الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

الآية

(الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٢٧))

التّفسير

الخاسرون الحقيقيون :

هذه الآية الكريمة توضح مواصفات الفاسقين بعد أن تحدثت الآية السابقة عن ضلال هذه الفئة ، وتذكر لهم ثلاث صفات :

١ ـ إنهم (يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ).

هؤلاء لهم مع الله عهود ومواثيق ، مثل عهد التوحيد ، وعهد الرّبوبية ، وعهد عدم اتّباع الشيطان وهوى النفس. لكنهم نقضوا كل هذه العهود ، وتمرّدوا على أوامر الله ، واتبعوا أهواءهم وما أراده الشيطان لهم.

طبيعة هذا العهد : يثار سؤال حول العهد المبرم بين الله والإنسان ، فالعهد عقد ذو جانبين ، وقد يقول قائل : متى أبرمت مع الله عهدا من العهود المذكورة؟

الجواب على هذا السؤال يتضح لو عرفنا أن الله سبحانه أودع في أعماق النفس الإنسانية شعورا خاصا وقوى خاصة يستطيع بها أن يهتدي إلى الطريق

١٤١

الصحيح ، ويتجنب مزالق الشيطان وأهواء النفس ، ويستجيب لداعي الله.

هذه القوى الفطرية يعبّر عنها القرآن بالعهد الإلهي ، وهو في الحقيقة «عهد تكويني» لا تشريعي أو قانوني. يقول تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ)؟! (١).

وواضح أنّ الآية تشير إلى فطرة التوحيد العبودية والميل إلى الاتجاه نحو التكامل في النفس الإنسانية.

الدليل الآخر على هذا الاتجاه في فهم العهد الإلهي ، ما جاء في أول خطب نهج البلاغة عن أمير المؤمنين علي عليه‌السلام : حيث قال : «فبعث فيهم رسله وواتر إليهم أنبياءه ، ليستأدوهم ميثاق فطرته».

بتعبير آخر : كل موهبة يمنحها الله للإنسان يصحبها عهد طبيعي بين الله والإنسان،موهبة العين يصحبها عهد يفرض على الإنسان أى يرى الحقائق ، وموهبة الاذن تنطوي على عهد مدوّن في ذات الخلقة يفرض الاستماع إلى نداء الحق ... وبهذا يكون الإنسان قد نقض العهد متى ما غفل عن استثمار القوى الفطرية المودعة في نفسه ، أو استخدم الطاقات الموهبة له في مسير منحرف.

الفاسقون ، ينقضون بعض هذه العهود الفطرية الإلهية ، أو جميعها.

٢ ـ الصفة الاخرى لهؤلاء الفاسقين هي أنهم (... يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ)... .

أكثر المفسرين ذهبوا إلى أن القطع المذكور في الآية يعني قطع الرحم ، لكن مفهوم الآية ـ في نظرة أعمق ـ أعم من ذلك ، وما قطع الرحم إلّا أحد مصاديقها ، لأن الآية تتحدث عن قطع الفاسقين لكل ارتباط أمر الله به أن يوصل ، بما في ذلك رابطة الرحم، رابطة الصداقة ، والروابط الاجتماعية ، والرابطة بهداة البشرية إلى

__________________

(١) يس ، ٦٠ و ٦١.

١٤٢

الله ، والارتباط بالله. ولا دليل على حصر الآية برابطة الرحم.

بعض المفسرين ذهبوا إلى أن الآية تشير إلى قطع الارتباط بالأنبياء والمؤمنين ، وبعضهم فسّرها بالارتباط بأئمة أهل البيت عليهم‌السلام (١). وواضح أن هذه التفاسير تبيّن جزء من المفهوم الكلي للآية.

٣ ـ علامة الفاسقين الثالثة هي الفساد : (... وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ).

ومن الواضح أن يكون هؤلاء مفسدين ، لأنهم نسوا الله وعصوه ، وخلت نفوسهم من كل عاطفة إنسانية حتى تجاه أرحامهم ، هؤلاء لا يتحركون إلّا على خط مصالحهم وأهدافهم الذاتية الدنيّة ، ولا يهمّهم على هذا الطريق أن يعيثوا في الأرض فسادا ، ويرتكبوا كل لون من الانحراف.

وتؤكد الآية في الخاتمة أن (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ).

وأي خسران أكبر من تبديد كل القوى المادية والمعنوية المودعة في الإنسان الرّامية لإسعاده ، وإهدارها على طريق الشقاوة والتعاسة والانحراف؟! نعم ، هؤلاء الفاسقون الذين خرجوا عن خط إطاعة الله ليس لهم مصير سوى الخسران.

