الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

أمّا السّؤال الثّاني فيرتبط بالضمير «هم» في قوله تعالى : (ثُمَّ عَرَضَهُمْ) وأسمائهم وباسم الإشارة هؤلاء في الآية. فالمعروف أنّ «هم» و «هؤلاء» يستعملان في العاقل،وهذا لا ينسجم مع تفسير «الأسماء» بأنهم أسرار الخلقة وفهم خواص جميع الموجودات.

والجواب هو أن استعمال الضمير «هم» واسم الإشارة «هؤلاء» لا يختص بالعاقل، بل قد يستعملان في جمع مكوّن من عاقل وغير عاقل ، وقد يستعملان في جمع غير عاقل. كقوله تعالى : (رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ) (١) والضمير «هم» في الآية يعود على الكواكب والشمس والقمر التي رآها يوسف.

* * *

__________________

(١) يوسف ، ٤.

١٦١

الآيات

(وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٣٤) وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (٣٥) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (٣٦))

التّفسير

آدم عليه‌السلام في الجنّة

ينتقل القرآن إلى فصل آخر من موضوع عظمة الإنسان ، ويقول : (وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ ، وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ).

يبدو للوهلة الاولى أن مسألة السجود لآدم جاءت بعد تجربة الملائكة المذكورة في الآيات السابقة وبعد تعليم الأسماء. ولكن لو أمعنّا النظر في آيات القرآن الكريم لألفينا أن موضوع السجود جاء بعد اكتمال خلقة الإنسان مباشرة ، وقبل امتحان الملائكة.

يقول تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ) ،

١٦٢

السجود إذن جاء مباشرة بعد نفخ الروح في الإنسان ، وهذا المعنى جاء في الآية ٧٢ من سورة (ص) (١).

ثمة دليل آخر على هذه المسألة هو أن استجابة الملائكة لأمر الله بالسجود ، لو كانت بعد اتضاح مكانة آدم ، لما اعتبرت مفخرة للملائكة.

على أي حال ، الآية المذكورة تقرير قرآني واضح صريح لشرف الإنسان وعظمة مكانته. فكل الملائكة يؤمرون بالسجود له بعد اكتمال خلقته.

حقا ، إن هذا الموجود ، اللائق لخلافة الله على الأرض ، والمؤهل لهذا الشوط الكبير من التكامل وتربية أبناء عظام كالأنبياء وخاصة النّبي الخاتم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يستحق كل احترام.

نحن نشعر بالتعظيم والتكريم لمن حوى بعض العلوم وعلم شيئا من القوانين والمعادلات العلمية ، فكيف حال الإنسان الأوّل مع كل تلك العلوم والمعارف الزاخرة عن عالم الوجود؟!

* * *

بحثان

١ ـ لماذا أبى إبليس؟

«الشّيطان» اسم جنس شامل للشيطان الأوّل ولجميع الشّياطين. أمّا «إبليس» فاسم علم للشيطان الذي وسوس لآدم. وإبليس ـ كما صرح القرآن ـ ما كان من جنس الملائكة وإن كان في صفوفهم ، بل كان من طائفة الجن ، وهي مخلوقات مادية. قال تعالى:(فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ) (٢).

__________________

(١) إلى هذا أشار أيضا الآلوسي في روح المعاني ، والفخر الرازي في التّفسير الكبير.

(٢) الكهف ، ٥٠.

١٦٣

باعثه على الامتناع عن السجود كبر وغرور وتعصب خاص استولى عليه حيث اعتقد أنه أفضل من آدم ، ولا ينبغي أن يصدر له أمر بالسجود لآدم ، بل ينبغي أن يؤمر آدم بالسجود له ، وسيأتي شرح ذلك في تفسير الآية ١٢ من سورة الأعراف (١).

كفر إبليس كان يعود إلى نفس السبب أيضا ، فقد اعتقد بعدم صواب الأمر الإلهي، وبذلك لم يعص فحسب ، بل انحرف عقائديا. وهكذا ذهبت أدراج الرياح كل عباداته وطاعاته نتيجة كبره وغروره. وهكذا تكون دوما نتيجة الكبر والغرور.

