الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠

واهتدى الخلائق بنور هداهم ، وبقي هذا الإنسان في ظلمة الجهل إلى أُخريات أيّام معاوية ، وعاش خمسين سنة بإجارة محرّمة ، وشدّ بها عظمه ومخّه ، ونبت بها لحمه وجلده ، حتى هداه إلى السنّة رافع بن خديج الذي لم يكن من مشيخة الصحابة وقد استصغره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بدر؟ وكانت السنّة في المحاقلة والمخابرة (١) تُروى في لسان الصحابة ، وفي بعض ألفاظه شدّة ووعيد مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث جابر : «من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله» (٢) وجاءت هذه السنّة في الصحاح والمسانيد بأسانيد تنتهي إلى جابر بن عبد الله ، وسعد بن أبي وقّاص ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد الخدري ، وزيد بن ثابت (٣).

وليت ابن عمر بعد ما علم الحظر فيما أشبع به طيلة حياته نهمته ، وطبع الحال أنّه كان يعلّم بذلك ويرشد ويهدي أو يهلك ويغوي ، وكان غيره يقتصّ أثره لأنّه ابن فقيه الصحابة وخليفتهم ، الذي أوعزنا إلى موارد من فقهه وعلمه ، في نوادر الأثر في الجزء السادس ، كان يسأل من فقهاء الأُمّة أو من خليفته معاوية عن حكم المال المأخوذ المأكول بالعقد الباطل.

أليس من الغلوّ الفاحش أو الجناية الكبيرة على المجتمع الدينيّ أن يُعدّ هذا الإنسان من مراجع الأُمّة ، وفقهائها ، وأعلامها ، ومستقى علمها ، وممّن يحتجّ بقوله وفعله؟ وهل كان هو يعرف من الفقه موضع قدمه؟ أنا لا أدري.

ومنها : ما أخرجه الدارقطني في سننه (٤) من طريق عروة ، عن عائشة أنّه بلغها قول ابن عمر : في القُبلة الوضوء. فقالت : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقبّل وهو صائم ، ثم

__________________

(١) المحاقلة : بيع الزرع قبل بدو صلاحه. وقيل : بيع الزرع في سنبله بالحنطة. وقيل : الزراعة على نصيب معلوم بالثلث والربع أو أقل من ذلك أو أكثر ، وهذا مثل المخابرة.

(٢) سنن البيهقي : ٦ / ١٢٨. (المؤلف)

(٣) راجع سنن النسائي : ٣ / ٥٢ [٣ / ١٠٤ ح ٤٦٥٠] ، سنن البيهقي : ٦ / ١٢٨ ـ ١٣٣. (المؤلف)

(٤) سنن الدارقطني : ١ / ١٣٦ ح ١٠.

٦١

لا يتوضّأ.

الإجابة للزركشي (١) (ص ١١٨)

ومنها : قوله في المتعة ، والبكاء على الميّت ، وطواف الوداع على الحائض ، والتطيّب عند الإحرام. وستوافيك أخبارها.

ويُعرب عن مبلغ الرجل من فقه الإسلام ما ذكره ابن حجر في فتح الباري (٢) (٨ / ٢٠٩) من قوله : ثبت عن مروان أنّه قال لمّا طلب الخلافة فذكروا له ابن عمر ، فقال : ليس ابن عمر بأفقه منّي ، ولكنّه أسنّ منّي ، وكانت له صحبة.

فما شأن امرئ يكون مروان أفقه منه؟

ولعلّه نظراً إلى هذه وما يأتي من نوادر الرجل أو بوادره في الفقه ، ترى إبراهيم النخعي لمّا ذُكر له ابن عمر وتطيّبه عند الإحرام قال : ما تصنع بقوله (٣)؟ وقال الشعبي : كان ابن عمر جيد الحديث ولم يكن جيّد الفقه ، كما رواه ابن سعد في الطبقات الكبرى (٤) (رقم التسلسل ٨٩١).

هذا رأي الشعبي ، وأمّا نحن فلا نفرّق بين فقه الرجل وحديثه ، وكلاهما شرع سواء غير جيّدين ، بل حديثه أردأ من فقهه ، ورداءة فقهه من رداءة حديثه ، وكأنّ الشعبي لم يقف على شواهد سوء حفظه أو تحريفه الحديث ، فإليك نماذج منها :

١ ـ أخرج الطبراني (٥) من طريق موسى بن طلحة قال : بلغ عائشة أنّ ابن

__________________

(١) الإجابة للزركشي : ص ١٠٧ ح ٦.

(٢) فتح الباري : ٨ / ٢٦٠.

(٣) صحيح البخاري : ٣ / ٥٨ [٢ / ٥٥٨ ح ١٤٦٤] ، تيسير الوصول : ١ / ٢٦٧ [١ / ٣١٥]. (المؤلف)

(٤) الطبقات الكبرى : ٢ / ٣٧٣.

(٥) المعجم الأوسط : ٤ / ١٠٤ ح ٣١٥٣.

٦٢

عمر يقول : إنّ موت الفجأة سخطة على المؤمنين. فقالت : يغفر الله لابن عمر ، إنّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «موت الفجأة تخفيف على المؤمنين وسخطة على الكافرين».

الإجابة للزركشي (١) (ص ١١٩)

. ٢ ـ أخرج البخاري (٢) من طريق ابن عمر قال : وقف النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قليب بدر فقال : «هل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟» ثم قال : «إنّهم الآن يسمعون ما أقول» فذُكِر ذلك لعائشة فقالت : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّهم الآن ليعلمون أنّ ما كنت أقول لهم حقّ».

