الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ١

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: أمير المؤمنين عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-6632-49-1
ISBN الدورة:
964-6632-53-X

الصفحات: ٥٦٠

يذكر مثلا استهانة هؤلاء بشخصية المؤمنين ، وبما يقدمه المؤمنون على قدر طاقتهم من صدقات فيقول : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١).

ويتخذون أحيانا في اجتماعاتهم السريّة قرارات بشأن قطع مساعدتهم المالية لأصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، كي يتفرقوا عن الرسالة والرّسول : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا ، وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ)(٢).

كما يتخذون القرارات بإخراج المؤمنين من المدينة بعد انتهاء الحرب والعودة إلى المدينة: (لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَ) (٣).

وكانوا يتخلفون عن الجهاد بمبررات مختلفة من قبيل الانشغال بالحصاد مثلا ، ويتركون الرّسول في ساعات الشدّة. وهم مع ذلك خائفين من انفضاح أمرهم وانكشاف سرّهم.

بسبب هذه المواقف العدائية التآمرية ركز القرآن على التنديد بالمنافقين في مواضع عديدة ، واحتوت سورة المنافقين عرضا مفصّلا لوضعهم. كما تضمنت سورة التوبة والحشر وسور اخرى حملات شديدة على المنافقين ، وتحدثت ثلاث عشرة آية من سورة البقرة عن صفاتهم وعواقب مكرهم.

٥ ـ خداع الضمير :

المنافقون يشكلون مشكلة كبرى للمسلمين ، ذلك لأن المسلمين مكلفون ـ

__________________

(١) التوبة ، ٧٩.

(٢) المنافقون ، ٧.

(٣) المنافقون ، ٨.

١٠١

من جهة ـ باحتضان كلّ من يظهر الإسلام وبالامتناع عن تفتيش عقائد الأفراد ، ومسئولون ـ من جهة اخرى ـ عن الحذر من مؤامرات المنافقين وتحركاتهم المشبوهة التي يستهدفون منها الوقوف بوجه الرسالة ، وإن اتخذت هذه التحركات صفة إسلامية ظاهرية.

المنافقون يظنون أنهم بعملهم هذا يستطيعون أن يخدعوا المسلمين ويمرروا عليهم مؤامراتهم ، بينما هؤلاء يخدعون أنفسهم.

التعبير القرآني (يُخادِعُونَ اللهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا) يوضّح مفهوما دقيقا ، فكلمة يخادعون تعني الخداع المشترك من الطرفين ، وتبين أن هؤلاء المنافقين كانوا يعتقدون ـ لعمى بصيرتهم ـ أنّ النّبي خدّاع توسّل بالدين والنبوّة وجمع حوله السذّج من النّاس ليكون له حكم وسلطان،ومن هنا راح المنافقين يتوسلون بخدعة لمقابلة خدعة النّبي! فالتعبير القرآني المذكور يوضّح إذن لجوء المنافقين إلى الخدعة ، ويبين كذلك نظرة هؤلاء الخاطئة إلى النّبي الأعظمصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ثم تردّ الآية الكريمة على هؤلاء وتقول : (وَما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ) ، فالفعل «يخدعون» يوضّح أنّ الخداع من جانب المنافقين فقط ، وتؤكد الآية أيضا أنهم يخدعون أنفسهم دون أن يشعروا ، لأنهم يبددون. بأفعالهم هذه طاقاتهم العظيمة على طريق الانحراف ، ويحرمون أنفسهم من السعادة التي رسم الله طريقها لهم ، ويغادرون الدنيا وهم صفر اليدين من كل خير ، مثقلون بأنواع الذنوب والآثام.

لا يمكن لأحد أن يخدع الله طبعا لأنه سبحانه عالم بالجهر وما يخفى ، وتعبير «يخادعون الله» إمّا أن يكون المقصود به يخادعون الرّسول والمؤمنين ، لأن من يخدع الرّسول والمؤمنين فكأنه خدع الله (في القرآن مواضع كثيرة عظم فيها الله رسوله والمؤمنين إذ قرن اسمهم باسمه). وإمّا أن يكون نقص العقل وسوء الفهم قد بلغ بالمنافقين حدا تصوروا معه أنهم قادرون على أن يخفوا على الله شيئا من

١٠٢

أعمالهم (شبيه ذلك ما ورد في آيات اخرى من كتاب الله العزيز).

