون إنكارهم عند لقائهم بأصحابهم ، بل يلومون أولئك اليهود الذين يكشفون للمسلمين عمّا في التوراة من أسرار.

هذه الآية ـ على أي حال ـ تأييد للآية السابقة ، التي نهت المسلمين عن عقد الأمل على إيمان مثل هؤلاء القوم.

عبارة (بِما فَتَحَ اللهُ عَلَيْكُمْ) قد تعني الميثاق الإلهي الذي كان محفوظا لدى بني إسرائيل. وقد تشير إلى الأسرار الإلهية المرتبطة بالشريعة الجديدة.

ويتضح من الآية أن إيمان هذه الفئة المنافقة من اليهود ، كان ضعيفا إلى درجة أنهم تصوروا الله مثل إنسان عاديّ ، وظنوا أنهم إذا أخفوا شيئا عن المسلمين فسيخفى عن الله أيضا.

لذلك تقول الآية التالية بصراحة : (أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ)؟!

* * *

٢٧٥

الآيتان

(وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (٧٨) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (٧٩))

سبب النّزول

عمد جمع من علماء اليهود إلى تغيير صفات نبي الإسلام في التوراة من أجل صيانة مصالحهم ، واستمرار الأموال التي كانت تتدفق عليهم سنويا من جهلة اليهود. فعند ظهور النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غيّروا ما ذكر من صفاته في التوراة وأبدلوها بصفات اخرى على العكس منها ، كي يموّهوا الأمر على الأميين الذين كانوا قد سمعوا من قبل بصفات النّبي في التوراة ، فمتى ما سألوا علماءهم عن هذا النّبي الجديد قرءوا لهم الآيات المحرّفة من التوراة لإقناعهم بهذه الطريقة.

التّفسير

خطّة اليهود في استغلال الجهلة!

بعد الحديث عن انحرافات اليهود في الآيات السابقة ، قسّمت هاتان الآيتان

٢٧٦

اليهود على مجموعتين : أميين وعلماء ماكرين ، (هناك طبعا أقلية من علمائهم آمنت والتحقت بصفوف المسلمين).

عن المجموعة الاولى يقول تعالى : (وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ).

والأميّون جمع أمّيّ ، والأمّيّ غير الدارس. وسمّوا بذلك لأنهم في معلوماتهم كما ولدتهم أمهاتهم ، أو لشدّة تعلق امّهاتهم بهم ، صعب عليهنّ فراقهم جهلا ، ومنعنهم من الذهاب إلى المدرسة (١).

والأماني جمع امنية ، ولعل الآية تشير هنا إلى الامتيازات الموهومة التي كان ينسبها اليهود لأنفسهم ، كقولهم : (نَحْنُ أَبْناءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) (٢) ، وكقولهم : (لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ) (٣).

ومن المحتمل أيضا أن يكون المقصود من الأماني الآيات المحرفة التي كان علماء اليهود يشيعونها بين الأميين من الناس ، وهذا المعنى ينسجم أكثر مع قوله تعالى : (لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلَّا أَمانِيَ).

وعلى أي حال عبارة : (إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ) دلالة واضحة على بطلان اتّباع الظن في فهم أصول الدين ومعرفة مدرسة الوحي ، ولا بدّ من التتبع والتحقيق في هذا الأمر.

ثمّة مجموعة اخرى من العلماء كانت تحرف الحقائق لتحقيق مصالحها ، وإلى هؤلاء يشير القرآن : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللهِ).

(فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ).

(وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ).

__________________

(١) معنى «الأمّي» بحث بشكل أوفى في تفسير الآية ١٥٧ من سورة الأعراف ، راجع المجلد الخامس.

(٢) المائدة ، ١٨.

(٣) آل عمران ، ٢٤.

٢٧٧

ومن العبارة الأخيرة نفهم الهدف الدنيء لهؤلاء ، وكذلك عاقبتهم الوخيمة.

