الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

وبندان ذكرا في الآية الكريمة :

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي ، وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) ... (١).

وهما : الإيمان بالأنبياء ومؤازرتهم.

كان بنو إسرائيل قد وعدوا بالنعيم إن وفوا بعهودهم ، (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) لكنهم نقضوا الميثاق ، ولا يزالون حتى اليوم ينقضونه.

وكان نتيجة ذلك التشتيت والتشريد ، وسيبقون كذلك ما داموا ناكثين. وإذا رأينا لهم يوما جولة وضجيجا بفضل الدعم الاستكباري لهم ، فإن هذه الجولة سرعان ما ستخبو إن شاء الله أمام صولة أبناء الإسلام ... وها نحن نرى في الأفق بوادر الصحوة الإسلامية التي تدفع بالشباب أن يتخلوا عن المدارس الفكرية المنحرفة والاتجاهات القومية والعنصرية الكافرة ويقضوا على هذا الضجيج.

* * *

٣ ـ وفاء الله بعهده

نعم الله تستتبعها دوما قيود وشروط ، وإلى جانب كل نعمة ، مسئولية وشرط.

عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام في قوله الله عزوجل : (أَوْفُوا بِعَهْدِي) قال:قال بولاية أمير المؤمنين عليه‌السلام «أوف بعهدكم أوف لكم بالجنّة» (٢).

ولا عجب إن ورد الإيمان بولاية علي عليه‌السلام في هذا الحديث ، باعتباره جزءا من العهد. لأن الإيمان بالأنبياء ومؤازرتهم ، من بنود العهد مع بني إسرائيل ، ويستتبع ذلك الإيمان بخلفاء الأنبياء باعتبارهم امتدادا لمسألة القيادة والولاية وهذه المسألة ينبغي تحققها بشكل يتناسب مع زمانها. موسى عليه‌السلام في زمانه كان

__________________

(١) المائدة ، ١٢.

(٢) تفسير نور الثقلين ، المجلد الأول الصفحة ٧٢.

١٨١

يتولى مسئولية القيادة والولاية ، والرّسول الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الذي كان يتولى هذه المسؤولية في عصره ، ثم تولّاها في زمن تال علي بن أبي طالب عليه‌السلام.

جملة (إِيَّايَ فَارْهَبُونِ) تأكيد على كسر كل حواجز الخوف القائمة في طريق الوفاء بالعهد الإلهي ، وعلى الخوف من الله وحده دون سواه ، وهذا الحصر يتضح من تقديم ضمير النصب المنفصل «إيّاي» على جملة «فارهبون».

* * *

٤ ـ لماذا سمي اليهود «بني إسرائيل»؟

«إسرائيل» أحد أسماء يعقوب والد يوسف ، وفي سبب تسمية يعقوب بهذا الاسم، ذكر المؤرّخون غير المسلمين عللا ممزوجة بالخرافة.

ورد في «قاموس الكتاب المقدس» : «أن إسرائيل تعني الشخص المنتصر على الله»!!ويقول : «وهذه الكلمة لقّب بها يعقوب بن إسحاق بعد أن صرع الملك الإلهي»

ويقول تحت عنوان «يعقوب» : إنه أثبت مقاومته واستقامته وإيمانه ، وفي هذه الحالة غيّر الله اسمه إلى «إسرائيل» ، ووعده أن يكون أبا لكل الطوائف ... ثم مات بعد أن هرم ، ودفن كما يدفن السلاطين الدنيويون وأطلق اسم يعقوب وإسرائيل على جميع قومه».

ويقول تحت كلمة «إسرائيل» : «لهذا الاسم معان كثيرة ، يقصد به أحيانا نسل إسرائيل ونسل يعقوب» (١).

أمّا علماؤنا كالمفسر المعروف «الطبرسي رحمه‌الله» فيقول في «مجمع البيان» : إن إسرائيل هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه‌السلام وإن «أسر» تعني «العبد» و «ئيل»

__________________

(١) قاموس الكتاب المقدس ، ص ٥٣ و ٩٥٧.

١٨٢

بمعنى الله ، فيكون معنى إسرائيل عبد الله.

واضح أن ما تتحدث عنه التوراة من مصارعة بين يعقوب والملك الإلهي ، أو بين يعقوب والله ، خرافة وسخافة لا تتناسب إطلاقا مع الكتاب الإلهي ، وهي أوضح دليل على تحريف التوراة الموجودة.

