الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

جميعا ، لو قبلوها جملة لتحولت ساحة الأديان إلى فوضى وهرج ومرج. ولو رفضوها جملة لكان عاقبة ذلك الضلال والضياع.

فالدليل على مبدأ البعثة ذاته يفرض إذن أن يكون الأنبياء الصادقين مجهزين بالدليل على نبوتهم كي يتميز الصادقون من الكاذبين. أي أن يكونوا مجهزين بالمعجزة الدالة على صدق ادعائهم.

و «المعجزة» ـ كما هو واضح من لفظها ـ عمل خارق يأتي به النّبي ويعجز عن الإتيان به الآخرون.

على النّبي صاحب المعجزة أن يتحدى النّاس بمعجزته ، وأن يعلن لهم أن معجزته دليل على صدق دعواه.

* * *

٢ ـ القرآن معجزة نبي الإسلام الخالدة :

القرآن كتاب يسمو على أفكار البشر ، ولم يستطع أحد حتى اليوم أن يأتي بمثله ، وهو معجزة سماوية كبرى.

هذا الكتاب الكريم يعتبر ـ بين معاجز النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ أقوى سند حيّ على نبوة الرّسول الخاتم ، لأنه معجزة «ناطقة» و «خالدة» و «عالمية» و «معنوية».

أمّا أنّه معجزة «ناطقة» فإنّ معاجز الأنبياء السابقين لم تكن كذلك ، أي أنها كانت بحاجة إلى وجود النّبي لكي يتحدث للناس عن معجزته ويتحداهم بها ، ومعاجز النّبي الخاتم ـ عدا القرآن ـ هي من هذا اللون. أما القرآن فمعجزة ناطقة.

لا يحتاج إلى تعريف ، يدعو لنفسه بنفسه ، يتحدى بنفسه المعارضين ويدينهم ويخرج منتصرا من ساحة التحدي. وهو يتحدى اليوم جميع البشر كما كان يتحداهم في عصر الرسالة. إنه دين ومعجزة ، إنه قانون ، ووثيقة تثبت الهية القانون.

أما الخلود والعالمية : فإنّ القرآن حطم سدود «الزمان والمكان» وتعالى عليهما ، لأن معاجز الأنبياء السابقين ـ وحتى معاجز النّبي الخاتم غير القرآن ـ

١٢١

مسجلة على شريط معين من الزمان ، وواقعة في مساحة معينة من المكان ، وأمام جمع معدود من النّاس ، مثل معاجز عيسى عليه‌السلام كحديثه في المهد وإحيائه الموتى. وواضح أن الأحداث المقيّدة بزمان ومكان معينين تمسي صورتها باهتة كلما ابتعدنا عن ظروفها الزمانية والمكانية. وهذا من خصائص الأمور الزمنية.

لكن القرآن لا يرتبط بالزمان والمكان ، فهو يطلع علينا اليوم كما طلع على عرب الجاهلية قبل قرون ، بل إن مرور الزمن زاد البشرية قدرة في العلم والإمكانات لتستفيد منه أكثر من ذي قبل ، وما لا يرتبط بزمان أو مكان فانه يحوي عناصر الدوام والخلود وسعة دائرته العالمية ، وبديهي أن الدين العالمي الخالد بحاجة إلى مثل هذه الوثيقة العالمية الخالدة.

أمّا الصّفة «المعنوية» للقرآن فنفهمها حين ننظر إلى معاجز الأنبياء السابقين ، ونرى أنها كانت غالبا «جسمية» مثل : شفاء الأمراض الجسمية المستعصية ، وتحدث الطفل في المهد ... وكانت تتجه نحو تسخير الأعضاء البدنية. أما القرآن ، فيسخر القلوب والنفوس،ويبعث فيها الإعجاب والإكبار. إنه يتعامل مع الأرواح والأفكار والعقول البشرية، وواضح امتياز مثل هذه المعجزة على المعاجز الجسمية.

* * *

٣ ـ هل تحدّى القرآن؟

القرآن تحدى البشرية في مواضع عديدة من سوره ، منها :

١ ـ (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (١).

٢ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ

__________________

(١) الاسراء ، ٨٨.

١٢٢

اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ) (١).

٣ ـ (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٢).

