الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠

عليّ عليه‌السلام واعتنقتها الأُمّة ببأسه ، وعرفتها ببيانه ، يسوّغ للرجل ما تقحّم فيه؟ نعم ؛ كانت ترات وإحن بين القبيلتين ـ أبناء هاشم وبني أُميّة ـ منذ العهد الجاهليّ ، وكان من عادات ذلك العهد وتقاليده نيل كلّ من الفئتين المتخاصمتين من الأخرى كيفما وقع ، وأينما أصاب ، وريثما انتهز الفرصة من تمكّن من الانتقام ، سواء حمل المنكوب شيئاً من الظلامة أولا ، فيقتل غير القاتل ، ويعذّب غير المجرم ، ويُؤاخذ غير الجاني ، شنشنة جاهليّة ثبت عليها الجاهلون ، واستمرّوا دائبين عليها حتى بعد انتحالهم الإسلام ، وإلى مثل هذا القياس كان يطمح معاوية ـ المجتهد في أعماله واجتهاده.

أيّ اجتهاد يسوّغ له دأبه على لعن الإمام المفدّى على صهوات المنابر ، وفي أدبار الصلوات ، حتى غيّر سنّة الله بتقديم خطبة صلاة العيدين عليها لإسماع الناس سبابه ، وكان يوبّخ الساكتين عن لعنه بملء فمه وصراحة لهجته؟ فبأيّ كتاب ، أم بأيّة سنّة ، أو إجماع ، أو قياس ، كان يستنبط هذا المجتهد الآثم إصراره على تلكم البدع المخزية؟

أيّ اجتهاد يُحتم عليه استقراء كلّ من والى عليّا أمير المؤمنين في الحواضر والأمصار وتقتيلهم ، وتشريدهم ، والتنكيل بهم ، وتعذيبهم بأشدّ العذاب ، ولم يرقب فيهم ذمّة الإسلام ولا إلّه (١) ، ولم يُراع فيهم حرمة الصحبة وصونها؟ أو يساعده على ذلك شيء من الآي الكريمة؟ أو أثارة من السنّة الشريفة؟ أو إجماع من أهل الدين؟ وأين هم؟! ـ وهم كلّهم مناوئو معاوية ومنفصلون عن آرائه ـ أو أنّ هناك قياساً خرج ملاكه من تلكم الحجج الثلاث؟

أيّ اجتهاد يُبيح له قذف عليّ عليه‌السلام بالإلحاد ، والغيّ ، والبغي ، والضلال ، والعدوان ، والخبث ، والحسد ، إلى طامّات أخرى ، أو تحسب أنّك تجد حجّة على شيء من ذلك من مطاوي الكتاب الكريم؟ أو من تضاعيف السنّة النبويّة؟ أو من

__________________

(١) الإلّ : العهد ، القرابة.

٥٠١

معاقد إجماع الأُمّة؟ والأُمّة على بكرة أبيها تعلم أنّ شيئاً من هاتيك المفتريات والنسب المائنة لم تُكتسح عنها إلاّ ببيان الإمام وبنانه ، وسيفه ولسانه ، ولو قام للدين مثال شاخص لما عداه أن يقوم بصورة عليّ عليه‌السلام ومثاله.

أيّ اجتهاد يحبّذ له المسرّة والاستبشار بقتل أمير المؤمنين وولده الحسن الزكيّ ، إمامي الهدى صلوات الله عليهما ، والتظاهر بالجذل والحبور على مصيبة الدين الفادحة بهما ، ويري لصاحبه قتل عليّ عليه‌السلام من لطف الله وحسن صنعه ، وزعم قاتله أشقى مراد من عباد الله؟ وأنت جدّ عليم بأنّ فقه الكتاب الكريم في منتأى عن هذه الشقوة ، كما أنّ السنّة الكريمة في مبتعد عن مثلها من قساوة ، ودع عنك معقد إجماع الأُمّة النائي عن هذه الفظاظة ، وملاكات الشريعة ـ منصوصة ومستنبطة ـ المباينة لتلك الصلافة ؛ نعم : قياس الجاهليّة الأولى يضرب على وتره ، ويغنّي في وتيرته!

أيّ اجتهاد يُرخّص هتك حرمات مكة والمدينة ، وشنّ الغارة على أهلها لمحض ولائهم عليّا عليه‌السلام ، ويُشرّع نذر قتل نساء ربيعة لحبّ رجالهم أمير المؤمنين وتشيّعهم له عليه‌السلام؟

أيّ اجتهاد يُحلّل مثلة من قُتل تحت راية عليّ عليه‌السلام يوم صفّين ، وقد كان قتال الفئة الباغية بعهد من رسول الله وأمره؟ كما فصّلنا القول فيه في الجزء الثالث.

أيّ اجتهاد يمنع إمام الحقّ وآلافاً من المسلمين عن الماء المباح ، ويُعطي لمعاوية حقّ القول بأنّ هذا والله أوّل الظفر ، لا سقاني الله ولا سقى أبا سفيان إن شربوا منه أبداً حتى يُقتلوا بأجمعهم عليه (١)؟

أيّ اجتهاد يجوّز بيع الخمر وشربها ، وأكل الربا ، وإشاعة الفحشاء ، وقد حرّمها كتاب الله وسنّة نبيّه ، ويتلوهما الإجماع والقياس؟

__________________

(١) كتاب صفّين : ص ١٨٢ [ص ١٦٣] ، شرح نهج البلاغة : ١ / ٣٢٨ [٣ / ٣٢٠ خطبة ٥١]. (المؤلف)

٥٠٢

أيّ اجتهاد يحثّ الناس بإعطاء الإمارة والولايات ، وبذل القناطير المقنطرة ، لمن لا خلاق لهم على عداء أهل بيت النبيّ الأقدس ، وبغضهم والنيل منهم ومن شيعتهم؟

