الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

قال بعض المفسرين : إن هذا الحجر كان في ثنايا الجبال المطلة على الصحراء وتدل جملة «انبجست» الواردة في الآية ١٦٠ من سورة الأعراف على أن المياه جرت قليلة أولا، ثم كثرت حتى ارتوى منها كل قبائل بني إسرائيل مع مواشيهم ودوابهم.

ظاهرة انفجار المياه من الصخور طبيعية ، لكن الحادثة هنا مقرونة بالإعجاز كما هو واضح.

ثمة أقوال تذكر أن ذلك الحجر كان من نوع خاص حمله بنو إسرائيل معهم ، ومتى احتاجوا إلى الماء ضربه موسى بعصاه فيجري من الماء. وليس في القرآن ما يثبت ذلك ، وإن أشارت إليه بعض الروايات.

في الفصل السابع عشر من «سفر الخروج» تذكر التوراة : فقال الرب لموسى سر قدام الشعب وخذ معك من شيوخ إسرائيل وعصاك التي ضربت بها النهر خذها في يدك واذهب ـ ها أنا أقف أمامك هناك على الصخرة في حوريب فتضرب الصخر فيخرج منها ماء ليشرب الشعب ففعل موسى هكذا أمام عيون شيوخ إسرائيل» (١).

لقد منّ الله على بني إسرائيل بإنزال المنّ والسلوى ، وفي هذه المرّة يمنّ عليهم بالماء الذي يعزّ في تلك الصحراء القاحلة ، ثم يقول سبحانه لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ).

وفي هذه العبارة حث لهم على ترك العناد وإيذاء الأنبياء ، وأن يكون هذا أقل شكرهم لله على هذه النعم.

* * *

__________________

(١) الفصل السابع عشر ، العدد ٦ و ٥.

٢٤١

بحوث

١ ـ الفرق بين العثّي والإفساد

نهى الله سبحانه بني إسرائيل عن الفساد بفعل (لا تَعْثَوْا) ، من العثّي وهو شدة الفساد ، وتشبه في معناها «العيث» ، إلّا أنّ العيث أكثر ما يقال في الفساد الذي يدرك حسا ، والعثيّ فيما يدرك حكما (١). وبهذا يكون معنى (لا تَعْثَوْا) هو معنى «المفسدين» ولكنه مع تأكيد أشد.

وقد تشير عبارة النهي بأجمعها إلى حقيقة بدء الفساد من نقطة صغيرة ، واتساعها واشتدادها بعد ذلك. أي تبدأ بالفساد وتنتهي بالعثيّ الأرض ، وهو شدة الفساد واتساعه.

٢ ـ المعاجز في حياة بني إسرائيل

قد تثير مسألة انفجار الماء من الحجر وما شابهها من المعاجز في حياة الأنبياء تساؤلات في ذهن أولئك الذين لم يستوعبوا منطق الإعجاز. ولا نريد هنا أن نتعرض إلى مسألة الإعجاز ، لأنها تحتاج إلى بحث مستقل. ونكتفي بالقول : إن المعجزة ليست أمرا محالا ، وليست استثناء في قانون العليّة. بل إنها خرق لما ألفناه واعتدنا عليه ، أو بعبارة اخرى ، خرق لما ألفناه في حياتنا اليوميّة من ارتباط بين العلة والمعلول.

وطبيعي أن تغيير مسير العلل والمعلولات ليس بعسير على الله سبحانه ، ولو خلق الله هذه العلل والمعلولات منذ البدء بشكل آخر غير ما هي عليه اليوم ، لكان هذا الذي نألفه اليوم خارقا للعادة.

باختصار ، خالق عالم الوجود ونظام العليّة حاكم على ما خلق لا محكوم له.

__________________

(١) المفردات ، مادة عثى.

٢٤٢

وفي حياتنا اليومية صور كثيرة للاستثناءات في النظام القائم للعلل والمعلولات.ومسألة الإعجاز لا تشكل أية مشكلة عقلية أو علمية.

٣ ـ الفرق بين الإنفجار والانبجاس

في الآية المذكورة ورد الفعل «انفجر» ليعبّر عن تدفق الماء من الحجر ، بينما ورد الفعل «انبجس» في الآية ١٦٠ من سورة الأعراف ليشير إلى نفس الحقيقة مع فارق هو أن الأول يفصح عن شدة تدفّق الماء ، والثاني عن سيلانه بشكل هادئ.