على أيّ حال ، الآية المذكورة تشير بوضوح إلى حقيقة خداع الضمير والوجدان ، وأن الإنسان النمحرف الملوث كثيرا ما يعمد إلى خداع نفسه ووجدانه للتخلص من تأنيب الضمير ، ويصبح بالتدريج مقتنعا بأن قبائحه ليست عملا انحرافيا ، بل هي أعمال إصلاحية (إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ) ، وبذلك يخدعون أنفسهم ، ويستمرون في غيّهم.

ذكر أنّ أحد القادة الأمريكيين وجّه إليه سؤال حول سبب إلقاء القنبلة الذرية على مدينتي (هيروشيما وناكازاكي) اليابانيتين ممّا أدّى إلى مقتل مائتي ألف إنسان بريء أو أصابتهم بالعاهات ، فقال : نحن فعلنا ذلك من أجل السلام! ولو لم نفعل ذلك لطالت الحرب أكثر ، ولذهب ضحيتها عدد أكبر من القتلى!!

 المنافقون في كل عصر وفي عصرنا هذا يتشبثون بمثل هذه الأقاويل لخداع النّاس وخداع أنفسهم ، فهذا الزعيم الأمريكي يضع أمامه طريقين فقط هما : استمرار الحرب أو القصف الذري للمدن الآمنة ، متناسيا طريقا ثالثا واضحا وهو الكف عن الاعتداء على الشعوب وترك النّاس أحرارا مع ثرواتهم! وممّا تقدم يتضح أن النفاق وسيلة لخداع الضمير وشلّ مفعوله ، وما أخطر عملية شلّ الضمير الإنساني ، الذي يعتبر الواعظ الداخلي والرقيب اليقظ الأمين والمندوب الإلهي في نفس الإنسان!!.

* * *

٦ ـ التجارة الخاسرة :

شبّه القرآن الكريم في مواضع عديدة عمل الإنسان في الحياة الدنيا بالتجارة. ونحن في الحياة الدنيا تجار نأتي إلى هذا المتجر الكبير برأس مال وهبه لنا الله سبحانه ، وعناصره العقل والفطرة والعواطف والطاقات الجسميّة المختلفة

١٠٣

ومواهب عالم الطبيعة ، ثم قيادة الأنبياء ، جمع يربحون ويفوزون ويسعدون ، وجمع لا يجنون ربحا ، بل أكثر من ذلك يفقدون رأس مالهم ، ويفلسون بكل ما لهذه الكلمة من معنى. المجاهدون في سبيل الله من أفراد الجمع الأول ، ويقول عنهم الله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ؟ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ) (١).

والمنافقون من أبرز نماذج الجمع الثاني ، فبعد أن يذكر القرآن أعمالهم التخريبية المتلبسة بظاهر الإصلاح والتعقّل يقول عنهم : (أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ).

كان بمقدور هؤلاء أن ينتخبوا أفضل طريق لحياتهم ، لأنهم كانوا يعيشون إلى جانب ينبوع الوحي الصافي ، وفي جوّ مفعم بالصدق والإخلاص والإيمان. لكنهم فوّتوا على أنفسهم هذه الفرصة الفريدة العظيمة ، وأضاعوا ما وهبهم الله من هداية فطرية في ذواتهم،ومن هداية تشريعية في إطار نور الوحي ، واشتروا الضلالة وسلكوا طريقا خالوا أنهم يستطيعون به أن يقضوا على الدعوة ويصلوا إلى مآربهم الخبيثة.

وكان في هذه المقايضة الخاطئة خسارتان :

الاولى : ضياع ثرواتهم المادية والمعنوية. والثانية : فشلهم في تحقيق أهدافهم المشؤومة. فالإسلام سرعان ما ضرب بجرانه في أرجاء الأرض فاضحا خطط المنافقين.

* * *

__________________

(١) الصف ، ١٠ و ١١.

١٠٤

الآيات

(مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠))

التّفسير

مثالان رائعان لوصف حالة المنافقين :

بعد أن بين القرآن صفات المنافقين وخصائصهم ، يقدّم مثالين متحركين لتجسيم وضعهم :

١ ـ (مَثَلُهُمْ) المنافقين (كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً) في ليلة مظلمة ، كي يهتدي بها إلى طريق ويبلغ مقصده. (فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ

١٠٥

وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ).

لقد ظنّ هؤلاء أنهم قادرون على أن يحققوا أهدافهم بما لديهم من إمكانات إنارة محدودة.

ولكن نارهم سرعان ما انطفأت بسبب عوامل جوّيّة ، أو بسبب نفاد الوقود ، وظلّوا حائرين لا يهتدون سبيلا.