أيّ اجتهاد يُراق به دم من سكت عن لعن عليّ ولم يتبرّأ منه ، ولو كان من جلّة الصحابة ، ومن صلحاء أُمّة محمد ، كحجر بن عدي وأصحابه ، وعمرو بن الحمق؟

أيّ اجتهاد يؤدّي إلى خلاف ما ثبت من السنّة الشريفة ، ويصحّح إدخال ما ليس منها ، في الأذان ، والصلاة ، والزكاة والنكاح ، والحجّ ، والديات على التفصيل الذي مرّ في هذا الجزء؟

أيّ اجتهاد يُغيّر دين الله وسنّته لمحض مخالفته عليّا عليه‌السلام. كما مرّ (ص ٢٠٥)؟

أيّ اجتهاد يُنقَض به حدّ من حدود الله لاستمالة مثل زياد ابن أمه ، وجلب مرضاته باستلحاقه بأبي سفيان ، والولد للفراش وللعاهر الحجر؟

أيّ اجتهاد يُحابي خلافة الله ليزيد السكّير المستهتر ، ويستحلّ به دماء من تخلّف عن تلك البيعة الغاشمة؟

أيّ اجتهاد يشترط البراءة من أمير المؤمنين عليّ عليه‌السلام في عقد البيعة للطليق ابن الطليق؟

أيّ اجتهاد تُدعم به الشهادات المزوّرة ، والفرية ، والإفك ، والكذب ، وقول الزور ، والنسب المختلقة ، والمكر ، والخديعة ، لنيل الأمانيّ الوبيلة المخزية؟

أيّ اجتهاد يجوّز إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في أهل بيته وعترته ، وإيذاء أولياء الله وعباده الصالحين من الصحابة الأوّلين والتابعين لهم بإحسان ، وفي مقدّمهم سيّدهم ، وفي الذكر الحكيم قوله تعالى (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (١) (وَالَّذِينَ

__________________

(١) التوبة : ٦١.

٥٠٣

يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (١) وجاء عن الصادع الكريم : «من آذى مسلماً فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله عزّ وجلّ» (٢) وقوله عن جبريل ، عن الله تعالى : «من أهان لي وليّا فقد بارزني بالمحاربة ، ومن عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب».

وقوله : «من آذى لي وليّا فقد استحلّ محاربتي». وقوله : «من أهان لي وليّا فقد استحلّ محاربتي». وقوله : «من أهان لي وليّا فقد بارزني بالعداوة». وقوله : «من عادى لي وليّا فقد ناصبني بالمحاربة» (٣)؟

أيّ اجتهاد يُري صاحبه نقض الإلّ وحنث العهد ، ومن السهل الهيّن في جميع موارده ومصادره؟

أيّ اجتهاد يُجابه به سنّة رسول الله وما يؤثر عنه بالهزء والازدراء والضرطة؟ كما فصّل في (ص ٢٨١ ـ ٢٨٣).

أيّ اجتهاد يُفسد البلاد ، ويُضلّ العباد ، ويشقّ عصا المسلمين بالشذوذ عن الجماعة ، وخلع ربقة الإسلام عن البيعة الحقّة ، ومحاربة إمام الوقت بعد إجماع الأُمّة من أهل الحلّ والعقد من المهاجرين والأنصار على بيعته؟

إلى غير هذه من اجتهادات باطلة ، وآراء سخيفة تافهة ، ليس لها في مستوى الصّواب مقيل ، ولا لها في سوق الدين اعتبار يعذّر صاحبه ، وكلّها مباينة للكتاب ، مضادّة للسنة الثابتة الصحيحة ، ونقض للإجماع الصحيح المتسالم عليه ، والقياس الذي نُصّ في المقيس عليه على ملاك الحكم في أيّ من الكتاب والسنّة ، أو أنّه مستنبط بالاجتهاد والتظنّي فيهما؟

__________________

(١) الأحزاب : ٥٨.

(٢) راجع الحاوي للفتاوي : ٢ / ٤٧ [٢ / ٢٠١]. (المؤلف)

(٣) راجع الحاوي للفتاوي : ١ / ٣٦١ ـ ٣٦٤ [٢ / ٩٢ ـ ٩٥]. (المؤلف)

٥٠٤

وهل وقف الباحث في جملة ما سبره من الأحكام والعلل على اجتهاد يكون هذا نصيبه من تحرّي الحقّ؟ اللهمّ إنّها ميول وأهواء ومطامع وشهوات تُزجي بصاحبها إلى هوّات المهالك ، وهل هذا يُضاهي شيئاً من اجتهاد المجتهدين؟

على أنّ جملة من المذكورات ممّا لا مساغ للاجتهاد فيه ، ولا يتطرّق إليه الرأي والاستنباط ، لأنّ الحكم فيها ملحق بالضروريّات من الدين ، وممّا لا يسع فيه الخلاف ، فمن حاول شيئاً من ذلك فقد حاول دفاعاً للضروريّ من الدين ، واستباح محظوراً ثابتاً من الشريعة ، كمن يستبيح قتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم باجتهاده ، أو يروم تحليل حرام من الشريعة دون تحليله شقّ المرائر ، واستمراء جُرع الحتف المبير.

من هو هذا المجتهد؟ :

أهو ابن آكلة الأكباد ـ نكّس الله رايتها ـ الهاتك لحرمات الله ، المعتدي على حدوده ، المجرم الجاني؟

يحسب أبناء حزم ، وتيميّة ، وكثير ، ومن لفّ لفّهم أنّه مجتهد مأجور ، ويقول ابن حجر : إنّه خليفة حقّ ، وإمام صدق.