* * *

١٨٣

الآيات

(وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (٤١) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٤٢) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))

سبب النّزول

ذكر بعض المفسرين العظام رواية عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام : في سبب نزول هذه الآية قال : «كان حيّ بن أخطب وكعب بن أشرف وآخرون من اليهود ، لهم مأكلة على اليهود في كلّ سنة ، فكرهوا بطلانها بأمر النّبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فحرّفوا لذلك آيات من التّوراة فيها صفته وذكره فذلك الثّمن الّذي أريد في الآية» (١).

التّفسير

جشع اليهود

الآيات المذكورة أعلاه تتطرق إلى تسعة من بنود العهد الذي أخذه الله على

__________________

(١) تفسير مجمع البيان ، المجلد الأول ذيل الآية.

١٨٤

بني إسرائيل.

يقول تعالى : (وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) ، فالقرآن مصدق لما مع اليهود من كتاب ، أي أن البشائر التي زفتها التوراة والكتب السماوية الاخرى بشأن النّبي الخاتم ، والأوصاف التي ذكرتها لهذا النّبي والكتاب السماوي تنطبق على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعلى القرآن المنزل عليه ، فلما ذا لا تؤمنون به؟!

 ثمّ يقول سبحانه : (وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ) أي ـ لا عجب أن يكون المشركون والوثنيون في مكة ـ كفّارا بالرسالة ، بل العجب في كفركم ، بل في كونكم روّادا للكفر،وسباقين للمعارضة. لأنكم أهل الكتاب ، وكتابكم يحمل بشائر ظهور هذا النّبي ، وكنتم لذلك تترقبون ظهوره. فما عدى ممّا بدا؟ ولماذا كنتم أول كافر به؟!.

إنه تعنتهم الذي لولاه لكانوا أول المؤمنين برسالة النّبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

المقطع الثالث من الآية يقول : (وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً).

آيات الله ، لا ينبغي ـ دون شك ـ معاوضتها ، بأي ثمن ، قليلا كان أم كثيرا.

وفي تعبير هذه الآية إشارة إلى دناءة هذه المجموعة من اليهود ، التي تنسى كل التزاماتها من أجل مصالحها التافهة. هذه الفئة ، التي كانت قبل البعثة من المبشرين بظهور نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبكتابه السماوي ، أنكرت بشارات التوراة وحرفتها ، حين رأت مصالحها معرضة للخطر ، وعلمت أن مكانتها الاجتماعية معرضة للإنهيار عند انكشاف الحقيقة للناس.

في الواقع ، لو أعطيت الدنيا بأجمعها لشخص ثمنا لإنكار آية واحدة من آيات الله ، لكان ثمنا قليلا ، لأنّ هذه الحياة فانية ، والحياة الاخرى هي دار البقاء والخلود. فما بالك بإنسان يفرّط بهذه الآيات الإلهية في سبيل مصالحه التافهة؟!

 في المقطع الرابع تقول الآية:(وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ) ، والخطاب موجّه إلى زعماء اليهود الذين يخشون أن ينقطع رزقهم ، وأن يثور المتعصبون اليهود ضدّهم ،

١٨٥

وتطلب منهم أن يخشوا الله وحده ، أي أن يخشوا عصيان أوامره سبحانه.

في البند الخامس من هذه الأوامر ينهى الله سبحانه عن خلط الحق بالباطل (وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ).

وفي البند السادس ينهى عن كتمان الحق : (... وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

كتمان الحق ، مثل خلط الحق بالباطل ذنب وجريمة ، والآية تقول لهم : قولوا الحق ولو على أنفسكم ، ولا تشوهوا وجه الحقيقة بخلطها بالباطل وإن تعرضت مصالحكم الآنية للخطر.

البند السابع والثامن والتاسع من هذه الأوامر يبينه قوله تعالى : (وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ).

البند الأخير يأمر بالصلاة جماعة ، غير أن «الركوع» هو الذي ذكر دون غيره من أجزاء الصلاة ، ولعل ذلك يعود إلى أنّ صلاة اليهود كانت خالية من الركوع ، تماما ، بينما احتل الركوع مكان الرّكن الأساسي في صلاة المسلمين.