وفي لفظ أحمد في مسنده (٣) (٢ / ٣١): وقف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على القليب يوم بدر فقال : «يا فلان ، يا فلان هل وجدتم ما وعدكم ربّكم حقّا؟ أما والله إنّهم الآن ليسمعون كلامي». قال يحيى : فقالت عائشة : غفر الله لأبي عبد الرحمن إنّه وهم ، إنّما قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والله إنّهم ليعلمون الآن أنّ الذي كنت أقول لهم حقّا (٤) ، وأنّ الله تعالى يقول : (إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) (٥)

٣ ـ روى الحكيم الترمذي في نوادر الأصول (٦) من طريق ابن عمر قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اهتزّ العرش لموت سعد بن معاذ» قال أبو عبد الله : فتأوّل ناس في هذا الحديث وقالوا : العرش سريره الذي حمل عليه ، واحتجّوا بحديث رووه عن ابن عمر أنّه تأوّله ، كذا حدّثنا الجارود قال : حدّثنا جرير ، عن عطاء بن السائب ، عن

__________________

(١) الإجابة : ص ١٠٨ ح ٧.

(٢) صحيح البخاري : ٤ / ١٤٦٢ ح ٣٧٦٠.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ١١٣ ح ٤٨٤٩.

(٤) كذا في المصدر.

(٥) النمل : ٨٠ ، فاطر : ٢٢.

(٦) نوادر الأصول : ١ / ٥٣ الأصل التاسع.

٦٣

مجاهد ، عن ابن عمر قال : ذُكر يوماً عنده حديث سعد : أنّ العرش اهتزّ لحبّ الله لقاء سعد ، قال ابن عمر : إنّ العرش ليس يهتزّ لموت أحد ، ولكن سريره الذي حُمل عليه. قال : فهذا مبلغ ابن عمر رحمه‌الله من علم ما أُلقي إليه من ذلك ، وفوق كلّ ذي علم عليم (١). انتهى.

وأخرجه الحاكم في المستدرك (٢) (٣ / ٦٠٦) ولفظه : قال ابن عمر : اهتزّ لحبّ لقاء الله العرش ـ يعني السرير ـ قال : ورفع أبويه على العرش تفسّخت أعواده.

وأنت تعرف سخافة هذا التأويل ممّا أخرجه البخاري والحاكم في المستدرك من طريق جابر بن عبد الله قال : سمعت ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «اهتزّ عرش (٣) الرحمن لموت سعد بن معاذ» فقال رجل لجابر : فإنّ البراء يقول : اهتزّ السرير ، فقال : إنّه كان بين هذين الحيّين الأوس والخزرج ضغائن ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «اهتزّ عرش الرحمن لموت سعد بن معاذ» (٤). وأخرجه مسلم بلفظ اهتزّ عرش الرحمن (٥).

وفي فتح الباري (٦) (٧ / ٩٨) : قد جاء حديث اهتزاز العرش لسعد بن معاذ عن عشرة من الصحابة أو أكثر وثبت في الصحيحين فلا معنى لإنكاره.

٤ ـ في كتاب الإنصاف لشاه صاحب : روى ابن عمر عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أنّ الميّت

__________________

(١) غيّرنا في ألفاظ هذا الحديث والذي قبله ، وفقاً لما ورد في مصادرهما.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٢٢٨ ح ٤٩٢٤.

(٣) فصّل ابن حجر القول في معنى الحديث في فتح الباري : ٧ / ٩٧ ، ٩٨ [٧ / ١٢٣ ، ١٢٤]. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري في المناقب : ٦ / ٣ [٣ / ١٣٨٤ ح ٣٥٩٢] ، مستدرك الحاكم : ٣ / ٢٠٧ [٣ / ٢٢٩ ح ٤٩٢٨]. (المؤلف)

(٥) صحيح مسلم : ٧ / ١٥٠ [٥ / ٦٨ ح ١٢٤ كتاب فضائل الصحابة]. (المؤلف)

(٦) فتح الباري : ٧ / ١٢٤.

٦٤

يعذّب ببكاء أهله عليه ، فقضت عائشة عليه بأنّه لم يأخذ الحديث على وجهه ، مرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على يهوديّة يبكي عليها أهلها ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّهم يبكون عليها ، وإنّها تعذّب في قبرها» وظنّ ـ ابن عمر ـ العذاب معلولاً بالبكاء ، وظنّ الحكم عامّا على كلّ ميّت.

وأخرج أحمد في المسند (١) (٦ / ٢٨١) عن عائشة : أنّه بلغها أنّ ابن عمر يحدّث عن أبيه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : الميت يعذّب ببكاء أهله عليه. فقالت : يرحم الله عمر وابن عمر ، فو الله ما هما بكاذبين ولا مكذّبين ولا متزيّدين ، إنّما قال ذلك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في رجل من اليهود ، ومرّ بأهله وهم يبكون عليه فقال : «إنّهم ليبكون عليه وإنّ الله عزّ وجلّ ليعذّبه في قبره». ولأحمد في مسنده لفظ آخر يأتي بعد بضع صحائف من هذا الجزء.

أسلفنا الحديث نقلاً عن عدّة صحاح ومسانيد في الجزء السادس (ص ١٥١ الطبعة الأولى) وفصّلنا هنالك القول حول المسألة.

٥ ـ أخرج البخاري في كتاب الأذان من صحيحه (٢) (٢ / ٦) عن عبد الله بن عمر أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ بلالاً يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتى ينادي ابن أُمّ مكتوم».

هذا الحديث ممّا استدركت به عائشة على ابن عمر وكانت تقول غلط ابن عمر وصحيحه : «إنّ ابن أُمّ مكتوم ينادي بليل فكلوا واشربوا حتى يؤذّن بلال» ، وبهذا جزم الوليد وكذا أخرجه ابن خزيمة (٣) وابن المنذر وابن حبّان (٤) من طرق عن شعبة ،

__________________

(١) مسند أحمد : ٧ / ٣٩٨ ح ٢٥٨٧١.

(٢) صحيح البخاري : ١ / ٢٢٣ ح ٥٩٢.

(٣) صحيح ابن خزيمة : ١ / ٢١٠ ح ٤٠٤.

(٤) الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان : ٨ / ٢٥١ ح ٣٤٧٣.

٦٥

وكذلك أخرجه الطحاوي والطبراني (١) من طريق منصور بن زاذان عن خبيب بن عبد الرحمن.