ثم تضيف الآية الكريمة أن هؤلاء فقدوا كل وسيلة لدرك الحقائق : (صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ).

والمثال المذكور يصوّر بدقّة عمل المنافقين على ساحة الحياة الإنسانية.فهذه الحياة مملوءة بطرق الانحراف والضلال ، وليس فيها سوى طريق مستقيم واحد للهداية ، وهذا الطريق مليء بالمزالق والأعاصير. ولا يستطيع الفرد أن يهتدي من بين الطرق الملتوية إلى الصراط المستقيم ، كما لا يستطيع أن يتجنب المزالق ويقاوم أمام الأعاصير ، إلّا بنور العقل والإيمان ، وبمصباح الوحي الوهّاج.

وهل تستطيع الشعلة المحدودة المؤقتة التي يضيئها الإنسان ، أن تهدي الكائن البشري في هذا الطريق الشائك الطويل؟!

 هؤلاء الذين سلكوا طريق النفاق ، ظنوا أنّهم قادرون بذلك أن يحافظوا على مكانتهم ومصالحهم لدى المؤمنين والكافرين. وأن ينضمّوا إلى الفئة الغالبة بعد نهاية المعركة. كانوا يخالون أن عملهم هذا ذكاء وحنكة. وأرادوا أن يستفيدوا من هذا الذكاء وهذه الحنكة، ضوء يشقّ لهم طريق الحياة ويوصلهم إلى مآربهم. لكن الله سبحانه ذهب بنورهم وفضحهم،إذ قال لرسوله : (إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا : نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ ، وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ ، وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ) (١).

__________________

(١) المنافقون ، ١ و ٢.

١٠٦

والقرآن الكريم يفضح المنافقين لدى الكافرين أيضا ، ويبيّن كذبهم ونكولهم إذ يقول:(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً ، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ ، وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ) (١).

جدير بالذكر أن القرآن استعمل عبارة (اسْتَوْقَدَ ناراً) أي إنهم استفادوا للإنارة من «النار» ذات الدخان والرّماد والحريق ، بينما يستنير المؤمنون بنور الإيمان الخالص وبضوئه الساطع.

باطن المنافقين ينطوي على النار ، وإن تظاهروا بنور الإيمان ، وإذا كان ثمة نور فهو ضعيف في قوته وقصير في مدته.

هذا النور الضعيف المؤقّت ، إمّا أن يكون إشارة إلى الضمير والفطرة التوحيدية ، أو إشارة إلى الإيمان الأوّلي لهؤلاء المنافقين حيث أسدلت عليه ستائر مظلمة على أثر التقليد الأعمى والتعصب المقيت واللجاج والعداء ، فتحولت ساحة حياتهم لا إلى ظلمة ، بل إلى «ظلمات» في التعبير القرآني.

وهؤلاء سيفقدون في النهاية قدرة الرؤية الصحيحة ، والاستماع الصحيح ، والنطق الصحيح ، وهذه نتيجة طبيعية ـ كما ذكرنا سابقا ـ للاستمرار على الانحراف والإصرار على الغيّ ، حيث يؤدي إلى إضعاف آليات الإدراك لدى الإنسان فيرى الحقائق مقلوبة ، فالخير في نظره شرّ ، والملك شيطان ، وهكذا.

على أي حال هذا التشبيه يوضّح واحدة من حقائق النفاق ، وهي إن عمر النفاق والتذبذب لا يدوم طويلا ، قد يستطيع المنافقون لمدة قصيرة أن يتمتعوا بمصونية الإسلام والإيمان ، وبصداقة الكفار سرا. لكن هذه الحالة مثل شعلة

__________________

(١) الحشر ، ١١ و ١٢.

١٠٧

ضعيفة معرضة لألوان العواصف ، سرعان ما تنطفئ ، ويظهر الوجه الحقيقي للمنافقين ، ويظلون منفورين مطرودين حائرين ، مثل إنسان يتخبّط في ظلام دامس.

لا بدّ من الإشارة إلى ما ورد في تفسير الآية الكريمة : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً) (١).

عن الإمام محمّد بن علي الباقر عليه‌السلام قال : «أضاءت الأرض بنور محمّدصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كما تضيء الشّمس ، فضرب الله مثل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الشّمس ومثل الوصيّ القمر» (٢).

وهذا يعني أن نور الإيمان والوحي يغمر العالم كلّه. ولا يمتلك منه المنافقون شيئا ، حتّى لو كان في النفاق نور ، فإنّ مدياته قصيرة ودائرته صغيرة لا يضيء إلّا (ما حوله).