ومن الملفت للنظر أنّ الآية لم تقل «أدّوا الصلاة» ، بل قالت : (أَقِيمُوا الصَّلاةَ)، وهذا الحث يحمّل الفرد مسئولية خلق المجتمع المصلي ، ومسئولية جذب الآخرين نحو الصلاة.

بعض المفسرين قال إن تعبير «أقيموا» إشارة إلى إقامة الصلاة كاملة ، وعدم الاكتفاء بالاذكار والأوراد ، وأهم أركان كمال الصلاة حضور القلب والفكر لدى الله سبحانه ، وتأثير الصلاة على المحتوى الداخلي للإنسان (١).

هذه الأوامر الأخيرة تتضمن في الحقيقة : أولا بيان ارتباط الفرد بخالقه (الصلاة) ، ثمّ ارتباطه بالمخلوق (الزكاة) ، وبعد ذلك ارتباط المجموعة البشرية مع

__________________

(١) المنار ، ج ٢ ، ص ٢٩٣ ، ومفردات الراغب ، مادة «قوم».

١٨٦

بعضها على طريق الله!

* * *

بحث

هل يؤيّد القرآن ما جاء في التّوراة والإنجيل؟!

في مواضع عديدة يصرّح القرآن بتصديقه لما جاء في الكتب الإلهية السابقة ، كما جاء في الآية المذكورة : (مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ) وكما جاء في الآيتين ٨٩ و ١٠١ من سورة البقرة : (مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ). وفي الآية ٤٨ من سورة المائدة : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ).

بعض دعاة اليهودية والنصرانية. استدلوا بهذه الآيات لإثبات عدم تحريف التوراة والإنجيل. وقالوا : إن التوراة والإنجيل في عصر نبي الإسلام لا يختلفان حتما عمّا عليه الآن. وإن أصابهما تحريف فهذا التحريف يعود إلى فترة سابقة على ذلك العصر. ولما كان القرآن قد أيّد صحة التوراة والإنجيل الموجودين في عصر نبي الإسلام ، فعلى المسلمين أن يعترفوا بصحة هذين الكتابين الموجودين بين ظهرانينا اليوم.

الجواب

يؤكد القرآن في مواضع عديدة وجود علائم نبي الإسلام ودينه في تلك الكتب المحرفة التي كانت موجودة في أيدي اليهود والنصارى آنذاك. وهذا يعني وجود حقائق في تلك الكتب لم تمتد إليها يد التحريف ، ذلك لأنّ التحريف لا يعني تغيير كل نصوص تلك الكتب السماويّة ، بل إن تلك الكتب كانت تحمل بين طياتها حقائق ، ومن تلك الحقائق علامات النّبي الخاتم (ولا زالت بعض هذه البشائر

١٨٧

مشهودة في الكتب الموجودة الآن).

بعثة النّبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وكتابه السماوي تصديق لما جاء في تلك الكتب من علامات، أي تحقيق عملي لتلك العلامات. وكلمة التصديق بمعنى (التحقيق العملي) وردت في مواضع اخرى من القرآن الكريم كقوله تعالى لنبيّه إبراهيم عليه‌السلام :(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) (١).

أي أنك قد حققت عمليا رؤياك.

وتصرح الآية ١٥٧ من سورة الأعراف بأن الرّسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحقيق عملي لما يجدونه مكتوبا في التوراة والإنجيل : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) ... (٢).

على أي حال ، ليس في الآيات المذكورة دلالة على تصديق جميع محتويات التوراة والإنجيل ، بل دلالتها تقتصر على «التصديق العملي» لما جاء في الكتب الموجودة بيد اليهود والنصارى بشأن النّبي الخاتم وكتابه. هذا ، إلى جانب وجود آيات عديدة في القرآن تتحدث عن تحريف اليهود والنصارى لآيات التوراة والإنجيل ، وهو شاهد حيّ صريح على مسألة التحريف.

شاهد حيّ آخر :

«فخر الإسلام» ـ الذي كان من كبار قساوسة المسيحيين ، وتتلمذ عند علمائهم حتى حاز مراتب كبيرة في الدراسات الكنيسية ـ يتحدث في مقدمة كتابه «أنيس الاعلام» عن انتقاله من المسيحية إلى الإسلام فيقول : «... بعد بحث طويل وعناء كبير وتجوال في المدن ، عثرت على قسيس كبير متميز في زهده وتقواه ، كان يرجع إليه الكاتوليك بما فيهم سلاطينهم ، تعلمت عليه

__________________

(١) الصافات ، ١٠٥.