وعبارة (كانَ مِنَ الْكافِرِينَ) تشير إلى أن إبليس كان قبل صدور الأمر الإلهي إليه بالسجود ، قد انفصل عن مسير الملائكة وطاعة الله ، وأسرّ في نفسه الاستكبار والجحود. لعله عزم في قرارة نفسه أن لا يخضع لو صدرت إليه أوامر بالخضوع والسجود. ومن المحتمل أن تكون عبارة (ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) إشارة إلى ذلك.وورد هذا المعنى في حديث عن الإمام الحسن العسكري عليه‌السلام. قال إبليس «لئن أمرني الله بالسّجود لهذا لعصيته إلى أن قال : ثمّ قال الله تعالى للملائكة : اسجدوا لآدم فسجدوا فأخرج إبليس ما كان في قلبه من الحسد فأبى أن يسجد» (٢).

* * *

٢ ـ هل كان السّجود لله أم لآدم عليه‌السلام؟

لا شك أن السجود يعني «العبادة» لله ، إذ لا معبود غير الله ، وتوحيد العبادة يعني أن لا نعبد إلّا الله.

من هنا فإن الملائكة لم يؤدوا لآدم يعني «سجدة عبادة» قطعا. بل كان السجود لله من أجل خلق هذا الموجود العجيب. أو كان سجود الملائكة لآدم

__________________

(١) راجع المجلد الرابع من هذا التّفسير.

(٢) تفسير الميزان ، ج ١ ، ص ١٢٥.

١٦٤

سجود «خضوع» لا عبادة.

جاء في «عيون الأخبار» عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام : «كان سجودهم لله تعالى عبوديّة ، ولآدم إكراما وطاعة ، لكوننا في صلبه» (١).

بعد هذا المشهد ومشهد اختبار الملائكة ، أمر آدم وزوجه أن يسكنا الجنّة ، كما جاء في قوله تعالى : (وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ ، وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ) (٢).

يستفاد من آيات القرآن أن آدم خلق للعيش على هذه الأرض. لكنّ الله شاء أن يسكنه قبل ذلك الجنّة ، وهي روضة خضراء موفورة النعمة في هذا العالم ، وخالية من كل ما يزعج آدم.

لعل مرحلة مكوث آدم في الجنّة كانت مرحلة تحضيرية لعدم ممارسة آدم للحياة على الأرض وصعوبة تحمّل المشاكل الدنيوية بدون مقدمة ، ومن أجل تأهيل آدم لتحمل مسئوليات المستقبل ، ولتفهيمه أهمية حمل هذه المسؤوليات والتكاليف الإلهية في تحقيق سعادته ، ولإعطائه صورة عن الشقاء الذي يستتبع إهمال هذه التكاليف ، ولتنبيهه بالمحظورات التي سيواجهها على ظهر الأرض.

وكان من الضروري أيضا أن يعلم آدم بإمكان العودة إلى الله بعد المعصية.فمعصية الله ـ لا تسدّ إلى الأبد ـ أبواب السعادة أمامه ، بل يستطيع أن يرجع ويعاهد الله أن لا يعود لمثلها، وعند ذاك يعود إلى النعم الإلهية.

ينبغي أن ينضج آدم عليه‌السلام في هذا الجوّ إلى حد معيّن ، وأن يعرف أصدقاءه وأعداءه،ويتعلم كيف يعيش على ظهر الأرض. نعم ، كانت هذه مجموعة من التعاليم الضرورية التي تؤهله للحياة على ظهر الأرض.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٥٨.

(٢) الرغد على وزن الصمد يعني الكثير والواسع والهنيء ، وعبارة «حيث شئتما» تعني : من أي مكان شئتما في الجنّة ، أو من أي نوع شئتم من فاكهة الجنّة.

١٦٥

كانت هذه مقدمات تأهيلية يحتاجها آدم وأبناء آدم في حياتهم الجديدة.ولعل الفترة التي قضاها آدم في الجنّة أن ينهض بمسؤولية الخلافة على الأرض كانت تدريبية أو تمرينية.

وهنا رأى «آدم» نفسه أمام أمر إلهي يقضي بعدم الاقتراب من الشجرة ، لكن الشيطان أبى إلّا أن ينفذ بقسمه في إغواء آدم وذريته ، فطفق يوسوس لآدم ويعده وزوجه ـ كما يبدو من سائر آيات القرآن الكريم ـ بالخلود وباتخاذ شكل الملائكة وأقسم أنه لهما من الناصحين. (١)

تقول الآية بعد ذلك : (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ) (٢).