في المثال الثاني صوّر القرآن حياة المنافقين بشكل ليلة ظلماء مخوفة خطرة ، يهطل فيها مطر غزير ، وينطلق من كل ناحية منها نور يكاد يخطف الأبصار ، ويملأ الجوّ صوت مهيب مرعب يكاد يمزّق الآذان. وفي هذا المناخ القلق ضلّ مسافر طريقه ، وبقي في بلقع فسيح لا ملجأ فيه ولا ملاذ ، لا يستطيع أن يحتمي من المطر الغزير ، ولا من الرعد والبرق ، ولا يهتدي إلى طريق لشدّة الظلام.

هذه الصورة يرسمها القرآن على النحو التالي : (أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ ، يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ ، وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا).

هؤلاء يحسّون كلّ لحظة بخطر ، لأنهم يطوون صحراء لا جبال فيها ولا أشجار تحميهم من خطر الرعد والبرق والصواعق ، ونحن نعلم أن خطر الصاعقة

__________________

(١) يونس ، ٥.

(٢) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٣٦.

١٠٨

يتجه إلى كل ارتفاع على الأرض. لكن الأرض التي يسير عليها هؤلاء خالية من أي ارتفاع سوى مرتفع أجسامهم ، ومن هنا فخطر الصاعقة يهددهم كل آن بتحويلهم إلى رماد!

(أهمية هذا المثال تتضح لدى أهل الحجاز ـ حيث الصحارى المنبسطة ـ أكثر من وضوحها لدى أهالي المناطق الجبلية).

نعم ، هؤلاء حيارى مضطربون ، لا يجدون طريقا يسلكونه ، ولا دليلا يهتدون به ، خطر صوت الرعد يهدّد أسماعهم ، ونور البرق يكاد يذهب بأبصارهم (وَلَوْ شاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

المنافقون مثل هؤلاء المسافرين ، يعيشون بين المؤمنين المتزايدين المتدفقين كالسيل الهادر وكالمطر الغزير ، لكنهم لم يتخذوا لهم ملجأ آمنا يقيهم من شر صاعقة العقاب الإلهي.

نهوض المسلمين بواجبهم الجهادي المسلح بوجه أعداء الإسلام ، يشكل صواعق وحمما تنزل على رؤوس المنافقين. وتسنح أحيانا لهؤلاء المنافقين فرصة للهداية واليقظة ، لكن هذه الفرصة لا تلبث طويلا ، إذ تمرّ كما يمرّ نور البرق ، ويعود الظلام يطبق عليهم ، ويعودون إلى ضلالهم وحيرتهم.

انتشار الإسلام بسرعة كالبرق الخاطف قد أذهلهم. وآيات القرآن التي تفضح أسرارهم صعقتهم ، وفي كل لحظة يحتملون أن تنزل آية تكشف عن مكائدهم ونواياهم. وهذا ما تعبّر عنه الآية الكريمة : (يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ ، قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ) (١).

والمنافقون خائفون أيضا أن يأذن الله بمحاربتهم ، وأن يحثّ القوة الإسلامية المتصاعدة على مجابهتهم ، لأنهم كانوا يواجهون مثل هذه التهديدات القرآنية ،

__________________

(١) التوبة ، ٦٤.

١٠٩

كقوله تعالى : (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلاً. مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً) (١).

مثل هذه الآيات كانت تنزل كالرعد والبرق على المنافقين ، وتتركهم في خوف وذعر وحيرة في المدينة ، وتضعهم أمام خطر الإبادة أو الإخراج من المدينة كلّ حين.

هذه الآيات ـ وإن كانت تتحدث عن المنافقين في عصر نزول الوحي ـ تمتد لتشمل كلّ المنافقين في التاريخ ، لإن خطّ النفاق يقف دوما بوجه الخط الثوري الصادق الصحيح. ونحن نرى بأعيننا اليوم مدى انطباق ما يقوله القرآن على منافقي عصرنا بدقّة. نرى حيرتهم وخوفه واضطرابهم ، ونرى تعاستهم وبؤسهم وانفضاحهم تماما مثل تلك المجموعة المسافرة الهائمة في صحراء مقفرة وفي ليلة ظلماء موحشة.

أما بشأن الفرق بين المثالين فثمة تفسيران :

الأوّل : إنّ قوله تعالى : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي) ... يصور حالة المنافقين الذين انخرطوا في صفوف المؤمنين عن اعتقاد حقيقي ، ثم تزعزعوا واتّجهوا نحو النفاق. أما قوله:(صَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ) ... فيمثل حالة المنافقين الذين كانوا منذ البداية في صف النفاق، ولم يؤمنوا بالله قط.