(٢) الأعراف ، ١٥٧.

١٨٨

زمنا مذاهب النصارى ، وكان له طلاب كثيرون، ولكنه كان ينظر إليّ من بينهم نظرة خاصة، وكانت كل مفاتيح البيت بيدي، إلّا مفتاحا واحدا لغرفة صغيرة ، احتفظ به عنده... .

وفي يوم اعتلّت صحة القسيس ، فقال لي : قل للطلاب إني لا أستطيع التدريساليوم. حينما جئت الطلاب وجدتهم منهمكين في نقاش حول معنى «فارقليطا» في السريانية ، و «پريكلتوس» في اليونانية ... واستمر بينهم النقاش ، وكل كان يدلي برأيه ... .

بعد أن عدت إلى الأستاذ سألني عما كان يدور بين الطلاب ، فأخبرته ، فقال لي:وما رأيك؟

قلت : اخترت الرأي الفلاني.

قال القسيس : ما قصّرت في عملك ، ولكن الحقّ غير ذلك. لأن حقيقة هذا الأمر لا يعلمها إلّا الراسخون في العلم ، وقليل ما هم ، أكثرت في الإلحاح عليه أن يوضح لي معنى الكلمة ، فبكى بكاء مرّا وقال : لم أخف عليك شيئا ... إن لفهم معنى هذه الكلمة أثرا كبيرا ، ولكنه إن انتشر فسنتعرض للقتل! فإن عاهدتني أن لا تفشيه فسأخبرك...فأقسمت بكل المقدسات أن لا أذكر ذلك لأحد ، فقال : إنه اسم من أسماء نبي المسلمين،ويعني «أحمد» و «محمّد».

ثم أعطاني مفتاح الغرفة وقال : افتح الصندوق الفلاني ، وهات الكتابين اللذين فيه ، جئت إليه بالكتابين وكانا مكتوبين باليونانية والسريانية على جلد ، ويعودان إلى عصر ما قبل الإسلام.

الكتابان ترجما «فارقليطا» بمعنى أحمد ومحمّد ، ثم أضاف الأستاذ : علماء النصارى كانوا مجمعين قبل ظهوره أن «فارقليطا» بمعنى «أحمد ومحمّد» ، ولكن بعد ظهور محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم، غيّروا هذا المعنى حفظا لمكانتهم ورئاستهم وأوّلوه ، واخترعوا له معنى آخر لم يكن على الإطلاق هدف صاحب الإنجيل.

١٨٩

سألته عما يقوله بشأن دين النصارى؟ قال : لقد نسخ بمجيء الإسلام ، وكرر ذلك ثلاثا، ثم قلت :ما هي طريقة النجاة والصراط المستقيم في زماننا هذا؟ قال : إنما هي باتباع محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

قلت : وهل التابعون له ناجون؟

قال : إي والله ، وكرر ذلك ثلاثا.

ثم بكى الأستاذ وبكيت كثيرا ثم قال : إذا أردت الآخرة والنجاة فعليك بدين الحق...وأنا أدعو لك دائما ، شرط أن تكون شاهدا لي يوم القيامة أنّي كنت في الباطن مسلما ، ومن أتباع محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... وما من شك أن الإسلام هو دين الله اليوم على ظهر الأرض»(١).

وكما يلاحظ فإن هذه الوثيقة الهامة تصرّح بما فعله علماء أهل الكتاب بعد ظهور نبي الإسلام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من تحريف لتفسير اسم النّبي وعلاماته ، تحقيقا لمصالحهم الشخصية.

* * *

__________________

(١) نقلا باختصار عن «الهداية الثانية» مقدمة كتاب «أنيس الأعلام».

١٩٠

الآية

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٤٤) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (٤٥) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (٤٦))

التّفسير

(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ)؟!

 هذا السّؤال الاستنكاري ـ وإن كان موجها إلى بني إسرائيل كما يتبين من سياق الآيات السابقة والتالية ـ له حتما مفهوم واسع يشمل الآخرين أيضا.

قال «الطّبرسي رحمه‌الله» في «مجمع البيان» : هذه الآية خطاب لعلماء اليهود.وبّخهم الله تعالى على ما كانوا يفعلون من أمر النّاس بالإيمان بمحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وترك أنفسهم في ذلك.