* * *

بحثان

١ ـ أهمية صلة الرحم في الإسلام :

الآية المذكورة أعلاه ، وإن تحدثت عن كل ارتباط أمر الله به أن يوصل ، إلّا أن الارتباط الرحمي دون شك أحد مصاديقها البارزة.

لقد أعار الإسلام اهتماما بالغا بصلة الرحم وبالتودّد إلى الأهل والأقارب.ونهى بشدّة عن قطع الارتباط بالرحم.

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤٥ ، لمزيد من التوضيح في هذا المجال راجع المجلد السابع من هذا التّفسير ذيل الآية ٢١ من سورة الرعد.

١٤٣

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصوّر أهمية صلة الرحم بقوله : «صلة الرّحم تعمر الدّيار وتزيد في الأعمار ، وإن كان أهلها غير أخيار» (١).

وعن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام قال : «صل رحمك ولو بشربة ماء ، وأفضل ما يوصل به الرّحم كفّ الأذى عنها» (٢).

الإمام علي بن الحسين السّجاد عليه‌السلام يحذّر ولده من صحبة خمس مجموعات ، إحداها قطاع الرحم ، ويقول : «... وإيّاك ومصاحبة القاطع لرحمه فإنّي وجدته ملعونا في كتاب الله».

ويقول سبحانه : (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ) (٣).

السبب في كل هذا التأكيد الإسلامي على الرحم هو أن عملية إصلاح المجتمع وتقوية بنيته وصيانة مسيرة تكامله وعظمته في الحقول المادية والمعنوية ، تفرض البدء بتقوية اللّبنات الأساسية التي يتكون منها البناء الاجتماعي ، وعند استحكام اللّبنات وتقويتها يتم إصلاح المجتمع تلقائيّا.

الإسلام مارس هذه العملية على النحو الأكمل في بناء المجتمع الإسلامي القوي الشامخ ، وأمر بإصلاح الوحدات الاجتماعية. والكائن الإنساني لا يأبى عادة أن ينصاع إلى مثل هذه الأوامر اللازمة لتقوية ارتباط أفراد الأسرة ، لاشتراك هؤلاء الأفراد في الرحم والدم.

وواضح أن المجتمع يزداد قوة وعظمة كلّما ازداد التماسك والتعاون والتعاضد في الوحدات الاجتماعية الصغيرة المتمثلة بالأسرة. وإلى هذه الحقيقة قد يشير الحديث الشريف:«صلة الرحم تعمر الديار».

__________________

(١) سفينة البحار (مادة رحم).

(٢) سفينة البحار (مادة رحم).

(٣) محمّد ، ٢٢.

١٤٤

٢ ـ القطع بدل الوصل :

ذكرت الآية الكريمة : أنّ الفاسقين. (يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ) وفي هذا الصدد يثار سؤال يقول : هل القطع ممكن قبل الوصل؟

والجواب : إن المقصود بالوصل استمرار الروابط التي أقرّها الله سبحانه بينه وبين عباده، أو بين عباده مع بعضهم بشكل طبيعي وفطري.

بعبارة اخرى ، إن الله سبحانه أمر بالحفاظ على هذه الروابط الفطرية والطبيعية وبصيانتها ، لكنّ المذنبين يقطعونها (تأمّل بدقة).

* * *

١٤٥

الآيتان

(كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٨) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (٢٩))

التّفسير

نعمة الحياة :

القرآن في الآيتين يلفت أنظار البشر إلى عظمة الخالق عن طريق ذكر بعض النعمّ الإلهية وبعض المظاهر المدهشة للخلقة. وبذلك يكمل الأدلة التي أوردها في الآيتين (٢١ و٢٢) من هذه السّورة حول معرفة الله.

القرآن يبدأ في أدلته من نقطة لا تقبل الإنكار ، ويركز على مسألة (الحياة) بكل ما فيها من تعقيد وغموض ، ويقول : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ).

وفي هذه العبارة تذكير للإنسان بما كان عليه قبل الحياة ... لقد كان ميتا تماما مثل الأحجار والأخشاب ولم يكن فيه أي أثر للحياة ، لكنه الآن يتمتع بنعمة الحياة ، وبنعمة الشعور والإدراك.

١٤٦

من الذي منح الإنسان نعمة الحياة؟ هل أن الكائن البشري هو الذي منح نفسه الحياة؟! كل إنسان منصف لا يتردد أن يجيب : أن هذه الحياة موهوبة للإنسان من لدن عالم قادر ... عالم برموز الحياة وقوانينها المعقدة ... وقادر على تنظيمها. إذن كيف يكفر هذا الإنسان بمن أحياه بعد موته؟!