الثّاني : أن المثال الأول يتحدث عن حالة الأفراد ، ولذلك يقول : (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ) والثاني يجسّد وضع الأجواء المخيفة المرعبة الخطرة التي تحدق بهؤلاء المنافقين ، ومن هنا جاء التشبيه بالجوّ المظلم الممطر المليء بالخوف والذعر والاضطراب.

* * *

__________________

(١) الأحزاب ، ٦٠ ـ ٦١.

١١٠

الآيتان

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (٢١) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٢٢))

التّفسير

فيما سبق من آيات كتاب الله سبحانه تبيّن ثلاث مجموعات هي : مجموعة المتقين ، ومجموعة الكافرين ، ومجموعة المنافقين ، فالمتقون هم المشمولون بالهداية الإلهية ، والمنافقون هم الذين طبع الله على قلوبهم ، والمنافقون هم المرضى الذين زادهم الله مرضا ، وفقدوا قدرة التشخيص نتيجة أعمالهم.

أمّا الآيات المذكورة فدعت النّاس إلى انتخاب طريق المجموعة الاولى ، وإلى عبادة الله الواحد الأحد.

وفي الآية الكريمة : (يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) عدة ملاحظات نشير إليها فيما يلي :

١ ـ قوله تعالى : (يا أَيُّهَا النَّاسُ) تكرر في القرآن عشرين مرّة تقريبا ، وهو نداء عام شامل يشير إلى أن القرآن لا يختص بعنصر أو قبيلة أو طائفة أو فئة

١١١

خاصة ، بل يوجّه دعوته إلى البشرية عامة لعبادة الله ، وللثورة على كل ألوان الشرك والانحراف عن طريق التوحيد.

٢ ـ يركّز القرآن ، في دعوته إلى عبادة الله وإلى شكر الله ، على نعمة خلق البشر. وهي نعمة تتجلى فيها قدرة الله كما يتجلى فيها علم الله وحكمته وكذلك رحمته العامة والخاصّة. لأن الموجود البشري سيّد الموجودات ، ومظهر علم الله وقدرته اللامتناهية ونعمه الكثيرة الواسعة.

أولئك الذين يستنكفون عن عبادة الله والخضوع له ، غافلون غالبا عن العظمة المنطوية في خلقهم وخلق الذين من قبلهم ، وعن اليد المدبّرة المقدّرة التي أو جدت هذا الخلق، وأودعت فيه النعم الدقيقة المدروسة المتجلية في جسم الإنسان وروحه.

فالتذكير بهذه النعم دليل لمعرفة الله ، ومحرك للشكر على هذه النعم.

٣ ـ نتيجة هذه العبادة هي التقوى : (لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) فعباداتنا لا تزيد الله عظمة وجلالا ، كما أن إعراضنا عن العبادة لا ينقص من عظمة الله شيئا. هذه العبادات مدرسة لتعليم التقوى ، والتقوى هي الإحساس بالمسؤولية والمحرّك الذاتي للفرد ، وهي معيار قيمة الإنسان وميزان تقييم شخصيته.

٤ ـ عبارة : (الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) لعلها ردّ على استدلال المشركين الذين برروا عبادتهم للأصنام بتمسكهم بسنة آبائهم. والآية الكريمة تشير بهذه العبارة إلى أن الله الواحد الأحد ، خالق البشر وخالق آبائهم ، وكل شرك يعتري المسيرة البشرية في حاضرها وسالفها هو انحراف عن الخط الصحيح.

* * *

نعم الأرض والسماء :

الآية التالية استعرضت قسما آخر من النعم الإلهية التي تستحق الشكر ،

١١٢

ذكرت أوّلا خلق الأرض : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً).

فهذه الكرة السائرة بسرعة مذهلة في الفضاء ، قد سخرت للإنسان كي يمتطيها ويستقر عليها دون أن تؤثر عليه حركتها.

