الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

سنرى ـ يربّي الإنسان ، ويصلح الأفراد المذنبين ، ويبعث فيهم الصحوة واليقظة.و لشفاعة في الإسلام لها هذا المفهوم السامي.

وسنرى أن كل الاعتراضات والانتقادات والحملات التي توجه إلى مسألة الشفاعة ، إنما تنطلق من فهم الشفاعة بالمعنى الأوّلي المنحرف ، ولا تلتفت إلى المعنى الثاني المنطقي المعقول البنّاء.

هذا تفسير مقتضب للونين من ألوان الشفاعة : أحد هما «تخديري» ، والآخر «بنّاء».

* * *

٢ ـ الشّفاعة في عالم التكوين

التّفسير الصحيح والمنطقي للشفاعة ـ بالمفهوم الذي مرّ بنا ـ له مصاديق كثيرة في عالم التكوين والخلقة ، (إضافة إلى عالم التشريع). الطاقات الأقوى في هذا العالم تنضم إلى الأضعف منها لتسيّرها نحو أهداف بنّاءة.

الشمس تشرق والأمطار تتساقط ، لتفجّر القوّة الكامنة في البذرة لتحركها نحو الإنبات ، ونحو شقّ جسم التربة والخروج إلى الفضاء الذي استمدت البذرة منه طاقات النموّ والتكامل.

هذه الظواهر هي في الحقيقة شفاعة تكوينية على صعيد قيامة الحياة الدنيا.ولو انطلقنا من هذه النماذج الكونية في الشفاعة لفهم الشفاعة على صعيد التشريع ، لابتعدنا عن الانحراف ، وسنوضح ذلك قريبا.

* * *

٣ ـ مستندات الشفاعة :

القرآن الكريم تحدث في ثلاثين موضعا عن مسألة «الشفاعة» (بهذا اللفظ) ،

٢٠١

وهناك إشارات اخرى إلى هذه المسألة دون ذكر لفظها.

يمكن تقسيم آيات الشفاعة في القرآن إلى المجموعات التالية.

المجموعة الاولى : ايات ترفض الشفاعة بشكل مطلق كقوله تعالى : (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ) (١) ، وكقوله تعالى :(وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) (٢).

هذه الآيات رفضت كل الطرق المتصورة لانقاذ المجرمين غير الإيمان والعمل الصالح،سواء كان طريق دفع العوض المادي ، أو طريق الصداقة والخلة ، أو طريق الشفاعة.

ويقول تعالى بشأن بعض المجرمين : (فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ) (٣).

المجموعة الثانية : آيات تحصر الشفاعة بالله تعالى ، كقوله سبحانه : (ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ) (٤) و (قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً) (٥).

المجموعة الثالثة : آيات تجعل الشفاعة متوقفة على إذن الله تعالى كقوله : (مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ) (٦) ، وقوله (وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) (٧).

المجموعة الرابعة : آيات تبين شروطا خاصة للمشفوع له. هذه الشروط تتمثل أحيانا في رضا لله سبحانه : (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) (٨).

واستنادا إلى هذه الآية ، شفاعة الشفعاء تشمل فقط أولئك الذين بلغوا مرتبة «الارتضاء» أي القبول لدى الله سبحانه وتعالى.

ويتمثل الشرط أحيانا بالعهد عند الله : (لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ

__________________

(١) البقرة ، ٢٥٤.

(٢) البقرة ، ٤٨.

(٣) المدثر ، ٤٨.

(٤) السجدة ، ٤.

(٥) الزمر ، ٤٤.

(٦) البقرة ، ٢٥٥.

(٧) سبأ ، ٢٣.

(٨) الأنبياء ، ٢٨.

٢٠٢

الرَّحْمنِ عَهْداً) (١) ، والمقصود من هذا العهد الإيمان بالله ورسوله.

ويتحدث القرآن عن سلب صلاحية الاستشفاع عن بعض الأفراد مثل المجرمين، كقوله تعالى : (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) (٢).

ممّا تقدم يتضح أن اتخاذ العهد الإلهي ، والوصول إلى منزلة نيل رضا الله ، واجتناب بعض الذنوب مثل الظلم ، شروط حتمية للشفاعة.

* * *

٤ ـ الشّروط المختلفة للشفاعة :

آيات الشفاعة تصرح أن مسألة الشفاعة في مفهوم الإسلام مقيدة بشروط ، هذه الشروط تحدد تارة الخطيئة التي يستشفع المذنب لها ، وتحدّد تارة اخرى الشخص المشفوع له ، كما تقيد من جهة اخرى الشفيع ، وهذه الشروط بمجموعها تكشف عن المفهوم الحقيقي للشفاعة وعن فلسفتها.

ثمة ذنوب كالظلم مثلا خارجة عن دائرة الشفاعة حيث يقول القرآن (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ) كما مرّ ، ولو فهمنا «الظلم» بمعناه الواسع ـ كما سنرى من خلال الأحاديث ـ فان الشفاعة تقتصر حينئذ على المجرمين النادمين السائرين على طريق إصلاح أنفهسم ، والشفاعة في هذه الحالة ستكون دعامة للتوبة وللندم (سنجيب أولئك الذين يتصورون أن التائب النادم لا يحتاج إلى الشفاعة).