 أجمعت العلماء اليوم أن مسألة الحياة أعقد مسألة في عالمنا هذا ، لأن لغز الحياة لم ينحل حتى اليوم على الرغم من كل ما حققه البشر من تقدّم هائل في حقل العلم والمعرفة.قديستطيع العلم في المستقبل أن يكتشف بعض أسرار الحياة ... لكن السؤال يبقى قائما بحاله : كيف يكفر الإنسان بالله وينسب هذه الحياة بتعقيداتها وغموضها وأسرارها إلى صنع الطبيعة العمياء الصّماء الفاقدة لكل شعور وإدراك؟!

 من هنا نقول إن ظاهرة الحياة في عالم الطبيعة أعظم سند لإثبات وجود الله تعالى. والقرآن يركز في الآية المذكورة على هذه المسألة بالذات ، وهي مسألة تحتاج إلى مزيد من الدراسة والتعمق ، لكننا نكتفي هنا بهذه الإشارة.

بعد التذكير بهذه النعمة ، تؤكد الآية على دليل واضح آخر وهو «الموت» (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ).

ظاهرة «الموت» يراها الإنسان في حياته اليومية ، من خلال وفاة من يعرفهم ومن لا يعرفهم ، وهذه الظاهرة تبعث أيضا على التفكير ، من الذي قبض أرواحهم؟ ألا يدلّ سلب الحياة منهم على أن هناك من منحهم هذه الحياة؟

نعم ... إن خالق الحياة هو خالق الموت أيضا ، وإلى ذلك تشير الآية الكريمة:(الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (١).

بعد أن ذكرت الآية هذين الدليلين الواضحين على وجود الله ، تناولت المعاد

__________________

(١) الملك ، ٢.

١٤٧

والحياة بعد الموت : (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ).

ويأتي ذكر المعاد في سياق هذه الآية ليبين أن مسألة الحياة بعد الموت (المعاد) مسألة طبيعية جدا لا تختلف عن مسألة إحياء الإنسان في هذه الدنيا بل إنها أيسر من الخلق الاول (مع أن السهل والصعب ليس لها مفهوم بالنسبة للقادر المطلق). وهل بمقدور إنسان أن ينكر إمكان المعاد وهو يرى أنه خلق من عناصر ميتة؟!

 وهكذا ، وبعبارة موجزة رائعة يفتح القرآن أمام الإنسان سجل حياته منذ ولادته وحتى بعثه.

وفي نهاية الآية يقول تعالى : (ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ). والمقصود بالرجوع هو الرجوع إلى نعم الله تعالى يوم القيامة. والرجوع غير البعث. والقرآن يفصل بين الاثنين كما في قوله تعالى:(وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (١).

قد يكون الرجوع في الآية الكريمة إشارة إلى معنى أدقّ ، هو إن جميع الموجودات تبدأ مسيرة تكاملها من نقطة العدم التي هي نقطة «الصفر» وتواصل السير نحو «اللانهاية» التي هي ذات الله سبحانه وتعالى. من هنا فإن هذه المسيرة لا تتوقف لدى الموت ، بل تستمر في الحياة الاخرى على مستوى أسمى.

بعد ذكر نعمة الحياة والإشارة إلى مسألة المبدأ والمعاد ، تشير الآية إلى واحدة اخرى من النعمّ الإلهية السابقة وتقول : (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً).

وبهذا تعيّن الآية قيمة الإنسان في هذه الأرض ، وسيادته على ما فيها من موجودات. ومنها نستطيع أن نفهم المهمّة العظيمة الثقلية الموكولة إلى هذا المخلوق

__________________

(١) الأنعام ، ٣٦.

١٤٨

في ساحة الوجود.

وفي القرآن آيات اخرى تؤكد على مكانة الإنسان السامية ، وتوضّح أن هذا الكائن هو الهدف النهائي من خلق كل موجودات الكون.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) (١) وثمة آيات اخرى تحدثت عن هذا المفهوم بالتفصيل كقوله تعالى (٢).

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ) ... (٣).

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ) ... (٤).

(وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ) ... (٥).

وسخر لكم البحر ... (٦).

(وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ... (٧).

وتعود الآية إلى ذكر أدلة التوحيد وتقول : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).

الفعل «استوى» من «الاستواء» وهو التسلط والإحاطة الكاملة والقدرة على الخلق والتدبير ، وكلمة «ثم» في الآية لا تعني لزاما التأخير الزماني ، بل تعني أيضا التأخير في البيان وتوالي في ذكر الحقائق.

