الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠

الحوض يوم القيامة» (١)؟

إلى مئات أو ألوف ممّا جاء في عليّ عليه‌السلام بلسان سيّد العالمين نبيّ الأُمّة صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

بلغ الطاغية من عداء سيّد العترة حدّا لا يستطيع أن يسمع اسمه عليه‌السلام ، وكان ينهى عن التسمية به ، يُروى أنّ علي بن أبي طالب عليه‌السلام افتقد عبد الله بن العباس ، فقال : ما بال أبي العباس لم يحضر؟ فقالوا : ولد له مولود. فلمّا صلّى عليّ قال : امضوا بنا إليه ، فأتاه فهنّأه فقال : «شكرت الواهب وبورك لك في الموهوب ، ما سمّيته؟» قال : أوَيجوز لي أن أسمّيه حتى تسمّيه؟ فأمر به فأُخِرج إليه ، فأخذه وحنّكه ودعا له ، ثم ردّه إليه وقال : «خذه إليك أبا الأملاك ، قد سمّيته عليّا وكنّيته أبا الحسن» ، فلمّا قام معاوية قال لابن عبّاس : ليس لكم اسمه وكنيته ، قد كنّيته أبا محمد. فجرت عليه (٢).

فكان بنو أُميّة إذا سمعوا بمولود اسمه عليّ قتلوه (٣). فكان الناس يبدّلون أسماء أولادهم. قاله زين الدين العراقي (٤).

ـ ١٧ ـ

هنات وهنابث في ميزان ابن هند

١ ـ لمّا قُتل نعيم بن صهيب بن العلية أتى ابن عمّه وسميّه نعيم بن الحارث بن العليّة معاوية ، وكان معه ، فقال : إنّ هذا القتيل ابن عمّي فهبه لي أدفنه. فقال : لا ندفنهم فليسوا أهلاً لذلك ، فو الله ما قدرنا على دفن عثمان معهم إلاّ سرّا. قال : والله لتأذننّ لي في دفنه أو لألحقنّ بهم ولأدعنّك. فقال له معاوية : ويحك ترى أشياخ

__________________

(١) الغدير : ٧ / ٢٣٨ ، ٨ / ٢٧٠ ، ١٠ / ٧٠.

(٢) كامل المبرّد : ٢ / ١٥٧ [١ / ٤٩٧]. (المؤلف)

(٣) تهذيب التهذيب : ٧ / ٣١٩ [٧ / ٢٨١]. (المؤلف)

(٤) هو عبد الرحيم بن الحسين ، أبو الفضل زين الدين المعروف بالحافظ المتوفّى سنة ٨٠٦ ه‍.

٤٠١

العرب لا نواريهم وأنت تسألني دفن ابن عمّك؟ ثم قال له : ادفنه إن شئت أو دع. فأتاه فدفنه (١).

٢ ـ لمّا قُتل عبد الله بن بديل أقبل إليه معاوية وعبد الله بن عامر حتى وقفا عليه ، فأمّا عبد الله فألقى عمامته على وجهه وترحّم عليه وكان صديقه ، فقال معاوية : اكشف عن وجهه ، فقال : لا والله لا يمثّل به وفيّ روح. فقال معاوية : اكشف عن وجهه فإنّا لا نمثّل به فقد وهبته لك (٢). وذكر النسّابة أبو جعفر البغدادي في المحبّر (ص ٤٧٩) ممّا كتبه معاوية إلى زياد بن سلمة : من كان على دين عليّ ورأيه فاقتله وامثل به. يأتي الحديث بتمامه.

٣ ـ قد كان معاوية يوم صفّين نذر في سبي نساء ربيعة ، وقتل المقاتلة ، فقال في ذلك خالد بن المعمّر :

تمنّى ابنُ حربٍ نذرةً في نسائنا

ودون الذي ينوي سيوفٌ قواضبُ

ونمنح ملكاً أنت حاولت خلعه

بني هاشم قول امرئ غير كاذبِ (٣)

٤ ـ ذكر الباوردي : أنّ عمير بن قرّة الليثي الصحابي ممّن شهد صفّين من الصحابة ، وكان شديداً على معاوية وأهل الشام ، حتى حلف معاوية لئن ظفر به ليذيبنّ الرصاص في أُذنيه (٤).