وفي لفظ البيهقي في سننه (١ / ٣٨٢) : قالت عائشة : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ابن مكتوم رجل أعمى فإذا أذّن فكلوا واشربوا حتى يؤذّن بلال». قالت : وكان بلال يبصر الفجر ، وكانت عائشة تقول غلط ابن عمر.

وقال ابن حجر : ادّعى ابن عبد البرّ وجماعة من الأئمّة بأنّه مقلوب ، وأنّ الصواب حديث الباب ـ يعني لفظ البخاري ـ وقد كنت أميل إلى ذلك إلى أن رأيت الحديث في صحيح ابن خزيمة من طريقين آخرين عن عائشة ، وفي بعض ألفاظه ما يبعد وقوع الوهم فيه وهو قوله : إذا أذّن عمرو فإنّه ضرير البصر فلا يغرّنّكم ، وإذا أذّن بلال فلا يَطعمنّ أحد. وأخرجه أحمد (٢). وجاء عن عائشة أيضاً : أنّها كانت تنكر حديث ابن عمر وتقول : إنّه غلط ، أخرج ذلك البيهقي من طريق الدراوردي ، عن هشام ، عن أبيه ، عنها ، فذكر الحديث وزاد : قالت عائشة : وكان بلال يبصر الفجر. قال : وكانت عائشة تقول : غلط ابن عمر.

فتح الباري (٣) (٢ / ٨١).

٦ ـ أخرج أحمد في مسنده (٤) (٢ / ٢١) من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب ، قال : قال عبد الله بن عمر : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : الشهر تسع وعشرون وصفق بيديه مرّتين ، ثم صفق الثالثة وقبض إبهامه. فقالت عائشة : غفر الله لأبي عبد الرحمن إنّه وَهَل (٥) ، إنّما هجر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءه شهراً ، فنزل لتسع وعشرين

__________________

(١) المعجم الكبير : ٢٤ / ١٩١ ح ٤٨٢.

(٢) في المسند : ٦ / ١٨٦ [٧ / ٢٦٦ ح ٢٤٩٩٤]. (المؤلف)

(٣) فتح الباري : ٢ / ١٠٢.

(٤) مسند أحمد : ٢ / ١١٣ ح ٤٨٥١ ، ٢ / ١٥٧ ح ٥١٦٠.

(٥) وَهَل إلى الشيء يَوْهَل ، إذا ذهب وهمه إليه.

٦٦

فقالوا : يا رسول الله إنّك نزلت لتسع وعشرين؟ فقال : إنّ الشهر يكون تسعاً وعشرين. وفي (ص ٥٦): فقيل له ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الشهر قد يكون تسعاً وعشرين. ورواه أبو منصور البغدادي ولفظه : أُخبرت عائشة بقول ابن عمر رضى الله عنه : إنّ الشهر تسع وعشرون ، فأنكرت ذلك عليه وقالت : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ما هكذا قال رسول الله ، ولكن قال : إنّ الشهر قد يكون تسعاً وعشرين.

الإجابة للزركشي (١) (ص ١٢٠).

كان ابن عمر يعمل بوهمه هذا ويرى كلّ شهر تسعة وعشرين يوماً وكان يقول : قال رسول الله : الشهر تسع وعشرون ، وكان إذا كان ليلة تسع وعشرين وكان في السماء سحاب أو قتر أصبح صائماً (٢).

٧ ـ أخرج الشيخان من جهة نافع قال : قيل لابن عمر : إنّ أبا هريرة يقول : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من تبع جنازة فله قيراط من الأجر. فقال ابن عمر : أكثر علينا أبو هريرة ، فبعث إلى عائشة فسألها فصدّقت أبا هريرة ، فقال ابن عمر : لقد فرّطنا في قراريط كثيرة.

وأخرج مسلم من طريق عامر بن سعد بن أبي وقّاص : أنّه كان قاعداً عند عبد الله بن عمر إذ طلع خباب صاحب المقصورة فقال : يا عبد الله بن عمر ألا تسمع ما يقول أبو هريرة؟ إنه سمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من خرج مع جنازة من بيتها وصلّى عليها ثم تبعها حتى دفن كان له قيراطان من أجر ، كلّ قيراط مثل أحد ، ومن صلّى عليها ثم رجع كان له من الأجر مثل أُحد» فأرسل ابن عمر خبّاباً إلى عائشة يسألها عن قول أبي هريرة ثم يرجع إليه فيخبره بما قالت ، وأخذ ابن عمر قبضة من حصى المسجد يقلّبها في يده حتى رجع إليه الرسول ، فقال : قالت عائشة : صدق

__________________

(١) الإجابة : ص ١٠٩ ح ٩.

(٢) مسند أحمد : ٢ / ١٣ [٢ / ٨٠ ح ٤٥٩٧]. (المؤلف)

٦٧

أبو هريرة. فضرب ابن عمر بالحصى الذي كان في يده الأرض وقال : لقد فرّطنا في قراريط كثيرة (١).

ولعلّ الباحث لا يشكّ إذا وقف على هذه الروايات وأمثالها في أنّ رواية ابن عمر لا تقلّ عن فقاهته في الرداءة ، ومن هذا شأنه في الفقه والحديث لا يعبأ به وبرأيه ، ولا يوثق بحديثه.

رأي ابن عمر في القتال والصلاة :

ومنها : أخرج ابن سعد في الطبقات الكبرى (٢) (٤ / ١١٠) طبعة ليدن عن ابن عمر أنّه كان يقول : لا أُقاتل في الفتنة ، وأُصلّي وراء من غلب. وقال ابن حجر في فتح الباري (٣) (١٣ / ٣٩) : كان رأي ابن عمر ترك القتال في الفتنة ولو ظهر أنّ إحدى الطائفتين محقّة والأخرى مبطلة. وقال ابن كثير في تاريخه (٤) (٩ / ٥) : كان في مدّة الفتنة لا يأتي أميراً إلاّ صلّى خلفه ، وأدّى إليه زكاة ماله.