* * *

__________________

(١) الجاثية ، ١٣.

(٢) هناك دراسة أو فى لهذا المفهوم في الجزء السابع من هذا التّفسير ، ذيل الآية ٢ من سورة الرعد ، وذيل الآيتين ٣٢ و ٣٣ من سورة إبراهيم.

(٣) إبراهيم ، ٣٢.

(٤) إبراهيم ، ٣٢.

(٥) إبراهيم ، ٣٣.

(٦) الجاثية ، ١٢.

(٧) إبراهيم ، ٣٣.

١٤٩

بحوث

١ ـ التناسخ أو عودة الأرواح

الآية المذكورة أعلاه من الآيات التي ترفض بوضوح فكرة التناسخ ، فالمعتقدون بالتناسخ يؤمنون بأن الإنسان يعود بعد الموت ثانية إلى هذه الحياة ، بعد أن تحلّ روحه في جسم آخر (ونطفة اخرى) ، ويحيا في هذه الدنيا حياة اخرى ، وقد تتكرر هذه العودة مرات، وتكرر هذه الحياة يسمى بالتناسخ أو عودة الأرواح.

الآية تصرح بعدم وجود أكثر من حياة واحدة بعد الموت ، هي حياة البعث والنشور. وبعبارة اخرى توضح الآية أن للإنسان حياتين ومماتين لا أكثر ، وكان الإنسان ميتا يوم كان جزءا من الطبيعة غير الحيّة ، ثم أحياه الله يوم ولد ، ثم يميته ، ثم يعيده. ولو كان التناسخ صحيحا لكان للإنسان أكثر من مماتين وحياتين.

هذا المفهوم مذكور في آيات اخرى أيضا ، سنشير إليه في موضعه (١).

فكرة التناسخ إذن مرفوضة قرآنيا ، كما أنّه مرفوضة عقليا ، وهي نوع من الرجعية والانتكاس في قانون التكامل (٢).

جدير بالذكر أنّ هذه الآية لا تشير إلى الحياة البرزخية (الحياة بين الموت والنشور) كما توهم البعض ، بل إلى الحياة بعد الموت في هذه الدنيا (إحياء الإنسان بعد تكونه من مواد طبيعيّة ميتة) ، ثم الموت بعد هذه الحياة الدنيوية ، ثم الحياة الاخرى ، واستمرار المسيرة التكاملية نحو الله.

__________________

(١) موضوع «الرجعة» لا يعارض هذا المفهوم ، لأنه محدود بعدد خاص من الأشخاص ، وليس بقانون عام.

والآية المذكورة تتحدث عن قضية عامة.

(٢) درسنا هذه المسألة في «عود الأرواح والارتباط بالأرواح».

١٥٠

٢ ـ السّماوات السّبع

كلمة «سماء» تشير إلى جهة عليا ، ولها مفهوم واسع ذو مصاديق مختلفة.ولذلك كان لها استعمالات عديدة في القرآن الكريم :

١ ـ أطلقت أحيانا على «الجهة العليا» المجاورة للأرض كقوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) (١).

٢ ـ وعنى بها القرآن تارة المنطقة البعيدة عن سطح الأرض : (وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) (٢).

٣ ـ عبّر القرآن بها في موضع آخر عن (الغلاف الجوي) المحيط بالأرض :(وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (٣). لأن هذا الغلاف يقي الكرة الأرضية من الصخور السماوية (النيازك) التي تتجه إلى الأرض ليلا ونهارا بفعل جاذبية الأرض ، لكن اصطدام هذه الصخور بجوّ الأرض يؤدي إلى اشتعالها ومن ثم تحوّلها إلى رماد.

٤ ـ وأراد القرآن بالسماء في موضع آخر (الكرات العليا) : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ) (٤).

نعود الآن إلى «السماوات السبع» لنرى ما المقصود من هذا العدد. تعددت آراء المفسرين والعلماء المسلمين في ذلك.

١ ـ منهم من قال إنها السّيارات السّبع (٥) في اصطلاح الفلكيين القدماء : أي

__________________

(١) إبراهيم ، ٢٤.

(٢) ق ، ٩.

(٣) الأنبياء ، ٣٢.

(٤) فصلت ، ١١.