وقال أيضا : كان علماء اليهود يقولون لأقربائهم من المسلمين اثبتوا على ما أنتم عليه ولا يؤمنون هم.

لذلك كانت الآية الأولى من الآيات التي يدور حولها بحثنا تحمل توبيخا لهذا العمل:(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ، وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ ، أَفَلا

١٩١

تَعْقِلُونَ)؟!

 منهج الدعاة إلى الله يقول على أساس العمل أوّلا ثم القول. فالدّاعية إلى الله يبلّغ بعمله قبل قوله ، كما جاء في الحديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : كونوا دعاة الناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاة بألسنتكم (١).

التأثير العميق للدعوة العملية يأتي من قدرة مثل هذه الدعوة على فتح منافذ قلب السامع ، فالسامع يثق بما يقوله الداعية العامل ، ويرى أن هذا الداعية مؤمن بما يقول وأن ما يقوله صادر عن القلب. والكلام الصادر عن القلب ينفذ إلى القلب.وأفضل دليل على إيمان القائل بما يقوله ، هو العمل بقوله قبل غيره ، كما يقول عليعليه‌السلام: «أيّها النّاس إنّي والله ما أحثّكم على طاعة إلّا وأسبقكم إليها ، ولا أنهاكم عن معصية إلّا وأتناهى قبلكم عنها» (٢).

وفي حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : «من أشدّ النّاس عذابا يوم القيامة من وصف عدلا وعمل بغيره» (٣).

علماء اليهود كانوا يخشون من انهيار مراكز قدرتهم وتفرّق عامة النّاس عنهم ، إن اعترفوا برسالة خاتم الأنبياء صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك حرّفوا ما ورد بشأن صفات نبي الإسلام في التوراة.

والقرآن يحث على الاستعانة بالصبر والصّلاة للتغلب على الأهواء الشخصية والميول النفسية ، فيقول في الآية التالية : (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ) ثم يؤكد أن هذه الاستعانة ثقيلة لا ينهض بعبئها إلا الخاشعون : (وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ).

وفي الآية الأخيرة من هذه المجموعة وصف للخاشعين : (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ).

__________________

(١) سفينة البحار ، مادة «عمل».

(٢) نهج البلاغة ، الخطبة ١٧٥.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦٤.

١٩٢

كلمة «يظنّون» من مادة «ظنّ» وقد تأتي بمعنى اليقين (١). وفي هذا الموضع تعني الإيمان واليقين القطعي. لأن الإيمان بلقاء الله والرجوع إليه ، يحيي في قلب الإنسان حالة الخشوع والخشية والإحساس بالمسؤولية ، وهذا أحد آثار تربية الإنسان على الإيمان بالمعاد،حيث تجعل هذه التربية الفرد مائلا دوما أمام مشهد المحكمة الكبرى ، وتدفعه إلى النهوض بالمسؤولية وإلى الحق والعدل.

ويحتمل أن يكون استعمال «الظن» في الآية للتأكيد ، أي أن الإنسان لو ظنّ بالآخرة فقط ، فظنه كاف لأن يصده عن ارتكاب أي ذنب. وهو تقريع لعلماء اليهود وتأكيد على أنهم لا يمتلكون إيمانا باليوم الآخر حتى على مستوى الظن ، فلو ظنوا بالآخرة لأحسّوا بالمسؤولية ، وكفّوا عن هذه التحريفات! (٢)

* * *

بحثان

١ ـ ما هو لقاء الله؟

عبارة «لقاء الله» وردت مرارا في القرآن الكريم ، وتعني بأجمعها الحضور على مسرح القيامة. من البديهي أن المقصود بلقاء الله ليس هو اللقاء الحسّي ، كلقاء أفراد البشر مع بعضهم ، لأن الله ليس بجسم ، ولا يحده مكان ، ولا يرى بالعين. بل المقصود مشاهدة آثار قدرة الله وجزاءه وعقابه ونعمه وعذابه على ساحة القيامة ، كما ذهب إلى ذلك جمع من المفسرين.

أو إن المقصود الشهود الباطني والقلبي ، لأن الإنسان يصل درجة كأنه يرى

__________________

(١) يقول الراغب في المفردات : الظن اسم لما يحصل عن أمارة متى قويت أدّت إلى العلم ، ومتى ضعفت جدا لم يتجاوز حدّ التوهم.

