الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠

فكتب إليه الإمام عليه‌السلام :

«زعمت أنّك إنّما أفسد عليك بيعتي خُفري (١) بعثمان ، ولعمري ما كنت إلاّ رجلاً من المهاجرين ، أوردت كما أوردوا ، وأصدرت كما أصدروا ، وما كان ليجمعهم على ضلال ، ولا ليضربهم بالعمى ، وما أمرتُ فلزمتني خطيئة الأمر ، ولا قتلتُ فأخاف على نفسي قصاص القاتل.

وأمّا قولك : إنّ أهل الشام هُم حكّام أهل الحجاز ، فهات رجلاً من قريش الشام يُقبل في الشورى ، أو تحلّ له الخلافة ، فإن سمّيت كذّبك المهاجرون والأنصار ، ونحن نأتيك به من قريش الحجاز ، فارجع إلى البيعة التي لزمتك ، وحاكم القوم إليّ.

وأمّا تمييزك بين أهل الشام والبصرة ، وبينك وبين طلحة والزبير ، فلعمري فما الأمر هناك إلاّ واحد ، لأنّها بيعة عامّة ، لا يتأتّى (٢) فيها النظر ، ولا يُستأنف فيها الخيار».

ومن كتاب كتبه معاوية إلى عليّ عليه‌السلام في أواخر حرب صفّين :

فإن كنت ـ أبا حسن ـ إنّما تحارب على الإمرة والخلافة ، فلعمري لو صحّت خلافتك لكنت قريباً من أن تُعذر في حرب المسلمين ، ولكنّها ما صحّت لك ، أنّى بصحّتها وأهل الشام لم يدخلوا فيها ولم يرتضوها؟ وخف الله وسطواته ، واتّق بأسه ونكاله ، واغمد سيفك عن الناس ، فقد والله أكلتهم الحرب ، فلم يبق منهم إلاّ كالثمد (٣) في قرارة الغدير. والله المستعان.

فكتب عليّ عليه‌السلام إليه كتاباً منه :

«وأمّا تحذيرك إيّاي أن يحبط عملي وسابقتي في الإسلام ، فلعمري لو كنت

__________________

(١) الخفر : نقض العهد ، الغدر. (المؤلف)

(٢) في وقعة صفين : يثنّى.

(٣) الثمد : الماء القليل يتجمع في الشتاء وينضب في الصيف. (المؤلف)

٤٤١

الباغي عليك لكان لك أن تحذّرني ذلك ، ولكنّي وجدت الله تعالى يقول : (فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) فنظرنا إلى الفئتين ، أمّا الفئة الباغية فوجدناها الفئة التي أنت فيها ، لأنّ بيعتي لزمتك وأنت بالشام ، كما لزمتك بيعة عثمان بالمدينة ، وأنت أمير لعُمر على الشام ، وكما لزمت يزيد أخاك بيعة عمر وهو أمير لأبي بكر على الشام.

وأمّا شقّ عصا هذه الأُمّة ، فأنا أحقّ أن أنهاك عنه ، فأمّا تخويفك لي من قتل أهل البغي ، فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمرني بقتالهم وقتلهم ، وقال لأصحابه : إنّ فيكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلتُ على تنزيله. وأشار إليّ ، وأنا أولى من اتّبع أمره. وأمّا قولك : إنّ بيعتي لم تصحّ ، لأنّ أهل الشام لم يدخلوا فيها ، فكيف؟ وإنّما هي بيعة واحدة تلزم الحاضر والغائب ، لا يُثنّى فيها النظر ، ولا يُستأنف فيها الخيار ، الخارج منها طاعن ، والمُروّي (١) فيها مُداهن ، فاربع على ظلعك ، وانزع سربال غيّك. واترك ما لا جدوى له عليك ، فليس لك عندي إلاّ السيف ، حتى تفيء إلى أمر الله صاغراً ، وتدخل في البيعة راغماً ، والسلام».

ومن كتاب لمعاوية إلى عليّ عليه‌السلام :

فدع اللجاج والعبث جانباً ، وادفع إلينا قتلة عثمان ، وأعد الأمر شورى بين المسلمين ، ليتّفقوا على من هو لله رضا ، فلا بيعة لك في أعناقنا ، ولا طاعة لك علينا ، ولا عُتبى لك عندنا ، وليس لك ولأصحابك إلاّ السيف.

فأجابه الإمام عليه‌السلام بكتاب منه قوله :

«وزعمت أنّ أفضل الناس في الإسلام فلان وفلان ، فذكرت أمراً إن تمّ

__________________

(١) روّى في الأمر : نظر وفكّر ، أي الذي يفكّر ويروّي فيها ويبطئ عن الطاعة ، مداهن : أي منافق. (المؤلف)

٤٤٢

اعتزلك كلّه ، وإن نقص لم يلحقك ثلمه ، وما أنت والفاضل والمفضول؟ والسائس والمسوس؟ وما للطلقاء وأبناء الطلقاء والتمييز بين المهاجرين الأوّلين ، وترتيب درجاتهم ، وتعريف طبقاتهم؟ هيهات لقد حنّ قدح ليس منها ، وطفق يحكم فيها من عليه الحكم لها ، ألا تربعْ أيّها الإنسان على ظلعك؟ وتعرف قصور ذرعك ، وتتأخّر حيث أخّرك القدر؟ فما عليك غلبة المغلوب ، ولا لك ظفر الظافر».

ومنه قوله عليه‌السلام :

«وذكرت أنّه ليس لي ولأصحابي عندك إلاّ السيف ، فلقد أضحكت بعد استعبار ، متى ألفيت بني عبد المطّلب عن الأعداء ناكلين ، وبالسيوف مخوّفين؟! فلبّث قليلاً يلحق الهيجا حمل (١) ، فسيطلبك من تطلب ، ويقرب منك ما تستبعد ، وأنا مُرقل نحوك في جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، شديد زحامهم ، ساطعٍ قتامهم ، متسربلين سرابيل الموت ، أحبّ اللقاء إليهم لقاء ربّهم ، وقد صحبتهم ذرّيّة بدريّة ، وسيوف هاشميّة ، قد عرفت مواقع نصالها في أخيك وخالك وجدّك وأهلك ، وما هي من الظالمين ببعيد».