يتراءى هاهنا من وراء ستر رقيق تترّس ابن عمر بأُغلوطته هذه عن سُبّة تقاعده عن حرب الجمل وصفّين مع مولانا أمير المؤمنين ، ذاهلاً عن أنّ هذه جناية أخرى لا يُغسل بها دنس ذلك الحوب الكبير ، متى كانت تلكم الحروب فتنة حتى يتظاهر ابن عمر تجاهها بزهادة جامدة لاقتناص الدهماء؟ والأمر كما قال حذيفة اليماني ذلك الصحابي العظيم : لا تضرّك الفتنة ما عرفت دينك ، إنّما الفتنة إذا اشتبه

__________________

(١) صحيح البخاري : ٢ / ٢٣٩ [١ / ٤٤٥ ح ١٢٦٠] ، صحيح مسلم : ٣ / ٥٢ ، ٥٣ [٢ / ٣٤٥ ح ٥٦ كتاب الجنائز]. (المؤلف)

(٢) الطبقات الكبرى : ٤ / ١٤٩.

(٣) فتح الباري : ١٣ / ٤٧.

(٤) البداية والنهاية : ٩ / ٨ حوادث سنة ٧٤ ه‍.

٦٨

عليك الحقّ والباطل (١).

أوَ كان ابن عمر بمنتأى عن عرفان دينه؟ أو كان على حدّ قوله تعالى : (يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها) (٢) وهل كان ابن عمر لم يعرف من القرآن قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (٣) وقد أفحمه رجل عراقيّ بهذه الآية وحيّره ، فلم يحر ابن عمر جواباً غير أنّه تخلّص منه بقوله : مالك ولذلك؟ انصرف عنّي. وسيوافيك تمام الحديث.

هلاّ كان ابن عمر بان له الرشد من الغيّ ، ولم يك يشخّص الحقّ من الباطل؟ وهلاّ كان يعرف الباغية من الفئتين؟ وهل كان يزعم بأنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر عن الفتن بعده وأنّها تغشى أمّته كقطع الليل المظلم (٤) ، وترك الأمّة مغمورة في مدلهمّاتها ، هالكة في غمراتها ، ولم يعبّد لها طريق النجاة ، وما رشّدها إلى مهيع الحقّ ، ولم ينبس عمّا ينجيها ببنت شفة؟ حاشا نبيّ الرحمة عن ذلك ، وهو صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يُبق عذراً لأيّ أحد من عرفان الباغية من الطائفتين في تلكم الحروب ، ولم يك يخفى حكمها على أيّ دينيّ ، قال مولانا أمير المؤمنين : «لقد أهمّني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينيه فلم أجد إلاّ القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ، إنّ الله تبارك وتعالى لم يرضَ من أوليائه أن يُعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون

__________________

(١) فتح الباري : ١٣ / ٤٠ [١٣ / ٤٩]. (المؤلف)

(٢) النحل : ٨٣.

(٣) الحجرات : ٩.

(٤) صحيح الترمذي : ٩ / ٤٩ [٤ / ٤٢٣ ح ٢١٩٧] ، مستدرك الحاكم : ٤ / ٤٣٨ ، ٤٤٠ [٤ / ٤٨٥ ح ٨٣٥٤ ، ص ٤٨٧ ح ٨٣١٠] ، كنز العمّال : ٦ / ٣١ ، ٣٧ [١ / ١٥٢ ح ٣٠٩٩٧ ، ١٥٧ ح ٣١٠١٩]. (المؤلف)

٦٩

بالمعروف ولا ينهون عن المنكر ، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنّم» (١).

أكان في أُذن ابن عمر وقر عن سماع ذلك الهتاف القدسيّ بمثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعائشة «كأنّي بك تنبحك كلاب الحوأب ، تقاتلين عليّا وأنت له ظالمة»؟

وقوله لزوجاته : «كأنّي بإحداكنّ قد نبحها كلاب الحوأب ، وإيّاك أن تكوني أنت يا حميراء»؟

وقوله لها : «انظري أن لا تكوني أنت»؟

وقوله للزبير : «إنّك تقاتل عليّا وأنت ظالم له»؟

وقوله : «سيكون بعدي قوم يقاتلون عليّا على الله جهادهم ، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه ، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ، ليس وراء ذلك شيء» حقّا جاهد ابن عمر في الخلاف على قول رسول الله هذا ، بلسانه وقلبه ما استطاع؟

وقوله لعليّ : «يا عليّ ستقاتل الفئة الباغية وأنت على الحقّ ، فمن لم ينصرك يومئذ فليس منّي»؟

وقوله له : «ستقاتل بعدي الناكثين والقاسطين والمارقين»؟

وقوله له : «أنت فارس العرب وقاتل الناكثين والمارقين والقاسطين»؟

وقوله لأُمّ سلمة لمّا رأى عليّا : «هذا والله قاتل القاسطين والناكثين والمارقين من بعدي»؟

وعهده إلى عليّ عليه‌السلام أن يقاتل بعده القاسطين والناكثين والمارقين (٢)؟

__________________

(١) كتاب صفّين : ص ٥٤٢ [ص ٤٧٤]. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء الثالث [ص ٢٧٢ ـ ٢٧٦]. (المؤلف)

٧٠

وقوله لأصحابة : «إنّ فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله» قال أبو بكر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : «لا». قال عمر : أنا هو يا رسول الله؟ قال : «لا ، ولكن خاصف النعل». وكان أعطى عليّا نعله يخصفها (١).

وقوله لعمّار بن ياسر : «تقتلك الفئة الباغية». وقد قتلته فئة معاوية.

وقول أبي أيّوب الأنصاري ، وأبي سعيد الخدري ، وعمّار بن ياسر : أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين. قلنا : يا رسول الله أمرت بقتال هؤلاء مع من؟ قال : «مع عليّ بن أبي طالب».