وتتجلى عظمة نعمة الأرض أكثر حين نلاحظ خاصّية الجاذبية التي تؤمّن لنا إمكانية الاستقرار وإنشاء الأبنية والمزارع ، وسائر مستلزمات الحياة على هذه الأرض. فلو انعدمت هذه الخاصية لحظة واحدة لتناثر كل ما على هذه الأرض من إنسان وحيوان ونبات في الفضاء! تعبير «فراش» يصوّر بشكل رائع مفهوم الاستقرار والاستراحة ، كما يصوّر إضافة إلى ذلك مفهوم الاعتدال والتناسب في الحرارة. هذه الحقيقة يعبّر عنها الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام مفسرا هذه الآية إذ يقول : «جعلها ملائمة لطباعكم ، موافقة لأجسادكم ولم يجعلها شديدة الحماء والحرارة فتحرقكم ، ولا شديدة البرودة فتجمدكم ، ولا شديدة طيب الرّيح فتصدع هاماتكم ، ولا شديدة النّتن فتعطبكم ، ولا شديدة اللّين كالماء فتغرقكم ، ولا شديدة الصّلابة فتمتنع عليكم في دوركم وأبنيتكم وقبور موتاكم ... فلذلك جعل الأرض فراشا لكم»! (١).

ثم تتعرض الآية إلى نعمة السماء فتقول : (وَالسَّماءَ بِناءً).

كلمة «سماء» وردت في القرآن بمعان مختلفة ، وكلها تشير إلى العلو ، واقتران كلمة «سماء» مع «بناء» يوحي بوجود سقف يعلو البشر على ظهر هذه الأرض. بل إنّ القرآن صرّح بكلمة «سقف» في بيان حال السماء إذ قال : (وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً) (٢).

لعل هذا التعبير القرآني يثير استغراب أولئك الذين يفهمون موقع الأرض في الفضاء ، فيتساءلون عن هذا السقف ... عن مكانه وكيفيته. ولعل هذا التعبير يعيد ـ

__________________

(١) نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤١.

(٢) الأنبياء ، ٣٢.

١١٣

بادئ الرأي ـ إلى الأذهان فرضية بطليموس التي تصور الكون على أنه طبقات من الأفلاك متراكمة بعضها فوق بعض مثل طبقات قشور البطل!! من هنا لا بدّ من توضيح لمفهوم السماء والبناء والسقف في التعبيرات القرآنية.

ذكرنا أن سماء كل شيء أعلاه ، وأحد معاني السماء «جوّ الأرض» ، وهو المقصود في الآية الكريمة. وجوّ الأرض هو الطبقة الهوائية الكثيفة المحيطة بالكرة الأرضية ، ويبلغ سمكها عدّة مئات من الكيلومترات.

لو أمعنّا النظر في الدور الحياتي الأساس الذي تؤديه هذه الطبقة الهوائية لفهمنا مدى استحكام هذا السقف وأهميته لصيانة البشر.

هذه الطبقة الهوائية مثل سقف شفّاف يحيط بكرتنا الأرضية من كل جانب ، وقدرة استحكامه تفوق قدرة أضخم السدود الفولاذية ، على الرغم من أنه لا يمنع وصول أشعة الشمس الحيوية الحياتية إلى الأرض.

لو لم يكن هذا السقف لتعرضت الأرض دوما إلى رشق الشهب والنيازك السماوية المتناثرة ، ولما كان للبشر أمان ولا استقرار على ظهر هذا الكوكب ، وهذه الطبقة الهوائية التي يبلغ سمكها عدّة مئات من الكيومترات (١) تعمل على إبادة كل الصخور المتجهة إلى الكرة الأرضية ، وقليل جدا من هذه الصخور تستطيع أن تخترق هذا الحاجز وتصل الأرض لتنذر أهل الأرض دون أن تعكّر صفو حياتهم.

من الشواهد الدالة على أن أحد معاني السماء هو «جو الأرض» حديث عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام يتحدث فيه إلى «المفضّل» عن السماء فيقول : «فكّر في لون السّماء وما فيه من صواب التّدبير ، فإنّ هذا اللّون أشدّ الألوان موافقة للبصر

__________________

(١) تذكر كثير من الكتب أن سمك الجوّ المحيط بالأرض يبلغ مائة كيلومتر ، ويبدو أن المقصود بهذا السمك هو الطبقة الجوية الكثيفة ، لأن العلم الحديث أثبت أن الهواء موجود بشكل رقيق متباعد الجزئيات على بعد مئات الكيلومترات.

١١٤

وتقوية ...» (١).

ومن الواضح أن زرقة السماء ليست إلّا لون الهواء الكثيف المحيط بالأرض.

ولهذا فإن المقصود بالسماء في هذا الحديث هو جوّ الأرض نفسه.

وأضيفت كلمة الجوّ إلى السماء في قوله تعالى : (أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ) (٢).

وحول معاني السماء الاخرى سنتحدّث بشكل أوفى في ذيل الآية ٢٩ من هذه السّورة.