ولمّا نزل عليّ عليه‌السلام الرقّة ، قالت له طائفة من أصحابه : يا أمير المؤمنين اكتب إلى معاوية ومن قبله من قومك ، فإنّ الحجّة لا تزداد عليهم بذلك إلاّ عظماً. فكتب إليهم :

«من عبد الله عليّ أمير المؤمنين إلى معاوية ومن قبله من قريش :

سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو ، أمّا بعد : فإنّ لله عباداً

__________________

(١) حمل ، هو حمل بن سعد ، إنّه الصحابي ، شهد صفّين مع معاوية (المؤلف) [في المستقصى في أمثال العرب ٢ / ٢٧٨ : مثل يضرب ، قالوا في حمل : هو اسم رجل شجاع كان يستظهر بهِ في الحرب ولا يبعد أن يُراد به حمل بن بدر صاحب الغبراء].

٤٤٣

آمنوا بالتنزيل ، وعرفوا التأويل ، وفقهوا في الدين ، وبيّن الله فضلهم في القرآن الحكيم ، وأنتم في ذلك الزمان أعداء للرسول ، تكذّبون بالكتاب ، مجمعون على حرب المسلمين ، من ثقفتم منهم حبستموه أو عذّبتموه أو قتلتموه ، حتى أراد الله تعالى إعزاز دينه ، وإظهار أمره ، فدخلت العرب في الدين أفواجاً ، وأسلمت له هذه الأُمّة طوعاً وكرها ، فكنتم فيمن دخل في هذا الدين إمّا رغبة أو رهبةً ، على حين فاز أهل السبق بسبقهم ، وفاز المهاجرون الأوّلون بفضلهم ، ولا ينبغي لمن ليست له مثل سوابقهم في الدين ، ولا فضائلهم في الإسلام ، أن ينازعهم الأمر الذي هم أهله ، وأولى به فيحوب ويظلم ، ولا ينبغي لمن كان له عقل أن يجهل قدره ، ويعدو طوره ، ويُشقي نفسه بالتماس ما ليس بأهله ، فإنّ أولى الناس بأمر هذه الأمّة قديماً وحديثاً أقربها من الرسول ، وأعلمها بالكتاب ، وأفقهها في الدين ، أوّلهم إسلاما ، وأفضلهم جهاداً ، وأشدّهم بما تحمله الأئمّة من أمر الأُمّة اضطلاعاً ، فاتّقوا الله الذي إليه ترجعون ، ولا تلبسوا الحقّ بالباطل وتكتموا الحقّ وأنتم تعلمون ، واعلموا أنّ خيار عباد الله الذين يعملون بما يعلمون ، وأنّ شرارهم الجهّال الذين ينازعون بالجهل أهل العلم ، فإنّ للعالم بعلمه فضلاً ، وإنّ الجاهل لا يزداد بمنازعته العالم إلاّ جهلاً ، ألا وإنّي أدعوكم إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، وحقن دماء هذه الأُمّة ، فإن قبلتم أصبتم رشدكم ، واهتديتم لحظّكم ، وإن أبيتم إلاّ الفرقة وشقّ عصا هذه الأُمّة ، لم تزدادوا من الله إلاّ بُعداً ، ولا يزداد الربّ عليكم إلاّ سُخطاً ، والسلام» (١).

راجع (٢) : الإمامة والسياسة (١ / ٢٠ ، ٧١ ، ٧٢ ، ٧٧ ، ٧٨) ، كتاب صفّين

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٣ / ٢١٠ خطبة ٤٨.

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ٨٤ ، ٩١ ـ ٩٢ ، وقعة صفّين : ص ٢٩ ، ٣٣ ، ٣٤ ، ٥٢ ـ ٥٨ ، الكامل في اللغة والأدب : ١ / ٢٦٧ ، ٢٧١ ، العقد الفريد : ٤ / ١٣٦ ـ ١٣٧ ، نهج البلاغة : ص ٣٦٨ كتاب ٩ ، ص ٣٨٥ كتاب ٢٨ ، ص ٣٨٨ ـ ٣٨٩ ، شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٣٠ كتاب ٨ و ٢ / ٦١ و ٣ / ٧٥ ، ٨٨ و ١٤ / ٣٥ كتاب ٦ وص ٤٢ ـ ٤٣ كتاب ٧ ، صبح الأعشى : ١ / ٢٧٥.

٤٤٤

(ص ٣٤ ، ٣٨ ، ٥٨ ، ٥٩ ، ٦٢ ـ ٦٥ طبعة مصر) ، كامل المبرّد (١ / ١٥٥ ، ١٥٧) ، العقد الفريد (٢ / ٢٣٣ ، وفي طبعة : ص ٢٨٤) نهج البلاغة (٢ / ٧ ، ٨ ، ٣٠ ، ٣٥ ، ٩٨) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٧٧ ، ١٣٦ ، ٢٤٨ ، ٢٥٢ و ٣ / ٣٠٠ ، ٣٠٢) ، صبح الأعشى (١ / ٢٢٩) ، نهاية الأرب (٧ / ٢٣٣). ومرّ بعض هذه الكتب بتمامه في هذا الجزء.

قال الأميني : ألم تعلم أيّها القارئ الكريم عقيب ما استشففت هذه الكتب المتردّدة بين إمام الحقّ ورجل السوء معاوية ، أنّه حين يسرّ حسواً في ارتغاء (١) ، محتجّا بقتل عثمان تارة ، وبإيواء قاتليه تارةً أخرى ، وبطلبه حقن الدماء كمن لا يبتغيه هو ، أنّه كان لا يبتغي إلاّ الخلافة؟ وأنّه يعدو إليها ضابحاً ، ويُضحّي دونها بكلّ غالٍ ورخيص ، ويهب دونها الولايات ، ويمنح تجاهها المنائح ، ويهب الرضائخ ، ويستهوي بها النفوس الخائرة ، ومهملجي نهمة الحاكميّة ، ويستهين ببيعة المهاجرين والأنصار ، وهم إلب واحد لبيعة إمام الهدى ـ صلوات الله عليه ـ ، ويحسبهم قد فارقوا الحقّ وخبطوا في العمى ، ويرجّح كفّة الشام على كفّة عاصمة الإسلام ، وأهلوه هم الصحابة العدول من المهاجرين والأنصار ، على أنّه ليس للطليق ابن الطليق أن يتدخّل في شأن هم أثبتوا دعائمه ، وشيّدوا معالمه ، ومن الذي منحه النظر في أمر هذا شأنه؟ ومتى كان له ولطغام الشام أن يجابهوا إمرة الحقّ التي نهض بها أهل الحلّ والعقد؟ ولم يباشر الحرب هنالك إلاّ بعد أن أتمّ الإمام عليه‌السلام عليه الحجّة ، وألحب له الطريق ، وأوقفه على حكم الله الباتّ وأمره النهائيّ ، غير أنّ معاوية في أُذنه وقر عن سماع كلم الحقّ والبخوع لها ، والملك عقيم.