لعل آية سورة الأعراف تتحدث عن المرحلة الأولى من ظهور الماء ، وجريانه بشكل هادئ لا يثير فزع القوم ، ولا يمنعهم من السيطرة عليه ، بينما تشير الآية التي نحن في صددها إلى المرحلة النهائية حيث اشتد جريان الماء.

والراغب في مفرداته يفسر الانبجاس والإنفجار بشكل يتناسب مع ما أشرنا إليه إذ يقول : بجس الماء وانبجس : انفجر ، لكن الانبجاس أكثر ما يقال فيما يخرج من شيء ضيق. والإنفجار يستعمل فيه وفيما يخرج من شيء واسع.

* * *

٢٤٣

الآية

(وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ(٦١))

التّفسير

المطالبة بالأطعمة المتنوعة

بعد أن شرحت الآيات السابقة نعم الله على بني إسرائيل ، ذكرت هذه الآية صورة من عنادهم وكفرانهم بهذه النعم الكبرى.

تتحدث الآية أولا عن مطالبة بني إسرائيل نبيّهم بأطعمة متنوعة بدل اطعام الواحد (المنّ والسّلوى) : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها). فخاطبهم موسى (قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا

٢٤٤

مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ).

ويضيف القرآن : (وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ ، ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ).

* * *

بحوث

١ ـ آراء المفسرين في كلمة «مصر»

من المفسرين من قال إن المقصود من كلمة «مصر» في الآية الكريمة هو المفهوم العام للمدينة. وقوله سبحانه : (اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ) ، أي إنكم الآن تعيشون في هذه الصحراء ضمن إطار منهج للاختبار وبناء الذات ، وليس هذا مكان الأطعمة المتنوعة،اذهبوا إلى المدن حيث التنوع في المأكولات ، ولكن لا يوجد فيها المنهج المذكور.

ويستدل أصحاب هذا الرأي بأن بني إسرائيل لم يطلبوا العودة إلى «مصر» موطنهم السابق ولم يعودوا إليه إطلاقا (١).

ومنهم من اختار هذا التّفسير لمصر ، وأضاف إليه أن المقصود من قوله تعالى:(اهْبِطُوا) ... هو أن بقاءكم في الصحراء واقتصاركم على الطعام الواحد يعودان إلى ضعفكم ، فكونوا أقوياء ، وحاربوا الأعداء ، وحرروا من سيطرتهم مدن الشام والأرض المقدسة ، ليتوفر لكم ما شئتم (٢).

وهناك رأي ثالث للمفسرين هو أن المقصود من «مصر» البلد المعروف.ويكون المعنى عندئذ : إنكم في هذه الصحراء الخالية من الأطعمة المتنوعة

__________________

(١) التنوين في كلمة (مصر) دليل على تنكيرها ، وعلى عدم اختصاصها بالأرض المعروفة.

(٢) تفسير المنار ، ذيل الآية المذكورة.

٢٤٥

تملكون الإيمان والحرية والاستقلال ، وإن أبيتم إلّا أن تكون لكم أطعمة متنوعة ، فارجعوا إلى مصر حيث الذل والاستعباد ، لتأكلوا من فتات موائد الفراعنة. إن مشتهيات بطونكم أنستكم ما كنتم تعانون منه من ذل واستعباد ، وما حصلتم اليوم عليه من حرية ورفعة وافتخار ، وما تتحملونه من حرمان يسير إنما هو ثمن لحريتكم (١).

ويبدو أن التّفسير الأول أنسب من التاليين.

* * *

٢ ـ التنوع وطبيعة الإنسان

التنوع هو ـ دون شك ـ من متطلبات البشر ، وحبّ التنويع خصلة طبيعية في البشر. والإنسان ـ إن استمرّ على تناول طعام معين لمدّة طويلة ـ يمل ذلك الطعام.فلم إذن توجّه اللوم والتقريع إلى بني إسرائيل حين طلبوا الخضروات والخيار والثوم والعدس والبصل ليتخلصوا من الطعام الواحد؟!