كما أن الشفاعة ـ وطبقا للآية ٢٨ من سورة الأنبياء ـ لا تشمل إلّا أولئك المرتقين إلى درجة «الارتضاء» وإلى درجة الالتزام بالعهد الإلهي كما مرّ أيضا في الآية ٨٧ من سورة مريم.

__________________

(١) مريم ، ٨٧.

(٢) غافر ، ١٨.

٢٠٣

الارتضاء ، واتخاذ العهد ، يعنيان على المستوى اللغوي وكذلك ما ورد من الروايات في تفسير هذه الآيات الإيمان بالله والحساب والميزان والثواب والعقاب ، والاعتراف بالحسنات والسيئات ، وبما أنزل الله ، إيمانا عميقا في الفكر ، ظاهرا في العمل ... إيمانا يبعد صاحبه عن صفات الظالمين الذين لا يؤمنون بأية قيمة إنسانية ، ويدفعه إلى إعادة النظر في منهج حياته.

يقول تعالى : (وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّاباً رَحِيماً) (١) ، هذه الآية تجعل الاستغفار مقدمة لشفاعة رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويقول : (قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ ، قالَ : سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) (٢) ، آثار الندم واضحة على إخوة يوسف في طلبهم من أبيهم.

ويقول سبحانه : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) (٣) فاستغفار الملائكة وشفاعتهم تقتصر على الأفراد المؤمنين السالكين سبيل الله.

وهنا يطرح أيضا سؤال بشأن جدوى الشفاعة للأفراد المؤمنين السالكين سبيل الله ، وسنجيب على ذلك في دراسة حقيقة الشفاعة.

وبشأن الشفعاء ذكر القرآن لهم شرطا في قوله تعالى : (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ) (٤). من هنا فالمشفوع له أيضا ينبغي أن يسلك طريق الحق في القول والعمل ، كي يكون له ارتباط بالشفيع ، وهذا الارتباط الضروري بين الشفيع والمشفوع له يعتبر بدوره عاملا بنّاء في تعبئة الطاقات على طريق الحق.

* * *

__________________

(١) النساء ، ٦٤.

(٢) يوسف ، ٩٧ و ٩٨.

(٣) المؤمن ، ٧.

(٤) الزخرف ، ٨٦.

٢٠٤

٥ ـ الشّفاعة في الحديث :

في الروايات الإسلامية تعابير كثيرة تكمل محتوى الآيات المذكورة وتوضّح ما خفي منها ، من ذلك :

١ ـ في تفسير «البرهان» عن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام عن على بن أبي طالب عليه‌السلام قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «شفاعتي لأهل الكبائر من أمّتي...»راوي الحديث ابن أبي عمير يقول : فقلت له : يا بن رسول الله كيف تكون الشّفاعة لأهل الكبائر والله يقول (وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى) ومن يرتكب الكبائر لا يكون مرتضى به؟ فقال : يا أبا أحمد ما من مؤمن يرتكب ذنبا إلّا ساءه ذلك وندم عليه وقد قال النّبيّصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كفى بالندم توبة ... ومن لم يندم على ذنب يرتكبه فليس بمؤمن ولم تجب له الشّفاعة وكان ظالما والله تعالى ذكره يقول (ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ)(١)

صدر الحديث يتضمن أن الشفاعة تشمل مرتكبي الكبائر. لكن ذيل الحديث يوضح أن الشرط الأساسي في قبول الشفاعة هو الإيمان الذي يدفع المجرم إلى مرحلة الندم وجبران ما فات ، ويبعده عن الظلم والطغيان والعصيان. (تأمل بدقة).

٢ ـ في كتاب «الكافي» عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه‌السلام في رسالة كتبها إلى أصحابه قال : «من سرّه أن ينفعه شفاعة الشّافعين عند الله فليطلب إلى الله أن يرضى عنه»(٢)

يتبين من سياق الرواية ، أن كلام الإمام يستهدف إصلاح الخطأ الذي وقع فيه بعض أصحاب الإمام في فهم مسألة الشفاعة : ويرفض بصراحة مفهوم الشفاعة الخاطئ المشجع على ارتكاب الذنوب.

٣ ـ وعن الصادق عليه‌السلام أيضا : «إذا كان يوم القيامة بعث الله العالم والعابد ، فإذا وقفا بين يدي الله عزوجل قيل للعابد : انطلق إلى الجنّة ، وقيل للعالم : قف تشفع للنّاس بحسن

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ٣ ، ص ٥٧.

(٢) عن بحار الأنوار ، ج ٣ ، ص ٣٠٤ الطبعة القديمة.

٢٠٥

تأديبك لهم» (١).

في هذا الحديث نجد ارتباطا بين «تأديب العالم» و «شفاعته لمن أدّبهم» وهذا الارتباط يوضّح كثيرا من المسائل المبهمة في بحثنا هذا.

أضف إلى ما سبق أن في اختصاص الشفاعة بالعالم وسلبها من العابد ، دلالة اخرى على أن الشفاعة في المفهوم الإسلامي ليست معاملة وعقدا وتلاعبا بالموازين ، بل مدرسة للتربية ، وتجسيد لما مرّ به الفرد من مراحل تربوية في هذا العالم.