تصريحٌ لا تلويح يُعرب عن مرمى ابن هند :

مرّ في سالف القول (ص ٣١٧) أنّ معاوية قال لجرير : يجعل عليّ له الشام ومصر جباية ، ويكون الأمر له بعده ، حتى يكتب إليه بالخلافة ، وكتب بذلك إليه عليه‌السلام

__________________

(١) مثل يُضرب لمن يريك أنه يعينك وإنّما يجرّ النفع إلى نفسه. مجمع الأمثال : ٣ / ٥٢٥ رقم ٤٦٨٠.

٤٤٥

وكتب إليه عليه‌السلام يسأله إقراره على الشام ، فكتب إليه عليّ عليه‌السلام :

«أمّا بعد : فإنّ الدنيا حُلوة خضرة ، ذات زينة وبهجة ، لم يصبُ إليها أحد إلاّ شغلته بزينتها عمّا هو أنفع له منها ، وبالآخرة أُمرنا ، وعليها حُثثنا ، فدع يا معاوية ما يفنى ، واعمل لما يبقى ، واحذر الموت الذي إليه مصيرك ، والحساب الذي إليه عاقبتك ، واعلم أنّ الله تعالى إذا أراد بعبد خيراً حال بينه وبين ما يكره ، ووفّقه لطاعته ، وإذا أراد بعبد سوءاً أغراه بالدنيا وأنساه الآخرة ، وبسط له أمله ، وعاقه عمّا فيه صلاحه ، وقد وصلني كتابك فوجدتك ترمي غير غرضك ، وتنشد غير ضالّتك ، وتخبط في عماية ، وتتيه في ضلالة ، وتعتصم بغير حجّة ، وتلوذ بأضعف شبهة.

فأمّا سؤالك المتاركة والإقرار لك على الشام ، فلو كنت فاعلاً ذلك اليوم لفعلته أمس ، وأمّا قولك : إنّ عمر ولاّكه فقد عزل من كان ولاّه صاحبه (١) ، وعزل عثمان من كان عمر ولاّه (٢) ، ولم يُنصب للناس إمام إلاّ ليرى من صلاح الأُمّة ما قد كان ظهر لمن قبله أو أُخفي عنه عيبُه ، والأمر يحدث بعده الأمر ، ولكلّ والٍ رأي واجتهاد» (٣).

وكتب الرجل إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثانية ـ قبل ليلة الهرير بيومين أو ثلاثة ـ يسأله إقراره على الشام ، وذلك أنّ عليّا عليه‌السلام قال : «لأُناجزنّهم مصبحاً». وتناقل الناس كلمته ، ففزع أهل الشام لذلك ، فقال معاوية : قد رأيت أن أُعاود عليّا وأسأله إقراري على الشام ، فقد كنت كتبت إليه ذلك فلم يجب إليه (٤) ، ولأكتبنّ ثانية ، فأُلقي في نفسه الشكّ والرقّة ، فكتب إليه :

__________________

(١) يريد خالد بن الوليد : كان ولاّه أبو بكر فعزله عمر. (المؤلف)

(٢) عزل عثمان عمال عمر كلّهم غير معاوية. (المؤلف)

(٣) نهج البلاغة : ٢ / ٤٤ [ص ٤١٠ كتاب ٣٧] ، شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ٥٧ [١٦ / ١٥٣ كتاب ٣٧]. (المؤلف)

(٤) كذب الرجل وقد أجابه الإمام عليه‌السلام بما سمعت ، غير أنّه كتمه على أصحابه خوفاً من أن يهتدي به بعض إلى الحق ويفارق الباطل. (المؤلف) [الظاهر أنّ قصد معاوية من هذه العبارة أنّ أمير المؤمنين لم يوافقه على طلبه البقاء أميراً على الشام].

٤٤٦

أمّا بعد : فإنّك لو علمت وعلمنا أنّ الحرب تبلغ بنا وبك ما بلغت ، لم يجنِها بعضنا على بعض ، ولئن كنّا قد غُلبنا على عقولنا ، لقد بقي لنا منها ما نندم به على ما مضى ، ونصلح به ما بقي ، وقد كنت سألتك الشام على أن لا تلزمني لك بيعة وطاعة ، فأبيت ذلك عليّ ، فأعطاني الله ما منعت ، وأنا أدعوك اليوم إلى ما دعوتك إليه أمس ، فإنّي لا أرجو من البقاء إلاّ ما ترجو ، ولا أخاف من الفناء إلاّ ما تخاف ، وقد والله رقّت الأجناد ، وذهبت الرجال ، ونحن بنو عبد مناف ليس لبعضنا على بعض فضل إلاّ فضل لا يُستذلّ به عزيز ، ولا يسترقّ به حرّ ، والسلام.

فأجابه عليّ عليه‌السلام :

«أمّا بعد فقد جاءني كتابك تذكر أنّك لو علمت وعلمنا أنّ الحرب تبلغ بنا وبك [ما بلغت] (١) لم يجنها بعضنا على بعض ، فإنّي لو قُتلت في ذات الله وحييت ، ثم قُتلت ثم حييت سبعين مرّة لم أرجع عن الشدّة في ذات الله ، والجهاد لأعداء الله ، وأمّا قولك : إنّه قد بقي من عقولنا ما نندم على ما مضى فإنّي ما تنقّصت عقلي ، ولا ندمت على فعلي ، وأمّا طلبك إليّ الشام فإنّي لم أكن لأُعطيك اليوم ما منعتك أمس ، وأمّا قولك : إنّ الحرب قد أكلت [العرب] (٢) إلاّ حُشاشات أنفس بقيت ، ألا ومن أكله الحقّ فإلى الجنّة ، ومن أكله الباطل فإلى النار» الكتاب (٣).

وكتب معاوية إلى ابن عبّاس :

أمّا بعد : فإنّكم معشر بني هاشم لستم إلى أحد أسرع منكم بالمساءة إلى أنصار ابن عفّان حتى أنّكم قتلتم طلحة والزبير لطلبهما بدمه ، واستعظامهما ما نيل

__________________

(١) الزيادة من شرح النهج.

(٢) الزيادة من النهج.

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ٨٨ وفي طبعة ٩٥ [١ / ١٠٣] ، كتاب صفّين : ص ٥٣٨ [ص ٤٧٠] ، مروج الذهب : ٢ / ٦٠ ، ٦١ [٣ / ٢٣] ، نهج البلاغة : ٢ / ١٢ [ص ٣٧٤ كتاب ١٧] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٤٢٤ [١٥ / ١٢٣ كتاب ١٧]. (المؤلف)

٤٤٧

منه ، فإن كان ذلك منافسة لبني أميّة في السلطان ، فقد وليها عديّ وتيم (١) فلم تنافسوهم وأظهرتم لهم الطاعة.