نعم. أخرجا من الجنة حيث الراحة والهدوء وعدم الألم والتعب والعناء ، على أثر وسوسة الشيطان.

وصدر لهما الأمر الإلهي بالهبوط (وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ، وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ).

وهنا ، فهم آدم أنه ظلم نفسه ، وأخرج من الجوّ الهادي المليء بنعم الجنّة بسبب استسلامه لوسوسة الشيطان. وهبط في جوّ مفعم بالتعب والمشقة والعناء. مع أن آدم كان نبيّا ومعصوما ، فإن الله يؤاخذ الأنبياء بترك الأولى ـ كما سنرى ـ كما يؤاخذ باقي الأفراد على ذنوبهم. وهو عقاب شديد تلقاه آدم جرّاء عصيانه.

* * *

__________________

(١) الأعراف ، ٢٠ و ٢١.

(٢) مرجع الضمير في «عنها» إمّا أن يعود على «الجنّة» ويكون معنى «ممّا كانا فيه» في هذه الحالة : من مقامهما الذي كانا فيه. وإمّا أن يعود على «الشّجرة» فيكون معنى الآية : إن الشيطان أزلهما بوسيلة الشّجرة ، وأخرجهما من الجنّة التي كانا فيها.

١٦٦

بحوث

١ ـ ما هي جنّة آدم عليه‌السلام؟

يبدو أن الجنّة التي مكث فيها آدم قبل هبوطه إلى الأرض ، لم تكن الجنّة التي وعد بها المتقون. بل كانت من جنان الدنيا ، وصقعا منعّما خلّابا من أصقاع الأرض. ودليلنا على ذلك :

أوّلا : الجنّة الموعودة في القيامة نعمة خالدة ، والقرآن ذكر مرارا خلودها ، فلا يمكن إذن الخروج منها.

ثانيا : إبليس الملعون ليس له طريق للجنّة ، وليس لوسوسته مكان هناك.

ثالثا : وردت عن أهل البيت عليهم‌السلام روايات تصرّح بذلك.

منها ما روي عن الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه‌السلام أنه سئل عن جنّة آدم ، فقال: «جنّة من جنّات الدّنيا ، يطلع فيها. الشّمس والقمر ، ولو كان من جنان الاخرة ما خرج منها أبدا» (١).

من هذا يتضح أن هبوط آدم ونزوله إلى الأرض لم يكن مكانيا بل مقاميا.

أي أنه هبط من مكانته السامية ومن تلك الجنّة المزدانة.

من المحتمل أيضا أن تكون هذه الجنّة غير الخالدة في إحدى الكواكب السماوية ، وفي بعض الرّوايات الإسلامية إشارة إلى أن هذه الجنّة في السماء.

غير أنّ من الممكن أن يكون المقصود بالسماء في هذه الرّوايات «المقام الرفيع» لا «المكان المرتفع».

على كل حال ، توجد شواهد كثيرة على أن هذه الجنّة هي غير جنّة الخلد الموعودة. لأن جنّة آدم بداية مسير الإنسان وجنّة الخلد نهايتها. وهذه مقدمة لأعمال الإنسان ومراحل حياته ، وتلك نتيجة أعمال الإنسان ومسيرته.

__________________

(١) كتاب الكافي ، نقلا عن تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٦٢.

١٦٧

٢ ـ ما هو ذنب آدم؟

المكانة التي ذكرها القرآن لآدم سامية ورفيعة ، فهو خليفة الله في الأرض ومعلم الملائكة ، وعلى درجة كبيرة من التقوى والمعرفة ، وهو الذي سجدت له ملائكة الله المقربين. ومن المؤكد أن آدم هذا لا يصدر عنه ذنب ، إضافة إلى أنه كان نبيّا ، والنّبي معصوم.

من هنا يطرح سؤال عن نوع العمل الذي صدر عن آدم. وتوجد لذلك ثلاثة تفسيرات يكمل بعضها الآخر.

١ ـ ما ارتكبه آدم كان «تركا للأولى» أو بعبارة اخرى كان «ذنبا نسبيا» ، ولم يكن «ذنبا مطلقا».