* * *

٦ ـ التّأثير المعنوي للشّفاعة :

ما ذكرناه من روايات بشأن الشفاعة هو غيض من فيض ، فالروايات في هذا المجال كثيرة تبلغ حدّ التواتر ، وإنما اخترنا منها ما يتناسب مع بحثنا.

النووي الشافعي (٢) في شرحه لصحيح مسلم ، نقل عن القاضي عياض ـ وهو من كبار علماء أهل السنة ، ـ أنّ أحاديث الشفاعة متواترة (٣).

ابن تيمية (المتوفى ٧٢٨ ه‍) ومحمّد بن عبد الوهّاب (المتوفى ١٢٠٦ ه‍) ، مع ما لهما من تعصّب ولجاج في مثل هذه الأمور ، يقرّان بتواتر هذه الروايات.

ثمة كتاب دراسي معروف ومتداول بين «الوهّابية» هو «فتح المجيد» للشيخ عبد الرحمن بن حسن ، ينقل عن «ابن القيم» ما يلي :

«الرابع : شفاعته في العصاة من أهل التوحيد الذين يدخلون النار بذنوبهم.والأحاديث بها متواترة عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد أجمع عليها الصحابة وأهل السنة

__________________

(١) الإختصاص ، للمفيد ، نقلا عن البحار ، ج ٣ ، ص ٣٠٥.

(٢) هو يحيى بن شرف ، من علماء القرن السابع الهجري ، والنووي نسبة إلى مدينة «النوى» قرب دمشق.

(٣) البحار ، ج ٣ ، ص ٣٠٧.

٢٠٦

قاطبة وبدعوا من أنكرها وصاحوا به من كل جانب ونادوا عليه بالضلال» (١).

وقبل أن ندرس الآثار الاجتماعية والنفسية لمسألة الشفاعة والاشكاليات الأربع حول فلسفة الشفاعة ، نلقي نظرة على الآثار المعنوية لهذه المسألة في إطار آراء الموحّدين المؤمنين بالشفاعة ، فمثل هذه النظرة تمهّد السبيل لدراستنا القادمة في حقل الشفاعة ومعطياتها الاجتماعية والنفسية. (٢)

 اختلف علماء العقائد المسلمون في كيفية التأثير المعنوي للشفاعة. فقال جمع يسمون «الوعيدية» ، وهم المؤمنون بخلود مرتكبي الكبائر في جهنم : إن الشفاعة ليس لها أثر على إزالة آثار الذنوب ، بل تأثيرها يقتصر على زيادة الثواب وعلى التكامل المعنوي.

و «التفضيلية» وهم من يعتقد بعدم خلود مرتكبي الكبائر في جهنم ، فيذهبون إلى أن الشفاعة تشمل المذنبين ، وتؤثر في إسقاط العقاب عنهم.

أما «الخواجة نصير الدين الطوسي رحمه‌الله» فيؤيد كلا الأمرين في كتابه «تجريد الاعتقاد» ويرى وجود كلا الأثرين للشفاعة.

«العلّامة الحلي رحمه‌الله» شرح عبارة الطوسي في كتابه «كشف المراد» ولم يردّ عليها بل أورد شواهد عليها.

لو أخذنا بنظر الاعتبار ما مرّ بنا بشأن معنى الشفاعة لغويا ومقارنتها بالشفاعة التكوينيّة ، لما ترددنا في صحة ما ذهب إليه المحقق الطوسي.

فمن جهة ، ثمة رواية معروفة عن الإمام الصادق عليه‌السلام هي : «ما من أحد من الأوّلين والآخرين إلّا وهو محتاج إلى شفاعة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم القيامة» (٣).

واستنادا إلى هذه الرواية ، يحتاج إلى الشفاعة كل النّاس ، حتى التائبون

__________________

(١) فتح المجيد ، ص ٢١١.

(٢) ينبغي الالتفات إلى أننا نعالج هذه المسألة من خلال المنطق الخاص لعلماء العقائد.

(٣) نقلا عن البحار وكتب اخرى.

٢٠٧

المغفور لهم ، وفي مثل هذه الحالة لا بدّ أن تكون الشفاعة ذات تأثيرين ، في الحطّ من الذنوب ، وفي علوّ المنزلة.

أما الروايات التي تذهب إلى عدم حاجة الصالحين للشفاعة فهي تنفي ذلك النوع من الشفاعة الخاص بالمجرمين والمذنبين.

ومن جهة اخرى ذكرنا أن الشفاعة تعني انضمام الفرد الأشرف والأقوى إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف ، وهذه المساعدة قد تكون لزيادة نقاط القوّة ، وقد تكون لإزالة نقاط الضعف.

في الشفاعة التكوينية نشهد هذين اللونين من الشاعة في مسيرة حركة التكامل والنمو، فإنّ الكائنات الأضعف تحتاج إلى عوامل أقوى لإزالة عوامل التخريب تارة (كحاجة النباتات إلى نور الشمس لإبادة الآفات) ، وتارة اخرى لزيادة نقاط القوّة وسرعة التطور (كحاجة النباتات إلى نور الشمس من أجل النموّ) ، وهكذا الطالب يحتاج إلى الأستاذ لإصلاح أخطائه من جهة ، ولزيادة معلوماته من جهة اخرى.