وقد وقع من الأمر ما قد ترى ، وأدالت هذه الحرب بعضنا على بعض حتى استوينا فيها ، فما يُطمعكم فينا يُطمعنا فيكم ، وما يؤيسنا منكم يؤيسكم منّا ، ولقد رجونا غير الذي كان ، وخشينا دون ما وقع ، ولستم ملاقينا اليوم بأحدّ من حدّكم أمس ، ولا غداً بأحدّ من حدّكم اليوم ، وقد قنعنا بما في أيدينا من ملك الشام ، فاقنعوا بما في أيديكم من ملك العراق ، وأبقوا على قريش ، فإنّما بقي من رجالها ستّة : رجلان بالشام ، ورجلان بالعراق ، ورجلان بالحجاز ، فأمّا اللذان بالشام فأنا وعمرو ، وأمّا اللذان بالعراق فأنت وعليّ ، وأمّا اللذان بالحجاز فسعد وابن عمر (٢) ، فاثنان من الستّة ناصبان لك ، واثنان واقفان فيك ، وأنت رأس هذا الجمع ، ولو بايع لك الناس بعد عثمان كنّا إليك أسرع منّا إلى عليّ.

فكتب ابن عبّاس إليه :

أمّا بعد : فقد جاءني كتابك وقرأته ، فأمّا ما ذكرت من سرعتنا بالمساءة إلى أنصار عثمان وكراهتنا لسلطان بني أُميّة ، فلعمري لقد أدركت في عثمان حاجتك حين استنصرك فلم تنصره حتى صرت إلى ما صرت إليه ، وبيني وبينك في ذلك ابن عمّك وأخو عثمان الوليد بن عقبة ، وأمّا طلحة والزبير فإنّهما أجلبا عليه ، وضيّقا خناقه ، ثم خرجا ينقضان البيعة ويطلبان الملك ، فقاتلناهما على النكث وقاتلناك على البغي ، وأمّا قولك : إنّه لم يبق من قريش إلاّ ستّة فما أكثر رجالها ، وأحسن بقيّتها! وقد قاتلك من خيارها من قاتلك ، ولم يخذلنا إلاّ من خذلك ، وأمّا إغراؤك إيّانا بعديّ وتيم ، فإنّ أبا بكر وعمر خير من عثمان كما أنّ عثمان خير منك ، وقد بقي لك منّا ما ينسيك ما قبله

__________________

(١) يعني أبا بكر وعمر. (المؤلف)

(٢) يعني سعد بن أبي وقّاص : وعبد الله بن عمر. (المؤلف)

٤٤٨

وتخاف ما بعده ، وأمّا قولك : إنّه لو بايعني الناس استقمت (١) ، فقد بايع الناس عليّا وهو خير منّي فلم تستقم له (٢) ، وما أنت وذكر الخلافة يا معاوية؟ وإنّما أنت طليق وابن طليق ، والخلافة للمهاجرين الأوّلين ، وليس الطلقاء منها في شيء والسلام (٣). وفي لفظ ابن قتيبة : فما أنت والخلافة؟ وأنت طليق الإسلام ، وابن رأس الأحزاب ، وابن آكلة الأكباد من قتلى بدر.

وخطب معاوية بعد دخوله الكوفة وصلح الإمام السبط سلام الله عليه ، فقال : يا أهل الكوفة أتراني قاتلتكم على الصلاة والزكاة والحجّ؟ وقد علمت أنّكم تصلّون وتزكّون وتحجّون ، ولكنّني قاتلتكم لأتأمّر عليكم وعلى رقابكم ، وقد آتاني الله ذلك وأنتم كارهون ، ألا إنّ كلّ مال أو دم أصيب في هذه الفتنة فمطلول ، وكلّ شرط شرطته فتحت قدميّ هاتين. شرح ابن أبي الحديد (٤) (٤ / ٦) ، تاريخ ابن كثير (٥) (٨ / ١٣١) واللفظ للأوّل.

قال معروف بن خربوذ المكّي : بينا عبد الله بن عبّاس جالس في المسجد ونحن بين يديه ، إذ أقبل معاوية فجلس إليه فأعرض عنه ابن عبّاس ، فقال له معاوية : مالي أراك معرضاً؟ ألست تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر من ابن عمّك؟ قال : لم لأنّه كان مسلماً وكنت كافراً؟ قال : لا ، ولكنّي ابن عمّ عثمان. قال : فابن عمّي خير من ابن عمّك. قال : إنّ عثمان قُتل مظلوماً. قال : وعندهما ابن عمر ، فقال ابن عبّاس : فإنّ هذا والله أحقّ بالأمر منك. فقال معاوية : إنّ عمر قتله كافر وعثمان قتله مسلم. فقال ابن

__________________

(١) في شرح النهج : لو بايع الناس لي لاستقاموا.

(٢) في شرح النهج : فلم يستقيموا له.

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ٨٥ ، وفي طبعة ٩٦ [١ / ١٠٠] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٨٩ [٨ / ٦٥ خطبة ١٢٤]. (المؤلف)

(٤) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٤ الأصل ٣١.

(٥) البداية والنهاية : ٨ / ١٤٠ حوادث سنة ٦٠ ه‍.

٤٤٩

عبّاس : ذاك والله أدحض لحجّتك. مستدرك الحاكم (١) (٣ / ٤٦٧).

قال الأميني : إنّ هذه الكلم لتعطي القارئ دروساً ضافية من تحرّي معاوية للخلافة لا غيرها من أوّل يومه ، ولم يكن في وسع ابن آكلة الأكباد دفع شيء ممّا كتب إليه من ذلك ، وإنّه كان يريد ، على فرض قصوره عن نيل كلّ الأُمنية ، القناعة ببعضها ، فيصفو له ملك الشام ومصر ، وللإمام عليه‌السلام ما تحت يده من الحواضر الإسلاميّة وزرافات الأجناد ، عسى أن يتّخذ ذلك وسيلة للتوصّل إلى بقيّة الأمل في مستقبل أيّامه ، وكانت هذه القسمة ابتداعاً في أمر الخلافة الإسلاميّة ، وتفريقاً بين صفوفها ، لم تأل إلى سابقة في الدين ، ولا أمضاها أهله في دور من الأدوار ، وإنّما هي فصمة في الجماعة ، وتفريق للطاعة ، وتفكيك لعرى الإسلام ، وتضعيف لقواه ، وبيعة عامّة تلزم القاصي والداني لا يُستثنى منها جيل دون جيل ، ولا يجوز انحياز أُمّة عنها دون أُمّة ، وإنّما هو الخليفة الأخير الذي أوجبت الشريعة قتله كما مرّ حديثه الصحيح الثابت ، وإنّه هو معاوية نفسه ، فما كان يسع الإمام عليه‌السلام والحالة هذه إلاّ قتال هذا الطاغية أو يفيء إلى أمر الله.