هذه هنات موبقة ، ومحظورات مسلّمة ، من بوائق ابن هند الكثيرة ، قد ارتكبها أو صمّم أن يقترفها في صفّين ، فهل من الدين الحنيف منعه عن دفن من قتل تحت

__________________

(١) كتاب صفّين لابن مزاحم : ص ٢٩٣ طبعة مصر [ص ٢٥٩] ، تاريخ الطبري : ٦ / ١٤ [٥ / ٢٦ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٤٨٩ [٥ / ٢٠٧ خطبة ٦٥]. (المؤلف)

(٢) كتاب صفّين : ص ٢٧٧ طبعة مصر [ص ٢٤٦] ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ١ / ٤٨٦ [٥ / ١٩٧ خطبة ٦٥]. (المؤلف)

(٣) كتاب صفين : ص ٢٣١ طبعة مصر [ص ٢٩٤]. (المؤلف)

(٤) الإصابة لابن حجر : ٣ / ٣٥ [رقم ٦٠٥٢]. (المؤلف)

٤٠٢

راية الحقّ مع أمير المؤمنين عليه‌السلام مع وجوب الإسراع في دفن كلّ مؤمن؟ فهل كان أُولئك الصلحاء من الصحابة الأوّلين والتابعين لهم بإحسان عند معاوية خارجين عن الدين؟ أو أنّه كان يتّبع فيهم هواه المردي ، ويشفي بذلك غيظه منهم على نصرتهم الحقّ ، وكم عند معاوية من مخازي أمثال هذه تقع عن الدين المبين بمعزل!

أفهل تسوغ مُثلة المسلم المخالف هواه هوى ابن آكلة الأكباد؟ والمثلة محرّمة حتى بالحيوان ، حتى بالكلب العقور (١) ، فكيف بصلحاء المؤمنين وقد لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مثّل بالحيوان (٢)؟

وقد جاء حديث النهي عن المثلة من طريق عليّ أمير المؤمنين ، وأنس ، وابن عمر ، وعبد الله بن يزيد الأنصاري ، وسمرة بن جندب ، وزيد بن خالد ، وعمران بن حصين ، ومغيرة بن شعبة ، والحكم بن عمير ، وعائذ بن قرط ، وأبي أيّوب الأنصاري ، ويحيى بن أبي كثير ، وأسماء بنت أبي بكر.

وأحاديثهم مبثوثة في صحيحي البخاري ومسلم ، وسنن أبي داود ، والسنن الكبرى للبيهقي ، ومسند أحمد ، ومعجم الطبراني. راجع نصب الراية للزيلعي (٣ / ١١٨ ـ ١٢١).

فما المسوّغ عندئذٍ لابن هند المثلة بمن كان على دين عليّ ورأيه ، ودينه هو دين محمد الذي جاء بالإسلام المقدّس؟

وهل ينعقد نذر المعصية بسبي نساء ربيعة المسلمات إن تغلّب عليهم لولاء بعولتهنّ عليّا أمير المؤمنين؟ وهو محرّم في شرع الإسلام ، ولا ينعقد النذر إلاّ في

__________________

(١) أخرجه الطبراني [في المعجم الكبير : ١ / ١٠٠ ح ١٦٨] من طريق عليٍّ أمير المؤمنين ، وذكره الزيلعي في نصب الراية : ٣ / ١٢٠ ، والسرخسي في شرح السير الكبير : ١ / ٧٨. (المؤلف)

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه [٥ / ٢١٠٠ ح ٥١٩٦] باب ما يكره من المثلة من طريق ابن عمر. (المؤلف)

٤٠٣

طاعة ، ولا أقلّ من الرجحان في متعلّق النذر ، كما مرّ بيانه في الجزء الثامن (١) (ص ٧٩ الطبعة الأولى) ، فبأيّ كتاب أم بأيّة سنّة يسوغ هذا النذر لصاحبه إن كان من أهلهما ، ويسع له أن يقول : لله عليّ كذا؟

وهل يجوز في شرع الإسلام اليمين بإذابة الرصاص في أُذن مسلم صحابيّ عادل لا يتبع أهواء معاوية ، ولا يُخبت إلى ضلالاته؟ وهل كان يحلف الرجل بإله محمد وعليّ صلوات الله عليهما وآلهما وهما وربّهما برآء عن مثل هذا الحلف وصاحبه؟ أو كان يقصد إله آبائه دعائم الشرك وعبدة هبل ، حملة الأوزار المستوجبين النار؟

(وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢)

ـ ١٨ ـ

قذائف موبقة في صحائف ابن آكلة الأكباد

هاهنا في أيّ كفّة تجد معاوية وأعماله الشاذّة عن الإسلام؟ فهل تراه أثقل ميزانه بالصالحات؟ أو أنّه خفّفها بكلّ موبقة مهلكة؟ وأنّه كان يطفّفها ويخفّف المكيال كيفما وزن وكال ، وليت ابن هند أدلى بما عنده من الشبه في هذه القضيّة ـ قتاله عليّا عليه‌السلام ـ لنمعن النظر فيها إمعان استشفاف لما وراءها ، لكنّه فات المخذول أن يدلي بشيء من ذلك لا تعارضه البرهنة ، ولا يفنّده المنطق غير أمرين أراد بهما تلويثاً لساحة قدس الإمام ، وإن كان هو كشف عن عورته ساعة عرف الناس كذبه في الأمرين جميعاً.