كل ذلك يدلّ على أن للشفاعة أثرين ، ولا تقتصر على دائرة إزالة آثار الذنب والإثم (تأمل بدقّة).

ممّا تقدم نفهم أن التائبين بحاجة أيضا إلى الشفاعة مع علمنا بأن التوبة وحدها كافية لغفران الذنوب ، وذلك لسببين :

١ ـ التائبون بحاجة إلى الشفاعة لزيادة مكانتهم المعنوية ، ولتقدمهم في مضمار التكامل والارتقاء ، وان كان الغفران يتحقق بالتوبة.

٢ ـ ثمة خطأ وقع فيه كثيرون في فهم التوبة ، إذ تصوروا أنّ التوبة من الذنب قادرة على إرجاع الإنسان إلى حالة ما قبل ارتكاب الذنب ، بينما التوبة ليست ـ كما ذكرنا في موضعه ـ سوى مرحلة أولى ، إنها كالدواء الذي يقطع عوارض المرض ، وانقطاع العوارض لا يعني عودة الإنسان إلى حالته الطبيعية ، بل يعني انتقاله إلى

٢٠٨

حالة نقاهة يحتاج خلالها إلى تقوية بنيته الجسمية ، ليعود بعد مدة إلى مرحلة ما قبل المرض.

بعبارة اخرى ، للتوبة مراحل ، والندم على الذنب والعزم على التطهر في المستقبل هو المرحلة الاولى للتوبة. والمرحلة النهائية تتحق حين يعود التائب إلى حالة ما قبل الذنب من كل النواحي. وفي هذه المرحلة تكون شفاعة الشافعين ذات أثر وعطاء.

أفضل شاهد على هذا ما ورد في القرآن وذكرناه من قبل بشأن استغفار الرّسولصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للتائبين ، وتوبة إخوة يوسف واستغفار يعقوب لهم ، وأوضح من كل ذلك استغفار الملائكة للصالحين والمصلحين الوارد في الآيات المذكورة آنفا. (تأمل بدقّة)!.

٧ ـ فلسفة الشّفاعة

مرّ بنا فيما سبق «مفهوم» الشّفاعة و «أسانيدها» ، ونستطيع من ذلك أن نفهم بسهولة فلسفة الشفاعة على الصعيد الاجتماعي والنفسي.

وبشكل عام وانطلاقا من مفهوم الشفاعة نستطيع أن نتلمس الآثار التالية في المؤمنين بالشفاعة.

«مكافحة روح اليأس» من أهم آثار الشفاعة في نفس المعتقدين بها. مرتكبو الجرائم الكبيرة يعانون من وخز الضمير ، كما يشعرون بيأس من عفو الله ، ولذلك لا يفكّرون بالعودة ولا بإعادة النظر في طريقة حياتهم الآثمة. وقد يدفعهم المستقبل المظلم إلى التعنت والطغيان ، وإلى التحلل من كل قيد تماما ، كالمريض اليائس من الشفاء الذي يتحلل من أي نظام غذائي ، لاعتقاده بعدم جدوى التقيد بنظام.

قلق الضمير الناتج عن هذه الجرائم قد يؤدي إلى اختلالات نفسية ، وإلى تحفيز الشعور بالانتقام من المجتمع الباعث على تلوّثه. وبذلك يتبدل المذنب إلى

٢٠٩

عنصر خطر ، وإلى مصدر قلق اجتماعي.

الإيمان بالشفاعة يفتح أمام الإنسان نافذة نحو النور ، ويبعث فيه الأمل بالعفو والصفح ، وهذا الأمل يجعله يسيطر على نفسه ، يعيد النظر في مسيرة حياته ، بل ويشجعه على تلافي سيئات الماضي.

والإيمان بالشفاعة يحافظ على التعادل النفسي والروحي للمذنب ، ويفسح الطريق أمامه إلى أن يتبدل إلى عنصر سالم صالح.

من هنا يمكن القول أن الاهتمام بالشفاعة بمعناها الصحيح عامل رادع بنّاء ، قادر أن يجعل من الفرد المجرم المذنب فردا صالحا. وانطلاقا من هذا الفهم نجد أن مختلف قوانين العالم وضعت فسحة أمل أمام المحكومين بالسجن المؤبّد باحتمال العفو بعد مدة إن أصلحوا أنفسهم ، كي لا يتسرب اليأس إلى نفوسهم بذلك ويتبدّلوا إلى عناصر خطرة داخل السجن أو يصابون باختلالات نفسية.

* * *

٨ ـ شروط «توفّر الشّفاعة»

الشفاعة بمعناها الصّحيح لها قيود وشروط متعددة الجوانب ، كما ذكرنا. من هنا فالمؤمنون بهذا المبدأ لا بدّ أن يسعوا لتوفير شروط الشّفاعة كي يشملهم عطاؤها ، وأن يجتنبوا الذنوب التي تقضي على كل أمل في الشفاعة كالظلم ، وأن يستأنفوا حياة جديدة قائمة على أساس تغيير عميق في أنفسهم وأن يتوبوا من الذنب أو يهمّوا بالتوبة على الأقل من أجل بلوغ درجة «الارتضاء» واتخاذ «العهد الإلهي» (بالتّفسير المذكور).