هكذا يقول هؤلاء ونحن لا نقول باجتهادهم ، بل نقول بما قاله المقبلي (١) في كتابه العلم الشامخ في إيثار الحقّ على الآباء المشايخ (ص ٣٦٥) : ما كان عليّ رضي‌الله‌عنه وأرضاه إلاّ إمام هدى ، ولكنّه ابتُلي وابتُلي به ، ومضى لسبيله حميداً ، وهلك به من هلك ، هذا يغلو في حبّه أو دعوى حبّه لغرض له ، أعظمهم ضلالاً من رفعه على الأنبياء أو زاد على ذلك ، وأدناهم من لم يرض له بما رضي لنفسه لتقديم إخوانه وأخدانه عليه في الإمارة رضي الله عنهم أجمعين.

__________________

(١) الشيخ صالح بن مهدي المتوفّى : ١١٠٨. (المؤلف)

٥٠٥

وآخر يحطّ من قدره الرفيع ، أبعدهم ضلالاً الخوارج الذين يلعنونه على المنابر ، ويرضون على ابن ملجم شقيّ هذه الأُمّة ، وكذلك المروانيّة ، وقد قطع الله دابرهم ، وأقربهم ضلالاً الذين خطّئوه في حرب الناكثين ، والله سبحانه يقول : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (١) فإن لم تصدق هذه في أمير المؤمنين ففي من تصدق؟!

مع أنّهم بغوا بغياً محقّقاً بعد استقرار الأمر له ، ولا عذر لهم ، ولا شبهة إلاّ الطلب بدم عثمان ، وقد أجاب رضى الله عنه بما هو جواب الشريعة فقال : «يحضر وارث عثمان ويدّعي ما شاء ، وأحكم بينهم بكتاب الله تعالى وسنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم». أو كما قال. فإن تصحّ هذه الرواية ، وإلاّ فهي معلومة من حاله بل من حال من هو أدنى الناس من المتمسّكين بالشريعة ، وأمّا أنّه يقطع قطيعاً من غوغاء المسلمين الذين اجتمعوا على عثمان خمسمائة وأكثر ، بل قيل : إنّهم يبلغون نحو عشرة آلاف كما حكاه ابن حجر في الصواعق (٢) ، فيقتلهم عن بكرة أبيهم ، والقاتل واحد ، أربعة ، عشرة ، قيل : هما اثنان فقط. وذكره في الصواعق أيضاً (٣) ، فهذا ما يعتذر به عاقل ، ولكن كانت الدعوى باطلة والعلّة باطلة ، خلا أنّ طلحة والزبير وعائشة ومن يلحق بهم من تلك الدرجة التي يقدّر قدرها من الصحابة لا يشكّ عاقل في شبهة غلطوا فيها ، ولو بالتأويل لصلاح مقاصدهم!

وأمّا معاوية والخوارج فمقاصدهم بيّنة ، فإن لم يقاتلهم عليّ فمن يُقاتل؟ أمّا الخوارج فلا يرتاب في ضلالهم إلاّ ضالّ ، وأمّا معاوية فطالب ملك ، اقتحم فيه كلّ داهية ، وختمها بالبيعة ليزيد ، فالذي يزعم أنّه اجتهد فأخطأ ، لا نقول : اجتهد

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) الصواعق المحرقة : ص ٢١٦.

(٣) الصواعق المحرقة : ص ١١٨.

٥٠٦

وأخطأ. لكنّه إمّا جاهل لحقيقة الحال مقلّد ، وإمّا ضالّ اتّبع هواه ، اللهمّ إنّا نشهد بذلك.

ورأيت لبعض متأخّري الطبريّين في مكة رسالة ذكر فيها كلاماً عزاه لابن عساكر (١) وهو : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر أنّ معاوية سيلي أمر الأُمّة ، وأنّه لن يُغلب ، وأنّ عليّا كرّم الله وجهه قال يوم صفّين : لو ذكرت هذا الحديث أو بلغني لما حاربته.

ولا يبعد نحو هذا ممّن سلّ سيفه على عليّ والحسن والحسين وذرّيتهما ، والراضي كالفاعل كما صرّحت به السنّة النبويّة ، إنّما استغربنا وقوع هذا الظهور حكاية الإجماع من جماعة المتسمّين بالسنّة بأنّ معاوية هو الباغي ، وأنّ الحقّ مع عليّ ، وما أدري ما رأي هذا الزاعم في خاتمة أمر عليّ بعد ما ذكر ، وكذلك الحسن السبط ، وترى هؤلاء الذين ينقمون على عليّ قتاله البغاة يحسنون لمن سنّ لعنه على المنابر في جميع جوامع المسلمين ، منذ وقته إلى وقت عمر بن عبد العزيز اللاحق بالأربعة الراشدين ، مع أنّ سبّ عليّ فوق المنابر وجعله سنّة تصغر عنده العظائم. وفي جامع المسانيد في مسند أمّ سلمة : أيسبّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيكم؟ قلت : معاذ الله. قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «من سبّ عليّا فقد سبّني». الكلام.

ولعلّك إن نظرت إلى ما سردناه من سيرةهذا المجتهد الجاهل الضالّ ، تأخذ لك مقياساً لمبلغ علمه ، وقسطه المتضائل من الاجتهاد في أحكام الله ، وأنّه منكفئ عنه ، فارغ الوطاب ، صفر الأكفّ عن أيّ علم ناجع ، أو عمل نافع ، بعيداً عن فهم الكتاب ، والتفقّه في السنّة ، والإلمام بأدلّة الاجتهاد.

نعم ؛ لم يكن معاوية هو نسيج وحده في الجهل بمبادئ الاجتهاد وغاياته ، وإنّما

__________________

(١) مختصر تاريخ دمشق : ٢٥ / ٨.

٥٠٧

له أضراب ونظراء سبقوه أو لحقوه في الرأي الشائن ، والاجتهاد المائن ، ممّن صحّح القوم بدعهم المحدثة ، وآراءهم الشاذّة عن الكتاب والسنّة بالاجتهاد وتترّسوا في طامّاتهم بأنّهم مجتهدون (١).