الأوّل : نسبة الإلحاد إليه ـ سلام الله عليه ـ وأنّه لا يصلّي ، هذا وقد وضح الإسلام بسيفه ، وقامت الصلاة بأيده ، يموّه بذلك على الرعرعة الدهماء من الشاميّين.

قال الجاحظ : إنّ معاوية كان يقول في آخر خطبته : اللهمّ إنّ أبا تراب ، ألحد

__________________

(١) ص : ١١٥ ، ١١٦ من هذه الطبعة.

(٢) الشعراء : ٢٢٧.

٤٠٤

في دينك ، وصدّ عن سبيلك ، فالعنه لعناً وبيلا ، وعذّبه عذاباً أليما. وكتب بذلك إلى الآفاق ، فكانت هذه الكلمات يُشاد بها على المنابر إلى أيّام عمر بن عبد العزيز (١).

وأخرج ابن مزاحم أنّ يوم صفّين برز شاب من عسكر معاوية يقول :

أنا ابنُ أربابِ الملوكِ غسّانْ

والدائنُ اليوم بدين عثمانْ

أنبأنا أقوامُنا بما كانْ

أنَّ عليّا قتل ابنَ عفّانْ

ثم شدّ فلا ينثني يضرب بسيفه ، ثم جعل يلعن عليّا ويشتمه ويسهب في ذمّه ، فقال له هاشم المرقال : إنّ هذا الكلام بعده الخصام ، وإنّ هذا القتال بعده الحساب ، فاتّق الله فإنّك راجع إلى ربّك فسائلك عن هذا الموقف وما أردت به ، قال : فإنّي أقاتلكم لأنّ صاحبكم لا يصلّي كما ذُكر لي ، وأنّكم لا تصلّون ، وأُقاتلكم أنّ صاحبكم قتل خليفتنا وأنتم وازرتموه على قتله.

فقال له هاشم : وما أنت وابن عفّان؟ إنّما قتله أصحاب محمد وقرّاء الناس ، حين أحدث أحداثاً وخالف حكم الكتاب ، وأصحاب محمد هم أصحاب الدين ، وأولى بالنظر في أمور المسلمين. وما أظنّ أنّ أمر هذه الأمّة ولا أمر هذا الدين عناك طرفة عين قطّ. قال الفتى : أجلْ أجَلْ ، والله لا أكذب فإنّ الكذب يضرّ ولا ينفع ، ويشين ولا يزين. فقال له هاشم : إنّ هذا الأمر لا علم لك به ، فخلّه وأهل العلم به. قال : أظنّك والله قد نصحتني.

وقال له هاشم : وأمّا قولك : إنّ صاحبنا لا يصلّي ، فهو أوّل من صلّى مع رسول الله ، وأفقهه في دين الله ، وأولاه برسول الله ، وأمّا من ترى معه ، فكلّهم قارئ الكتاب ، لا ينامون الليل تهجّدا ، فلا يغررك عن دينك الأشقياء المغرورون. قال الفتى : يا عبد الله إنّي لأظنّك امرأً صالحاً ، وأظنّني مخطئاً آثماً ، أخبرني : هل تجد لي من

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في الجزء الثاني : ص ١٠٢. (المؤلف)

٤٠٥

توبة؟ قال : نعم ، تب إلى الله يتب عليك ، فإنّه يقبل التوبة عن عباده ، ويعفو عن السيّئات ، ويحبّ التوّابين ، ويحبّ المتطهّرين. قال : فذهب الفتى بين الناس راجعاً. فقال له رجل من أهل الشام : خدعك العراقيّ. قال : لا ، ولكن نصحني العراقيّ (١).