إلى أحاديث أخرى ذكرناها في الجزء الثالث (ص ١٩٢ ـ ١٩٥) هب أنّ ابن عمر لم يكن يسمع شيئاً من هذه الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أوَما كان يسمع أيضاً ، أوَما كان يصدّق أُولئك الجمّ الغفير من البدريّين أعاظم الصحابة الأوّلين ، الذين حاربوا الناكثين والقاسطين وملء أسماعهم عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إليهم ، وأمره إيّاهم بقتال أولئك الطوائف الخارجة على الإمام الحقّ الطاهر؟ فأيّ مين أعظم ممّا جاء به ابن عمر في كتاب له إلى معاوية من قوله : أحدث عليّ أمراً لم يكن إلينا فيه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عهد ، ففزعت إلى الوقوف. وقلت : إن كان هذا هدىً ففضل تركته ، وإن كان ضلالة فشرّ منه نجوت (٢)؟

وهل ابن عمر كان يخفى عليه هتاف الصادع الكريم : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض يوم القيامة»؟

أو قوله : «عليّ مع الحقّ والحقّ معه وعلى لسانه ، والحقّ يدور حيثما دار

__________________

(١) راجع : ٧ / ١٣١. (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ٧٦ [١ / ٩٠] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٦٠ [٣ / ١١٣ خطبة ٤٣]. (المؤلف)

٧١

عليّ»؟

أو قوله لعليّ : «إنّ الحقّ معك والحقّ على لسانك. وفي قلبك وبين عينيك ، والإيمان مخالط لحمك ودمك كما خالط لحمي ودمي»؟

أو قوله مشيراً إلى عليّ : «الحقّ مع ذا ، الحقّ مع ذا ، يزول معه حيثما زال»؟

أو قوله : «عليّ مع القرآن والقرآن معه لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض»؟

أو قوله لعليّ : «لحمك لحمي ، ودمك دمي ، والحقّ معك»؟

أو قوله : «ستكون بعدي فتنة فإذا كان ذلك فالزموا عليّ بن أبي طالب ، فإنّه أوّل من يصافحني يوم القيامة ، وهو الصدّيق الأكبر ، وهو فاروق هذه الأمّة ، يفرق بين الحقّ والباطل ، وهو يعسوب المؤمنين ، والمال يعسوب المنافقين» (١)؟

أو قوله لعليّ وحليلته وشبليه : «أنا حرب لمن حاربتم وسلم لمن سالمتم».

أو قوله لهم : «أنا حرب لمن حاربكم وسلم لمن سالمكم»؟

أو قوله وهم في خيمة : «معشر المسلمين أنا سلم لمن سالم أهل الخيمة ، حرب لمن حاربهم ، وليّ لمن والاهم ، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ ، طيّب المولد ، ولا يبغضهم إلاّ شقيّ الجدّ ، رديّ الولادة»؟

أو قوله وهو آخذ بضبع عليّ : «هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله» (٢)؟

أو قوله في حجّة الوداع في ملأ من مائة ألف أو يزيدون : «من كنت مولاه فهذا

__________________

(١) راجع الجزء الثالث : ص ٢٢ ، ١٧٦ ـ ١٨٠ ، ١٨٧ ، الاستيعاب : ٢ / ٦٥٧ [القسم الرابع / ١٧٤٤ رقم ٣١٥٧] الإصابة : ٤ / ١٧١ [رقم ٩٩٤]. (المؤلف)

(٢) راجع الجزء الأوّل : ص ٣٣٦ و ٨ / ٨٨ ، أحكام القرآن للجصاص : ١ / ٥٦٠. (المؤلف)

٧٢

عليّ مولاه ، اللهم والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله وأحبّ من أحبّه ، وأبغض من أبغضه ، وأدر الحقّ معه حيث دار» (١).

إلى أخبار جمة ملأت ما بين الخافقين ، فهل ابن عمر كان بمنتأى عن هذه كلّها فحسب تلكم المواقف حرباً دنيويّة أو فتنة لا يعرف وجهها ، قتالاً على الملك (٢)؟ أو كان تُتلى عليه ثم يُصرّ مستكبراً كأن لم يسمعها ، كأنّ في أذنيه وقراً ، وعلى كلّ تقدير لم يك رأيه إلاّ اجتهاداً في مقابل النصّ ، لا يصيخ إليه أيّ دينيّ صميم.

ومن المأسوف عليه أنّ الرجل ندم يوم لم ينفعه الندم عمّا فاته في تلكم الحروب من مناصرة عليّ أمير المؤمنين ، وكان يقول : ما أجدني آسى على شيء من أمر الدنيا إلاّ أنّي لم أُقاتل الفئة الباغية. وفي لفظ : ما آسى على شيء إلاّ أنّي لم أُقاتل مع عليّ الفئة الباغية. وفي لفظ : ما أجدني آسى على شيء فاتني من الدنيا إلاّ أنّي لم أُقاتل مع عليّ الفئة الباغية. وفي لفظ : قال حين حضرته الوفاة : ما أجد في نفسي من أمر الدنيا شيئاً إلاّ أنّي لم أُقاتل الفئة الباغية مع عليّ بن أبي طالب رضى الله عنه. وفي لفظ ابن أبي الجهم : ما آسى على شيء إلاّ تركي قتال الفئة الباغية مع عليّ رضى الله عنه (٣).

وأخرج البيهقي في سننه (٨ / ١٧٢) من طريق حمزة بن عبد الله بن عمر قال : بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر إذ جاءه رجل من أهل العراق فقال : يا أبا عبد الرحمن إنّي والله لقد حرصت أن أتسمّت بسمتك ، وأقتدي بك في أمر فرقة الناس ، وأعتزل الشرّ ما استطعت ، وإنّي أقرأ آية من كتاب الله محكمة قد أخذت بقلبي فأخبرني عنها ،

__________________

(١) راجع ما مرّ في الجزء الأوّل من حديث الغدير. (المؤلف)

(٢) راجع مسند أحمد : ٢ / ٧٠ ، ٩٤ [٢ / ١٨٢ ح ٥٣٥٨ ، ص ٢٢٥ ح ٥٦٥٧] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٩٢. (المؤلف)

(٣) الطبقات الكبرى طبعة ليدن : ٤ / ١٣٦ ، ١٣٧ [٤ / ١٨٧] ، الاستيعاب : ١ / ٣٦٩ ، ٣٧٠ [القسم الثالث / ٩٥٣ رقم ١٦١٢] ، أُسد الغابة : ٣ / ٢٢٩ [٣ / ٣٤٢ رقم ٣٠٨٠] ، الرياض النضرة : ٢ / ٢٤٢ [٣ / ٢٠١]. (المؤلف)

٧٣

أرأيت قول الله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أخبرني عن هذه الآية. فقال عبد الله : ومالك ولذلك؟ انصرف عنّي ، فانطلق حتى توارى عنّا سواده ، أقبل علينا عبد الله بن عمر فقال : ما وجدت في نفسي من شيء من أمر هذه الأُمّة ما وجدت في نفسي أنّي لم أُقاتل هذه الفئة الباغية كما أمرني الله عزّ وجلّ.