فكرة معاوية لها قدم :

إنّ رأي معاوية في خلافة الإمام عليه‌السلام لم يكن وليد يومه ولا بنت ليلته ، وإنّما كان مناوئاً منذ فرّق بينهما الإسلام ، وقُتل في يوم واحد أخوه وجدّه وخاله بسيف عليّ عليه‌السلام ، فلم يزل يلهج ويهملج في تفخيذ الناس عنه ـ صلوات الله عليه ـ من يوم قتل عثمان ، بعث رجلاً من بني عُميس وكتب معه كتاباً إلى الزبير بن العوام ، وفيه :

بسم الله الرحمن الرحيم ، لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان.

__________________

(١) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٥٣٠ ح ٥٩٦٩.

٤٥٠

سلام عليك. أمّا بعد : فإنّي قد بايعت لك أهل الشام ، فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الحلب (١) ، فدونك الكوفة والبصرة لا يسبقك إليهما ابن أبي طالب ، فإنّه لا شيء بعد هذين المصرين ، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك ، فأظهِرا الطلب بدم عثمان ، وادعوا الناس إلى ذلك ، وليكن منكما الجدّ والتشمير ، أظفركما الله ، وخذل مُناوئكما.

فسُرّ الزبير بهذا الكتاب ، وأعلم به طلحة ، ولم يشكّا في النصح لهما من قبل معاوية ، وأجمعا عند ذلك على خلاف عليّ عليه‌السلام. شرح ابن أبي الحديد (٢) (١ / ٧٧)

قال الأميني : انظر إلى دين الرجل وورعه ، يستسيغ أن يخاطب الزبير بإمرة المؤمنين لمحض حسبانه أنّه بايع له أجلاف أهل الشام ، ولا يقول بها لأمير المؤمنين حقّا عليّ عليه‌السلام وقد تمّت له بيعة المسلمين جمعاء ، وفي مقدّمهم الزبير نفسه ، وطلحة بن عبيد الله الذي حاباه معاوية ولاية العهد بعد صاحبه ، فغرّهما على نكث البيعة ، فذاقا وبال أمرهما ، وكان عاقبتهما خُسراً.

وأنت ترى أنّ الطلب بدم عثمان قنطرة النزاع في الملك ، ووسيلة النيل إلى الأمانيّ من الخلافة الباطلة ، أوحاه معاوية إلى الرجلين (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ) (٣).

ويدعو الرجل لمناوئي عليّ عليه‌السلام بالظفر وعليه عليه‌السلام بالخذلان ، والصادع الكريم يقول في الصحيح المتّفق عليه : «اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره واخذل من خذله».

__________________

(١) استوسق : اجتمع. الحلب : اللبن المحلوب. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ١ / ٢٣١ ، كتاب ٨.

(٣) الأنعام : ١٢١.

٤٥١

وكتب إلى الزبير أيضاً :

أمّا بعد : فإنّك الزبير بن العوام ، ابن أبي خديجة (١) ، وابن عمّة (٢) رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحواريّه ، وسِلفه (٣) وصهر أبي بكر ، وفارس المسلمين ، وأنت الباذل في الله مهجته بمكة عند صيحة الشيطان ، بعثك المنبعث ؛ فخرجت كالثعبان المنسلخ بالسيف المنصلت ، تخبط خبط الجمل الرديع ، كلّ ذلك قوّة إيمان وصدق يقين ، وسبقت لك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم البشارة بالجنّة ، وجعلك عمر أحد المستخلفين على الأمة.

وأعلم يا أبا عبد الله : أنّ الرعية أصبحت كالغنم المتفرّقة لغيبة الراعي ، فسارع ـ رحمك الله ـ إلى حقن الدماء ؛ ولَمِّ الشعث ، وجمع الكلمة ، وصلاح ذات البين ، قبل تفاقم الأمر ، وانتشار الأُمّة ، فقد أصبح الناس على شفا جُرف هار ، عمّا قليل ينهار إن لم يُرأب ، فشمّر لتأليف الأُمّة ، وابتغ إلى ربّك سبيلا ، فقد أحكمتُ الأمر منِ قبَلي لك ولصاحبك على أنّ الأمر للمقدّم ، ثم لصاحبه من بعده ، جعلك الله من أئمة الهدى ، وبُغاة الخير والتقوى ، والسلام (٤).

ألا مسائل ابن هند عن قوله : إنّ الرعيّة أصبحت كالغنم المتفرّقة. إلى آخره. لما ذا أصبحت؟ ومتى أصبحت؟ وكيف أصبحت؟ وراعيها الذي يرقبها ويرقب كلّ صالح لها ، ويشمّر لدرء كلّ معرّة عنها ، هو صنو رسول الله ونفسه ، الإمام المنصوص عليه ، وقد أجمعت الأُمّة على بيعته لو لا أنّ معاوية يكدّر الصفو ، ويقلق السلام ،

__________________

(١) خويلد أبو خديجة زوج الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جدّ الزبير بن العوام بن خويلد. (المؤلف)

(٢) أُمّ الزبير هي صفيّة بنت عبد المطّلب عمّة رسول الله. (المؤلف)

(٣) السلف : زوج أُخت امرأته ، تزوّج الزبير أسماء بنت أبي بكر ، وتزوّج رسول الله أختها عائشة.(المؤلف)

(٤) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢٣٦ كتاب ١٩٣.

٤٥٢

ويفرّق الكلمة بدسائسه وتسويلاته ، فمثله كما قال مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام كمثل الشيطان يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الإسلام.

وكتب إلى طلحة :

أمّا بعد : فإنّك أقلّ قريش في قريش وِتراً ، مع صباحة وجهك ، وسماحة كفّك ، وفصاحة لسانك ، فأنت بإزاء من تقدّمك في السابقة ، وخامس المبشّرين بالجنّة ، ولك يوم أُحد وشرفه وفضله ، فسارع ـ رحمك الله ـ إلى ما تُقلّدك الرعيّة من أمرها ، ممّا لا يسعك التخلّف عنه ، ولا يرضى الله منك إلاّ بالقيام به ، فقد أحكمتُ لك الأمر قِبَلي ، والزبير فغير متقدّم عليك بفضل ، وأيّكما قدّم صاحبه فالمقدّم الإمام ، والأمر من بعده للمقدّم له ، سلك الله بك قصد المهتدين ، ووهب لك رشد الموفّقين ، والسلام (١).