عليهم أن يكفوا عن مخالفة الأحكام والقوانين الإلهية ، أو يقللوا من هذه المخالفة ما أمكنهم ، ويعمقوا في أنفسهم الإيمان بالله واليوم الآخر.

من جهة اخرى لا بدّ لنيل شفاعة «الشفيع» ، أن يسعى الفرد لإيجاد نوع من

٢١٠

التشابه والسنخية وإن كان ضعيفا بينه وبين الشفيع.

وكما أن «الشّفاعة التّكوينية» لا تتمّ إلّا بوجود نوع من السّنخية والتسليم والاستعداد في الموجود الأضعف ، كذلك الشفاعة التشريعية لا تتحقق إلّا بتوفر مثل هذه القابليّات ، (تأمل بدقّة).

وبهذا يتضح بجلاء أن الشفاعة بمعناها الصحيح لها دور فعّال في تغيير وضع المجرمين وإصلاحهم.

* * *

٩ ـ شبهات حول مسألة الشفاعة

ذكرنا أن بين «الشفاعة» في مفهومها المنحرف و «الشفاعة» في مفهومها الإسلامي الصحيح بونا شاسعا. المفهوم الأوّل يقوم على أساس تغيير وجهة نظر «المستشفع» ، والآخر يدور حول محور التغييرات المختلفة في وضع المستشفع له.

واضح أن الشفاعة بمفهومها الأول مرفوضة لأنها تقتل روح السعي والمثابرة في النفوس... وتشجع على ارتكاب الذنوب ... وتعتبر انعكاسا عن المجتمعات المتخلفة والإقطاعية ... وتتضمن أكثر من ذلك نوعا من الشرك والانحراف عن خط التوحيد.

لا شك أن الإنسان المسلم يبتعد عن خط التوحيد لو اعتقد بإمكان تقديم «وساطة» إلى الله كما تقدم «الوساطات» ، إلى أصحاب النفوذ في هذه الدنيا. لأن مثل هذا الفرد قد اعتقد بشكل غير مباشر بإمكان تغيير علم الله! وبإمكان خفاء أمر من أمور «المستشفع» على الله! أو بوجود مصدر يمكن أن يطفئ الإنسان به غضب الله أو يكسب به ودّه ورضاه! ، أو بحاجة الله إلى مكانة بعض عباده وبسبب احتياجه إليهم يقبل شفاعتهم. أو أنه تعالى يقبل شفاعتهم بسبب خوفه من

٢١١

نفوذهم!! تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.

كل هذه المعاني تبعدنا من أصل التوحيد وتؤدي بنا إلى السقوط في وادي الشرك...إنها المفهوم السلبي للشفاعة والسائد لدى العرف العام.

أما الشفاعة بمعناها الصحيح الذي ذكرناه ، فلا تنطوي على هذه العيوب ، بل إنها أكثر من ذلك تصلح العيوب ، وتعمّق النقاط الإيجابية في الكائن البشري.

هذا النوع من الشفاعة لا يشجع على ارتكاب الذنب ، بل يدفع إلى ترك الذنوب.

لا يدعو إلى التقاعس والتماهل ، بل يبعث في الإنسان روح الأمل التي يستتبعها عادة تصعيد الإرادة لتلافي أخطاء الماضي.

هذه الشفاعة لا ترتبط بالمجتمعات المتخلّفة ، بل هي وسيلة تربوية فعّالة لإصلاح المجرمين والمذنبين والمعتدين.

ليست هذه الشفاعة بشرك ، بل هي عين التوحيد والتأكيد على التوجه إلى الله والاستمداد من صفاته وإذنه وأمره.

ولمزيد من التوضيح نتحدث أكثر عن مسألة الشفاعة والتوحيد.

١٠ ـ الشّفاعة والتّوحيد

الفهم الخاطئ لمسألة الشّفاعة آثار اعتراض فئتين على ما بينهما من تضاد.

الفئة الاولى : اعترضت على الشفاعة من منطلق مادي واعتبرتها عاملا للتخدير ولإماتة روح السّعي والمثابرة ، وقد أجبنا على اعتراضات هذه الفئة فيما سبق.

الفئة الاخرى : اعترضت على الشفاعة من منطلق السلفية ، واعتبرتها شركا وانحرافا عن خط التوحيد ، ويمثل هذه الفئة «الوهّابيون» ومن لفّ لفّهم. والإجابة على اعتراضات الوهّابيين وإن كانت تحتاج إلى إطالة وخروج عن طريقة التّفسير

٢١٢

إلّا أنها ضرورية لأسباب عديدة.

لا بد من الالتفات أولا إلى أن الحركة الوهّابيّة ، التي ظهرت خلال القرنين الأخيرين في الجزيرة العربية على يد «محمّد بن عبد الوهّاب» لم تتجه في أفكارها المتطرفة الجافة إلى معارضة مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام فقط ، بل اصطدمت بمعظم المسلمين من أهل السنة أيضا.

محمّد بن عبد الوهاب (المتوفّى ١٢٠٦ ه‍) استقى أفكاره من «ابن تيمية» (أحمد بن عبد الحليم الدمشقي المتوفى سنة ٧٢٨ ه‍) ، أي قبل أربعة قرون تقريبا من ظهور الوهّابية، ويعتبر المنظّر لهذه الحركة.