هذه حجّة الله الجارية على لسان ابن عمر ونفثات ندمه ، وهل أثّرت تلكم الحجج في قلبه؟ وصدّق الخبر الخبر يوماً ما من أيّامه؟ أنا لا أدري.

هلمّ معي إلى صلاة ابن عمر :

وأمّا صلاته مع من غلب وتأمّر فمن شواهد جهله بشأن العبادات وتهاونه بالدين الحنيف ، ولعبه بشعائر الله شعائر الإسلام المقدّس ، قد استحوذ عليه الشيطان فأنساه ذكر الله ، اعتذر الرجل بهذه الخزاية عن تركه الصلاة وراء خير البشر أحد الخيرتين. أحبّ الناس إلى الله ورسوله ، عليّ أمير المؤمنين المعصوم بلسان الله العزيز ، وعن إقامته إيّاها وراء الحجّاج الفاتك المستهتر ، وقد جاء من طريق سفيان الثوري ، عن سلمة بن كهيل قال : اختلفت أنا وذر المرهبيّ (١) في الحجّاج ، فقال : مؤمن. وقلت : كافر. قال الحاكم : وبيان صحّته ما اطلق فيه مجاهد بن جبر رضى الله عنه فيما حدّثناه من طريق أبي سهل أحمد القطان ، عن الأعمش قال : والله لقد سمعت الحجّاج بن يوسف يقول : يا عجباً من عبد هذيل ـ يعني عبد الله بن مسعود ـ يزعم أنّه يقرأ قرآناً من عند الله ، والله ما هو إلاّ رجز من رجز الأعراب ، والله لو أدركت عبد هذيل

__________________

(١) كان من عبّاد أهل الكوفة ، أحد رجال الصحاح الستّة. (المؤلف)

٧٤

لضربت عنقه (١) ، وزاد ابن عساكر ، ولأُخْلِيَنَّ منها المصحف ولو بضلع خنزير.

وذكر ابن عساكر في تاريخه (٢) (٤ / ٦٩) من خطبة له قوله : اتّقوا الله ما استطعتم فليس فيها مثوبة ، واسمعوا وأطيعوا لأمير المؤمنين عبد الملك فإنّها المثوبة ، والله لو أمرت الناس أن يخرجوا من باب من أبواب المسجد فخرجوا من باب آخر لحلّت لي دماؤهم وأموالهم.

على أنّ ابن عمر هو الذي جاء بقوله عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «في ثقيف كذّاب ومبير». وقوله : «إنّ في ثقيف كذّاباً ومبيراً» (٣) وأطبق الناس سلفاً وخلفاً على أنّ المبير هو الحجّاج.

قال الجاحط : خطب الحجّاج بالكوفة فذكر الذين يزورون قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمدينة فقال : تبّا لهم إنّما يطوفون بأعواد ورمّة بالية هلاّ طافوا بقصر أمير المؤمنين عبد الملك؟ ألا يعلمون أنّ خليفة المرء خير من رسوله (٤)؟

وقال الحافظ ابن عساكر في تاريخه (٥) (٤ / ٨١) : اختلف رجلان فقال أحدهما : إنّ الحجّاج كافر ، وقال الآخر : إنّه مؤمن ضالّ. فسألا الشعبي فقال لهما : إنّه مؤمن بالجبت والطاغوت ، كافر بالله العظيم.

وقال : وسئل عنه واصل بن عبد الأعلى فقال : تسألوني عن الشيخ الكافر.

__________________

(١) مستدرك الحاكم : ٣ / ٥٥٦ [٣ / ٦٤١ ح ٦٣٥٢] ، تاريخ ابن عساكر : ٤ / ٦٩ [١٢ / ١٥٩ ـ ١٦٠ رقم ١٢١٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢١٥]. (المؤلف)

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ١٢ / ١٥٩ رقم ١٢١٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢١٤.

(٣) صحيح الترمذي : ٩ / ٦٤ و ١٣ / ٢٩٤ [٤ / ٤٣٢ ح ٢٢٢٠ ، ٥ / ٦٨٦ ح ٣٩٤٤] ، مسند أحمد : ٢ / ٩١ ، ٩٢ [٢ / ٢١٨ ح ٥٦١٢ ، ص ٢٢١ ح ٥٦٣٢] ، تاريخ ابن عساكر : ٤ / ٥٠ [١٢ / ١٢١ ـ ١٢٢ رقم ١٢١٧]. (المؤلف)

(٤) النصائح لابن عقيل : ص ٨١ الطبعة الثانية [ص ١٠٦]. (المؤلف)

(٥) تاريخ مدينة دمشق : ١٢ / ١٨٧ ـ ١٨٨ رقم ١٢١٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢٢٨.

٧٥

وقال : قال القاسم بن مخيمرة : كان الحجّاج ينتفض من الإسلام (١).

وقال : قال عاصم بن أبي النجود : ما بقيت لله تعالى حرمة إلاّ وقد انتهكها الحجّاج.

وقال : قال طاووس : عجبت لإخواننا من أهل العراق يسمّون الحجّاج مؤمناً.

وقال الأجهوري : وقد اختار الإمام محمد بن عرفة والمحققون من أتباعه كفر الحجّاج.

الإتحاف (٢) (ص ٢٢).