٤ ـ الآية الثالثة والعشرون من سورة البقرة التي يدور حولها بحثنا.

القرآن تحدى بصراحة وقوة في هذه الآيات جميع البشرية ، وفي هذه الصراحة والقوّة دلالة حيّة على حقّانيته. ولم يكتف في تحدّيه بدعوة النّاس إلى أن يأتوا بمثله ، بل حفّزهم وشجعهم على ذلك ، وعبارات التحفيز نجدها في قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ... فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ ... قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ ... وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ... قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُ ... لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ ... فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ ... فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا ...).

هذا التحفيز والحثّ والإثارة لم يصدر ضمن إطار معركة أدبية أو عقائدية ، بل في إطار معركة «سياسية» «اقتصادية» «اجتماعية» ، ضمن إطار معركة حياة أو موت ، يرتبط بمصيرها وجود هذا الكيان الجديد. وعجز المعارضين أمام هذا التحدّي الحياتي الصارخ، يبيّن بشكل أوضح أبعاد المعجزة القرآنية.

جدير بالذّكر أن تحدي القرآن لا ينحصر بزمان أو مكان ، بل إن هذا التحدّي قائم حتى يومنا هذا.

* * *

__________________

(١) هود ، ١٣ و ١٤.

(٢) يونس ، ٣٨.

١٢٣

٤ ـ هل جيء بمثله؟

الجواب على هذا السؤال يتضح لو ألقينا نظرة على الظروف والملابسات التي عاصرت نزول القرآن ، وعلى تاريخ ما ذكر من محاولات لكتابة ما يشبه القرآن.

غير خفيّ أن الرسالة في عصر النّزول وما بعده ، واجهت خصوما ألدّاء من المشركين واليهود والنصارى والمنافقين. وهؤلاء توسّلوا بكل ما لديهم من قوة وحيلة للوقوف بوجه الدعوة. (حتى إن بعض المنافقين مثل (ابو عامر) الراهب ومن وافقه من المنافقين اتّصلوا بأمبراطور الرّوم للتآمر على الإسلام ، وبلغ الأمر بهؤلاء المتآمرين أن شيّدوا «مسجد ضرا» في المدينة ، وحدثت على أثر ذلك وقائع عجيبة أشار إليها القرآن في سورة التوبة).

من الطبيعي أن هؤلاء الأعداء الألدّاء من المنافقين وغيرهم كانوا يتربصون بالمسلمين الدوائر ، ويتحينون كل فرصة للإضرار بالمسلمين. ولو كان هؤلاء قد حصلوا على كتاب يجيب على تحدي القرآن ، لتهافتوا عليه ونشروه وطبّلوا له وزمّروا ، أو لسعوا في حفظه على الأقل.

ولذلك نرى أن التاريخ احتفظ بأسماء أولئك الذين يحتمل احتمالا ضعيفا أنهم عارضوا القرآن ، مثل :«عبد الله بن المقفع» ، فقد قيل أنه عارض القرآن بكتابه «الدرّة اليتيمة» بينما لا نعثر في هذا الكتاب الموجود بين أيدينا اليوم على إشارة إلى هذه المعارضة ، ولا نعرف لماذا وجهت التهمة إلى ابن المقفع بهذا الكتاب؟

والمتنبي ، أحمد بن الحسين الكوفي الشاعر ، ذكر في زمرة المعارضين وأصحاب النبوءات ، بينما تؤكد دراسات حياة المتنبي وأدبه ، أنه كان ينطلق في شعره غالبا من روح الخيبة في بلوغ المناصب الرفيعة ، ومن الحرمان العائلي.

وأبو العلاء المعرّي ، اتهم بهذا أيضا ، ونقلت عنه أشعار تنم عن رفضه لبعض

١٢٤

مسائل الدين ، لكنه لم يرفع صوته يوما بمعارضة القرآن ، بل نقلت عنه عبارات في عظمة كتاب الله العزيز سنشير إليها فيما بعد.

أما مسيلمة الكذاب من أهل اليمامة فقد عارض القرآن ، وأتى بآيات!! أقرب إلى الهزل منها إلى الجد ، ومن ذلك.