قال الأميني : لمسائل هاهنا أن يحفي معاوية السؤال عن أنّ ما تبجّح به للزبير وطلحة من الفضائل التي استحقّا بها الخلافة هل كان عليّ عليه‌السلام خلواً منها؟ يذكر لهما البشارة بالجنّة ، وأنّ زبيراً أحد أولئك المبشّرين ، وأنّ طلحة خامسهم ، فهلاّ كان عليّ عليه‌السلام عاشرهم؟ فلما ذا سلخها عنه ، وحثّهما على المبادرة إليها حتى لا يسبقهما إليها ابن أبي طالب؟! وإن كان تلكم البشارة ـ المزعومة ـ بمجرّدها كافية في إثبات الجدارة للخلافة فلما ذا أخرج عنها سعد بن أبي وقّاص؟ وهو أحد القوم المبشّرين وكان يومئذ حيّا يُرزق ، ولعلّ طمعه فيهما كان آكد ، فحلب حلباً له شطره.

والأعجب قوله لطلحة : فأنت بإزاء من تقدّمك في السابقة. فهلاّ كان أمير المؤمنين أوّل السابقين وأولاهم بالمآثر كلّها؟ وهلاّ ثبت عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «السبّاق ثلاثة : السابق إلى موسى يوشع ، وصاحب ياسين إلى عيسى ، والسابق إلى

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢٣٥ كتاب ١٩٣.

٤٥٣

محمد عليّ بن أبي طالب» (١).

وهلاّ صحّ عند أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ عليّا أوّل من آمن بالله ، وصدّق نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصلّى معه ، وجاهد في سبيله؟

وإن كان لطلحة يوم أُحد شرفه وفضله فلعليّ عليه‌السلام مغازي الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كلّها ، من بدر وأُحد وخيبر والأحزاب وحُنين ويوم حمراء الأسد (٢) ، هب أنّ معاوية كان في أذنه وقر من شركه لم يسمع نداء جبريل ورضوان يوم ناديا :

لا فتى إلاّ علي

لا سيف إلاّ ذو الفقار (٣)

فهل كان في بصره عمىً كبصيرته لا يبصر نضال عليّ ونزاله في تلكم المعارك الدامية؟ نعم ؛ معاوية لا يرى مواقف عليّ عليه‌السلام فضلاً وشرفاً ، لأنّه هو الذي أثكل أُمّهات بيته ، وضرب أقذلة أخيه وجدّه وخاله وأبناء بيته الساقط بسيفه البتّار ، وإلى هذا يومئ قوله لطلحة : فإنّك أقلّ قريش في قريش وِتراً.

ومن كتاب له إلى مروان :

فإذا قرأت كتابي هذا فكن كالفهد ، لا يُصطاد إلاّ غيلة ، ولا يتشازر إلاّ عن حيلة ، وكالثعلب لا يفلت إلاّ روغاناً ، واخفِ نفسك منهم إخفاء القنفذ رأسه عند لمس الأكفّ ، وامتهن (٤) نفسك امتهان من ييأس القوم من نصره وانتصاره ، وابحث عن أُمورهم بحث الدجاجة عن حبّ الدخن عند فقاسها (٥) ، وأنغل (٦) الحجاز ، فإنّي

__________________

(١) راجع الجزء الثاني : ص ٣٠٦. (المؤلف)

(٢) راجع ما مرّ في الجزء السابع : ص ٢٠٢ ـ ٢٠٦. (المؤلف)

(٣) أنظر الجزء الثاني : ص ٥٩ (المؤلف)

(٤) امتهنه : احتقره وابتذله. (المؤلف)

(٥) فقس الطائر بيضه : كسرها وأخرج ما فيها. (المؤلف)

(٦) نغل الأديم كفرح : فسد في الدباغ ، أنغله : أفسده. (المؤلف)

٤٥٤

مُنغل الشام ، والسلام (١).

قال الأميني : هذه شنشنة معاوية منذ بلغه أمر الإمام عليه‌السلام وانعقاد البيعة له ، فوجد نفسه عند الأُمّة في معزل عن المشورة أو اعتضاد في رأي ، وأنّ البيعة لاحقته لا محالة ، فلم يجد منتدحاً عن إقلاق الأمر على صاحب البيعة الحقّة ، وأن يستدني منه أمانيّه الخلاّبة بتعكير الصفو له عليه‌السلام ، فطفق يفسد ما اطمأن إليه من الأمصار ، ويوعز في كتبه إلى إفساد الرأي ، وتفريق الكلمة ، وهو ضالّته المنشودة.

وإن تعجب فعجب أخذه البيعة لطلحة والزبير واحداً بعد آخر وقد ثبت في أعناقهما بيعة الإمام عليه‌السلام ، وكانت هذه البيعة إبّان ثبوت بيعتهما كما ينمّ عنه نصّ كتبه إليهما ، ثم ومن هو معاوية حتى يرشّح أحداً للخلافة بعد انعقاد الإجماع لخليفة الحقّ؟ ولم يكن هو من أهل الترشيح حتى لو لم تنعقد البيعة المذكورة.

على أنّ الغبيّ لم يهتدِ إلى أنّ أخذ البيعة لهما مستلزم لنكثهما البيعة الأولى ، وما غناء إمام ناكث عن مناجح الأُمّة ومصالحها؟ مع أنّهما على تقدير صحّة البيعة يكون كلّ منهما ثاني الخليفتين الذي يجب قتله بالنصوص الصحيحة الثابتة (٢) ، فهل هناك خليفة على المسلمين يجب إعدامه؟!

مناظرات وكلم :

١ ـ قال أبو عمر في الاستيعاب (٣) كان عبد الرحمن بن غنم ـ الصحابي ـ من أفقه أهل الشام وهو الذي فقّه عامّة التابعين بالشام ، وكانت له جلالة وقدر ، وهو الذي عاتب أبا هريرة وأبا الدرداء بحمص إذ انصرفا من عند عليّ رضى الله عنه رسولين

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢٣٦ ـ ٢٣٧.