استطاع عبد الوهّاب خلال الأعوام (١١٦٠ ـ ١٢٠٦ ه‍) بالتعاون مع الحكام المحليين أن ينشر دعوته بين القبائل البدوية المتنقّلة في الجزيرة العربية ويبثّ فيهم تعصبا أعمى باسم الدفاع عن التوحيد ومكافحة الشرك ، وعبّد البدو والمتعصبين من أتباعه على طريق قمع معارضيه ، واستطاع بذلك أن يكتسب قدرة سياسية ويسيطر بشكل مباشر وغير مباشر على الحكم ، وأراق من أجل ذلك دماة كثيرة من المسلمين في أرض الجزيرة العربية وخارجها.

في سنة ١٢١٦ ه‍ (عشر سنوات بعد وفاة مؤسس الحركة الوهّابية) هاجمت جماعة من الوهّابيين مدينة كربلاء قادمة من صحراء الجزيرة العربية ، واستغلوا فرصة سفر أهالي المدينة إلى النجف الأشرف بمناسبة عيد الغدير ، فدخلوا المدينة وقاموا بتخريب وهدم مرقد سيد الشهداء الحسين بن علي عليه‌السلام وسائر المراقد الشريفة في هذه المدينة ، ونهبوا ما فيها من أبواب ذهبية ونفائس ، وقتلوا ما يقرب من خمسين شخصا عند ضريح الحسين ، وخمسمائة شخص في صحن الروضة المشرفة ، كما قتلوا أعدادا كبيرة في سائر أنحاء المدينة ، حتى بلغ عدد المقتولين في ذلك الهجوم الوهابي خمسة آلاف إنسان ، ولم يسلم منهم حتى الشيوخ والعجائز والأطفال ، كما نهبوا كثيرا من البيوت.

٢١٣

في عام ١٣٤٤ أفتى فقهاء المدينة الخاضعون لجهاز الحكم الوهابي بهدم قبور أئمّة الإسلام وأولياء الله الصالحين ، ونفذت هذه الفتوى في اليوم الثامن من شوّال من السنة المذكورة ، وهمّ المنفذون أن يهدموا قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضا ، لو لا تراجعهم أمام صيحات اعتراض المسلمين.

أتباع محمّد بن عبد الوهاب يتميزون على العموم بالخشونة والتصلّب والسطحية واللجاج والبعد عن المنطق والتعقّل وقد حصروا الإسلام ـ عمدا أو غفلة ـ في إطار مكافحة عدد من الظواهر كالشفاعة وزيارة القبور والتوسل ، وبذلك أبعدوا أتباعهم ومن خضع لسيطرتهم عن المسائل الإسلامية الحياتية ، وخاصة فيما يرتبط بالعدالة الاجتماعية ، ومكافحة السيطرة الاستعمارية ، والتصدي للثقافة الماديّة وللمدارس الإلحادية.

لذلك لا تجد في أوساط الوهابيين حديثا عن هذه المسائل ، بل تسود أجواءهم حالة فظيعة من الغفلة والركود.

نعود إلى رأي هذه الفئة بشأن الشفاعة ، هؤلاء يقولون : لا يحق لأحد أن يستشفع برسول الله ، وأن يقول : «يا محمّد اشفع لي عند الله» لأن الله سبحانه يقول :(وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) (١).

وفي رسالة «كشف الشبهات» لمحمّد بن عبد الوهاب نقرأ ما يلي :

«فإن قال أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى الشفاعة وأطلبه ممّا أعطاه الله. فالجواب أن الله أعطاه الشفاعة ونهاك عن هذا وقال : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) وأيضا فإن الشفاعة أعطاها غير النّبي ، فصح أن الملائكة يشفعون والأولياء يشفعون ...أتقول أن الله أعطاهم الشفاعة فاطلبها منهم؟ فإن قلت هذا رجعت إلى عبادة الصالحين» (٢).

__________________

(١) الجن ، ١٨.

(٢) كشف الشبهات لمحمّد بن عبد الوهاب ، نقلا عن رسالة البراهين الجلية ، ص ١٧.

٢١٤

ويقول محمّد بن عبد الوهاب في رسالة أربع قواعد ما حاصله : إن الخلاص من الشرك يكون بمعرفة أربع قواعد.

الأولى : انّ الكفار الذين قاتلهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مقرّون بأن الله تعالى هو الخالق الرازق المدبر ... لقوله تعالى : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ) ... (١).

الثّانية : إنّهم يقولون ما دعونا الأصنام وتوجهنا إليهم إلّا لطلب القرب والشفاعة (... وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (٢).

الثّالثة : إنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ظهر على قوم متفرقين في عبادتهم ، فبعضهم يعبد الملائكة ، وبعضهم الأنبياء الصالحين ، وبعضهم الأشجار والأحجار ، وبعضهم الشمس والقمر ، فقاتلهم ولم يفرق بينهم.

الرّابعة : إن مشركي زماننا أغلظ شركا من الأولين ، لأن أولئك يشركون في الرخاء ويخلصون في الشدة ، هؤلاء شركهم في الحالتين لقوله تعالى : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ) ... (٣) (٤).