(٥) منهم من قسّم كرات المنظومة الشمسية العشر (تسع سيارات معروفة إضافة سيارة كانت موجودة بين المريخ والمشتري ، ثم تهشمت وظلت بقاياها تدور في نفس المدار) إلى مجموعتين : مجموعة تحت مدار الأرض (عطارد والزهرة) ومجموعة خارج مدار الأرض وفوقه ، وهي سبع سيارات. ولعلهم بهذا أرادوا تفسير السماوات السبع بالكرات السبع الخارجية. (تأمل بدقة).

١٥١

عطارد والزهرة والمريخ والمشتري وزحل والقمر والشمس.

٢ ـ ومنهم من قال إن المقصود بها هو الطبقات المتراكمة للغلاف الجوي المحيط بالكرة الأرضية.

٣ ـ ومنهم من قال إن العدد (سبعة) لا يراد به هذا العدد المعروف ، بل يراد به الكثرة، أي أن معنى «السماوات السبع» هو السماوات والكرات الكثيرة في الكون.

ولهذا نظير في كلام العرب وفي القرآن ، كقوله تعالى : (وَلَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللهِ) (١).

وواضح أن المقصود بالسبعة في هذه الآية ليس العدد المعروف ، لأن علم الله لا ينتهي حتى ولو أن البحر يمده من بعده الآلاف المؤلفة من الأبحر.

٤ ـ الأصح في رأينا أن المقصود بالسماوات السبع ، هو وجود سبع سماوات بهذا العدد. وتكرر هذه العبارة في آيات الذكر الحكيم يدل على أن العدد المذكور في هذا الآيات لا يعني الكثرة ، بل يعني العدد الخاص بالذات.

ويستفاد من آيات اخرى أن كل الكرات والسيّارات المشهودة هي جزء من السماء الاولى ، وثمة ستة عوالم اخرى خارجة عن نطاق رؤيتنا ووسائلنا العلمية اليوم. وهذه العوالم السبعة هي التي عبّر عنها القرآن بالسماوات السبع.

يقول تعالى : (وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ) (٢).

ويقول أيضا : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ) (٣).

ويتضح من هاتين الآيتين أن ما نراه وما يتكون منه عالم الأفلاك هو جزء من السماء الاولى ، وما وراء هذه السماء ست سماوات اخرى ليس لدينا اليوم معلومات عن تفاصيلها.

__________________

(١) لقمان ، ٢٧.

(٢) فصلت ، ١٢.

(٣) الصافات ، ٦.

١٥٢

نحن نرى اليوم أنه كلما تقدمت العلوم الناقصة للبشر اكتشفت عجائب ومجاهيل عظيمة. علم الفلك تقدّم إلى مرحلة بعيدة جدا في الرصد عن طريق التلسكوبات ، ثم توقفت قدرة الرؤية إلى أكثر من ذلك.

أبعد ما اكتشفته دوائر الأرصاد الفلكي العالمية حتى الآن مسافة في الكون تعادل ألف مليون (مليار) سنة ضوئية. والراصدون يعترفون أن أقصى ما اكتشفوه هو بداية الكون لا نهايته. وما يدريك أن العلم سيكتشف في المستقبل سماوات وعوامل اخرى!

 من الأفضل أن نسمع هذا الحديث عن لسان مرصد عالمي كبير.

٣ ـ عظمة الكائنات

المرصد ل «بالومر» يصف عظمة الكون كالآتي :

«... قبل نصب مرصد بالومر ، كان العالم في نظرنا لا يزيد على خمسمائة سنة ضوئية. لكن هذا الناظور وسّع عالمنا إلى ألف مليون سنة ضوئية. واكتشف على أثر ذلك ملايين المجرات الجديدة التي يبعد بعضها عنا ألف مليون سنة ضوئية. أما بعد هذه المسافة فيتراءى لنا فضاء عظيم مهيب مظلم لا نبصر فيه شيئا ، أي أن النور لا ينفذ إليه كي يؤثر على صفحة التصوير في المرصد.

ومن دون شك أن هذا الفضاء المهيب المظلم يحتوي على مئات الملايين من المجرات التي تحافظ بجاذبيّتها على هذا العالم المرئي.

كل هذا العالم العظيم المرئي الحاوي على مئات آلاف الملايين من المجرات ليس إلا جزءا صغيرا جدا من عالم أعظم. ولسنا واثقين من عدم وجود عالم آخر غير هذا العالم الأعظم» (١).

* * *

__________________

(١) نقلا عن مجلة «فضاء» العدد ٥٦ ، فروردين ١٣٥١.

١٥٣

الآيات

(وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (٣٠) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣١) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٣٢) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (٣٣))

التّفسير

الإنسان خليفة الله في الأرض

الآيات السابقة ذكرت أن الله سبحانه خلق ما في الأرض جميعا للإنسان ، وفي هذه الآيات تقرير صريح لخلافة الإنسان وقيادته ، وتوضيح لمكانته المعنوية التي استحق بها كل هذه المواهب.