الذنب المطلق ، وهو الذنب الذي يستحق مرتكبه العقاب أيا كان ، مثل الشرك والكفر والظلم والعدوان. والذنب النسبي هو الذي لا يليق بمرتكبه أن يفعله لعلوّ منزلة ذلك الشخص ، وإن كان ارتكابه مباحا ، بل مستحبا أحيانا من قبل الأفراد العاديين. على سبيل المثال ، نحن نؤدي الصلاة بحضور القلب تارة ، وبعدم حضور القلب تارة اخرى. وهذه الصلاة تتناسب وشأننا ، لكن مثل هذه الصلاة لا تليق بأفراد عظام مثل رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. صلاة الرّسول ينبغي أن تكون بأجمعها اتصالا عميقا بالله تعالى ، وإن فعل الرّسول غير ذلك فلا يعني أنه ارتكب محرّما ، بل يعني أنه ترك الاولى.

وآدم كان يليق به أن لا يأكل من تلك الشجرة ، وإن كان الأكل منها غير محرّم بل «مكروها».

٢ ـ نهي الله لآدم إرشادي ، مثل قول الطبيب : لا تأكل الطعام الفلاني فتمرض.والله سبحانه قال لآدم : لا تقرب هذه الشجرة فتخرج من الجنّة. وآدم في أكله من الشجرة خالف نهيا إرشاديا.

٣ ـ الجنّة التي مكث فيها آدم لم تكن محلا للتكليف ، بل كانت دورة اختبارية

١٦٨

وتمهيدية لآدم كي يهبط بعدها إلى الأرض. وكان النهي ذا طابع اختياري (١).

٣ ـ المقارنة بين معارف القرآن والتوراة :

أكبر مفاخر آدم وأعظم نقاط قوته التي جعلته زبدة الكون ومسجود الملائكة هي ـ كما يظهر من الآيات ـ تعليمه الأسماء واطلاعه على حقائق الكون وأسراره.

واضح أن آدم خلق لهذه العلوم ، وأبناء آدم ـ إن أرادوا التكامل ـ عليهم أن يستزيدوا من هذه العلوم ، وتكاملهم يتناسب مرادفا مع معلوماتهم عن أسرار الخليفة.

نعم ، القرآن يصرّح بأن عظمة آدم تكمن في هذه النقطة. ولكن التوراة تذهب إلى أن سبب خروج آدم من الجنّة وخطيئته الكبرى هو اتجاهه نحو العلم ومعرفة الصالح والطالح! جاء في الفصل الثاني من «سفر التكوين» من التوراة : «وأخذ الرّبّ الإله آدم ووضعه في جنّة عدن ليعلمها ويحفظها. وأوصى الرّب الإله آدم قائلا من جميع شجر الجنّة تأكل آكلا. وأمّا شجرة معرفة الخير والشّرّ فلا تأكل منها. لأنّك يوم تأكل منها موتا تموت».

وجاء في الفصل الثالث من التوراة : «وسمعا صوت الرّبّ الإله ماشيا في الجنّة عند هبوب ريح النّهار. فاختبأ آدم وامرأته من وجه الرّبّ الإله في وسط شجر الجنّة. فنادى الرّبّ الإله آدم وقال له أين أنت. فقال سمعت صوتك في الجنّة فخشيت لأنّي عريان فاختبأت. فقال من أعلمك أنّك عريان. هل أكلت من الشّجرة الّتي أوصيتك أن لا تأكل منها. فقال آدم : المرأة الّتي جعلتها معي هي أعطتني من الشّجرة فأكلت ....

__________________

(١) لمزيد من التوضيح في هذا المجال ، راجع المجلد الرابع من هذا التّفسير ، ذيل الآيات (١٩ ـ ٢٢) من سورة الأعراف ، والمجلد العاشر ذيل الآية (١٢١) من سورة طه.

١٦٩

وقال الرّبّ الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منّا عارفا الخير والشّر ، والآن لعلّه يمدّ يده ويأخذ من شجرة الحيوة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد. فأخرجه الرّبّ الإله من جنّة عدن ليعمل الأرض الّتي أخذ منها. فطرد الإنسان وأقام شرقيّ جنّة عدن الكروبيم ولهيب سيف متقلّب لحراسة طريق شجرة الحيوة»!!