(٢) راجع ما مرّ في هذا الجزء [ص ٣٢٠]. (المؤلف)

(٣) ترجمة عبد الرحمن بن غنم الأشعري : ٢ / ٤٠٢ [الاستيعاب : القسم الثاني / ٨٥٠ رقم ١٤٤٩] ، أُسد الغابة : ٣ / ٣١٨ [٣ / ٤٧٨ رقم ٣٣٧٠]. (المؤلف)

٤٥٥

لمعاوية ، وكان ممّا قال لهما : عجباً منكما ، كيف جاز عليكما ما جئتما به ، تدعوان عليّا إلى أن يجعلها شورى ، وقد علمتما أنّه قد بايعه المهاجرون والأنصار وأهل الحجار والعراق ، وأنّ من رضيه خير ممّن كرهه ، ومن بايعه خير ممّن لم يبايعه؟ وأيّ مدخل لمعاوية في الشورى وهو من الطلقاء الذين لا تجوز لهم الخلافة؟ وهو وأبوه من رءوس الأحزاب ، فندما على مسيرهما وتابا منه بين يديه ـ رحمة الله عليهم.

٢ ـ خرج رجل من أهل الشام ـ يوم صفين ـ ينادي بين الصفّين : يا أبا الحسن يا عليّ ابرز إليّ. فخرج إليه عليّ حتى إذا اختلفت أعناق دابتيّهما بين الصفّين فقال : يا عليّ إنّ لك قدماً في الإسلام وهجرة ، فهل لك في أمر أعرضه عليك يكون فيه حقن هذه الدماء ، وتأخير هذه الحروب حتى ترى رأيك؟ فقال له عليّ «وما ذاك»؟ قال : ترجع إلى عراقك ، فنخلّي بينك وبين العراق ، ونرجع إلى شامنا فتخلّي بيننا وبين شامنا. فقال له عليّ : «لقد عرفت أنّما عرضت هذا نصيحة وشفقة ، ولقد أهمّني هذا الأمر وأسهرني ، وضربت أنفه وعينه فلم أجد إلاّ القتال أو الكفر بما أنزل الله على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، إنّ الله تبارك وتعالى لم يرضَ من أوليائه أن يُعصى في الأرض وهم سكوت مذعنون ، لا يأمرون بمعروف ، ولا ينهون عن منكر ، فوجدت القتال أهون عليّ من معالجة الأغلال في جهنّم» (١).

٣ ـ قال عتبة بن أبي سفيان لجعدة بن هبيرة : يا جعدة إنّا والله ما نزعم أنّ معاوية أحقّ بالخلافة من عليّ لو لا أمره في عثمان ، ولكنّ معاوية أحقّ بالشام ، لرضا أهلها به ، فاعفوا لنا عنها ، فو الله ما بالشام رجل به طرق إلاّ وهو أجدّ من معاوية في القتال ، ولا بالعراق من له مثل جدّ عليّ في الحرب ، ونحن أطوع لصاحبنا منكم لصاحبكم ، وما أقبح بعليّ أن يكون في قلوب المسلمين أولى الناس بالناس ، حتى إذا أصاب سلطانا أفنى العرب.

__________________

(١) كتاب صفّين لنصر بن مزاحم : ص ٥٤٢ [ص ٣٧٣] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٨٣ [٢ / ٢٠٧ خطبة ٤]. (المؤلف)

٤٥٦

فقال جعدة : أمّا فضل عليّ على معاوية فهذا ما لا يختلف فيه اثنان ، وأمّا رضاكم اليوم بالشام فقد رضيتم بها أمس فلم نقبل ، وأمّا قولك : إنّه ليس بالشام من رجل إلاّ وهو أجدّ من معاوية ، وليس بالعراق لرجل مثل جدّ عليّ ، فهكذا ينبغي أن يكون ، مضى بعليّ يقينه ، وقصّر بمعاوية شكّه ، وقصد أهل الحقّ خير من جهد أهل الباطل. الحديث.

كتاب صفّين (ص ٥٢٩ طبعة مصر) ، شرح ابن أبي الحديد (٢ / ٣٠١) (١).

٤ ـ من خطبة لعبد الله بن بديل الخزاعي يوم صفين : إنّ معاوية ادّعى ما ليس له ، ونازع الأمر أهله ، ومن ليس مثله ، وجادل بالباطل ليدحض به الحقّ ، وصال عليكم بالأعراب والأحزاب ، وزيّن لهم الضلالة ، وزرع في قلوبهم حبّ الفتنة ، ولبّس عليهم الأمر ، وزادهم رجساً إلى رجسهم.

تاريخ الطبري (٦ / ٩) ، كتاب صفّين لابن مزاحم (ص ٢٦٣) ، كامل ابن الأثير (٣ / ١٢٨) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ٤٨٣) (٢).

٥ ـ من كلمة لعبد الله أيضاً يخاطب بها أمير المؤمنين عليه‌السلام :

يا أمير المؤمنين : إنّ القوم لو كانوا الله يريدون ، أو لله يعلمون ، ما خالفونا ، ولكنّ القوم إنّما يقاتلون فراراً من الأسوة ، وحبّا للأثرة ، وضنّا بسلطانهم ، وكرهاً لفراق دنياهم التي في أيديهم ، وعلى إحن في أنفسهم ، وعداوةٍ يجدونها في صدورهم ، لوقائع أوقَعتها يا أمير المؤمنين بهم قديمة ، قتلت فيها آباءهم وإخوانهم.

ثم التفت إلى الناس فقال : فكيف يبايع معاوية عليّا وقد قتل أخاه حنظلة ،

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ٤٦٤ ، شرح نهج البلاغة : ٨ / ٩٨ الأصل ١٢٤.

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ١٦ حوادث سنة ٣٧ ه‍ ، وقعة صفّين : ص ٢٣٤ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٧٣ حوادث سنة ٣٧ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٥ / ١٨٦ الأصل ٦٥.

٤٥٧

وخاله الوليد ، وجدّه عتبة في موقف واحد؟ والله ما أظنّ أن يفعلوا (١).

٦ ـ من خطبة ليزيد بن قيس الأرحبي بصفّين : إنّ هؤلاء القوم ما إن يقاتلوننا على إقامة دين رأونا ضيّعناه ، ولا على إحياء حقّ رأونا أَمَتناه ، ولا يقاتلوننا إلاّ لهذه الدنيا ليكونوا فيها جبابرة وملوكا. إلى آخر ما مرّ في (ص ٥٩).

٧ ـ من كتاب لسعد بن أبي وقّاص إلى معاوية :

أما بعد : فإنّ أهل الشورى ليس منهم أحد أحقّ بها من صاحبه ، غير أنّ عليّا كان من السابقة ، ولم يكن فينا ما فيه ، فشاركنا في محاسننا ، ولم نشاركه في محاسنه ، وكان أحقّنا كلّنا بالخلافة ، ولكن مقادير الله تعالى التي صرفتها عنه حيث شاء لعلمه وقدره ، وقد علمنا أنّه أحقّ بها منّا ، ولكن لم يكن بدّ من الكلام في ذلك والتشاجر ، فدع ذا ، وأمّا أمرك يا معاوية فإنّه أمر كرهنا أوّله وآخره ، وأمّا طلحة والزبير فلو لزما بيعتهما لكان خيراً لهما ، والله تعالى يغفر لعائشة أمّ المؤمنين.