في هذه الآيات عرض لخلقة آدم (أبو البشر) ، وفي الآيات ٣٠ إلى ٣٩ تركيز على ثلاث مسائل أساسية هي :

١٥٤

١ ـ إخبار الله ملائكته بشأن خلافة الإنسان في الأرض ، وما دار في المشهد من حوار.

٢ ـ أمر الله تعالى ملائكته بإكرام وتعظيم الإنسان الأول ، وهذا ما نجده في مواضع عديدة من القرآن الكريم بمناسبات مختلفة.

٣ ـ شرح وضع آدم وحياته في الجنّة ، والحوادث التي أدت إلى خروجه من الفردوس ، ثم توبة آدم ، وحياته هو وذريته في الأرض.

الآيات المذكورة تتحدث عن المرحلة الاولى ، حين شاء الله أن يخلق على ظهر الأرض موجودا ، يكون فيها خليفته ، ويحمل أشعة من صفاته ، وتسمو مكانته على مكانة الملائكة، وشاء سبحانه أن تكون الأرض ونعمها وما فيها من كنوز ومعادن وإمكانات تحت تصرف هذا الإنسان.

مثل هذا الموجود بحاجة إلى قسط وافر من العقل والشعور والإدراك والكفاءة الخاصة،كي يستطيع أن يتولى قيادة الموجودات الأرضية.

وبهذه المناسبة تقول الآية الاولى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) ، والخليفة هو النائب عن الغير. أما هذا الغير الذي ينوب الإنسان عنه فاختلفت فيه أقوال المفسرين ... .

منهم من قال إنه خليفة الملائكة الذين كانوا يسكنون من قبل على ظهر الأرض. ومنهم من قال إنه خليفة بشر آخرين أو موجودات اخرى كانت تعيش قبل ذلك على الأرض.

وذهب بعضهم إلى أن الخليفة إشارة إلى أن كل جيل من البشر يخلف الجيل السابق.

والحق أن المقصود بالخليفة هو خليفة الله ونائبه على ظهر الأرض ، كما ذهب إلى ذلك كثير من المحققين ، لأن سؤال الملائكة بشأن هذا الموجود الذي قد يفسد في الأرض ويسفك الدماء يتناسب مع هذا المعنى ، لأن نيابة الله في الأرض لا

١٥٥

تتناسب مع الفساد وسفك الدماء.

مسألة «تعليم الأسماء» لآدم التي سيأتي شرحها ، وهكذا سجود الملائكة لآدم من أدلة ما ذهبنا إليه في تفسير معنى الخليفة.

الإمام جعفر بن محمّد الصّادق عليه‌السلام يشير أيضا إلى هذا المعنى في تفسير هذه الآيات إذ يقول : «إنّ الله عزوجل علّم آدم أسماء حججه كلّها ثمّ عرضهم وهم أرواح على الملائكة فقال أنبؤني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين بأنّكم أحقّ بالخلافة في الأرض لتسبيحكم وتقديسكم من آدم فقالوا سبحانك لا علم لنا إلّا ما علّمتنا إنّك أنت العليم الحكيم قال الله تبارك وتعالى يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلمّا أنبئهم بأسمائهم وقفوا على عظيم منزلتهم عند الله عزّ ذكره فعلموا أنّهم أحقّ بأن يكونوا خلفاء الله في أرضه وحججه على بريّته ثمّ غيّبهم عن أبصارهم واستعبدهم بولايتهم ومحبّتهم وقال لهم ألم أقل لكم إنّي أعلم غيب السّموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون» (١).

ثم تذكر الآية سؤال الملائكة الذي وجّهوه لربّ العالمين مستفسرين لا معترضين:(قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها. مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ)؟

الله سبحانه أجاب الملائكة جوابا مغلقا اتضح في المراحل التالية : (قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ).

الملائكة كانوا عالمين ـ كما يبدو من تساؤلهم ـ أن هذا الإنسان موجود يفسد في الأرض ويسفك الدماء ، فكيف عرفوا ذلك؟! قيل إن الله سبحانه أوضح للملائكة من قبل على وجه الإجمال مستقبل الإنسان ، وقيل إن الملائكة فهموا ذلك من خلال عبارة «في الأرض» ، لأنهم علموا أن هذا الإنسان يخلق من التراب ، والمادة لمحدوديتها هي حتما مركز

__________________

(١) «الميزان» ج ١ ، ص ١٢١. نقلا عن معاني الأخبار ، وهذا الحديث وإن كان يوضح أكثر مكانة الأنبياء والأئمة ـ لا ينحصر بهذه الصفوة المقدسة بل إنهم المصداق الأتم والأكمل لهذا الموضوع.