من هذه «الأسطورة التافهة» ، التي تعرضها التوراة الحالية باعتبارها واقعا تاريخيا يتبين لنا رأي التوراة الحالية في سبب خروج آدم من الجنّة ، فهو على رأي هذه الأسطورة معرفة آدم بالخير والشر ، وذنبه الأكبر هو الاتجاه نحو العلم والمعرفة!!

 وإن لم يمدّ آدم يده إلى «شجرة الخير والشّر» لبقي جاهلا حتى بقبح التعرّي ، ولما أخرج من الجنّة ، بل كان فيها خالدا.

فيا عجبا ، لم إذا حزن آدم على خروجه من الجنّة إذا كان خروجه قد اقترن باكتسابه العلم والمعرفة وبتمييزه بين الخير والشر ، إنها صفقة رابحة تلك التي حصل عليها آدم ، فلما ذا ندم عليها؟! ويتضح من ذلك أنّ أسطورة التوراة تقع في النقطة المقابلة للاتجاه القرآني الذي يرى أن مكانة الإنسان ومقامه وسرّ خلقته تكمن في «تعليمه الأسماء».

أضف إلى ما سبق أن هذه الأسطورة تتضمّن مفاهيم مشينة مخجلة بشأن الله سبحانه وبشأن المخلوقات ، كل واحدة منها تثير الدهشة أكثر من غيرها ، وهي عبارة عن :

١ ـ نسبة الكذب إلى الله ، تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا (كما جاء في الجملة ١٧ من الاصحاح الثاني : أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها ، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت)!

 ٢ ـ نسبة البخل إلى الله سبحانه (كما جاء في الجملة ٢٢ من الاصحاح الثالث:وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر. والآن لعله

١٧٠

يمدّ يده ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ويأكل ويحيا إلى الأبد)!

٣ ـ إمكان وجود الشريك لله تعالى (كما في العبارة السابقة : قد صار كواحد منا).

٤ ـ نسبة الحسد إلى الله (ويستفاد ذلك من العبارة السابقة أيضا).

٥ ـ تجسيم الله سبحانه (... وسمعا صوت الرب الإله ماشيا في الجنّة عند هبوب ريح النهار)!

 ٦ ـ نسبة الجهل إلى الله بالحوادث التي تقع قريبا منه (كما تقول هذه التوراة : فاختبأ آدم وامرأته من وجه الربّ الإله في وسط شجر الجنّة. فنادى الرب الإله آدم وقال له : أين أنت؟!)

 (ولا بدّ من التأكيد هنا أن هذه الخرافة لم تكن في التوراة المنزلة ، بل أضيفت فيما أضيف إلى التوراة).

٤ ـ المقصود من الشّيطان في القرآن

كلمة الشيطان من مادة «شطن» و «الشاطن» هو الخبيث والوضيع. والشيطان تطلق على الموجود المتمرد العاصي ، إنسانا كان أو غير إنسان ، وتعني أيضا الروح الشريرة البعيدة عن الحق. وبين كل هذه المعاني قدر مشترك.

والشّيطان اسم جنس عام ، وإبليس اسم علم خاص ، وبعبارة اخرى ، الشيطان كل موجود مؤذ مغو طاغ متمرّد ، إنسانا كان أم غير إنسان ، وإبليس اسم الشيطان الذي أغوى آدم ويتربّص هو وجنده الدوائر بأبناء آدم دوما.

من مواضع استعمال هذه الكلمة في القرآن يفهم أن كلمة الشيطان تطلق على الموجود المؤذي المضر المنحرف الذي يسعى إلى بث الفرقة والفساد والاختلاف. مثل قوله تعالى :

١٧١

(إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ) ... (١).

وفي استعمال فعل المضارع «يريد» دلالة على استمرار إرادة الشيطان على هذا النحو.

والاستعمال القرآني لكلمة شيطان يشمل حتى أفراد البشر المفسدين المعادين للدعوة الإلهية ، كقوله تعالى : (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) (٢).

كلمة الشيطان أطلقت على إبليس أيضا بسبب فساده وانحرافه.

والميكروبات المضرّة تشملها كلمة الشيطان أيضا ، كما ورد عن علي أمير المؤمنينعليه‌السلام: «لا تشربوا الماء من ثلمة الإناء ولا من عروته ، فإنّ الشّيطان يقعد على العروة والثّلمة» (٣).