١ ـ ما قاله معارضا سورة «الذاريات» : «والمبذرات بذرا. والحاصدات حصدا. والذاريات قمحا. والطاحنات طحنا. والعاجنات عجنا. والخابزات خبزا.والثاردات ثردا. واللاقمات لقما. اهالة وسمنا» (١).

٢ ـ من النماذج الاخرى لآياته : «يا ضفدع نقّي فإنّك نعم ما تنقين ، لا واردا تنفرين، ولا ماء تكدرين» (٢).

* * *

٥ ـ شهادات حول القرآن :

يجدر بنا أن ننقل جملا من أقوال المشاهير بشأن القرآن بمن فيهم أولئك الذين اتهموا بمعارضة القرآن.

١ ـ أبو العلاء المعري (المتهم بمعارضة القرآن) يقول : «وأجمع ملحد ومهتد أن هذا الكتاب الذي جاء به محمّد كتاب بهر بالإعجاز ، ولقى عدوه بالإرجاز ، ما حذى على مثال ، ولا أشبه غريب الأمثال ، ... ما هو من القصيد الموزون ، ولا الرجز ، ولا شاكل خطابة العرب ولا سجع الكهنة ، وجاء كالشمس ، لو فهمه الهضب لتصدع ، وأن الآية منه أو بعض الآية لتعرض في أفصح كلم يقدر عليه المخلوقون ، فتكون فيه كالشهاب المتلألئ في جنح غسق ،

__________________

(١) إعجاز القرآن ، الرافعي.

(٢) نقلا عن كتاب «إعجاز القرآن» للخطيب ، ج ١ ، ص ٤٨٣.

١٢٥

والظهرة البادية في جدوب» (١).

٢ ـ الوليد بن المغيرة المخزومي ، وهو رجل عرف بين عرب الجاهلية بكياسته وحسن تدبيره ، ولذلك سمي «ريحانة قريش» ، سمع آيات من سورة «غافر» فرجع إلى قوم من بني مخزوم فقال لهم : «والله لقد سمعت من محمّد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن ، وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وان أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه» (٢).

٣ ـ العالم المؤرخ البريطاني «كارليل» يقول حول القرآن :«لو ألقينا نظرة على هذا الكتاب المقدس لرأينا الحقائق الكبيرة ، وخصائص أسرار الوجود ، مطروحة بشكل ناضج في مضامينه ، ممّا يبين بوضوح عظمة القرآن. وهذه الميزة الكبرى خاصة بالقرآن ، ولا توجد في أي كتاب علميّ وسياسي واقتصادي آخر. نعم ، قراءة بعض الكتب تترك تأثيرا عميقا في ذهن الإنسان ، ولكن هذا التأثير لا يمكن مقارنته بتأثير القرآن. من هنا ينبغي أن نقول:المزايا الأساسية للقرآن ، ترتبط بما فيه من حقائق وعواطف طاهرة ، ومسائل كبيرة ، ومضامين هامة لا يعتريها شك وترديد. وينطوي هذا الكتاب على كل الفضائل اللازمة لتحقيق تكامل البشرية وسعادتها» (٣).

٤ ـ جان ديفن بورت مؤلف كتاب : «الاعتذار إلى محمّد والقرآن». يقول : «القرآن بعيد للغاية عن كل نقص ، بحيث لا يحتاج إلى أدنى إصلاح أو تصحيح ، وقد يقرؤه شخص من أوّله إلى آخره دون أن يحسّ بأي ملل» (٤).

ويقول : «لا خلاف في أن القرآن نزل بأبلغ لسان وأفصحه ، وبلهجة قريش

__________________

(١) رسالة الغفران ، ص ٢٦٣.

(٢) مجمع البيان ، ج ١٠ ، سورة المدثر.

(٣) من مقدمة كتاب «التنظيمات الحضارية في الإمبراطورية الإسلامية».

(٤) نفس المصدر ، ص ١١١.

١٢٦

أكثر العرب أصالة وأدبا ... ومليء بأبلغ التشبيهات وأروعها» (١).

٥ ـ غورة الشاعر الألماني يقول : «قد يحسّ قرّاء القرآن للوهلة الاولى بثقل في العبارات القرآنية ، لكنه ما أن يتدرج حتى يشعر بانجذاب نحو القرآن ، ثم إذا توغّل فيه ينجذب ـ دون إختيار ـ إلى جماله الساحر»(٢).