(٢) المنار ، ج ١ ، ص ٣٠٢ ، والميزان ، ج ١ ، ص ١٥٤. وتفسير روح المعاني ، ج ١ ، ص ٢٢٨. وفي آيات اخرى إشارة إلى هذا المعنى كقوله تعالى : (فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً) (الكهف ،١٠).

١٩٣

الله ببصيرته أمامه ، بحيث لا يبقى في نفسه أي شك وترديد.

هذه الحالة قد تحصل للأفراد نتيجة الطّهر والتقوى والعبادة وتهذيب النفس في هذه الدنيا. وفي «نهج البلاغة» نقرأ : أن «ذعلب اليماني» وهو من فضلاء أصحاب الإمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، سأل عليا هل رأيت ربّك؟ أجابه علي : أفأعبد ما لا أرى؟!

 وحين طلب ذعلب مزيدا من التوضيح قال الإمام : «لا تدركه العيون بمشاهدة العيان ، ولكن تدركه القلوب بحقائق الإيمان» (١).

هذا الشهود الباطني ينجلي للجميع يوم القيامة ، ولا يبقى أحد إلّا وقد آمن إيمانا قاطعا ، لوضوح آثار عظمة الله وقدرته في ذلك اليوم.

٢ ـ سبيل التغلب على الصعاب

ثمة منطلقان أساسيان للتغلب على الصعاب والمشاكل ، أحد هما داخلي ، والآخر خارجي.

أشارت الآية إلى هذين المنطلقين بعبارة «الصبر» و «الصلاة». فالصبر هو حالة الصمود والاستقامة والثبات في مواجهة المشاكل ، والصلاة هي وسيلة الارتباط بالله حيث السند القويّ المكين.

كلمة «الصبر» فسرت في روايات كثيرة بالصوم ، لكنها لا تنحصر حتما. بل الصوم أحد المصاديق الواضحة البارزة للصبر. لأن الإنسان يحصل في ظل هذه العبادة الكبرى على الإرادة القوية والإيمان الراسخ والقدرة على التحكم في الميول والرغبات.

روى بعض المفسرين في تفسير هذه الآية : أن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان إذا أحزنه أمر

__________________

(١) نهج البلاغة ، الكلام ١٧٩.

١٩٤

استعان بالصلاة والصوم (١).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام أنه قال : «ما يمنع أحدكم إذا دخل عليه غمّ من غموم الدّنيا أن يتوضّا ثمّ يدخل المسجد فيركع ركعتين يدعو الله فيهما ، أما سمعت الله تعالى يقول : واستعينوا بالصّبر والصّلاة» (٢).

التوجه إلى الصلاة والتضرّع إلى الله سبحانه يمنح الإنسان طاقة جديدة تجعله قادرا على مواجهة المشاكل.

وفي كتاب «الكافي» عن الصادق عليه‌السلام : «كان عليّ عليه‌السلام إذا هاله أمر فزع إلى الصّلاة ثمّ تلا هذه الآية : واستعينوا بالصّبر والصّلاة».

نعم ، الصلاة تربط الإنسان بالقدرة اللامتناهية التي لا يقهرها شيء. وهذا الإحساس يبعث في الإنسان قوّة وشهامة على تحدّي المشاكل والصعاب.

* * *

__________________

(١) الطبرسي ، مجمع البيان ، ذيل الآية المذكورة.

(٢) نفس المصدر.

١٩٥

الآيتان

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (٤٧) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٨))

التّفسير

أوهام اليهود

في هذه الآيات خطاب آخر إلى بني إسرائيل فيه تذكير بنعم الله : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ).

هذه النعم سابغة واسعة النطاق ، ابتداء من الهداية والإيمان ، وانتهاء بالنجاة من فرعون ونيل العظمة والاستقلال.

ثم تشير الآية من بين كل هذه النعم إلى نعمة التفضيل على بقية البشر ، وهي نعمة مركبة من نعم مختلفة ، وتقول : (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ).

لعل البعض تصور أن هذا التفضيل صفة أبدية مستمرة على مرّ العصور. لكن دراسة سائر آيات القرآن تبين أن هذا التفضيل هو تفضيل بني إسرائيل على غيرهم من أفراد عصرهم ومنطقتهم ، لا تفضيلا مطلقا. فالقرآن الكريم يخاطب

١٩٦

المسلمين في آية اخرى ويقول : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) ... (١).