وروي عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام : «ولا يشرب من أذن الكوز ، ولا من كسره إن كان فيه ، فإنّه مشرب الشّياطين» (٤).

وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يطوّلنّ أحدكم شاربه فإنّ الشّيطان يتّخذه مخبئا يستتربه» (٥).

ومن الواضح أننا لا نقصد أن معنى كلمة الشيطان هو الميكروب أينما وردت هذه الكلمة ، بل نقصد أن الكلمة لها معان متعددة ، أحد مصاديقها الواضحة «إبليس» وجنده وأعوانه. ومصداقها الآخر أفراد البشر المفسدون المنحرفون.ووردت في مواضع اخرى بمعنى الميكروبات المؤذية (تأمل بدقّة)!

__________________

(١) المائدة ، ٩١.

(٢) الأنعام ، ١١٢.

(٣) كتاب الكافي ، ج ٦ ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب الأواني.

(٤) كتاب الكافي ، ج ٦ ، كتاب الأطعمة والأشربة ، باب الأواني.

(٥) كتاب الكافي ، ج ٦ ، ص ٤٨٧ ، ح ١١.

١٧٢

٥ ـ لماذا خلق الشيطان؟!

يثار أحيانا سؤال عن سبب خلق هذا الموجود المضل المغوي. وفي الجواب نقول :

أوّلا : لم يخلق الله الشيطان ، شيطانا. والدليل على ذلك وجوده بين ملائكة الله وعلى الفطرة الطاهرة. لكنه بعد تحرره أساء التصرف ، وعزم على الطغيان والتمرّد.إنه إذن خلق طاهرا ، وسلك طريق الانحراف مختارا.

ثانيا : وجود الشيطان لا يسبب ضررا للأفراد المؤمنين ، ولطلاب طريق الحق ، في منظار نظام الخليقة. بل إنه وسيلة لتقدمهم وتكاملهم ، إذ إن التطوّر والتقدّم يتم من خلال صراع الأضداد.

بعبارة أوضح : قوى الإنسان وطاقاته الكامنة لا تتأهب ولا تتفجر إلّا حينما يواجه الإنسان عدوا قويا. هذا العدو يؤدّي إلى تحريك طاقات الإنسان وبالتالي إلى تقدّمه وتكامله.

الفيلسوف المعاصر «توينبي» يقول : «لم تظهر في العالم حضارة راقية إلّا بعد تعرّض شعب من الشعوب إلى هجوم خارجي قوي. وهذا الهجوم يؤدي إلى تفجير النبوغ والكفاءات ، لصنع مثل هذه الحضارة».

* * *

١٧٣

الآيات

(فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (٣٧) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٣٩))

التّفسير

عودة آدم عليه‌السلام إلى الله

بعد حادثة وسوسة إبليس ، وصدور الأمر الإلهي لآدم بالخروج من الجنّة ، فهم آدم أنه ظلم نفسه ، وأنه أخرج من ذلك الجوّ الهاديء المنعّم على أثر إغواء الشيطان ، ليعيش في جوّ جديد مليء بالتعب والنصب. وهنا أخذ آدم يفكر في تلافي خطئه ، فاتجه بكل وجوده إلى بارئه وهو نادم أشدّ الندم.

وأدركته رحمة الله في هذه اللحظات كما تقول الآية (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ ، إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ).

«التوبة» في اللغة بمعنى «العودة» ، وهي في التعبير القرآني ، بمعنى العودة عن الذنب ، إن نسبت إلى المذنب. وإن نسبت كلمة التوبة إلى الله فتعني عودته سبحانه إلى الرحمة التي كانت مسلوبة عن العبد المذنب. ولذلك فهو تعالى «توّاب» في

١٧٤

التعبير القرآني.

بعبارة اخرى «توبة» العبد عودته إلى الله ، لأن الذنب فرار من الله والتوبة رجوع إليه. وتوبة الله ، إغداق رحمته على عبده الآئب (١).

صحيح أن آدم لم يرتكب محرّما ، ولكن ترك الأولى يعتبر معصية منه. ولذلك سرعان ما تدارك الموقف ، وعاد إلى خالقه.

وسنتحدث فيما بعد عن المقصود ب «الكلمات» في الآية.