وفي موضع آخر يقول : «لسنين طويلة ، أبعدنا القساوسة عن فهم حقائق القرآن المقدس وعن عظمة النّبي محمّد ، ولكن كلما خطونا على طريق فهم العلم تنزاح من أمام أعيننا حجب الجهل والتعصب المقيت ، وقريبا سيلفت هذا الكتاب الفريد أنظار العالم ، ويصبح محور أفكار البشرية»! ويقول كذلك : «كنا معرضين عن القرآن ، ولكن هذا الكتاب ألفت أنظارنا ، وحيّرنا ، حتى جعلنا نخضع لما قدمه من مبادئ وقوانين علمية كبرى»! ٦ ـ «ويل ديورانت» المؤرخ المعروف يقول : «القرآن أوجد في المسلمين عزّة نفس وعدالة وتقوى لا نرى لها نظيرا في أية بقعة من بقاع العالم».

٧ ـ المفكر الفرنسي «جول لا بوم» في كتاب «تفصيل الآيات» يقول : «العلم انتشر في العالم على يد المسلمين ، والمسلمون أخذوا العلوم من (القرآن) وهو بحر العلم ، وفرّعوا منه أنهارا جرت مياهها في العالم ...».

٨ ـ المستشرق البريطاني دينورت يقول : «يجب أن نعترف أنّ العلوم الطبيعية والفلكية والفلسفة والرياضيّات التي شاعت في أوربا ، هي بشكل عام من بركات التعاليم القرآنية ، ونحن فيها مدينون للمسلمين ، بل إن أوربا من هذه الناحية من بلاد الإسلام» (٣).

٩ ـ الدكتورة لورا واكسيا واغليري أستاذة جامعة نابولي في كتاب «تقدم

__________________

(١) نفس المصدر ، ص ٩١.

(٢) عن كتاب «الاعتذار إلى محمّد والقرآن».

(٣) المعجزة الخالدة.

١٢٧

الإسلام السريع» تقول : «كتاب الإسلام السماوي نموذج الإعجاز ... (القرآن) كتاب لا يمكن تقليده ، وأسلوبه لا نظير له في الآداب ، والتأثير الذي يتركه هذا الأسلوب في روح الإنسان ناشئ عن امتيازاته وسموّه ... كيف يمكن لهذا الكتاب الإعجازي أن يكون من صنع محمّد ، وهو رجل أميّ؟! ....

نحن نرى في هذا الكتاب كنوزا من العلوم تفوق كفاءة أكثر النّاس ذكاء وأكبر الفلاسفة وأقوى رجال السياسة والقانون.

من هنا لا يمكن اعتبار القرآن عمل إنسان متعلّم عالم» (١).

* * *

__________________

(١) تقدم الإسلام السريع «نقلا عن محمّد والقرآن ...».

١٢٨

الآية

(وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (٢٥))

التّفسير

خصائص نعم الجنّة :

آخر آية في بحثنا السابق تحدثت عن مصير الكافرين ، وهذه الآية تتحدث عن مصير المؤمنين ، كي تتضح الحقيقة أكثر بالمقارنة بين الصورتين ، على الطريقة القرآنية في التوضيح.

المقطع الأوّل في الآية يبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار.

نعلم أن البساتين التي تفتقد الماء الدائم ، وتسقى بين حين وحين ليس لها حظ كبير من النظارة ، فالنظارة تطفح على البساتين التي تمتلك ماء سقي دائم مستمر لا ينقطع أبدا. ومثل هذه البساتين لا يعتريها جفاف ولا تهددها شحة ماء. وهذه هي بساتين الجنّة.

١٢٩

وبعد الإشارة إلى ثمار الجنّة المتنوعة تقول الآية : (كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ).

ذكر المفسرون لهذا المقطع من الآية تفاسير متعددة : قال بعضهم : المقصود من قولهم: (هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ) هو أن هذه النعم أغدقت علينا بسبب ما أنجزناه من عمل في الحياة الدنيا ، وغرسنا بذوره من قبل.