كما يتحدث القرآن عن وراثة بني إسرائيل للأرض فيقول : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا) (٢).

وواضح أن هذه الوراثة لم تكن تشمل آنذاك جميع العالم ، والمقصود من الآية مشارق المنطقة التي كانوا يعيشون فيها ومغاربها ، من هنا فالتفضيل على العالمين هو تفضيلهم على أفراد منطقتهم.

* * *

الآية التالية ترفض أوهام اليهود ، التي كانوا يتصورون بموجبها أن الأنبياء من أسلافها سوف يشفعون لهم ، أو أنّهم قادرون على دفع فدية وبدل عن ذنوبهم ، كدفعهم الرشوة في هذه الحياة الدنيا.

القرآن يخاطبهم ويقول : (وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً. وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ. وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

الحاكم أو القاضي في تلك المحكمة الإلهية ، لا يقبل سوى العمل الصالح ، كما تقول الآية الكريمة : (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (٣).

إنّ الآية المذكورة من سورة البقرة ، تشير في الواقع إلى ما يجري من محاولات في هذه الحياة الدنيا لانقاذ المذنب من العقاب.

ففي الحياة الدنيا قد يتقدم إنسان لدفع غرامة عن إنسان مذنب لانقاذه من العقاب، أما في الآخرة فإنّه : (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ).

وربّما يلجأ المذنب في هذه الحياة إلى الشفعاء لينقذوه ممّا ينتظره من الجزاء ، ويوم القيامة (... لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ).

وإذا لم توجد الشفاعة ، يتقدم الإنسان في الحياة الدنيا بدفع (العدل) وهو بدل

__________________

(١) آل عمران ، ١١٠.

(٢) الأعراف ، ١٣٧.

(٣) الشعراء ، ٨٨ و ٨٩.

١٩٧

الشيء من جنسه ، أما في الآخرة ف (لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ).

وإذا لم تنفع الوسائل المذكورة كلها ، يستصرخ أصحابه لينصروه ويخلصوه من الجزاء ، وفي الآخرة لا يقوم بنجاتهم أحد (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ).

القرآن الكريم يؤكد أن الأصول الحاكمة على قوانين الجزاء يوم القيامة تختلف كليّا عمّا هو السائد في هذه الحياة ، فالسبيل الوحيد للنجاة يوم القيامة ، هو الإيمان والتقوى والاستعانة بلطف البارئ تعالى.

تاريخ الشرك وتاريخ المنحرفين من أهل الكتاب ، مليء بأفكار خرافية تدور حول محور التوسل وبمثل الأمور التي ذكرتها الآية الكريمة للفرار من العقاب الاخروي. صاحب المنار يذكر مثلا ، أن النّاس في بعض مناطق مصر ـ كانوا يدفعون مبلغا من المال إلى الذي يتعهد غسل الميت ، ويسمون هذا المبلغ أجرة الانتقال إلى الجنّة (١).

وفي تاريخ اليهود نقرأ أنهم كانوا يقدمون القرابين للتكفير عن ذنوبهم ، وإن لم يجدوا قربانا كبيرا يكتفون بتقديم زوج من الحمام. (٢)

وفي التاريخ القديم كانت بعض الأقوام تدفن مع الميت حليّة وأسلحته ، ليستفيد منها في الحياة الاخرى (٣).

القرآن ومسألة الشّفاعة

العقاب الإلهي في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة ، لا ينزل بساحة الإنسان دون شك من أجل الانتقام. بل إن العقوبات الإلهية تشكل عنصر الضمان في تنفيذ القوانين ، وتؤدي في النتيجة إلى تقدم الإنسان وتكامله. من هنا يجب الاحتراز عن أي شيء يضعف من قوّة عنصر الضمان هذا ، كي لا تنتشر بين النّاس الجرأة

__________________

(١) المنار ، ج ١ ، ص ٣٠٦.

(٢) المنار ، ج ١ ، ص ٣٠٦.

(٣) الميزان ، ج ١ ، ص ١٥٦.

١٩٨

على ارتكاب المعاصي والذنوب.

من جهة اخرى ، لا يجوز غلق باب العودة والإصلاح بشكل كامل في وجه المذنبين ، بل يجب فسح المجال لإصلاح أنفسهم وللعودة إلى الله وإلى الطهر والتقوى.