 الجواب يتضح لو علمنا أنّ الحياة الإنسانية تقوم على أساس حقائق هامّة لا يمكن التخلّي عنها ، هي الإيمان والطهر والتقوى والتحرّر. وقد تمرّ الجماعة البشرية بمرحلة يتعارض فيها هذا الأساس الهام مع متطلبات الإنسان من الطعام والشراب واللذائذ الاخرى. وهنا تصبح الجماعة أمام خيارين ، إمّا أن تنغمس في اللذات وتترك قيمها وشرفها ، أو تضحي بلذّاتها من أجل إنسانيتها وكرامتها.

بنو إسرائيل كانوا يعيشون أمام هذين الخيارين.

ولا بدّ من الإشارة إلى أن حقيقة حبّ التنويع استغلها الطامعون والمستعمرون دوما ، ليدفعوا الشعوب إلى هاوية حياة استهلاكية شهوانية هابطة ، يعيش الأفراد

__________________

(١) في ظلال القرآن.

٢٤٦

فيها بين المعلف والمضجع ، ناسين شخصيتهم الإنسانية ، وغافلين عن النير الذي يطوق أعناقهم.

* * *

٣ ـ هل «المنّ» و «السلوى» خير الأطعمة؟

حين طلب بنو إسرائيل أطعمة متنوعة جاءهم التقريع بالقول : (أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ)؟! أي أتختارون الأدنى وتتركون الأفضل؟! ويبدو أن المقصود بالأفضل هنا هو ما لديهم من طعام متمثل بالمن والسلوى. غير أن التفضيل الذي يطرحه القرآن هنا يعود إلى الحياة بكل أبعادها ، والتقريع يتجه إلى بني إسرائيل لرغبتهم في التنويع مع ما قد يكشف هذا التنويع من ذلّ وهوان.

وعلى صعيد القيمة الغذائية ، فإن الأطعمة النباتية التي طلبها بنو إسرائيل لها قيمتها الغذائية طبعا ، غير أن مقدار الموارد الغذائية النافعة الموجودة في «المن» ـ وهو العسل أو مادة سكرية مقوّية ـ وكذلك في لحوم السلوى يفوق ما في الأطعمة النباتية المذكورة ، كما أن المن والسلوى أسهل هضما من الحبوب المذكورة (١).

ولا بأس من الإشارة إلى أن «الفوم» الذي طلبه بنو إسرائيل فسّر بالحنطة مرة وبالثوم مرة اخرى ، ولكلّ من المادتين قيمتها الغذائية ، ويرى بعض أن تفسير الفوم بالقمح أصحّ لاستبعاد أن يطلب القوم طعاما خاليا من القمح (٢).

* * *

__________________

(١) راجع : «قرآن بر فراز قرون واعصار» ، (فارسي) ، ص ١١٢.

(٢) تفسير القرطبي.

٢٤٧

٤ ـ ذلة بني إسرائيل ومسكنتهم

تفيد الآية الكريمة أن بني إسرائيل (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) لعاملين :

الأوّل ـ لكفرهم بآيات الله ، وانحرافهم عن خط التوحيد.

الثاني ـ لقتلهم الأنبياء بغير حق.

ظاهرة الانحراف عن خط التوحيد وظاهرة القسوة والفظاظة ، لا زالتا مشهودتين حتى اليوم عند جمع من هؤلاء القوم ، ولا زالتا سببا لشقاوتهم وطيشهم وتعاستهم (١).

في تفسير الآية ١١٢ من سورة آل عمران تحدثنا بالتفصيل عن مصير اليهود وحياتهم التعيسة ، (المجلد الثاني من هذا التّفسير).

* * *

__________________

(١) نحن إذ نكتب هذه السطور ، تصلنا أنباء عما ارتكبه هؤلاء القوم في لبنان ، من أعمال قاسية وحشية ذهب ضحيتها الآلاف من المدنيّين العزل ، خلال مجازر وحشية. قلّ أن شهد لها التاريخ نظيرا. وسيدفع هؤلاء المجرمون الثمن غاليا لفعلتهم الشنعاء هذه ، (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ).

٢٤٨

الآية

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٦٢))

التّفسير

القانون العام للنّجاة

بعد عرض لمقاطع من تاريخ بني إسرائيل ، تطرح هذه الآية الكريمة مبدأ عاما في التقييم وفق المعايير الإلهية. وهذا المبدأ ينص على أن الإيمان والعمل الصالح هما أساس تقييم الأفراد ، وليس للتظاهر والتصنّع قيمة في ميزان الله : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ).