وقال بعض آخر : عند ما يؤتى بالثمار إلى أهل الجنّة ثانية يقولون : هذا الذي تناولناه من قبل ، ولكنهم حين يأكلون هذه الثمار يجدون فيها طعما جديدا ولذّة اخرى، فالعنب أو التفاح الذي نتناوله في هذه الحياة الدنيا مثلا له في كل مرّة نأكله نفس طعم المرّة السابقة ، أمّا ثمار الجنّة فلها في كلّ مرّة طعم وإن تشابهت أشكالها ، وهذه من امتيازات ذلك العالم الذي يبدو أنه خال من كل تكرار!

وقال آخرون : المقصود من ذلك أنهم حين يرون ثمار الجنّة يلقونها شبيهة بثمار هذه الدنيا ، فيأنسون بها ولا تكون غريبة عليهم ، ولكنهم حين يتناولونها يجدون فيها طعما جديدا لذيذا.

ويجوز أن تكون عبارة الآية متضمنة لكل هذه المفاهيم والتفاسير ، لأن ألفاظ القرآن تنطوي أحيانا على معان (١).

ثم تقول الآية : (وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً) ، أي متشابها في الجودة والجمال. فهذه الثمار بأجمعها فاخرة بحيث لا يمكن ترجيح إحداها على الأخرى ، خلافا لثمار هذا العالم المختلفة في درجة النضج والرائحة واللون والطعم.

وآخر نعمة تذكرها الآية هي نعمة الأزواج المطهرة من كل أدران الروح والقلب والجسد.

أحد منغّصات نعم الدنيا زوالها ، فصاحب النعمة يقلقه زوال هذه النعمة ، ومن

__________________

(١) في بحث «استعمال اللفظ في أكثر من معنى» أثبتنا إمكان هذه الأمر.

١٣٠

هنا فلا تكون هذه النعم عادة باعثة على السعادة والاطمئنان. أمّا نعم الجنّة ففيها السعادة والطمأنينة لأنها خالدة لا يعتريها الزوال والفناء. وإلى هذه الحقيقة تشير الآية في خاتمتها وتقول : (وَهُمْ فِيها خالِدُونَ).

* * *

بحوث

١ ـ «الإيمان» و «العمل» :

في كثير من الآيات القرآنية يقترن ذكر الإيمان بذكر العمل الصالح ، حتى كان الاثنين متلازمان دونما افتراق. والحق كذلك ، لأن الإيمان والعمل يكمل بعضها الآخر.

لو نفذ الإيمان إلى أعماق النفس لتجلت آثاره في الأعمال حتما ، مثله كمثل مصباح لو أضاء في غرفة لشع نوره من كل نوافذ الغرفة. ومصباح الإيمان كذلك لو شعّ في قلب إنسان ، لسطع شعاعه من عين ذلك الإنسان وأذنه ولسانه ويده ورجله.

يقول تعالى في الآية الحادية عشرة من سورة الطلاق : (وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً).

ويقول في الآية الخامسة والخمسين من سورة النور : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ).

فالإيمان بمثابة جذر شجرة والعمل الصالح ثمرتها. ووجود الثمر السليم دليل على سلامة الجذر. ووجود الجذر السليم يؤدي إلى نموّ الثمر الطيب.

من الممكن أن يصدر عمل صالح أحيانا عن أفراد ليس لهم إيمان ، ولكن ذلك لا يحدث باستمرار حتما. فالذي يضمن بقاء العمل الصالح هو الإيمان المتغلغل في أعماق وجود الإنسان ، الإيمان الذي يضع الإنسان دوما أمام مسئولياته.

١٣١

٢ ـ الأزواج المطهّرة :

ممّا يلفت النظر في هذه الآية أن الوصف الوحيد الذي استعمله القرآن لمدح الأزواج في جنّات النعيم هو أنّها «مطهرة». وهي إشارة إلى أول شرط في الزوجة هو «الطهر». وكل ما سواه من الشروط والأوصاف ثانوي.

روي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إيّاكم وخضراء الدّمن. قيل : يا رسول الله! وما خضراء الدّمن؟ قال : المرأة الحسناء في منبت السّوء» (١).

٣ ـ النعم المادية والمعنوية في الجنّة :

ذكر القرآن الكريم أنواع النعم المادية في الجنة مثل : جنات تجري من تحتها الأنهار،ومساكن طيبة ، وأزواج مطهرة ، وثمار متنوعة ، وخلّان متحابين. ولكنه ذكر إلى جانب هذه النعم المادية نعما أهم منها هي النعم المعنوية التي لا نستطيع أن نفهم عظمتها بمقاييسنا ، كقوله : (وَعَدَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) (٢).