بعد ذلك تطرقت الآية الى نعمة المطر : (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) ... ماء يحيي الأرض ويخرج منها الثمرات.

عبارة (وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً) تؤكد مرّة اخرى أن المقصود من «السماء» هنا هو جوّ الأرض ، لأننا نعلم أن المطر ينزل من الغيوم ، والغيوم بخار متناثر في جوّ الأرض.

الإمام علي بن الحسين عليه‌السلام يتحدث عن نزول المطر في تفسير هذه الآية فيقول:«ينزله من أعلى ليبلغ قلل جبالكم وتلالكم وهضابكم وأوهادكم ، ثمّ فرّقه رذاذا ووابلا وهطلا لتنشفه أرضوكم ، ولم يجعل ذلك المطر نازلا عليكم قطعة واحدة فيفسد أرضيكم وأشجاركم وزرعكم وثماركم» (٣).

ثم تشير الآية إلى نعمة الثمرات التي تخرج من بركة الأمطار لتكون رزقا لبني البشر (فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ).

وإخراج الثمرات مدعاة للشكر على رحمة رب العالمين لعباده ، ومدعاة للإذعان بقدرة ربّ العالمين في إخراج ثمر مختلف ألوانه ، من ماء عديم اللون ، ليكون قوتا للإنسان والحيوان ، لذلك عطف عليها قوله تعالى : (فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ

__________________

(١) بحار الأنوار ، ط الجديد ، ج ٣ ، ص ١١١.

(٢) النحل ، ٧٩.

(٣) تفسير نور الثقلين ، ج ١ ، ص ٤١.

١١٥

أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ).

فهذه الأنداد المفتعلة وما تعبدون من دون الله ، لم يخلقوكم ولا خلقوا آباءكم ، ولا خلقوا ما ترونه حولكم من مظاهر كونية ونعم موفورة.

و «الأنداد» جمع «ند» على وزن ضدّ ، وهو الشبيه والشريك ، وواضح أن هذا الشبه قائم في أذهان المشركين وليس أمرا واقعيا.

وبعبارة أدق : ندّ الشيء ونديده ـ كما يقول الراغب في المفردات ـ مشاركة في جوهره،وذلك ضرب من المماثلة ، أي المماثلة في جوهر الذات.

* * *

بحث

الشّرك في أشكال مختلفة :

لا بدّ من التأكيد على أن الشّرك بالله لا ينحصر باتّخاذ الأوثان الحجرية والخشبية آلهة من دون الله كما يفعل الوثنيون ، أو القول بأن الله ثالث ثلاثة كما تقول النصارى. بل إن للشرك معنى أوسع وصورا متنوعة أكثر ضمورا وخفاء.

وبشكل عام كل اعتقاد بوجود أشياء لها نفس تأثير الله في الحياة هو نوع من الشرك. وهذا ما يعبّر عنه ابن عباس إذ يقول : (الأنداد) هو الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء ، وهو أن يقول : والله ، وحياتك يا فلان ، وحياتي! ...ويقول: لو لا كلبه هذا لأتانا اللصوص البارحة! ... وقول الرجل لصاحبه : ما شاء الله وشئت...هذا كله به شرك (١).

ونقرأ في حديث شريف أن رجلا قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما شاء الله وشئت.

__________________

(١) في ظلال القرآن ، سيد قطب ، ج ١ ، ص ٥٣.

١١٦

فقال النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أجعلتني لله ندّا»؟!

مثل هذه التعابير التي يشمّ منها رائحة الشرك رائجة ـ مع الأسف ـ بين سواد المسلمين وغير لائقة بالشخص الموحّد ، كقولهم : اعتمادي على الله وعليك!!

في الرواية عن الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه‌السلام في تفسير قوله تعالى : (وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) (١) قال : «قول الرّجل لو لا فلان لهلكت ، ولو لا فلان لأصبت كذا وكذا ، ولو لا فلان لضاع عيالي» (٢).

وسيأتي توضيح أكثر في هذا المجال في ذيل الآية ١٠٦ من سورة يوسف.

* * *

__________________

(١) يوسف ، ١٠٦.

(٢) سفينة البحار ، ج ١ ، ص ٦٩٧.