على أيّ حال ، لقد حدث ما لا ينبغي أن يحدث ـ أو ما ينبغي أن يحدث ـ وقبلت توبة آدم ، لكن الأثر الوضعي للهبوط في الأرض لم يتغير ، كما يذكر القرآن : (قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً ، فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً ، فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

* * *

بحوث

١ ـ الكلمات التي تلقاها آدم

تعددت الآراء في تفسير «الكلمات» ، التي تلقاها آدم عليه‌السلام من ربّه.

المعروف أنها الكلمات المذكورة في الآية ٢٣ من سورة الأعراف : (قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ).

وقال آخرون أن المقصود من الكلمات هذا الدعاء : «اللهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك ، ربّ إنّي ظلمت نفسي ، فاغفر لي إنّك خير الغافرين».

__________________

(١) ولذلك ، توبة العبد تتعدى بحرف الجر (إلى) ، وتوبة الله تتعدى ب (على) ، فيقال في الاولى «تاب إليه» وفي الثانية «تاب عليه» ، راجع التّفسير الكبير للفخر الرازي وتفسير الصافي ، ذيل آيات بحثنا.

١٧٥

«اللهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك ، ربّ إنّي ظلمت نفسي ، فارحمني إنّك خير الرّاحمين».

«اللهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك وبحمدك ، ربّ إنّي ظلمت نفسي ، فتب عليّ إنّك أنت التّوّاب الرّحيم».

وهذا ما نقل في رواية عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام(١).

مثل هذه التعابير ذكرها القرآن على لسان يونس وموسى عليهما‌السلام. يونس ناجى ربّه فقال : (سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (٢). وموسى أيضا : (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ) (٣).

وفي روايات وردت عن طرق أهل البيت عليهم‌السلام أن المقصود من «الكلمات» أسماء أفضل مخلوقات الله وهم : محمّد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين ـ عليهم أفضل الصلاة والسلام ـ وآدم توسل بهذه الكلمات ليطلب العفو من ربّ العالمين فعفا عنه.

هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها ، ولعلّ آدم تلقى من ربّه كل هذه الكلمات ، كي يحدث فيه تغيير روحي تام بعد أن يعي حقيقة هذه الكلمات ، وليشمله بعد ذلك لطف الله ورحمته.

٢ ـ سبب تكرار جملة «اهبطوا»

الأمر بالهبوط تكرر في الآيتين : ٣٦ و ٣٨ من هذه السّورة ، أي قبل توبة آدم وحواء وبعدها. للمفسرين رأيان في سبب التكرار ، بعضهم قالوا للتأكيد ، وآخرون قالوا إن موضوع الجملة الاولى يختلف عن موضوع الجملة الثانية.

والظاهر أن الجملة الثانية توضح لآدم مسألة عدم انتفاء الأمر بالهبوط في

__________________

(١) مجمع البيان ، ذيل الآيات التي نحن بصددها.

(٢) الأنبياء ، ٨٧.

(٣) القصص ، ١٦.

١٧٦

الأرض بعد قبول التوبة ، وعدم الانتفاء هذا يعود إمّا إلى أن آدم قد خلق منذ البداية لهذا الهدف ، أو لأن هذا الهبوط أثر وضعي لعمله. وهذا الأثر الوضعي لا يتغير بالتوبة.

٣ ـ من هم المخاطبون في جملة «اهبطوا»؟

الضمير في «اهبطوا» للجمع ، بينما عدد المخاطبين اثنان فقط ، هما آدم وزوجه. والجمع هنا ناظر إلى النتيجة التي تستتبع هبوط آدم وحواء في الأرض.فأبناؤهما وأجيال البشر بعد هما سيستقرون على هذه المعمورة.

* * *

١٧٧

الآية

(يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (٤٠))

التّفسير

ذكر النّعم الإلهية

مرّت بنا في الآيات السابقة قصّة خلافة آدم في الأرض ، وموقف الملائكة منه ، ثم نسيانه العهد الإلهي وهبوطه إلى الأرض ، وبعد ذلك توبته.

ومن أحداث قصّة آدم عليه‌السلام ، اتضح أن الساحة الكونية تنطوي دوما على قوتين : قوّة الحق وقوّة الباطل. وهاتان القوتان متقابلتان ومتصارعتان ، ومن اتبع الشيطان في هذا الصراع فقد اختار طريق الباطل ، ومصيره الابتعاد عن الجنّة والسّعادة ، ومعاناة المصائب والآلام ، ومن ثمّ الندم. ومن التزم بأوامر الله ونواهيه وتغلب على وساوس الشيطان وأتباعه ، فقد سار على طريق الحق ، وابتعد عن نكد العيش وضنكه وآلامه.