ومن العجيب أن الوهابيين تبلغ بهم الجرأة في تكفير المسلمين بحيث يبيحون نهب أموال المسلم وسفك دمه بسهولة ، وقد فعلوا ذلك في تاريخهم مرارا.

يقول الشيخ «سليمان بن لحمان» في كتابه «الهدية السنية» : «إن الكتاب والسنّة دلّا على أن من جعل الملائكة والأنبياء أو ابن عباس أو أبا طالب أو ... وسائط بينهم وبين الله ليشفعوا لهم عند الله لأجل قربهم إلى الله ـ كما يفعل عند الملوك ـ إنه كافر مشرك حلال الدم والمال! وان قال أشهد أن لا إله إلّا الله وأشهد أن محمّدا رسول الله وصلّى وصام»!!(٥).

__________________

(١) يونس ، ٣١.

(٢) يونس ، ١٨.

(٣) العنكبوت ، ٦٥.

(٤) رسالة أربع قواعد ، ص ٢٤ ـ ٢٧ طبع المنار بمصر (نقلا عن كتاب كشف الارتياب ، ص ١٦٣).

(٥) الهدية السنية ، ص ٦٦ (نقلا عن البراهين الجليّة ، ص ٨٣).

٢١٥

ومع هذا الإفتاء يتضح حال المسلمين في جميع أقطار العالم الإسلامي الذين يستشفعون بهم ، اقتداء بكتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

روح البطش والسفك واللجاجة في هؤلاء لا تخفى على أحد ، وهكذا جهلهم بالمسائل الإسلامية والقرآنية.

* * *

نظرة على منطق الوهّابيين في حقل الشفاعة

وهكذا يظهر ممّا نقلنا عن مؤسس الحركة الوهّابية «محمّد بن عبد الوهّاب» أنّ اتّهام الوهّابيين بالشرك للمؤمنين بالشفاعة يستند إلى مسألتين :

١ ـ التشابه بين المؤمنين بشفاعة الأنبياء والصالحين ، وبين المشركين في عصر الجاهلية.

٢ ـ نهي القرآن عن عبادة غير الله وعن دعوة فرد مع الله : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً)(١) ، والاستشفاع نوع من العبادة.

بالنسبة للمسألة الاولى ، ارتكب الوهّابية خطأ فظيعا ، وذلك للأسباب التالية :

أوّلا : القرآن أقرّ منزلة الشفاعة بصراحة لجمع من الأنبياء والصالحين والملائكة كما مرّ، لكنه قيّدها بإذن الله. وليس من المعقول إطلاقا أن يكون الله قد نهى عن الاستشفاع المشروط بإذن الله بمن قد منحهم هو سبحانه هذه المنزلة.

وصرّح القرآن بطلب إخوة يوسف من أبيهم أن يستغفر لهم ، وهكذا صرّح بطلب الصحابة إلى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يستغفر لهم أيضا.

أليست هذه من المصاديق الواضحة لطلب الشفاعة؟! إن الاستشفاع برسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعبارة : «اشفع لنا عند الله» هي نفسها عبارة إخوة يوسف إذ قالوا لأبيهم :

__________________

(١) الجن ، ١٨.

٢١٦

(يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا) (١) كيف يجرأ هؤلاء على إلقاء تهمة الشرك على من يؤمن بما يصرّح به القرآن ، بل ويستبيحون دمه وماله؟!

لو كان هذا العمل شركا ، فلم لم ينه يعقوب بنيه عن ذلك.

ثانيا : لا يوجد أدنى شبه بين «عبدة الأصنام» و «الموحّدين المؤمنين بالشفاعة بإذن الله» ، لأن الوثنيين كانوا يعبدون الأصنام ويتخذونها شفعاء ، بينما المسلمون المؤمنون بالشفاعة لا تخطر في ذهنهم عبادة الشفعاء ، بل يستشفعون بهم إلى الله ، وطلب الشفاعة لا ارتباط له بمسألة العبادة كما سنبيّن.

عبدة الأصنام كانوا يتعجبون من عبادة الإله الواحد الأحد : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٢).

الوثنيون كانوا يجعلون الوثن في منزلة الله : (تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (٣).

الوثنيون كانوا يعتقدون بتأثير الأوثان على حياتهم ومصيرهم ووجودهم ، كما تذكر كتب التاريخ ، والمسلمون المؤمنون بالشفاعة يعتقدون بانفراد الله في التأثير ، ولا يرون لموجود آخر غير الله استقلالا في التأثير.والمقارنة بين الرؤيتين مقارنة جاهلة مجافية للمنطق.

أما بشأن المسألة الثانية ، علينا أوّلا أن نفهم معنى «العبادة» لو فسّرنا العبادة بأنها كل لون من ألوان الخضوع والاحترام ، لكان ذلك يعني حرمة الاحترام والخضوع لأحد غير الله ، وهذا ما لا يقرّه مسلم. ولو فسّرنا العبادة أنها كل ألوان الطلب ، فهذا يعني أن التقدم بالطلب من أية جهة هو شرك ، وهذا يخالف ضروريات العقل والدين. كما أن العبادة لا يمكن فهمها على أنها كل لون من ألوان اتباع فرد لفرد آخر ، فاتباع الأفراد لمسؤوليهم ورؤسائهم في المؤسسات

__________________

(١) يوسف ، ٩٧.