هذه الآية تكررت مع اختلاف يسير في سورة المائدة ، الآية ٧٢ وفي سورة الحج الآية١٧.

سياق الآية في سورة المائدة يشير إلى أن اليهود والنصارى فخروا بدينهم ، واعتبروا أنفسهم أفضل من الآخرين ، وادّعوا بأن الجنّة خاصة بهم دون غيرهم.

ولعل مثل هذا التفاخر صدر عن بعض المسلمين أيضا ، ولذلك نزلت هذه

٢٤٩

الآية الكريمة لتؤكد أن الإيمان الظاهري لا قيمة له في الميزان الإلهي ، سواء في ذلك المسلمون واليهود والنصارى وأتباع الأديان الاخرى. ولتقول الآية أيضا : إن الأجر عند الله يقوم على أساس الإيمان الحقيقي بالله واليوم الآخر إضافة إلى العمل الصالح. وهذا الأساس هو الباعث الوحيد للسعادة الحقيقة والابتعاد عن كل خوف وحزن.

تساؤل هام

بعض المضللين اتخذوا من الآية الكريمة التي نحن بصددها وسيلة لبثّ شبهة مفادها أن العمل بأي دين من الأديان الإلهية له أجر عند الله ، وليس من اللازم أن يعتنق اليهودي أو النصراني الإسلام ، بل يكفي أن يؤمن بالله واليوم الآخر ويعمل صالحا.

الجواب : نعلم أن القرآن يفسّر بعضه بعضا ، والكتاب العزيز يقول : (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) (١).

كما أن القرآن مليء بالآيات التي تدعو أهل الكتاب إلى اعتناق الدين الجديد،وتلك الشبهة تتعارض مع هذه الآيات. من هنا يلزمنا أن نفهم المعنى الحقيقي للآية الكريمة.

ونذكر تفسيرين لها من أوضح وأنسب ما ذكره المفسرون :

١ ـ لو عمل اليهود والنصارى وغيرهم من أتباع الأديان السماوية بما جاء في كتبهم، لآمنوا حتما بالنّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن بشارات الظهور وعلائم النّبي وصفاته مذكورة في هذه الكتب السماوية ، وسيأتي شرح ذلك في تفسير الآية ١٤٦ من سورة البقرة.

__________________

(١) آل عمران ، ٨٥.

٢٥٠

٢ ـ هذه الآية تجيب على سؤال عرض لكثير من المسلمين في بداية ظهور الإسلام ، يدور حول مصير آبائهم وأجدادهم الذين لم يدركوا عصر الإسلام ، ترى ، هل سيؤاخذون على عدم إسلامهم وإيمانهم؟!

الآية المذكورة نزلت لتقول إن كل أمّة عملت في عصرها بما جاء به نبيّها من تعاليم السماء وعملت صالحا ؛ فإنها ناجية ، ولا خوف على أفراد تلك الامّة ولا هم يحزنون.

فاليهود المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور المسيح ، والمسيحيون المؤمنون العاملون ناجون قبل ظهور نبي الإسلام.

وهذا المعنى مستفاد من سبب نزول هذه الآية كما سيأتي.

بحوث

١ ـ قصّة سلمان الفارسي رحمه‌الله

إكمالا للبحث ، لا بأس أن نذكر هنا سبب نزول هذه الآية كما جاء في جامع البيان للطبري :

«كان سلمان من جنديسابور ، وكان من أشرافهم ، وكان ابن الملك صديقا له مؤاخيا ، لا يقضي واحد منهم أمرا دون صاحبه. وكانا يركبان إلى الصيد معا. فبينما هما في الصيد ، إذ بدا لهما بيت من خباء ، فأتياه فإذا هما فيه برجل بين يديه مصحف ، يقرأ فيه ، وهو يبكي.

سألاه : ما هذا؟

قال : إن كنتما تريدان أن تعلما ما فيه فانزلا ، حتى أعلّمكما. فنزلا إليه.

فقال لهما : هذا كتاب من عند الله ، أمر فيه بطاعته ، ونهى عن معصيته ، فيه ان لا تزني ولا تسرق ولا تأخذ أموال النّاس بالباطل ، فقص عليهما ما فيه ، وهو

٢٥١

الإنجيل الذي أنزله الله على عيسى.

فوقع في قلوبهما ، وتابعاه ، فأسلما.