١١٧

الآيتان

(وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٢٣) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (٢٤))

التّفسير

القرآن معجزة خالدة :

ظاهرة الكفر والنفاق ، التي دارت حولها موضوعات الآيات السابقة ، تنشأ أحيانا عن عدم فهم محتوى النّبوة ومعجزة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والآيات التي نحن بصددها تعالج هذه المسألة ، وتركز على المعجزة القرآنية الخالدة كي تزيل كل شك وترديد في رسالة نبي الإسلامصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. تقول الآية : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)(١).

__________________

(١) ذهب بعض المفسرين إلى أن الضمير في (مثله) يعود على النّبي كما يعود الضمير في (عبدنا) عليه أيضا.

ويصبح المعنى حينئذ : لو كنتم في شك من الوحي فأتوا بشخص أمّي مثل محمّد يستطيع أن يأتي بمثل هذا القرآن. لكن هذا الاحتمال بعيد ، إذ ورد في موضوع آخر : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) الطور ، ٣٤ ، وفي موضع آخر أيضا (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) يونس ، ٣٨ ، وهذه دلالة على أن الضمير في (مثله) يعود على القرآن.

١١٨

وبهذا الشكل تحدى القرآن كل المنكرين أن يأتوا بسورة من مثله ، كي يكون عجزهم دليلا واضحا على أصالة هذا الوحي السماوي وعلى الجانب الإلهي للرسالة والدعوة.

ولأجل أن يؤكد هذا التحدي دعاهم أن لا يقوموا بهذا العمل منفردين ، بل (وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ).

كلمة «شهداء» تشير إلى الفئة التي كانت تساعدهم في رفض رسالة النّبيصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعبارة (مِنْ دُونِ اللهِ) إشارة إلى عجز جميع البشر عن الإتيان بسورة قرآنية ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ، وإلى قدرة الله وحده على ذلك.

وعبارة (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) تستهدف حثّهم على قبول هذا التحدي ، ومفهومها:لو عجزتم عن هذا العمل فذلك دليل كذبكم ، فانهضوا إذن لإثبات ادعائكم.

طبيعة التحدي تقتضي أن يكون صارخا إلى أبعد حدّ ممكن ، وأن يكون محفّزا للعدو مهما أمكن ، وبعبارة اخرى أن يثير الحميّة فيه ، كي يجنّد كل طاقاته لعملية المجابهة ، حتى إذا فشل وأيقن بعجزه علم أنه أمام ظاهرة إلهية لا بشرية.

من هنا فسياق الآيات التالية ، يركز على عنصر الإثارة ويقول : (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ) وهذه النار ليست حديث مستقبل ، بل هي واقع قائم : (أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ).

جمع من المفسرين قالوا : إن المقصود بالحجارة : الأصنام الحجرية ، واستشهدوا لذلك بالآية الكريمة : (إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ) (١).

جمع آخر قالوا : (الحجارة) إشارة إلى صخور معدنية كبريتية تفوق حرارتها

__________________

(١) الأنبياء ، ٩٨.

١١٩

حرارة الصخور الأخرى.

وهناك من المفسرين من يعتقد أن المقصود من هذا التعبير ، إلفات النظر إلى شدة حرارة جهنم ، أي إن حرارة جهنّم وحريقها يبلغ درجة تشتعل فيها الصخور والأجساد كما يشتعل الوقود.

ويبدو من ظاهر الآيات المذكورة ، أن نار جهنم تستعر من داخل النّاس والحجارة. ولا يصعب فهم هذه المسألة لو علمنا أن العلم الحديث أثبت أن كل أجسام العالم تنطوي في أعماقها على نار عظيمة (أو بعبارة اخرى على طاقة قابلة للتبديل إلى نار) ، ولا يلزم أن نتصور نار جهنم شبيهة بالنار المشهودة في هذا العالم.

في موضع آخر يقول تعالى : (نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) (١).خلافا لنيران هذا العالم التي تنفذ من الخارج إلى الداخل.

* * *

بحوث

١ ـ لماذا يحتاج الأنبياء إلى المعجزة؟

نعلم أن منصب النّبوة أعظم منصب منحه الله لخاصة أوليائه. فكل المناصب عادة تمنح صاحبها القدرة للحكم على أبدان الأفراد ، إلّا منصب النّبوة ، فالنّبي يحكم على الأجسام والقلوب في مجتمعه. من هنا كان مقام النّبوة لا يبلغه مقام في سموّه ، ومن هنا أيضا كان أدعياء النبوّات الكاذبة أحطّ النّاس وأشدّهم انحرافا.

والنّاس هنا أمام أمرين : إمّا أن يؤمنوا بدعوات النّبوة جميعا ، أو يرفضوها

__________________

(١) الهمزة ، ٦ و ٧.

١٢٠