(٢) ص ، ٥.

(٣) الشعراء ، ٩٧ و ٩٨.

٢١٧

والتنظيمات الاجتماعية من أولى ضروريات الحياة البشرية ، كما أن اتّباع الأنبياء وأئمّة الدين من الواجبات الحتمية للمتدينين.

من هنا فالعبادة لا تعني كل ذلك ، بل هي الحدّ الأعلى للخضوع والتواضع المعبّرين عن الارتباط المطلق والتسليم بلا منازع للمعبود ، وإيكال كل عواقب الأمور إليه.

وهل في طلب الشفاعة من الشفعاء أثر من الآثار المذكورة للعبادة.

أمّا بشأن النهي عن دعوة أحد سوى الله ، فلا يعني النهي عن نداء الأفراد ، كأن نقول يا عليّ ويا حسن ويا أحمد ، ولا يعني النهي عن الاستعانة بالأفراد ، لأن التعاون أحد الأركان الأساسية للحياة الاجتماعية وقد عمل به الأنبياء والأولياء كافة ، ولم يرفضه الوهابيون أنفسهم.

أمّا الأمر الذي يمكن الاعتراض عليه فهو ما أوضحه «ابن تيمية» في رسالة «زيارة القبور» إذ قال ما حاصله : «مطلوب العبد إن كان ممّا لا يقدر عليه إلّا الله فسائله من المخلوق مشرك من جنس عباد الملائكة والتماثيل ومن اتّخذ المسيح وأمه إلهين ، مثل أن يقول لمخلوق حي أو ميت : اغفر ذنبي أو انصرني على عدوي أو اشف مريضي أو عافني أو عاف أهلي أو دابتي ، أو يطلب منه وفاء دينه من غير جهة معينة أو غير ذلك.

وإن كان ممّا يقدر عليه العبد فيجوز طلبه منه في حال دون حال ، فان مسألة المخلوق قد تكون جائزة وقد تكون منهيا عنها قال الله تعالى : (فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلىرَبِّكَ فَارْغَبْ) وأوصى النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ابن عباس : إذا سألت فاسئل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله. وأوصى طائفة من أصحابه أن لا يسألوا النّاس شيئا ، فكان سوط أحدهم يسقط من كفه فلا يقول لأحد ناولني إياه. وقال : فهذه المنهي

٢١٨

عنها والجائزة طلب دعاء المؤمن لأخيه» (١).

نحن أيضا نقول : من الشرك أن يطلب الإنسان من أحد شيئا يختص به الخالق ، ومن الشرك أن يتجه الإنسان في ذلك الطلب إلى فرد يعتبره قادرا بشكل مستقل عن تلبية ذلك الطلب. أما إذا طلب الإنسان من أحد شفاعة منحها له الله ، فما ذلك بشرك ، بل هو عين الإيمان والتوحيد ، ويشهد على ذلك كلمة «مع» في قوله تعال : (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَداً) التي تفيد أن المنهي عنه هو دعوة شخص نعتبره في منزلة الله ، ونعتبره مصدرا مستقلا في التأثير. (تأمل بدقّة).

هدفنا من التأكيد على هذا الموضوع ، هو أن ما اعتراه من مسخ وتحريف وفّر الفرصة لأعداء الدين كي يطعنوا في المقدسات الدينية ، كما أدّى إلى ظهور تفسيرات واستنتاجات خاطئة لدى بعض المجموعات الإسلامية ، ممّا جرّ بدوره إلى تفرقة صفوف المسلمين.

والفهم الصحيح للشفاعة يؤدي كما رأينا إلى سموّ أخلاق المجتمع وتكاملها.وإلى إصلاح الأفراد الفاسدين ، كما يؤدي إليه قطع دابر الطعانين ، وإلى إحلال الوحدة بين المسلمين.

نأمل من العلماء والمفكرين الإسلاميين أن يتعمّقوا في تحليل هذه المسألة قرآنيا ومنطقيا ، كي يسدّوا الطريق أمام طعن أعداء الإسلام ويساهموا في رصّ الصفوف.

* * *

__________________

(١) زيارة أهل القبور ، ص ١٥٢ ، نقلا عن كشف الارتياب ، ص ٢٦٨.

٢١٩

الآية

(وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (٤٩))

التّفسير

نعمة الحرية

في هذه الآية إشارة إلى نعمة كبيرة اخرى ، منّ بها الله سبحانه على بني إسرائيل ، وهي نعمة تحريرهم من براثن الظالمين : (وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ، يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ).

القرآن يعبّر عن العذاب الذي أنزله فرعون ببني إسرائيل بفعل (يَسُومُونَكُمْ) من «سام» التي تعني في الأصل الذهاب في ابتغاء الشيء ، واستعمال هذا الفعل بصيغة المضارع يشير إلى استمرار العذاب ، وإلى أن بني إسرائيل كانوا دوما تحت التعذيب من قبل الفراعنة.

والقرآن عبّر بكلمة «البلاء» عمّا كان ينزل ببني إسرائيل من عذاب يتمثل في قتل الذكور واستخدام الإناث لخدمة آل فرعون ، واستثمار طاقات بني إسرائيل

٢٢٠