وفي آية اخرى يقول سبحانه بعد ذكر النعم المادية : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ)(٣).

لو بلغ الإنسان هذه المرتبة حيث يرضى الله عنه ويرضى عن الله لأحسّ بلذّة لا ترقى إليها لذّة ، ولهانت في نظر هذا الإنسان سائر اللذات ، عندها يرتبط هذا الإنسان بالله ولا يفكر بما سواه ، وهي مرتبة يعجز القلم واللسان عن وصف سموّها وأبعادها.

بعبارة موجزة : كما أن للمعاد جانبا روحيا جسميا ، كذلك نعم الجنة ذات

__________________

(١) وسائل الشيعة ، ج ١٤ ، ص ١٩.

(٢) التوبة ، ٧٢.

(٣) البيّنة ، ٨.

١٣٢

جانبين أيضا ، كي تكون جامعة وقابلة لاستفادة أهل الجنة جميعا ، كلّ على قدر كفاءته ولياقته.

* * *

١٣٣

الآية

(إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (٢٦))

سبب النّزول

ذكر جمع من المفسرين عن ابن عباس أن سبب نزول هذه الآية هو اعتراض المنافقين على ما ورد من أمثلة في الآيات السابقة (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً ... أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ ...) ، وقالوا إن الله أسمى من أن يضرب مثل هذه الأمثال ، وبذلك راحوا يشككون في الرسالة وفي القرآن. وفي هذه الظروف نزلت الآية الكريمة المذكورة.

قال آخرون : عند نزول الآيات التي تضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت ، بدأ المشركون ينتقدون ويسخرون.

١٣٤

التّفسير

هل الله يضرب المثل؟!

الفقرة الاولى من الآية تقول : (إِنَّ اللهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها).

ذلك لأن المثال يجب أن ينسجم مع المقصود ، بعبارة اخرى ، المثال وسيلة لتجسيد الحقيقة حين يقصد المتحدث بيان ضعف المدّعي وتحقيره فإنّ بلاغة الحديث تستوجب انتخاب موجود ضعيف للتمثيل به ، كيما يتضح ضعف أولئك.

في الآية (٧٣) من سورة الحج مثلا يقول سبحانه : (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ).

يلاحظ في هذا المثال أن الذباب وأمثاله أحسن وسيلة لتجسيد ضعف هؤلاء.

وهكذا في الآية (٤١) من سورة العنكبوت ، حين يريد القرآن أن يجسد ضعف المشركين في انتخابهم أولياء من دون الله ، يشبههم بالعنكبوت التي تتخذ لنفسها بيتا ، وهو أضعف البيوت وأوهنها : (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً ، وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ).

من المؤكد أن القرآن لو ساق الأمثلة في هذه المجالات على الكواكب والسماوات لما أدّى الغرض في التصغير والتحقير ، ولما كانت أمثلته متناسبة مع أصول الفصاحة والبلاغة ، فكأن الله تعالى يريد بهذه الامثلة القول : بأنه لا مانع من التمثيل بالبعوضة أو غيرها لتجسيد الحقائق العقلية في ثياب حسّيّة وتقديمها للناس.

الهدف هو إيصال الفكرة ، والأمثلة يجب أن تتناسب مع موضوع الفكرة ، ولذلك فهو سبحانه يضرب الأمثلة بالبعوضة فما فوقها.

١٣٥

وما المقصود من (فَما فَوْقَها) للمفسرين في هذه رأيان :

الأوّل : «فوقها» في الصغر ، لأن المقام مقام بيان صغر المثال. وهذا مستعمل في الحوار اليومي ، نسمع مثلا رجل يقول لآخر : ألا تستحي أن تبذل كل هذا الجهد من أجل دينار واحد؟! فيجيب الآخر : لا ، بل أكثر من ذلك أنا مستعد لأبذل هذا الجهد من أجل نصف دينار! فالزيادة هنا في الصغر.

الثّاني : «فوقها» في الكبر. أي إن الله يضرب الأمثال بالصغير وبالكبير ، حسب مقتضى الحال.