ولعلّك تعرف مكانة هذا المجتهد ـ خليفة الحقّ وإمام الصدق ـ ، من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاه وأباه وأخاه ، ومن قنوت أمير المؤمنين في صلاته بلعنه ، ومن دعاء أُمّ المؤمنين عائشة عليه دبر صلاتها.

ومن إيعاز الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وولده السبط الزكيّ أبي محمد ـ سلام الله عليه ـ والعبد الصالح محمد بن أبي بكر ، إلى لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم المخزي ، ومن لعن ابن عبّاس وعمّار إيّاه.

ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد سمع غناءً وأُخبر بأنّه لمعاوية وعمرو بن العاصي : «اللهمّ أركسهم في الفتنة ركساً ، اللهمّ دعّهم إلى النار دعّا».

ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد رآه مع ابن العاص جالسين : «إذا رأيتم معاوية وعمرو ابن العاص مجتمعين ففرّقوا بينهما ، فإنّهما لا يجتمعان على خير».

ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» المعُاضَد بالصحيح الثابت من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما». وفي صحيح : «فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا الآخر».

ومن قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يطلع عليكم من هذا الفجّ رجل يموت وهو على غير سنّتي» فطلع معاوية (٢).

ومن قول أمير المؤمنين له : «طالما دعوت أنت وأولياؤك أولياء الشيطان

__________________

(١) يوجد جمع من أولئك المجتهدين في غضون أجزاء كتابنا هذا. (المؤلف)

(٢) كتاب صفّين لنصر بن مزاحم : ص ٢٤٧ [ص ٢٢٠]. (المؤلف)

٥٠٨

الرجيم الحقّ أساطير الأوّلين ونبذتموه وراء ظهوركم ، وحاولتم إطفاء نور الله بأيديكم وأفواهكم ، والله متمّ نوره ولو كره الكافرون».

ومن قوله عليه‌السلام : «إنّك دعوتني إلى حكم القرآن ، ولقد علمت أنّك لست من أهل القرآن ، ولا حكمه تريد».

ومن قوله عليه‌السلام : «إنّه الجلف المنافق ، الأغلف القلب ، والمقارب العقل».

ومن قوله عليه‌السلام : «إنّه فاسق مهتوك ستره».

ومن قوله عليه‌السلام : «إنّه الكذّاب إمام الردى ، وعدوّ النبيّ ، وإنّه الفاجر ابن الفاجر ، وإنّه منافق ابن منافق ، يدعو الناس إلى النار». إلى كلمات أخرى مفصّلة في هذا الجزء.

ومن قول أبي أيّوب الأنصاري : إنّ معاوية كهف المنافقين.

ومن قول قيس بن سعد الأنصاري : إنّه وثن ابن وثن ، دخل في الإسلام كرهاً وخرج منه طوعاً ، لم يقدُم إيمانه ، ولم يحدُث نفاقه.

ومن قول معن السلمي الصحابي البدريّ له : ما ولدت قرشيّة من قرشيّ شرّا منك.

ومن أقوال الإمام الحسن السبط وأخيه الحسين صلوات الله عليهما ، وعمّار بن ياسر ، وعبد الله بن بديل ، وسعيد بن قيس ، وعبد الله بن العبّاس ، وهاشم بن عتبة المرقال ، وجارية بن قدامة ، ومحمد بن أبي بكر ، ومالك بن الحارث الأشتر (١).

هذا مجتهدنا الطليق عند أُولئك الأطايب ، وعند الوجوه والأعيان من الصحابة الأوّلين العارفين به على سرّه وعلانيته ، المطّلعين على أدوار حياته طفلاً ويافعاً وكهلاً

__________________

(١) مرّ تفصيل هذه كلّها في هذا الجزء. (المؤلف)

٥٠٩

وهِمّا (١) ، وأنت بالخيار في الأخذ بأيّ من النظريّتين : ما سبق لله ولرسوله وخلفائه وأصحابه المجتهدين العدول ، أو ما يقول هؤلاء الأبناء ومن شاكلهم من المتعسّفين الناحتين للرجل أعذاراً هي أفظع من جرائمه.

الأمر الثاني : ثاني الأمرين (٢) اللذين ينتهي إليهما دفاع ابن حجر عن معاوية ، قوله في الصواعق (٣) (ص ١٣٠) : فالحقّ ثبوت الخلافة لمعاوية من حينئذ وأنّه بعد ذلك خليفة حقّ وإمام صدق ، كيف؟ وقد أخرج الترمذي (٤) وحسّنه عن عبد الرحمن بن أبي عميرة الصحابي ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال لمعاوية : اللهمّ اجعله هادياً مهديّا.

وأخرج أحمد في مسنده (٥) عن العرباض بن سارية ، سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : اللهمّ علّم معاوية الكتاب والحساب وقِهِ العذاب.

وأخرج (٦) ابن أبي شيبة في المصنّف ، والطبراني في الكبير عن عبد الملك بن عمير (٧) ، قال : قال معاوية : ما زلت أطمع في الخلافة مذ قال لي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا معاوية إذا ملكت فأحسن.

فتأمّل دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الحديث الأوّل بأنّ الله يجعله هادياً مهديّا ، والحديث حسن كما علمت فهو ممّا يحتجّ به على فضل معاوية ، وأنّه لا ذمّ يلحقه بتلك الحروب

__________________

(١) الهِمّ : الشيخ الكبير.

(٢) وقد مرّ ذكر أوّلهما ص ٤٦٧.

(٣) الصواعق المحرقة : ص ٢١٨ ـ ٢١٩.

(٤) سنن الترمذي : ٥ / ٦٤٥ ح ٣٨٤٢.