دع هذه كلّها وخذ ما أخرجه الترمذي ، وابن عساكر من طريق هشام بن حسّان أنّه قال : أُحصي ما قتل الحجّاج صبراً فوجد مائة ألف وعشرين ألفاً (٣) ، ووجد في سجنه ثمانون ألفاً محبوسون ، منهم ثلاثون ألف امرأة (٤) ، وكانت هذه المجزرة الكبرى والسجن العام بين يدي ابن عمر ينظر إليهما من كثب ، أدرك أيام الحجّاج كلّها ، ومات وهو حيّ يذبح ويفتك.

أمثل هذا الجائر الغادر الآثم يتأهّل للائتمام به ، دون سيّد العرب مثال القداسة والكرامة؟!

وهل ابن عمر نسي يوم بايع الحجّاج ما اعتذر به من امتناعه عن بيعة ابن الزبير ، لمّا قيل له : ما يمنعك أن تبايع أمير المؤمنين ـ ابن الزبير ـ فقد بايع له أهل

__________________

(١) كذا في تهذيب تاريخ ابن عساكر ، وفي الطبعة الجديدة من تاريخ مدينة دمشق : كان الحجّاج ينقض عرى الإسلام.

(٢) الإتحاف بحب الأشراف : ص ٦٧.

(٣) صحيح الترمذي : ٩ / ٦٤ [٤ / ٤٣٣ ح ٢٢٢٠] ، تاريخ ابن عساكر : ٤ / ٨٠ [١٢ / ١٨٤ رقم ١٢١٧ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٦ / ٢٢٦] ، تيسير الوصول : ٤ / ٣٦ [٤ / ٤١]. (المؤلف)

(٤) تاريخ ابن عساكر : ٤ / ٨٠ [١٢ / ١٨٥ رقم ١٢١٧] ، المستطرف : ١ / ٦٦ [١ / ٥٣]. (المؤلف)

٧٦

العروض وعامّة أهل الشام؟ فقال : والله لا أُبايعكم وأنتم واضعو سيوفكم على عواتقكم ، تصيب أيديكم من دماء المسلمين (١).

هلاّ كان ابن عمر ونصب عينيه ما كانت تصيبه أيدي الحجّاج وزبانيته من دماء المسلمين ، دماء أمّة كبيرة من عباد الله الصالحين ، دماء نفوس زكيّة من شيعة آل الله؟ فكيف ائتمّ به وبايعه؟ وبأيّ كتاب أم بأيّة سنّة ساغ له حنث يمينه يوم بايع ابن الزبير ومدّ يده إلى بيعته وهي ترجف من الضعف بعد ما بايعه رءوس الخوارج أعداء الإسلام ، المارقين من الدين : نافع بن الأزرق ، وعطية بن الأسود ، ونجدة بن عامر (٢)؟

ليتني أدري وقومي أفي شريعة الإسلام حكم للغلبة يركن إليه المسلم في الصلاة التي هي عماد الدين وأفضل أعمال أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ أو أنّ الائتمام في الجمعة والجماعة يدور مدار تحقّق البيعة وإجماع الأمّة ، وعدم النزاع بين الإمام وبين من خالفه من الخوارج عليه؟ أو أنّ هاتيك الأعذار ـ أعذار ابن عمر ـ أحلام نائم وأمانيّ كاذبة لا طائل تحتها؟ أنظر إلى ضئولة عقل ابن عمر يحسب أنّ الأمّة تتلقّى خزعبلاته بالقبول ، وتراه بها معذوراً في طامّاته ، ذاهلاً عن أنّ هذه المعاذير أكثر معرّة من بوادره ، والإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره.

كان الرجل يصلّي مع الحجّاج بمكة كما قاله ابن سعد (٣) ، وقال ابن حزم في المحلّى (٤ / ٢١٣) : كان ابن عمر يصلّي خلف الحجّاج ونجدة (٤) ، وكان أحدهما

__________________

(١) سنن البيهقي : ٨ / ١٩٢. (المؤلف)

(٢) سنن البيهقي : ٨ / ١٩٣. (المؤلف)

(٣) الطبقات الكبرى : ٤ / ١١٠ [٤ / ١٤٩]. (المؤلف)

(٤) نجدة بن عامر ـ عمير ـ اليماني من رءوس الخوارج زائغ عن الحق ، خرج باليمامة عقب موت يزيد ابن معاوية ، وقدم مكة ، وله مقالات معروفة ، وأتباع انقرضوا ، قتل في سنة سبعين. لسان الميزان : ٦ / ١٤٨ [٦ / ١٧٧ رقم ٨٧٥٧]. (المؤلف)

٧٧

خارجيّا ، والثاني أفسق البريّة. وذكره أبو البركات في بدائع الصنائع (١ / ١٥٦).

أليس أحقّ الناس بالإمامة أقرأهم لكتاب الله وأعلمهم بالسنّة؟ أليس من السنّة الصحيحة الثابتة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يؤمّ القوم أقرؤهم لكتاب الله ، فإن كانوا في القراءة سواء فأعلمهم بالسنّة ، فإن كانوا في السنّة سواء فأقدمهم هجرة ، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سلماً؟» (١).

أم لم يكن منها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إن سرّكم أنْ تُقْبَل صلاتكم فليؤمّكم خياركم ، فإنّهم وفدكم فيما بينكم وبين ربّكم» (٢)؟

أو لم يكن يسرّ ابن عمر أن تُقبل صلاته؟ أم كان يروقه من صلاة الحجّاج أنّه وخطباءه كانوا يلعنون عليّا وابن الزبير (٣)؟ أم كان يعلم أنّ الصلاة وغيرها من القربات لا تنجع لأيّ مسلم إلاّ بالولاية لسيّد العترة ـ سلام الله عليه ـ (٤) ، وابن عمر على نفسه بصيرة ، ويراه فاقداً إيّاها ، بعيداً عنها ، فائتمامه عندئذ بالإمام العادل أو الجائر المستهتر سواسية؟