١٥٦

للتنافس والنزاع. وهذا العالم المحدود المادي لا يستطيع أن يشبع طبيعة الحرص في الإنسان. وهذه الدنيا لو وضعت بأجمعها في فم الإنسان فقد لا تشبعه. وهذا الوضع ـ إن لم يقترن بالالتزام والشعور بالمسؤولية ـ يؤدي إلى الفساد وسفك الدماء.

بعض المفسرين ذهب إلى أنّ تنبؤ الملائكة يعود إلى تجربتهم السابقة مع مخلوقات سبقت آدم ، وهذه المخلوقات تنازعت وسفكت الدماء وخلفت في الملائكة انطباعا مرّا عن موجودات الأرض.

هذه التفاسير الثلاثة لا تتعارض مع بعضها. وقد يكون موقف الملائكة من استخلاف آدم ناشئا عن هذه الأسباب الثلاثة معا.

الملائكة بيّنوا حقيقة من الحقائق. ولذلك لم ينكر الله عليهم قولهم ، بل أشار إلى أن ثمة حقائق اخرى إلى جانب هذه الحقيقة ، حقائق ترتبط بمكانة الإنسان في الوجود ؛ وهذا ما لم تعرفه الملائكة.

الملائكة يعلمون أن الهدف من الخلقة هو العبودية والطاعة ، وكانوا يرون في أنفسهم مصداقا كاملا لذلك ، فهم في العبادة غارقون. ولذلك فهم ـ أكثر من غيرهم ـ للخلافة لائقون ، غير عالمين أن بين عبادة الإنسان المليء بألوان الشهوات ، والمحاط بأشكال الوساوس الشيطانية والمغريات الدنيوية وبين عبادتهم ـ وهم خالون من كل هذه المؤثرات ـ بون شاسع. فأين عبادة هذا الموجود الغارق وسط الأمواج العاتية ، من عبادة تلك الموجودات التي تعيش على ساحل آمن؟!

 ماذا تعرف الملائكة من أبناء آدم أمثال محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابراهيم ونوح وموسى وعيسى والأئمّة من أهل البيت عليهم‌السلام وعباد الله الصالحين والشهداء والمضحّون من الرجال والنساء الذين قدّموا وجودهم على مذبح العشق الإلهي ، والذين تساوي ساعة من تفكّرهم سنوات متمادية من عبادة الملائكة.

الجدير بالذكر ، إن الملائكة ركنوا في بيان فضلهم إلى ثلاثة امور : التسبيح

١٥٧

والحمد ، والتقديس ، أمّا التسبيح والحمد فمعنا هما واضح ، وهو تنزيه الله عزوجل من كل نقص والاعتراف له بكل كمال وجمال. أمّا ما هو معنى التقديس؟ البعض يرى أنه عبارة عن تنزيه الله عزوجل عن كل نقص ، وهو معنى التسبيح المتقدم.ولكن آخرين ذهبوا إلى ان التقديس من مادة «قدس» أي تطهير الأرض من الفاسدين والمفسدين ، أو تطهير النفس من كل رذيلة ، أو تطهير الجسم والروح لله.والشاهد على ذلك كلمة «لك» ، في جملة «نقدس لك» لأن الملائكة لم يقولوا «نقدسك» بل «نقدس لك» ، أي تطهر المجتمع والأرض لك.

وفي الحقيقة أن مرادهم هو القول بأن الهدف إذا كان هو الطاعة والعبودية فنحن على أتمّ الاستعداد. ولو كان هو العبادة فنحن في هذه الحالة دائما ، وإذا كان المقصود هو تطهير النفس أو تطهير الأرض فسوف ننفذ هذا الأمر. في حين أن الإنسان المادي مضافا إلى فساده. فإنّه يفسد الأرض.

ومن أجل أن تتضح الحقيقة للملائكة أقدم الله سبحانه على هذه التجربة ليعلموا الفرق الشاسع بينهم وبين آدم عليه‌السلام.

الملائكة في بودقة الاختبار

كان آدم يملك ـ بفضل الله ـ قابلية خارقة لفهم الحقائق ، وشاء الله أن ينقل هذه القابلية من مرحلة القوّة إلى مرحلة الفعل ، وهذا ما عبر عنه القرآن بقوله :(وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها).