(٥) مسند أحمد : ٥ / ١١١ ح ١٦٧٠٢.

(٦) المصنّف لابن أبي شيبة : ١١ / ١٤٨ ح ١٠٧٦٤ ، المعجم الكبير : ١٩ / ٣٦١ ح ٨٥٠.

(٧) في الأصل : عمر ، وصححناه كما في معجم الطبراني وابن أبي شيبة والتهذيب والثقات والعلل ومعرفة الرجال.

٥١٠

لما علمت أنّها مبنيّة على اجتهاد ، وأنّه لم يكن له إلاّ أجر واحد ، لأنّ المجتهد إذا أخطأ لا ملام عليه ، ولا ذمّ يلحقه بسبب ذلك لأنّه معذور ، ولذا كتب له أجر.

وممّا يدلّ لفضله الدعاء له في الحديث الثاني بأن يعلّم ذلك ، ويوقى العذاب ، ولا شكّ أنّ دعاءه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجاب ، فعلمنا منه أنّه لا عقاب على معاوية فيما فعل من تلك الحروب بل له الأجر كما تقرّر ، وقد سمّى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فئته المسلمين ، وساواهم بفئة الحسن في وصف الإسلام ، فدلّ على بقاء حرمة الإسلام للفريقين ، وأنّهم لم يخرجوا بتلك الحروب عن الإسلام ، وأنّهم فيه على حدّ سواء ، فلا فسق ولا نقص يلحق أحدهما لما قرّرناه من أنّ كلاّ منهما متأوّل تأويلاً غير قطعيّ البطلان ، وفئة معاوية وإن كانت هي الباغية لكنّه بغي لا فسق به ، لأنّه إنّما صدر عن تأويل يعذر به أصحابه.

وتأمّلْ أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخبر معاوية بأنّه يملك وأمره بالإحسان ، تجد في الحديث إشارة إلى صحّة خلافته ، وأنّها حقّ بعد تمامها له بنزول الحسن له عنها ، فإنّ أمره بالإحسان المترتّب على الملك يدلّ على حقيّة ملكه وخلافته ، وصحّة تصرّفه ونفوذ أفعاله من حيث صحّة الخلافة لا من حيث التغلّب ، لأنّ المتغلّب فاسق معاتب لا يستحقّ أن يبشّر ، ولا أن يؤمر بالإحسان فيما تغلّب عليه ، بل إنّما يستحقّ الزجر والمقت والإعلام بقبيح أفعاله وفساد أحواله ، فلو كان معاوية متغلّباً لأشار له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى ذلك ، أو صرّح له به ، فلمّا لم يُشر له فضلاً على أن يصرّح إلاّ بما يدلّ على حقّية ما هو عليه علمنا أنّه بعد نزول الحسن له خليفة حقّ وإمام صدق. انتهى.

هذا نهاية جهد ابن حجر في الدفاع عن معاوية!!

قال الأميني : إنّ الكلام يقع على هذه الروايات من شتّى النواحي ألا وهي :

١ ـ النظر إلى شخصيّة معاوية ، وتصفّح كتاب نفسه المشحون بالمخازي ، ثم

٥١١

نعطف النظر في أنّه هل تلكم الصحائف السوداء تلائم أن يكون صاحبها مصبّا لأقلّ منقبة له تُعزى إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فضلاً عن هذه النسب المزعومة أو لا؟ ولقد أوقفناك على حياته المشفوعة بالمخاريق ، ممّا لا يكاد أن يجامع شيئاً من المديح والإطراء ، أو أن تُعزى إليه حسنة ، ولا أحسب أنّك تجد من أيّام حياته يوماً خالياً عن الموبقات ، من سفك دماء زاكية ، وإخافة مؤمنين أبرياء ، وتشريد صلحاء لم يدنّسهم إثم ، ولا ألمّت بساحتهم جريرة ، ومعاداة للحقّ الواضح ، ورفض لطاعة إمام الوقت ، والبغي عليه ، وقتاله ، إلى جرائم جمّة يستكبرها الدين والشريعة ، ويستنكرها الكتاب والسنّة ، ولا يتسرّب إلى شيء منها الاجتهاد كما مرّ بيانه.

٢ ـ من ناحية عدم ملائمة هذه الفضائل المنحوتة لما روي وصحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما يُؤثر عن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وعن جمع من الصحابة العدول ، فإنّه ممّا لا يتّفق معها في شيء وقد أسلفنا من ذلك ما يناهز الثمانين حديثاً في هذا الجزء (ص ١٣٨ ـ ١٧٧).

فإنّك متى نظرت إليها ، واستشففت حقائقها دلّتك على أنّ رجل السوء ـ معاوية ـ جماع المآثم والجرائم ، وأنّه هو ذلك الممقوت عند صاحب الشريعة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن احتذى مثاله من خلفائه الراشدين ، وأصحابه السابقين الأوّلين المجتهدين حقّا ، المصيبين في اجتهادهم.

٣ ـ إنّا وجدنا نبيّ الرحمة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ونظرنا في المأثور الثابت الصحيح عنه في طاغية الشام والأمر بقتاله ، والحثّ على مناوأته ، وتعريف من لاث به بأنّهم الفئة الباغية ، وأنّهم هم القاسطون ، وعهده إلى خليفته أمير المؤمنين عليه‌السلام على أن يناضله ، ويكتسح معرّته ، ويكبح جماحه ، وقد علم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه سيكون الخليفة المبايع له ، الواجب قتله ، وأنّه سيكون في عنقه دماء الصلحاء الأبرار التي لا يبيحها أيّ اجتهاد ، نظراء حجر بن عدي ، وعمرو بن الحمق ، وأصحابهما ، وكثير من البدريّين ، وجمع

٥١٢

كثير من أهل بيعة الرضوان ، رضوان الله عليهم.