إن كان الرجل يجد الغلبة ملاك الائتمام فهلاّ ائتمّ بمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وكان هو الغالب في وقعة الجمل ويوم النهروان؟ ولم يكن في صفّين مغلوباً ، وإنّما لعب ابن العاصي فيها بخديعته ، فالتبس الأمر على الأغرار ، لكنّ أهل البصائر عرفوها فلم يتزحزحوا عن معتقدهم طرفة عين ، وقبل هذه الحروب انعقدت البيعة بخليفة الحقّ من غير معارض ولا مزاحم حتى يتبيّن فيه الغالب من المغلوب ، فكان إمام العدل عليه‌السلام

__________________

(١) صحيح مسلم : ٢ / ١٣٣ [٢ / ١١٩ ح ٢٩٠ كتاب المساجد] ، صحيح الترمذي : ٦ / ٣٤ [١ / ٤٥٩ ح ٢٣٥] ، سنن أبي داود : ١ / ٩٦ [١ / ١٥٩ ح ٥٨٢ ، ٥٨٤]. (المؤلف)

(٢) نصب الراية : ٢٦ / ٢. (المؤلف)

(٣) راجع المحلّى لابن حزم : ٥ / ٦٤ [مسألة ٥٢٨]. (المؤلف)

(٤) راجع الجزء الثاني : ص ٣٠١. (المؤلف)

٧٨

هو المستولي على عرش الخلافة والمحتبي بصدر دستها ، فلما ذا تركه عليه‌السلام ابن عمر ولم يأتمّ به وقد تمّ أمره ، بتمام شروط البيعة وملاك الائتمام على رأيه هو؟

ومن نجدة الخارجي؟ ومتى غلب على جميع الحواضر الإسلاميّة؟ وما قيمته وقيمة الائتمام به ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعرّف الخوارج بالمروق من الدين بقوله : «يخرج قوم من أمّتي يقرؤون القرآن ليست قراءتكم إلى قراءتهم بشيء ، ولا صلاتكم إلى صلاتهم بشيء ، ولا صيامكم إلى صيامهم بشيء ، يقرؤون القرآن يحسبون أنّه لهم ، وهو عليهم ، لا تجاوز صلاتهم تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة (١)» (٢).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيخرج قوم في آخر الزمان حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام ، يقولون من خير قول البرية ، يقرؤون القرآن ، لا يجاوز إيمانهم حناجرهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإنّ في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة» (٣).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيكون في أمّتي اختلاف وفرقة ، قوم يحسنون القيل ويسيئون الفعل ، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، ثم لا يرجعون حتى يرتدّ على فُوقه ، هم شرّ الخلق ، طوبى لمن قتلهم وقتلوه ، يدعون

__________________

(١) الرميّة : هي الطريدة التي يرميها الصائد ، وهي كلّ دابة مرميّة.

(٢) صحيح الترمذي : ٩ / ٣٧ [٤ / ٤١٧ ح ٢١٨٨] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٧٠ ، وأخرجه مسلم [٢ / ٤٤٣ ح ١٥٦ كتاب الزكاة] ، وأبو داود [٤ / ٢٤٤ ح ٤٧٦٨] كما في تيسير الوصول : ٤ / ٣١ [٤ / ٣٦]. (المؤلف)

(٣) أخرجه الخمسة إلاّ الترمذي [البخاري في صحيحه : ١٣٢١ ح ٣٤١٥ ، ومسلم في صحيحه : ٢ / ٤٤١ ح ١٥٤ كتاب الزكاة ، وابن ماجة في سننه : ١ / ٥٩ ح ١٦٨ ، وأبو داود في سننه : ٤ / ٢٤٤ ح ٤٧٦٨ ، والنسائي في سننه : ٢ / ٣١٢ ح ٣٥٦٥] ، كما في تيسير الوصول : ٤ / ٣٢ [٤ / ٣٨] ، والبيهقي في السنن الكبرى : ٨ / ١٧٠. (المؤلف)

٧٩

إلى كتاب الله وليسوا منه في شيء ، من قاتلهم كان أولى بالله منهم». قالوا : يا رسول الله ما سيماهم؟ قال : التحليق (٤).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يخرج من قبل المشرق قوم كان هديهم هكذا يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، ثم لا يرجعون إليه ـ ووضع يده على صدره ـ ، سيماهم التحليق ، لا يزالون يخرجون حتى يخرج آخرهم ، فإذا رأيتموهم فاقتلوهم».

مستدرك الحاكم (٥) (٢ / ١٤٧).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يوشك أن يأتي قوم مثل هذا يتلون كتاب الله وهم أعداؤه ، يقرؤون كتاب الله محلّقة رءوسهم ، فإذا خرجوا فاضربوا رقابهم».

المستدرك (٦) (٢ / ١٤٥).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أقواماً من أمّتي أشدّة ، ذلقة ألسنتهم بالقرآن ، لا يجاوز تراقيهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرميّة ، فإذا لقيتموهم فاقتلوهم فإنّ المأجور من قتلهم».

المستدرك (٧) (٢ / ١٤٦).

وبقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الخوارج كلاب النار» (٨) ، من طريق صحّحه السيوطي في

__________________

(٤) سنن أبي داود : ٢ / ٢٤٣ [٤ / ٢٤٣ ح ٤٧٦٥] ، مستدرك الحاكم : ٢ / ١٤٧ ، ١٤٨ [٢ / ١٦١ ح ٢٦٤٩ ، ٢٦٥٠] ، سنن البيهقي : ١٧١ / ٨ وللشيخين عن أبي سعيد نحوه [أخرجه البخاري في صحيحه : ٦ / ٢٧٤٨ ح ٧١٢٣ ، ومسلم في صحيحه : ٢ / ٤٤٠ ح ١٤٩ كتاب الزكاة] كما في تيسير الوصول : ٤ / ٣٣ [٤ / ٣٨]. (المؤلف)

(٥) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ١٦٠ ح ٢٦٤٧.

(٦) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ١٥٩ ح ٢٦٤٤.

(٧) المستدرك على الصحيحين : ٢ / ١٥٩ ح ٢٦٤٥.

(٨) مسند أحمد : ٤ / ٣٥٥ [٥ / ٤٧٣ ح ١٨٦٥١] ، سنن ابن ماجة : ١ / ٧٤ [١ / ٦١ ح ١٧٣]. (المؤلف)

٨٠