الإمامة والسياسة (٢) (١ / ٨٦).

٨ ـ من كتاب لمحمد بن مسلمة إلى معاوية :

ولعمري يا معاوية ما طلبت إلاّ الدنيا ، ولا اتّبعت إلاّ الهوى ، ولئن كنت نصرت عثمان ميّتاً ، لقد خذلته حيّا ، ونحن ومن قِبَلنا من المهاجرين والأنصار أولى بالصواب.

الإمامة والسياسة (٣) (١ / ٨٧).

إلى كتابات وخطابات لجمع من صلحاء السلف ، يجدها الباحث مبثوثة في فصول هذا الجزء من كتابنا.

__________________

(١) وقعة صفّين : ص ١٠٢.

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ٩٠.

(٣) الإمامة والسياسة : ١ / ٩١.

٤٥٨

قال الأميني : هذه كلمات تامّات ممّن كانوا يرون معاوية ويشهدون أعماله ، وقد عرفوا نفسيّاته ومغازيه منذ عرفوه وثنيّاً ومستسلماً حتى وقفوا عليه من كثب ، وقد تعالى به الوقت بل تسافل حتى طفق يطمع مثله في الخلافة الإسلاميّة ، وبينهما ذاك البون الشاسع ، وخلال الفضائل التي تخلّى عنها ، والملكات الرذيلة الذي حاز شية عارها والبرهنة الناصعة التي أكفأته عنها بخفّي حُنين ، وهؤلاء وإن اختلفت كلماتهم لكنّها ترمي إلى مغزى واحد من عدم كفاءة الطاغية لما يرومه من إمرة المسلمين ، أو ما يتحرّاه من حكومة الشام ، خلافة مختزلة عن الخلافة الإسلاميّة الكبرى المنعقدة لأهلها يومئذ ، أو أنّه لا يتحرّى إلاّ إمرة مغتصبة ، وما لها من مفعول أثرة وثراء ، أو أنّه منبعث عن ضغائن وإحن ممّا أصاب أهله وذويه من الإمام عليه‌السلام ، فقتّلوا تقتيلا تحت راية الأوثان ، وظهر أمر الله وهم كارهون.

ولم يكن لمعاوية وأصحابه مرمى غير الإسفاف إلى هذه الهوّات السحيقة ممّا خفي على هؤلاء الحضور ، واستكشفه من بعدهم المهملجون وراء الحزب السفياني ، الحاملون ولاء ذلك البيت الساقط ، وأنت ترى أنّه لا يُقام في سوق الدين لشيء منها أيّ قيمة ، ولا تكون لها أيّ عبرة ، فدحضاً لدعوة الباطل ، وسحقاً لشرة الاستعباد.

وكان ابن هند الجاهل بنفسه ـ والإنسان على نفسه بصيرة ـ يرى نفسه أحقّ بالخلافة من عمر ، كما جاء في ما أخرجه البخاري في صحيحه (١) ، عن عبد الله بن عمر قال : دخلتُ على حفصة ونَسْواتها تنطف (٢) ، قلت : قد كان من أمر الناس ما ترين فلم يجعل لي من الأمر شيء. فقالت : الحق فإنّهم ينتظرونك وأخشى أن يكون في احتباسك عنهم فرقة. فلم تدعه حتى ذهب.

__________________

(١) في كتاب المغازي ، باب غزوة الخندق : ٦ / ١٤١ [٤ / ١٥٠٨ ح ٣٨٨٢]. (المؤلف)

(٢) نَسْواتها : ذوائبها. تنطف : تقطر ماءً.

٤٥٩

فلمّا تفرّق الناس خطب معاوية (١) ، قال : من يريد أن يتكلّم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه ، فلنحن أحقّ به منه ومن أبيه. قال حبيب بن مسلمة : فهلا أجبته؟ قال عبد الله : فحللت حبوتي وهممت أن أقول : أحقّ بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام. فخشيت أن أقول كلمة تفرّق بين الجمع ، وتسفك الدم ، ويحمل عنّي غير ذلك ، فذكرت ما أعدّ الله في الجنان. قال حبيب : حُفظت وعُصمت.

أين كان ابن عمر عن هذه العقليّة التي حُفظ بها وعُصم يوم تقاعس عن بيعة أمير المؤمنين الإمام الحقّ بعد إجماع الأُمّة المسلمة عليها ، ولم يخش أن يقول كلمة تفرّق بين الجمع وتسفك الدم؟ ففرّق الجمع ، وشقّ عصا المسلمين ، وسُفكت دماء زكية ، والله من ورائهم حسيب.

ولم تكن الخلافة فحسب هي قصوى الغاية المتوخّاة لمعاوية ، بل ينبِئنا التاريخ : أنّه لم يك يتحاشى عن أن يعرفه الناس بالرسالة ، ويقبلونه نبيّا بعد نبيّ العظمة ، روى ابن جرير الطبري بالإسناد : أنّ عمرو بن العاص وفد إلى معاوية ومعه أهل مصر ، فقال لهم عمرو : انظروا إذا دخلتم على ابن هند فلا تسلّموا عليه بالخلافة فإنّه أعظم لكم في عينه ، وصغّروه ما استطعتم ، فلمّا قدموا عليه ، قال معاوية لحجّابه : إنّي كأنّي أعرف ابن النابغة ، وقد صغّر أمري عند القوم ، فانظروا إذا دخل الوفد فتعتعوهم أشدّ تعتعة تقدرون عليها ، فلا يبلغني رجل منهم إلاّ وقد همّته نفسه بالتلف ، فكان أوّل من دخل عليه رجل من أهل مصر يقال له : ابن الخياط. فدخل وقد تُعْتِع ، فقال : السلام عليك يا رسول الله فتتابع القوم على ذلك ، فلمّا خرجوا قال لهم عمرو : لعنكم الله ، نهيتكم أن تسلّموا عليه بالإمارة فسلّمتم عليه بالنبوّة (٢).

__________________

(١) قال ابن الجوزي : كان هذا في زمن معاوية لمّا أراد أن يجعل ابنه يزيد وليّ عهده. راجع فتح الباري : ٧ / ٣٢٣ [٧ / ٤٠٣]. (المؤلف)

(٢) راجع تاريخ الطبري : ٦ / ١٨٤ [٥ / ٣٣٠ حوادث سنة ٦٠ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٤٠ [٨ / ١٤٩ حوادث سنة ٦٠ ه‍]. (المؤلف)

٤٦٠