فهل من المعقول أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرى لمعاوية والحالة هذه قسطاً من الفضيلة؟ أو حسنة تضاهي حسنات المحسنين؟ ويوقع الأمّة في التهافت بين كلماته المعزوّة إليه هذه ، وبين ما صرح به وصحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما أوعزنا إليه. وزبدة المخض أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم ينبس عن هاتيك المفتعلات ببنت شفة ، ولكنّ القوم نحتوها ليطلوا على الضعفاء ما عندهم من طلاء مبهرج.

٤ ـ ما قاله الحفّاظ من أئمّة الحديث وحملة السنّة ، من أنّه لم يصحّ لمعاوية منقبة ، وسيوافيك بُعيد هذا نصّ عباراتهم عند البحث عن فضائل معاوية المختلقة.

٥ ـ النظر في إسناد ومتن ما جاء به ابن حجر ، وعلّى عليه أُسس تمويهه على الحقائق ، وبه طفق يرتئي معاوية خليفة حقّ ، وإمام صدق.

الرواية الأولى :

أمّا ما أخرجه الترمذي وحسّنه ، عن عبد الرحمن بن أبي عميرة مرفوعاً : اللهمّ اجعله هادياً مهديّا واهد به (١). فإنّ كون ابن أبي عميرة صحابيّا في محلّ التشكيك ، فإنّه لا يصحّ ، كما أنّ حديثه هذا لا يثبت ، قال أبو عمر في الاستيعاب (٢) (٢ / ٣٩٥) بعد ذكره بلفظ : اللهمّ اجعله هادياً مهديّا ، واهده واهد به : عبد الرحمن حديثه مضطرب ، لا يثبت في الصحابة ، وهو شاميّ ، ومنهم من يوقف حديثه هذا ولا يرفعه ، ولا يصحّ مرفوعاً عندهم. وقال : لا يثبت أحاديثه ، ولا يصحّ صحبته.

ورجال الإسناد كلّهم شاميّون وهم :

١ ـ أبو سهر الدمشقي.

__________________

(١) هذا لفظ الحديث في جامع الترمذي : ١٣ / ٢٢٩ [٥ / ٦٤٥ ح ٣٨٤٢]. (المؤلف)

(٢) الاستيعاب : القسم الثاني / ٨٤٣ رقم ١٤٤٥.

٥١٣

٢ ـ سعيد بن عبد العزيز الدمشقي.

٣ ـ ربيعة بن يزيد الدمشقي.

٤ ـ ابن أبي عميرة الدمشقي.

وتفرّد به ابن أبي عميرة ولم يروه غيره ؛ ولذلك حكم فيه الترمذي بالغرابة بعد ما حسّنه ، وابن حجر حرّف كلمة الترمذي حرصاً على إثبات الباطل ، فما ثقتك برواية تفرّد بها شاميّ عن شاميّ إلى شاميّ ثالث إلى رابع مثلهم أيضاً؟ ولا يوجد عند غيرهم من حملة السنّة علم بها ، ولم يك يومئذ يتحرّج الشاميّون من الافتعال لما ينتهي فضله إلى معاوية ولو كانت مزعمة باطلة ، على حين أنّ أمامهم القناطير المقنطرة لذلك العمل الشائن ، ومن ورائهم النزعات الأمويّة السائقة لهم إلى الاختلاق ، لتحصيل مرضاة صاحبهم ، فهناك مرتكم الأباطيل والروايات المائنة.

على أنّ هذا المزعوم حسنه كان بمرأى ومشهد من البخاريّ ، الذي يتحاشى في صحيحه عن أن يقول : باب مناقب معاوية. وإنّما عبّر عنه بباب ذكر معاوية (١). وكذلك من شيخه إسحاق بن راهويه الذي ينصّ على عدم صحّة شيء من فضائل معاوية. ومن الحفّاظ : النسائي ، والحاكم النيسابوري ، والحنظلي ، والفيروزآبادي ، وابن تيميّة ، والعجلوني وغيرهم ، وقد أطبقوا جميعاً على أنّه لم يصحّ لمعاوية حديث فضيلة ، ومساغ كلماتهم يُعطي نفي ما يصحّ الاعتماد عليه لا الصحيح المصطلح في باب الأحاديث ، فلا ينافي شمول قولهم على حسنة الترمذي المزعومة مع غرابتها ، فإنّهم يقذفون الحديث بأقلّ ممّا ذكرناه في هذا المقام ، ولو كان لهذه الحسنة وزن يقام كحسنات معاوية لأوعزوا إليها عند نفيهم العامّ.

وإنّ مفاد الحديث لممّا يُربك القارئ ويغنيه عن التكلّف في النظر إلى إسناده ، فإنّ دعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجاب لا محالة كما يقوله ابن حجر ، ونحن في نتيجة البحث

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٧٣ باب ٢٨.

٥١٤

والاستقراء التامّ لأعمال معاوية لم نجده هادياً ولا مهديّا في شيء منها ، ولعلّ ابن حجر يُصافقنا على هذه الدعوى ، وليس عنده غير أنّ الرجل مجتهد مخطئ في كلّ ما أقدم وأحجم ، فله أجر واحد في مزعمته ، ولا يلحقه ذمّ وتبعة لاجتهاده ، وقد أعلمناك أنّ عامّة أخطائه وجرائمه ممّا لا يتطرّق إليه الاجتهاد ، على ما أسلفنا لك أنّه ليس من الممكن أن يكون معاوية مجتهداً لفقدانه العلم بمبادئ الاستنباط من كتاب وسنّة ، وبُعده عن الإجماع والقياس الصحيح.