وقال لهما : إن ذبيحة قومكما عليكما حرام. فلم يزالا معه كذلك يتعلّمان منه.

ثم اتفق أن كان للملك عيد ، فجعل طعاما ، ودعى إليه الأشراف ، فأبى ابن الملك أن يحضر الوليمة ، فدعاه أبوه فقال له : ما أمرك هذا؟

قال : إنا لا نأكل من ذبائحكم ، إنكم كفار لا تحل ذبائحكم.

قال : إنا لا نأكل من ذبائحكم ، إنكم كفار لا تحل ذبائحكم.

قال له الملك : من أمرك بهذا؟ فأخبره أن الراهب أمر بذلك.

فدعا الراهب فقال : ماذا يقول ابني؟

قال : صدق ابنك.

قال له : لو لا أن الدم فينا عظيم لقتلتك ، ولكن اخرج من أرضنا. فأجّله أجلا.

قال سلمان : فقمنا نبكي عليه ، فقال لهما : إن كنتما صادقين فأنا في بيعة في الموصل ، مع ستين رجلا نعبد الله فيها ، فأتونا فيها ، فخرج الراهب ، وبقي سلمان وابن الملك ، فجعل يقول لابن الملك : انطلق بنا ، وابن الملك يقول : نعم.

وجعل ابن الملك يبيع متاعه يريد الجهاز. فلما أبطأ على سلمان ، خرج سلمان حتى أتاهم ، فنزل على صاحبه ، وهو ربّ البيعة ، وكان أهل تلك البيعة من أفضل الرهبان. فكان سلمان معهم يجتهد في العبادة ويتعب نفسه.

قال له الشيخ يوما : إنك غلام حدث ، تتكلف من العبادة ما لا تطيق ، وأنا خائف أن تفتر وتعجز ، فارفق بنفسك ، وخفف عليها.

قال له سلمان : أرأيت الذي تأمرني به أهو أفضل أو الذي أصنع؟

قال : بل الذي تصنع.

قال : فخلّ عني ، ثم إن صاحب البيعة دعاه ، فقال : إني رجل أضعف عن عبادة هؤلاء ، وأنا أريد أن أتحول من هذه البيعة إلى بيعة اخرى هم أهون عبادة من هؤلاء ، فإن شئت أن تقيمها هنا فأقم ، وإن شئت أن تنطلق معي فانطلق.

٢٥٢

قال له سلمان : أي البيعتين أفضل حالا؟

قال : هذه.

قال سلمان : فأنا أكون في هذه ، وأوصى صاحب البيعة عالم البيعة بسلمان ، فكان سلمان يتعبد معهم.

ثم إن الشيخ العالم عزم أن يأتي بيت المقدس ، فقال لسلمان : إن أردت أن تنطلق معي فانطلق ، وإن شئت أن تقيم فأقم.

فقال له سلمان : أيّهما أفضل أنطلق معك أم أقيم؟

قال : بل تنطلق معي ، وانطلقا حتى أتيا بيت المقدس.

فقال الشيخ لسلمان : أخرج فاطلب العلم ، فإنه يحضر هذا المسجد علماء أهل الأرض. فخرج سلمان يسمع منهم ، فرجع يوما حزينا. فقال له الشيخ : ما لك يا سلمان؟ قال : أرى الخير كله قد ذهب به من كان قبلنا من الأنبياء وأتباعهم.

فقال له الشيخ : يا سلمان لا تحزن فإنه بقي نبي ليس من نبي بأفضل منه ، وهذا زمانه الذي يخرج فيه ، ولا أراني أدركه ، وأما أنت فشاب لعلك تدركه ، وهو يخرج في أرض العرب ، فإن أدركته فآمن به واتبعه ، فقال له سلمان : فأخبرني عن علامته بشيء ، قال:نعم ، هو مختوم في ظهره بخاتم النّبوة. وهو يأكل الهدية ولا يأكل الصدقة.