اختلف المفسرون في تفسير «تعليم الأسماء» ، ومن المؤكد أن المقصود من ذلك ليس هو تعليم الأسماء دون المعاني. فذلك لا يكسب آدم فخرا بل المقصود هو معاني الأسماء والمفاهيم والمسميات.

هذا العلم بالكون وبأسرار الموجودات وخواصها ، كان مفخرة كبيرة لآدم طبعا.

١٥٨

عن أبي العباس قال : سألت الإمام الصادق عليه‌السلام عن قول الله : وعلّم آدم الأسماء كلها ، ماذا علّمه؟ قال : «الأرضين والجبال والشعاب والأودية ثم نظر إلى بساط تحته فقال: وهذا البساط ممّا علّمه» (١).

علم الأسماء إذن لم يكن يشبه «علم المفردات» ، بل كان يرتبط بفلسفة الأسماء وأسرارها وكيفياتها وخواصها. والله سبحانه منح آدم هذا العلم ليستطيع أن يستثمر المواهب المادية والمعنوية في الكون على طريق تكامله.

كما منح الله آدم قابلية التسمية ، ليستطيع أن يضع للأشياء أسماء ، وبذلك يتحدث عن هذه الأشياء بذكر اسمها لا بإحضار عينها. وهذه نعمة كبرى ، نفهمها لو عرفنا أن علوم البشرية تنقل عن طريق الكتب والمدوّنات. وما كان هذا التدوين مقدورا لو لا وضع الأسماء للأشياء وخواصها.

(ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ : أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ)...وأمام هذا الاختبار تراجع الملائكة لأنهم لم يملكوا هذه القدرة العلمية التي منحها الله لآدم ، (قالُوا: سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).

وهكذا أدركت الملائكة تلك القدرة التي يحملها آدم ، التي تجعله لائقا لخلافة الله على الأرض. وفهمت مكانة هذا الكائن في الوجود.

وحان الدور لآدم كي يشرح أسماء الموجودات وأسرارها أمام الملائكة : (قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ).

وهنا اتضح للملائكة أن هذا الموجود هو وحده اللائق لاستخلاف الأرض.

عبارة (ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ) إشارة إلى أن الملائكة كانوا يخفون شيئا لم

__________________

(١) الميزان ، ج ١ ، ص ١١٩.

١٥٩

يظهروه في أقوالهم. قال بعض المفسرين : إنها إشارة إلى حالة استكبار إبليس الذي كان يومئذ بين الملائكة. وكان يكتم إصراره على عدم الخضوع لآدم.

ومن المحتمل أيضا أن تكون العبارة إشارة إلى ما كان يبطنه الملائكة من اعتقاد بأنهم أليق من غيرهم للخلافة الإلهية على الأرض. فهم أشاروا إلى مثل هذا الاعتقاد ولم يصرّحوابه.

جواب على سؤالين

ويبقى سؤالان في هذا المجال ، الأوّل يدور حول تعليم الله لآدم ، كيف تمّ ذلك؟ ولو قدّر أن يكون هذا التعليم من نصيب الملائكة لنالوا نفس فضيلة آدم ، فهل هناك مفخرة يمتلكها آدم ولا تمتلكها الملائكة؟

أما بشأن كيفية التعليم فالجواب هو أن هذا التعليم تكويني ، أي إن الله أودع هذا العلم في وجود آدم بالقوة ، ودفعه خلال مدّة قصيرة إلى المرحلة الفعلية.

إطلاق كلمة «تعليم» في القرآن على «التعليم التكويني» ورد في موضع آخر من القرآن ، كقوله تعالى : (عَلَّمَهُ الْبَيانَ) (١) وواضح أن الله سبحانه علّم الإنسان البيان في مدرسة الخلقة ، أي منحه الكفاءة والخصائص الفطرية اللازمة للبيان والكلام.

أما الشطر الآخر من هذا السؤال فيتبين جوابه لو علمنا أن الملائكة كانت لهم خلقة خاصة ، ما كانت تؤهلهم لتلقي كل هذه العلوم. إنهم مخلوقون لهدف آخر ، لا لهذا الهدف، وهذه الحقيقة فهمها الملائكة وتقبلوها بعد أن مرّوا بتلك التجربة المذكورة في الآية. ولعلهم اعتقدوا في البداية أنهم يحملون الكفاءة اللازمة لهذا الهدف ، لكن الله بيّن لهم الفرق بين كفاءتهم وكفاءة آدم بتجربة تعليم الأسماء.

__________________

(١) الرحمن ، ٤.

١٦٠