لمّا كانت قصّة بني إسرائيل ابتداء من تحررهم من السيطرة الفرعونية واستخلافهم في الأرض ، ومرورا بنسيان العهد الإلهي ، وانتهاء بسقوطهم في حضيض الانحراف والعذاب والمشقة ، تشبه إلى حد كبير قصة آدم ، بل هي فرع

١٧٨

من ذلك الأصل العام ، فإن الله سبحانه في آية بحثنا وعشرات الآيات الاخرى التالية ، بيّن مقاطع من حياة بني إسرائيل ومصيرهم ، لإكمال الدرس التربوي الذي بدأ بقصة آدم.

يوجه القرآن خطابه إلى بني إسرائيل ويقول : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ).

الأوامر الثلاثة التي تذكرها الآية الكريمة وهي : تذكّر النعم الإلهية ، والوفاء بالعهد ، والخوف من الله ، تشكل المنهج الإلهي الكامل للبشرية.

تذكّر النعم الإلهية يحفّز الإنسان للاتجاه نحو معرفة الله سبحانه وشكره.واستشعار العهد الإلهي الذي يستتبع النعم الإلهية يدفع الكائن البشري إلى النهوض بمسؤولياته وواجباته. ثم الخوف من الله وحده ـ دون سواه ـ يمنح الإنسان العزم على تحدّي كل العقبات التي تقف بوجه تحقيق أهدافه والالتزام بعهده. لأن التخوف الموهوم من هذا وذاك أهم موانع الالتزام بالعهد الإلهي.وظاهرة الخوف كانت متغلغلة في أعماق نفوس بني إسرائيل نتيجة السيطرة الفرعونية الطّويلة عليهم.

* * *

بحوث

١ ـ اليهود في المدينة

يحتل الحديث عن اليهود قسما هاما من سورة البقرة ، التي هي أوّل سورة نزلت في المدينة كما صرح بذلك بعض العلماء ، لأنّ اليهود كانوا أشهر مجموعة من أهل الكتاب في المدينة ، وكانوا قبل ظهور النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينتظرون رسولا بشّرت به كتبهم الدينيّة ، كما أنهم كانوا يتمتعون بمكانة اقتصادية مرموقة ، ولذلك كله كان لليهود نفوذ عميق في المدينة.

١٧٩

ولمّا ظهر الإسلام ، باعتباره الرسالة التي تقف بوجه مصالحهم اللامشروعة وانحرافاتهم وغطرستهم ، فمضافا إلى عدم إيمانهم به وقفوا بوجه الدعوة ، وبدأوا يحوكون ضدها المؤامرات التي لا زالت مستمرة بعد أربعة عشر قرنا من البعثة النبوية المباركة.

الآية المذكورة وآيات تالية أنحت باللائمة الشديدة على اليهود ، وهزت عواطفهم بذكر مقاطع حساسة من تاريخهم ، بحيث لو كان لأحدهم قليل من الموضوعية لاستيقظ واتجه نحو الإسلام. كما إن هذا السرد لتاريخ اليهود درس مليء بالعبر للمسلمين.

وسنقف في آيات تالية بإذن الله عند دروس من تاريخ اليهود ، مثل نجاتهم من فرعون، وانفلاق البحر لهم ، وغرق الفرعونيين ، وميعاد موسى في جبل الطور ، وعبادة بني إسرائيل للعجل في غياب موسى ، والأمر بالتوبة وقتل النفس ، ونزول النعم الخاصة الإلهية ، وأمثالها من الدروس.

* * *

٢ ـ ميثاق بني إسرائيل :

ميثاق بني إسرائيل الإلهي يتكون من اثني عشر بندا ، عشر منها ذكرت في آيتين متواليتين من هذه السّورة.

(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ ، وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً ، وَذِي الْقُرْبى، وَالْيَتامى ، وَالْمَساكِينِ ، وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ ، وَآتُوا الزَّكاةَ) ...(وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ ، وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) (١).

__________________

(١) البقرة ، ٨٣ و ٨٤.

١٨٠