ثم اتفق أن افترق سلمان عن الراهب لدى عودتهما من بيت المقدس ، ففقده في الطريق ، وبينما هو يبحث عنه إذ رآه رجلان عربيان من بني كلب ، فأسراه ، وأخذاه معهما إلى المدينة ، قال سلمان : فأصابني من الحزن شيء لم يصبني مثله قط ، فاشترته امرأة من جهينة ، فكان يرعى عليها هو وغلام لها يتراوحان الغنم هذا يوما وهذا يوما. فكان سلمان يجمع الدراهم ينتظر خروج محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فبينا هو يرعى يوما إذ أتاه صاحبه الذي يعقبه فقال: أعلمت أنه قد قدم اليوم المدينة رجل يزعم أنه نبي؟! فقال له سلمان : أقم في الغنم حتى آتيك. فذهب سلمان إلى

٢٥٣

المدينة ، فنظر إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ودار حوله ، فلما رآه النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلمعرف ما يريد.فأرسل ثوبه حتى خرج خاتمه. فلما رآه أتاه وكلمه. ثم انطلق فاشترى طعاما وجاء به ، فقال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا؟ قال سلمان : هذه صدقة. قال : لا حاجة لي بها فأخرجها فليأكل المسلمون. ثمّ انطلق فاشترى طعاما ، فأتى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ما هذا؟ قال : هدية. قال : فاقعد ، فقعد فأكلا جميعا منها. فبينا هو يحدثه ، إذ ذكر أصحابه ، فأخبره خبرهم ، فقال : كانوا يصومون ويصلون ويؤمنون بك ، ويشهدون أنك ستبعث نبيّا. فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم ، قال له النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا سلمان هم من أهل النار. فاشتدّ ذلك على سلمان ، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.

* * *

٢ ـ من هم الصّابئون؟

يقول الرّاغب الأصفهاني : الصّابئون قوم كانوا على دين نوح (١) وذكرهم إلى جانب المؤمنين واليهود والنصارى يدل على أنهم كانوا يدينون بدين سماوي ويؤمنون بالله واليوم الآخر.

واعتبر البعض أنهم مشركون ، وقيل عنهم أنهم مجوس ، وليسوا كذلك ، لأن القرآن ذكرهم إلى جانب المشركين والمجوس إذا قال : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) ... (٢).

واختلف المفسّرون وأصحاب الملل والنحل في تشخيص هوية الصابئين ، ووجه تسميتهم.

«الشّهرستاني» في «الملل والنحل» يقول : الصابئة من صبأ أي انحرف عن طريق الأنبياء ، وهؤلاء قوم انحرفوا عن طريق الحق ودين الأنبياء فهم «صابئة».

ويقول «الفيومي» في «المصباح المنير» إن «صبأ» تعني الخروج من الدين

__________________

(١) المفردات ، مادة صبا.

(٢) الحج ، ١٧.

٢٥٤

إلى دين آخر.

وفي معجم (دهخدا) الفارسي : الصابئون جمع صابئ وهي كلمة مشتقة من (ص ـ ب ـ ع) العبرية التي تعني الغوص في الماء (أو التعميد) ، وسقطت العين في التعريب ، وتسمى هذه الطائفة التي تسكن خوزستان باسم (المغتسلة) لذلك.

دائرة المعارف الفرنسية ، في المجلد الرابع ، ص ٢٢ ، ذكرت أن هذه الكلمة عربية وتعني الانغماس في الماء أو التعميد.

(جسينوس) الألماني يذهب إلى أن هذه الكلمة عبرية ، ولا يستبعد أن تكون مشتقة من كلمة تعني «النّجم».

صاحب كتاب «كشاف اصطلاح الفنون» يقول : «الصابئون فرقة تعبد الملائكة ويقرءون (الزبور) ويتجهون نحو القبلة».

وجاء في كتاب «التنبيه والإشراف» نقلا عن «الأمثال والحكم» ص ١٦٦٦ : «قبل أن يطرح (زراتشت) دعوة المجوسية على (جشتاسب) ، وكان أهل هذه الديار على مذهب (الحنفاء) ، وهم الصابئون ، وهو دين جاء به (بوذاسب) على عهد (طهمورس)».

سبب اختلاف الآراء حول هذه الطائفة يعود إلى قلة أفرادها وإصرارهم على إخفاء تعاليمهم ، وامتناعهم عن الدعوة إلى دينهم ، واعتقادهم أن دينهم خاص بهم لا عام لكل النّاس ، وأن نبيهم مبعوث إليهم لا لغيرهم. ولذلك أحيطوا بكثير من الغموض واكتنفتهم الأسرار ، وهم يتجهون نحو الانقراض.