أو هل ترى أنّ الدعاء المستجاب كهذا يُقصد به هذا النوع من الاجتهاد المستوعب للأخطاء في أقوال الرجل وأفعاله؟ حتى أنّه لا يُرى مصيباً في واحد منها ، وهل يحتاج تأتّي مثل هذا الاجتهاد إلى دعاء صاحب الرسالة؟ فمرحباً بمثله من اجتهاد معذّر ، وهداية لا تبارح الضلال.

ثم من الذي هداه معاوية طيلة أيّامه ، وأنقذه من مخالب الهلكة؟! أيعدّ منهم ابن حجر : بُسر بن أرطاة الذي أغار بأمره على الحرمين ، وارتكب فيهما ما ارتكبه من الجرائم القاسية؟

أم الضحاك بن قيس الذي أمره بالغارة على كلّ من في طاعة عليّ عليه‌السلام من الأعراب ، وجاء بفجائع لم يعهدها التاريخ؟

أم زياد بن أبيه أو أُمّه الذي استحوذ على العراق ، فأهلك الحرث والنسل ، وذبح الأتقياء ، ودمّر على الأولياء ، وركب نهابير لا تُحصى؟

أم عمرو بن العاص الذي أطعمه مصر فباعه على ذلك دينه بدنياه ، وفعل من الجنايات ما فعل؟

أم مروان بن الحكم الطريد اللعين وابنهما ، الذي كان لعنه عليّا أمير المؤمنين على منبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عدّة أعوام إحدى طامّاته؟

٥١٥

أم عمرو بن سعيد الأشدق الجبّار الطاغي ، الذي كان يبالغ في شتم عليّ أمير المؤمنين صلوات الله عليه ، وبغضه إيّاه؟

أم مغيرة بن شعبة ، أزنى ثقيف الذي كان ينال من عليّ عليه‌السلام ويلعنه على منبر الكوفة؟

أم كثير بن شهاب الذي استعمله على الريّ ، وكان يكثر سبّ عليّ عليه‌السلام أمير المؤمنين والوقيعة فيه؟

أم سفيان بن عوف الذي أمره أن يأتي هيت والأنبار والمدائن ، فقتل خلقاً ، ونهب أموالاً ، ثم رجع إليه؟

أم عبد الله الفزاري الذي كان أشدّ الناس على عليّ عليه‌السلام ، ووجّهه إلى أهل البوادي فجاء بطامّات كبرى؟

أم سمرة بن جندب الذي كان يحرّف كتاب الله لإرضائه ، وقتل خلقاً دون رغباته لا يُحصى؟

أم طغام الشام وطغاتها الذين كانوا يقتصّون أثر كلّ ناعق ، وانحاز بهم هو عن أيّ نعيق فأوردهم المهالك؟

أهذه كلّها من ولائد ذلك الدعاء المستجاب؟ اللهمّ ، لا. ولو كان مكان هذا الدعاء من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ العياذ بالله ـ قوله : اللهمّ اجعله ضالاّ مضلاّ. لما عداه أن يكون كما كان عليه من البدع والضلالات.

ولو كان لهذا الدعاء المزعوم نصيب من الصدق لما كان يعزب علمه عن مثل مولانا أمير المؤمنين ، وولديه الإمامين وعيون الصحابة الذين كانوا لا يبارحون الحقّ : كأبي أيّوب الأنصاري ، وعمّار بن ياسر ، وخزيمة بن ثابت ذي الشهادتين ، ولما عهد إليهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على حربه وقتاله ، ولما عرّف فئته بالبغي والقسط.

٥١٦

ولو كان السلف الصالح يرى شيئاً زهيداً من هداية الرجل واهتدائه أثر ذلك الدعاء المستجاب ، لما كانوا يعرفونه في صريح كتاباتهم وخطاباتهم بالنفاق والضلال والإضلال.

وللسيّد العلاّمة ابن عقيل كلمة حول هذه المنقبة المزيّفة ونعمّا هي ، قال في النصائح الكافية (١) (ص ١٦٧) : وهاهنا دلالة على عدم استجابةالله هذه الدعوة لمعاوية لو فرضنا صحّة الحديث ، من حديث صحيح أخرجه مسلم (٢) عن سعد ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سألت ربّي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ، سألت ربّي أن لا يهلك أُمّتي بالسنة (٣) فأعطانيها ، وسألته أن لا يهلك أُمّتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها». تعرف بهذا الحديث وغيره شدّة حرصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن يكون السلم دائماً بين أُمّته ، فدعا الله تارةً أن لا يكون بأس أُمّته بينهم كما في حديث مسلم ، وتارة أن يجعل معاوية هادياً مهديّا لأنّه بلا ريب يعلم أنّ معاوية أكبر من يبغي ويجعل بأس الأُمّة بينها ، فمآل الدعوتين واحد ، وعدم الإجابة في حديث مسلم تستلزم عدمها في حديث الترمذي ، والمناسبة بل التلازم بينهما واضح بيّن ، وفي معنى حديث مسلم هذا جاءت أحاديث كثيرة ومرجعها واحد.

الرواية الثانية :

اللهمَ علّمه الكتاب والحساب وقهِ العذاب :

في إسنادها الحارث بن زياد ، وهو ضعيف مجهول كما قاله ابن أبي حاتم (٤) ، عن

__________________

(١) النصائح الكافية : ص ٢٠٠ ـ ٢٠١.

(٢) صحيح مسلم : ٥ / ٤١٠ ح ٢٠ كتاب الفتن.

(٣) السنة : القحط والمجاعة.

(٤) الجرح والتعديل : ٣ / ٧٥ رقم ٣٤٥.

٥١٧

أبيه ، وابن عبد البرّ ، والذهبي ، كما في ميزان الاعتدال (١) (١ / ٢٠١) ، وتهذيب التهذيب (٢) (٢ / ١٤٢) ، ولسان الميزان (٣) (٢ / ١٤٩). وهو شاميّ غير مكترث لرواية الموضوعات في طاغية الشام.