لكن الرأي الأوّل يبدو أنسب.

ثم تقول الآية : (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ). فهؤلاء ، بإيمانهم وتقواهم ، بعيدون عن اللجاجة والعناد والحقد للحقيقة. ويستطيعون أن يروا الحق بجلاء ويدركوا أمثلة الله بوضوح.

(وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً).

هؤلاء يعترضون على هذه الأمثلة لأنّها لا تهدي الجميع ، ويزعمون أنها لو كانت من عند الله لاهتدى بها النّاس جميعا ، ولما أدّت الى ضلال أحد! فيجيبهم الله بعبارة قصيرة تحسم الموقف وتقول : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).

فكل هذه الأمثلة من الله ، وكلها نور وهداية ، لكنها تحتاج إلى عين البصيرة التي تستفيد منها ، ومخالفة المخالفين تنطلق من نقص فيهم ، لا من نقص في الآيات الإلهية (١).

__________________

(١) جمع من المفسرين قالوا : إن عبارة (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً)...ليس حكاية عن لسان المشركين ، بل هو حديث الله.

ويكون المعنى بذلك «أن الله يجيب على هؤلاء المعترضين الذين قالوا:(ما ذا أَرادَ اللهُ بِهذا مَثَلاً)؟ويقول سبحانه:إن الله يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا، ولكن لا يضل إلا الفاسقين».(أما التّفسير الأول فيبدو أنه أصح).

١٣٦

بحوث

١ ـ أهمية المثال في بيان الحقائق :

الأمثلة المناسبة لها دور حساس : وعظيم في التوضيح والإقناع والإفهام.

المثال المناسب قد يقرّب طريق الفهم إلى الأذهان بحيث نستعيض به عن الاقتحام في الاستدلالات الفلسفية المعقدة.

وأهم من ذلك ، نحن لا نستطيع أن نستغني عن الأمثلة المناسبة في تعميم ونشر الموضوعات العلمية الصعبة بين عامة النّاس.

ولا يمكننا أن ننكر دور المثال في إسكات الأفراد المعاندين اللجوجين المتعنّتين.

على كل حال ، تشبيه «المعقول» ب «المحسوس» أحد الطرق المؤثرة في تفهيم المسائل العقلية ، على أن يكون المثال ـ كما قلنا ـ مناسبا ، وإلّا فهو مضلّ وخطر.

من هنا نجد في القرآن أمثلة كثيرة رائعة شيقة مؤثّرة ، ذلك لأنه كتاب لجميع البشر على اختلاف عصورهم ومستوياتهم الفكرية ، إنه كتاب في غاية الفصاحة والبلاغة (١).

* * *

٢ ـ لماذا التمثيل بالبعوضة؟

المعاندون اتخذوا من صغر البعوضة والذبابة ذريعة للاستهزاء بالأمثلة القرآنية.

لكنّهم لو أنصفوا وأمعنوا النظر في هذا الجسم الصغير ، لرأوا فيه من عجائب

__________________

(١) حول دور الأمثال في حياة البشر ، راجع الآية ١٧ من سورة الرعد في المجلد السابع من هذا التّفسير.

١٣٧

الخلقة وعظيم الصنع والدّقة ما يحيّر العقول والألباب.

يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام بشأن خلقة هذا الحيوان الصغير :«إنّما ضرب الله المثل بالبعوضة لأنّ البعوضة على صغر حجمها خلق الله فيها جميع ما خلق في الفيل مع كبره وزيادة عضوين آخرين فأراد الله سبحانه أن ينبّه بذلك المؤمنين على لطف (لطيف) خلقه وعجيب صنعته» (١).

يريد الله سبحانه بهذا المثال أن يبين للمؤمنين دقّة الصنع في الخلق ، التفكير في هذا الموجود الضعيف على الظاهر ، والشبيه بالفيل في الواقع ، يبيّن للإنسان عظمة الخالق.

خرطوم هذا الحيوان الصغير يشبه خرطوم الفيل ، أجوف ، ذو فتحة دقيقة جدا ، وله قوّة ماصة تسحب الدم.