الالتزام بتعاليمهم على غاية الصعوبة ، ففيها أنواع الأغسال والتعميدات في الشتاء والصيف ، ويميلون إلى الانزواء والابتعاد عن غير أبناء دينهم ويحرمون تزوّج النساء من غير الصابئين ، وكثير منهم اعتنق الإسلام نتيجة اختلاطهم بالمسلمين.

* * *

٢٥٥

٣ ـ معتقدات الصّابئين

يعتقد الصائبة أن أول كتاب مقدّس سماوي نزل على آدم ، وبعده على نوح ، ثم على سام ، ثم على «رام» ، ثم على إبراهيم الخليل ، ثم على موسى ، وأخيرا على يحيى بن زكريا.

كتبهم المقدسة :

١ ـ «كيزاربا» ويسمى أيضا «سدره» أو «صحف» آدم ، وفيه آراء حول كيفية بدء الخلق.

٢ ـ كتاب «أدر أفشادهي» أو «سدرادهي» ويتحدث عن يحيى وتعاليمه ويعتقد الصابئة أنه موحى إلى يحيى عن طريق جبرائيل.

٣ ـ كتاب «قلستا» وفيه تعاليم الزّواج والزّوجية ، وهذا إلى جانب كتب كثيرة اخرى يطول ذكرها.

يبدو ممّا سبق أنّ هؤلاء أتباع يحيى بن زكريا ، الذي يسميه المسيحيون يحيى المعمّد ، أو يوحنا المعمّد (١).

صاحب كتاب «بلوغ الإرب» له رأي آخر بشأن الصّابئة ، يقول : هم من يعتقد في الأنواء اعتقاد المنجمين في السيارات حتى لا يتحرك ولا يسكن ولا يسافر ولا يقيم إلّا بنوء من الأنواء ويقول مطرنا بنوء كذا ... (٢).

وهؤلاء كانوا قوم إبراهيم الخليل عليه‌السلام وهو أهل دعوته وكانوا بحرّان ، فهي دار الصابئة، وكانوا قسمين : صابئة حنفاء ، وصابئة مشركين ، والمشركون منهم يعظمون الكواكب السبعة والبروج الاثني عشر ، ويصورونها في هياكلهم ... ويتخذون لها أصناما تخصها ويقربون لها القرابين.

وطوائف منهم يصومون شهر رمضان ويستقبلون في صلواتهم الكعبة

__________________

(١) راجع لمزيد من التوضيح كتاب «آراء وعقائد بشري» (فارسي).

(٢) الأنواء جمع نوء وهو النّجم مال للغروب ، بلوغ الإرب جزء ، ٢٦ ، ص ٢٢٢ ـ ٢٢٨.

٢٥٦

ويعظمون مكة ويرون الحج إليها ويحرمون الميتة والدم ولحم الخنزير ويحرمون من القرابات في النكاح ما يحرم المسلمون ، وعلى هذا المذهب كان جماعة من أعيان الدولة ببغداد منهم هلال بن المحسن الصّابي صاحب الديوان الإنشائي وصاحب الرسائل المشهورة ، وكان مع المسلمين ويعبد معهم ويزكي ويحرم المحرمات ، وكان النّاس يعجبون من موافقته للمسلمين وليس على دينهم ، وأصل دين هؤلاء فيما زعموا أنهم يأخذون محاسن ديانات العالم ومذاهبهم ويخرجون من قبيح ما هم عليه قولا وعملا ، ولهذا سموا صابئة ، أي خارجين ، فقد خرجوا عن تقييدهم بجملة كل دين وتفصيله إلّا ما رأوه فيه من الحق (١)».

من مجموع ما سبق يتبين أن الصابئين كانوا في الأصل أتباع أحد الأنبياء وإن اختلف المحققون في تعيين نبيّهم. وتبين أيضا أن عدد هؤلاء قليل وهم في حالة انقراض.

* * *

__________________

(١) بلوغ الإرب ، ج ٢ ، ص ٢٢٣ ـ ٢٢٥.

٢٥٧

الآيتان

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٦٣) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (٦٤))

التّفسير

الالتزام بالميثاق

هاتان الآيتان تطرحان مسألة أخذ ميثاق بني إسرائيل بشأن العمل بالتوراة ، ثمّ نقضهم للميثاق : (وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) والطور جبل وسيأتي ذكره. وقلنا لكم : (خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) ، واجعلوا التوراة دوما نصب أعينكم : (وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ).