«الشفاعة» بمعناها الصحيح تستهدف حفظ هذا التعادل ، إنها وسيلة لعودة المذنبين والملوثين بالخطايا ، وبمعناها الخاطئ تشجع على ارتكاب الذنوب.

أولئك الذين لم يفرقوا بين المعنى الصحيح والخاطئ لمسألة الشفاعة ، أنكروا هذه المسألة بشكل كامل ، واعتبروها شبيهة بالوساطات التي تقدم إلى السلاطين والحكام الظالمين.

وثمة مجموعة كالوهابيين استندوا إلى الآية الكريمة : (لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ) فأنكروا الشفاعة تماما ، دون الالتفات إلى سائر الآيات في هذا المجال.

اعتراضات المنكرين لمسألة الشفاعة يمكن تلخيصها بما يلي :

١ ـ الاعتقاد بالشفاعة ، يضعف روح السعي والمثابرة في نفس الإنسان.

٢ ـ الاعتقاد بالشفاعة ، انعكاس عن ظروف المجتمعات المتأخرة والإقطاعية.

٣ ـ الاعتقاد بالشفاعة ، يؤدي إلى التشجيع على ارتكاب الذنوب وترك المسؤوليات.

٤ ـ الاعتقاد بالشفاعة ، نوع من الشرك بالله ، وهو معارض للقرآن! ٥ ـ الاعتقاد بالشفاعة ، يعني تغيير أحكام الله وتغيير إرادته وأوامره! ولكن كل هذه الاعتراضات ناتجة ـ كما سنرى ـ عن الخلط بين الشفاعة بمفهومها القرآني ، والشفاعة بمعناها المنحرف الرائج بين الجهلة من النّاس.

ولمّا كانت هذه المسألة في جانبها الإيجابي والسلبي ذات أهمية بالغة ، فعلينا أن ندرسها بالتفصيل من حيث مفهومها وفلسفتها ، وارتباطها بعالم التكوين ،

١٩٩

وموقعها في القرآن والحديث ، وصلته بالتوحيد والشرك ، كي يزول كل إبهام يرتبط بالآية المذكورة وسائر الآيات في حقل الشفاعة.

١ ـ المفهوم الحقيقي للشّفاعة :

كلمة «الشفاعة» من «الشفع» بمعنى «الزوج» و «ضم الشيء إلى مثله» ، يقابلها «الوتر» بمعنى «الفرد». ثم أطلقت على انضمام الفرد الأقوى والأشرف إلى الفرد الأضعف لمساعدة هذا الضعيف ، ولها في العرف والشرع معنيان متباينان كل التباين :

أ: إن الشفاعة لدى السواد تعني أن الشفيع يستفيد من مكانته وشخصيته ونفوذه ، لتغيير رأي صاحب قدرة بشأن معاقبة من هم تحت سيطرته.

والشفيع قد يرعب صاحب القدرة هذا ، أو قد يستعطفه ، أو قد يغير أفكاره بشأن ذنب المجرم واستحقاقه للعقاب ... وأمثال هذه الأساليب.

الشفاعة بهذا المعنى هي ـ بعبارة موجزة ـ لا تعني حدوث أي تغيير في المحتوى النفسي والفكري للمجرم أو المتهم. بل إن كل التغييرات والتحولات تتوجه نحو الشخص الذي تقدم إليه الشفاعة (تأمل بدقة).

هذا اللون من الشفاعة ليست له مكانة في المفهوم الديني على الإطلاق. لأن الله سبحانه وتعالى لا يخطأ حتى يتوسط الشفيع في تغيير رأيه ، ولا يحمل تلك العواطف الموجودة في نفس الإنسان كي يمكن إثارة عواطفه ، ولا يهاب نفوذ شخص كي ينصاع لأوامره ، ولا يدور ثوابه وعقابه حول محور غير محور العدالة.

ب : المفهوم الآخر للشفاعة يقوم على أساس تغيير موقف «المشفوع له».أي أن الشخص المشفوع له يوفّر في نفسه الظروف والشروط التي تؤهّله للخروج من وضعه السيء الموجب للعقاب ، وينتقل ـ عن طريق الشفيع إلى وضع مطلوب حسن يستحق معه العفو والسماح. والإيمان بهذا النوع من الشفاعة ـ كما

٢٠٠