منح الله هذا الحيوان قوة هضم وتمثيل ودفع ، كما منحه أطرافا وأذنا وأجنحة تتناسب تماما مع وضع معيشته. هذه الحشرة تتمتع بحساسية تشعر فيها بالخطر بسرعة فائقة وتفرّ عند ما يداهمها عدوّ بمهارة عجيبة ، وهي مع صغرها وضعفها يعجز عن دفعها كبار الحيوانات.

أمير المؤمنين علي عليه‌السلام يقول في هذا الصدد : «كيف ولو اجتمع جميع حيوانها من طيرها وبهائمها وما كان من مرحها وسائمها ، وأصناف أسناخها وأجناسها ، ومتبلدة أممها وأكياسها ، على إحداث بعوضة ما قدرت على إحداثها ، ولا عرفت كيف السّبيل إلى إيجادها ، ولتحيّرت عقولها في علم ذلك وتاهت ، وعجزت قواها وتناهت ، ورجعت خاسئة حسيرة ، عارفة بأنّها مقهورة ، مقرّة بالعجز عن إنشائها ، مذعنة بالضّعف عن إفنائها» (٢).

__________________

(١) تفسير البرهان ، ج ١ ، ص ٧٢.

(٢) نهج البلاغة ، شرح محمّد عبده ، الخطبة ١٨٦ ، ص ٢٧٥.

١٣٨

٣ ـ هداية الله وإضلاله :

ظاهر عبارة الآية المذكورة يوحي بأن الهداية والضلال جبريان ومرتبطان بإرادة الله تعالى. بينما العبارة الأخيرة من الآية توضح أن الهداية والضلال مترتبان على أعمال الإنسان نفسه.

ولمزيد من التوضيح نقول : إن أعمال الإنسان وتصرفاته لها نتائج وثمار معيّنة. لو كان العمل صالحا فنتيجته مزيد من التوفيق والهداية في السير نحو الله ومزيد من أداء الأعمال الصالحة. يقول تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً) (١).

وإن جنح الإنسان نحو المنكرات ، فان الظلمات تتراكم على قلبه ، ويزداد نهما لارتكاب المحرمات ، وقد يبلغ به الأمر إلى أن ينكر خالقه ، قال تعالى : (ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢). وقال أيضا : (فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) (٣).

والآية التي يدور حولها بحثنا شاهد آخر على ذلك حيث يقول تعالى : (وَما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ).

ممّا تقدم يتضح أن الإنسان حرّ في انتخاب الطريق في بداية الأمر ، وهذه حقيقة يقبلها ضمير كل إنسان ، ثم على الإنسان بعد ذلك أن ينتظر النتائج الحتمية لأعماله.

بعبارة موجزة : الهداية والضلالة ـ في المفهوم القرآني ـ لا يعنيان الإجبار على انتخاب الطريق الصحيح أو الخاطئ ، بل إن الهداية ـ المفهومة من الآيات المتعدّدة ـ تعني توفّر سبل السعادة ، والإضلال : يعني زوال الأرضية المساعدة للهداية ، دون أن يكون هناك إجبار في المسألة.

__________________

(١) الأنفال ، ٢٩.

(٢) الروم ، ١٠.

(٣) الصف ، ٥.

١٣٩

توفّر السبل (الذي نسميه التوفيق) ، وزوال هذه السبل (الذي نسميه سلب التوفيق)،هما نتيجة أعمال الإنسان نفسه. فلو منح الله فردا توفيق الهداية ، أو سلب من أحد هذا التوفيق ، فإنما ذلك نتيجة الأعمال المباشرة لهذا الفرد أو ذاك.

ويمكن التمثيل لهذه الحقيقة بمثال بسيط : حين يمرّ الإنسان قرب هاوية خطرة ، فإنه يتعرّض لخطر الانزلاق والسقوط فيها كلّما اقترب منها أكثر.

كما أن احتمال سقوطه في الهاوية يقلّ كلما ابتعد عنها أكثر ، والحالة الاولى هداية والثانية ضلال.

من مجموع ما ذكرنا يتضح الجواب على ما يثار من أسئلة في حقل الهداية والضلال.

٤ ـ «الفاسقون» : هم المنحرفون عن طريق العبودية ، لأن الفسق في اللغة إخراج النوى من التمر ، ثم انتقل إلى الخروج عن طريق الله.

* * *

١٤٠