لكنكم نقضتم الميثاق وجعلتموه وراء ظهوركم : (ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ).

* * *

٢٥٨

بحوث

١ ـ الميثاق

المقصود من الميثاق في الآية الكريمة هو نفس ما جاء في الآية ٤٠ من هذه السّورة وما سيأتي في الآيتين ٨٣ و ٨٤ أيضا. مواد هذا الميثاق عبارة عن : توحيد الله ، والإحسان إلى الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين ، والقول الصالح ، وإقامة الصلاة ، وأداء الزكاة ، واجتناب سفك الدماء. هذه المواد وردت في التّوراة كذلك.

من الآية ١٢ لسورة المائدة يتضح أيضا أن الله أخذ ميثاق بني إسرائيل أن يؤمنوا بجميع الأنبياء ويساندوهم ، وأن ينفقوا في سبيل الله. وفي هذه الآية ضمان للقوم بدخول الجنّة إن عملوا بهذا الميثاق.

٢ ـ رفع جبل الطّور

أمّا بشأن كيفية رفع جبل الطور في قوله تعالى : (وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ) يقول الطبرسي عن أبي زيد : حدث هذا حين رجع موسى من الطور ، فأتى بالألواح ، فقال لقومه : جئتكم بالألواح وفيها التوراة والحلال والحرام فاعملوا بها ، قالوا : ومن يقبل قولك؟! فأرسل الله عزوجل الملائكة حتى نتقوا (رفعوا) الجبل فوق رؤوسهم ، فقال موسى عليه‌السلام: إن قبلتم ما آتيتكم به وإلّا أرسلوا الجبل عليكم ، فأخذوا التوراة وسجد والله تعالى ملاحظين الجبل (أي وهم ينظرون إلى الجبل من طرف خفي) ، فمن ثمّ يسجد اليهود على أحد شقي وجوههم».

مضمون هذه الآية ورد مع تفاوت بسيط في الآية ٩٣ من سورة البقرة و ١٥٤ النساء، و ١١٧ الأعراف.

الطبرسي ـ كما ذكرنا ـ وجمع من المفسرين ـ يذهبون إلى أن جبل الطور رفع

٢٥٩

فوق رؤوس بني إسرائيل بأمر الله لا يجاد الظل عليهم (١) ، وهناك من يقول إن زلزالا شديدا ضرب الجبل ، بحيث كان يرى بنو إسرائيل ظل قمة الجبل على رؤوسهم من شدة الاهتزاز ، وترقبوا أن يسقط الجبل عليهم ، لكن الزلزال هدأ بفضل الله واستقرّ الجبل (٢).

ويحتمل أيضا أن تكون قد انفصلت من الجبل صخرة عظيمة بأمر الله على أثر زلزال شديد أو صاعقة ، ومرّت فوق رؤوسهم في لحظات ، فرأوها وتصوروا أنها ستسقط عليهم.

٣ ـ الالتزام والإرهاب

مسألة رفع الجبل فوق بني إسرائيل لتهديدهم عند أخذ الميثاق تثير سؤالا بشأن إمكان تحقيق الالتزام عن طريق التخويف والإرهاب.

هناك من قال : إن رفع الجبل فوقهم لا ينطوي على إرهاب وتخويف أو إكراه ، لأن أخذ الميثاق بالإكراه لا قيمة له.

والأصح أن نقول : لا مانع من إرغام الأفراد المعاندين المتمردين على الرضوخ للحق بالقوّة. وهذا الإرغام مؤقت هدفه كسر أنفتهم وعنادهم وغرورهم ، ومن ثم دفعهم للفكر الصحيح ، كي يؤدوا واجباتهم بعد ذلك عن إرادة وإختيار.

على أي حال ، هذا الميثاق يرتبط بالمسائل العملية ، لا بالجانب الاعتقادي ، فالمعتقدات لا يمكن تغييرها بالإكراه.

٤ ـ جبل الطّور

اختلف المفسرون في المقصود من جبل «الطّور» ، منهم من قال : إنه نفس

__________________

(١) مجمع البيان وتفاسير اخرى ، ذيل الآية ١٧١ من سورة الأعراف.

(٢) المنار ، في تفسير الآية المذكورة.

٢٦٠