وقد أورد بعض المفسرين حديثا عن الإمام الصادق عليه‌السلام في تفسير هذه الآية حديث فيه ملاحظات هامة : قال رجل للصادق عليه‌السلام : إذا كان هؤلاء العوام من اليهود لا يعرفون الكتاب إلّا بما يسمعونه من علمائهم ، فكيف ذمّهم بتقليدهم والقبول من علمائهم؟ وهل عوام اليهود إلّا كعوامنا ، يقلّدون علماءهم ـ إلى أن قال ـ فقال عليه‌السلام : «بين عوامنا وعوام اليهود فرق من جهة ، وتسوية من جهة ، أمّا من حيث الاستواء فإنّ الله ذمّ عوامنا بتقليدهم علماءهم ، كما ذمّ عوامهم ، وأمّا من حيث افترقوا فإنّ عوام اليهود كانوا قد عرفوا علماءهم بالكذب الصراح ، وأكل الحرام ، والرشاء وتغيير الأحكام ، واضطرّوا بقلوبهم إلى أنّ من فعل ذلك فهو فاسق ، لا يجوز أن يصدّق على الله ، ولا على الوسائط بين الخلق وبين الله ، فلذلك ذمّهم ، وكذلك عوامنا إذا عرفوا من علمائهم الفسق الظاهر ، والعصبيّة الشديدة ، والتكالب على الدنيا وحرامها ، فمن قلّد مثل هؤلاء فهو مثل اليهود الذين ذمّهم الله بالتقليد لفسقة علمائهم ، فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه ، حافظا لدينه ، مخالفا على هواه ، مطيعا لأمر مولاه ، فللعوام أن يقلّدوه ، وذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة لا كلّهم ، فإنّ من ركب من القبائح والفواحش مراكب علماء العامة ، فلا تقبلوا منهم عنّا شيئا ، ولا كرامة ، وإنّما كثر التخليط فيما يتحمّل عنّا أهل البيت لذلك ، لأنّ الفسقة يتحمّلون عنّا فيحرّفونه بأسره لجهلهم ، ويضعون الأشياء على غير وجهها لقلّة معرفتهم وآخرون يتعمّدون الكذب علينا» (١)

واضح أن هذا الحديث لا يدور حول التقليد التعبدي في الأحكام ، بل يشير إلى اتباع العلماء من أجل تعلم أصول الدين ، لأن الحديث يتناول معرفة النّبي ، وهذه المعرفة من أصول الدين ، ولا يجوز فيها التقليد التعبدي.

* * *

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٨ ، ص ٩٤ ، كتاب القضاء ، باب ١٠.

٢٧٨

الآيات

(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ (٨٠) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٨٢))

التّفسير

غرور وادعاء فارغ

يشير القرآن الكريم هنا إلى واحدة من ادعاءات اليهود الدالة على غرورهم ، هذا الغرور الذي يشكل الأساس لكثير من انحرافات هؤلاء القوم :(وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً) ، ثم تجيبهم الآية بأسلوب مفحم:قل(أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ).

اعتقاد اليهود بأنّهم شعب الله المختار ، وأن عنصرهم متفوق على سائر الأجناس البشرية ، وأن مذنبيهم لن يدخلوا جهنم سوى أيّام قليلة ليتنعموا بعدها بالجنّة ، من مظاهر أنانية هؤلاء واستفحال ذاتياتهم.

٢٧٩

ادعاء اليهود المذكور في الآية الكريمة لا ينسجم مع أي منطق ، إذ لا يمكن أن يكون بين أفراد البشر أي تفاوت في نيل الثواب والعقاب أمام الله سبحانه وتعالى.

بم استحق اليهود أن يكونوا مستثنين من القانون العام للعقاب الإلهي؟! الآية الكريمة تدحض مزاعمهم بدليل منطقي ، وتفهمهم أن مزاعمهم هذه إمّا أن تكون قائمة على أساس عهد لهم اتخذوه عند الله ، ولا يوجد مثل هذا العهد ، أو أن تكون من افترائهم الكذب على الله.

ثمّ تبيّن الآية الكريمة التّالية قانونا عاما يقوم على أساس المنطق وتقول :(بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ). وهذا القانون عام يشمل المذنبين من كل فئة وقوم.

وبشأن المؤمنين الأتقياء ، فهناك قانون عام شامل تبيّنه الآية التالية : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ)

* * *

بحوث

١ ـ كسب السيئة

الكسب والاكتساب : الحصول على الشيء عن إرادة واختيار ، من هنا عبارة (بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً) إشارة إلى أولئك الذين يرتكبون الذنوب عن علم وانتخاب. وتعبير الآية بكلمة «كسب» قد يكون إشارة إلى المحاسبة الخاطئة العاجلة التي يرتكب المذنب على أساسها ذنبه ظانا أنه يكسب بارتكاب الذنب نفعا ، ويتحمل بتركه خسارة! وإلى مثل هؤلاء المذنبين تشير آية كريمة ستأتي بعد عدد من الآيات إذ يقول سبحانه : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ

٢٨٠