وإنّ متنه لفي غنىً عن أيّ تفنيد ، فإنّ المراد به إمّا علم الكتاب كلّه أو بعضه ، ونحن لم نجد عنده شيئاً من علم الكتاب فضلاً عن كلّه ، فإنّ أعماله وتروكه مضادّة كلّها لمحكمات الذكر الحكيم ، من إيذاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بإيذاء أهل بيته وصلحاء أُمّته ، ولا سيّما صنوه وخليفته ، المفروض طاعته ، الذي هو نفسه ، ومطهّر عن أيّ رجاسة في نصوص من الكتاب العزيز.

ومن إيذاء المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا إثماً ، لمحض ولائهم من قَرنَ الله ولايته بولايته وولاية رسوله.

ومن القتل الذريع للصلحاء الأبرار ، لعدم نزولهم على رغباته الباطلة ، وميوله وأهوائه.

ومن الكذب الصراح ، وكلّ فرية وبهت وإفك وقول زور ، طفح الكتاب بتحريمها النهائيّ.

ودع عنك بيع الخمر وشربها ، وأكل الربا ، وتبديل سنّة الله التي لا تبديل لها متى ما خالفت خطّته السيّئة ، وتعدّيه حدود الله ، ومن يتعدّ حدود الله فأولئك هم الظالمون ، إلى طامّات صافقت على خطرها الكتاب ضرورة الدين.

فالاعتقاد بجهله بكلّ هذه الموارد وماشاكلها خير له من علمه بها ومروقه

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ١ / ٤٣٣ ح ١٦١٨.

(٢) تهذيب التهذيب : ٢ / ١٢٣.

(٣) لسان الميزان : ٢ / ١٩٠ رقم ٢١٨٥.

٥١٨

عنها ، وخروجه عن حكم الكتاب ، ونبذه إيّاه وراء ظهره ، كما ذهب إليه مولانا أمير المؤمنين وأُمّة صالحة من الصحابة ، فالدعاء المزعوم له قد عدته الإجابة في كلّ ورد له وصدر.

وأما بعض الكتاب فما عسى أن يجديه نفعاً إن كان يؤمن ببعض ويكفر ببعض؟ ولو كان يعرف من الكتاب قوله تعالى : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) (١).

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) (٢) وقوله تعالى : (إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ) (٣) وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٤) أو كان يعرف شيئاً من أمثال هذه من كتاب الله ، لكان يعرف حدّه ولم يتعدّ طوره.

وممّا لا نشكّ فيه أنّ ابن حجر الذي يقول : لا شكّ أنّ دعاءه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مستجاب لا يؤوّل الرواية بأنّه أريد بها علم الكتاب لا العمل به ، وإن أبى الزاعم إلاّ ذلك ، فياهبلته الهبول.

وإنّا لا نعلم معنى الحساب وعلمه الذي جاء في هذه الرواية معطوفاً على الكتاب ، فإمّا أن يُراد به تطبيق أفعاله وتروكه على نواميس الشريعة المقرّرة ،

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) الرعد : ٢٥.

(٣) المائدة : ٣٣.

(٤) الأحزاب : ٥٨.

٥١٩

أو علمه بكلّ ما يُحاسب عليه الله عباده ، فيخرج من العهدة من غير تبعة ، أو أنّه يُحاسب نفسه قبل أن يُحاسب بكلّ قول وعمل ، أو أنّه يقسم بالسوية فيعطي كلّ ذي حقّ حقّه ، ولا يحيف في مال الله ، ولا يميل في أعطيات الناس بمحاباة أحد وقطع آخر من غير تخطّ عن سنن الحقّ ، أو أنّه يعرف فروض المواريث الحسابيّة ، أو أنّه يعلم بقواعد الحساب العدديّة من الجمع والضرب والتقسيم والتفريق والجبر والمقابلة والخطأين إلى أمثالها من أصول علم الحساب.

أمّا ما قبل الأخيرين فإنّ الرجل كان يأثم بغير حساب ، ويقتل بغير حساب ، ويكذب بغير حساب ، ويحيف بغير حساب ، ويجهل من معالم الدين بغير حساب ، وإنّ أخطاءه في الاجتهاد المزعوم بغير حساب ، ويُعطي ويمنع من غير حجّة بغير حساب ، فيا له من دعاء لم يقرن بالإجابة في مورد من الموارد!

وأمّا قواعد علم الحساب ويلحق بها فروض المواريث ، فما ذا الذي نجم منها بين معلومات معاوية وفتاواه غير جهل شائن مستوعب لكلّ ما ناء به من كلّ فرض وندب؟ ولم تُعهد له دراسة لهذه العلوم والقواعد حتى تتحقّق بها إجابة الدعوة بتوفيق إلهيّ.

وأمّا جملة : وقه العذاب ، فإن صحّت الرواية فإنّها تشبه أن تكون ترخيصاً في المعصية لرجل مثل معاوية يلغ في المآثم ، ويتورّط بالموبقات ، ويرتطم في المهالك ، فليس فيما سبرناه وأحصيناه من أفعاله وتروكه إلاّ جنايات للعامة ، وميول وشهوات في الخاصّة ، وحيف وميل في الحقوق ، وبسط وقبض ، وإقصاء وتقريب من غير حقّ ، فلا يكاد يخلو ما ناء به من مآثم أوعد الله تعالى فاعله بالنار ، أو محظور في الشريعة يمقت صاحبها ، أو عمل بغيض يمجّه الحقّ ، ويزورّ عنه الصواب ، أو بدع محدثة في منتأى عن رضا الربّ وتشريع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن كان يوقى مثل هذا الإنسان عن العذاب المجرّئ له على الهلكات فأين مصبّ الوعد المعدّ لمن عصى الله ورسوله؟ إنّ الله

٥٢٠