كان المخذول يشوّه سمعة الإمام الطيّبة بتلكم القذائف الشائنة طيلة حياته ، ولمّا استشهد ـ سلام الله عليه ـ لم يرفع اليد عن غيّه وبغيه ، فجاء يُري الأُمّة الغوغاء أنّ ما كان من عدائه المحتدم للإمام عليه‌السلام إنّما كان عن أساس دينيّ لله وفيه ، فكتب إلى عمّاله :

سلام عليكم ، فإنّي أحمد إليكم الله الذي لا إله إلاّ هو ، أما بعد : فالحمد لله الذي كفاكم مؤنة عدوّكم ، وقتلة خليفتكم ، إنّ الله بلطفه وحُسن صنعه أتاح لعليّ بن أبي طالب رجلاً من عباده فاغتاله فقتله ، فترك أصحابه متفرّقين مختلفين ، وقد جاءتنا كتب أشرافهم وقادتهم يلتمسون الأمان لأنفسهم وعشائرهم ، فأقبلوا إليّ حين يأتيكم كتابي هذا بجهدكم وجندكم ، وحسن عدّتكم ، فقد أصبتم بحمد الله الثأر ، وبلغتم الأمل ، وأهلك الله أهل البغي والعدوان (٢). ولمّا دخل ابن عبّاس على معاوية بعد مقتل أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : الحمد لله الذي أمات عليّا (٣).

ما أغلف قلب هذا الرجل الذي يحسب أنّ عبد الرحمن بن ملجم من عباد الله وقد قيّضه المولى سبحانه للنيل من إمام الهدى! ويعدّ ذلك من لطفه وحسن صنعه ، وابن ملجم هو ذلك الشقيّ المهتوك الخارجيّ الجاني على الأُمّة جمعاء بقتل سيّدها نفس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وآتيها بخسارة الأبد ، وهو أشقى الآخرين في لسان النبيّ الكريم ،

__________________

(١) كتاب صفّين لابن مزاحم : ص ٤٠٢ [ص ٣٥٤] ، تاريخ الطبري : ٦ / ٢٤ [٥ / ٤٣ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٣٥ [٢ / ٣٨٤ حوادث سنة ٣٧ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ٢ / ٢٧٨ [٨ / ٣٥ ـ ٣٦ خطبة ١٢٤]. (المؤلف)

(٢) مقاتل الطالبيين : ص ٢٤ [ص ٦٩] ، شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ١٣ [١٦ / ٣٧ وصية ٣١] ، جمهرة رسائل العرب : ٢ / ١٣. (المؤلف)

(٣) تاريخ البداية والنهاية لابن كثير : ج ٨. (المؤلف)

٤٠٦

أو أشقى الأُمّة في حديثه الآخر ، وأشدّ الناس عذاباً يوم القيامة ، وعاد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه «أشقى» كلقب يُعرف به أشقى مراد ، حيث إنّه اطّرد ذكره به في موارد كثيرة من الحديث والتاريخ (١).

وليت شعري أيّ إله يحمده معاوية في موت عليّ أمير المؤمنين؟ أِلإلهٍ جعل مودّة عليّ أجر الرسالة في محكم الذكر الحكيم؟ ألإلهٍ اتّخذ عليّا نفساً لنبيّه في قصّة المباهلة؟

ألإلهٍ أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بتبليغ ولاية علي عليه‌السلام وأنّه إن لم يفعل فما بلّغ رسالته؟

ألإلهٍ يرى بولاية علي عليه‌السلام إكمال الدين ، وإتمام النعمة ، ورضاه سبحانه؟

ألإلهٍ أوحى لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ ثلاثاً : إنّه سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجلّين؟

ألإلهٍ عهد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ أنّه راية الهدى ، ومنار الإيمان ، وإمام أوليائي ، ونور من أطاعني؟

ألإلهٍ كان عليّ أحبّ خلقه إليه بعد نبيّه ، كما جاء في حديث الطير؟

ألإلهٍ كان يحبّ عليّا وعليّ يحبّه في حديث خيبر؟

ألإلهٍ اختار عليّا وصيّاً لنبيّه بعد ما اختاره نبيّا ، فهو أحد الخيرتين من البشر ، كما جاء في النصّ النبويّ؟

ألإلهٍ دعاه صاحب الرسالة الخاتمة حينما قال في مائة ألف أو يزيدون : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ وال من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله».

__________________

(١) راجع الجزء الأوّل من كتابنا : ص ٣٢٤ ، ٣٢٥. (المؤلف)

٤٠٧

أيسوغ مثل هذا الحمد والثناء لمن يؤمن بالله واليوم الآخر ، وصدّق نبيّ الإسلام وما جاء به؟ أم هل يتصوّر توجيهه إلى ربّ محمد وعليّ؟ وقد تمّت بهما كلمة الله صدقاً وعدلاً ، وقامت بهما دعائم الدين الحنيف ، وبسعيهما أدركت الأُمّة المرحومة سعادة الأبد.

نعم ، له مسرح إن وجّه إلى هبل إله آباء معاوية وإلهه إلى أُخريات أيّام النبوّة إن لم نقل إلى آخر نفس لفظه معاوية ، وقد كان مرتكزاً في أعماق قلبه ، ومزيج نفسه طيلة ما لهج بأمثال هذه الأقاويل المخزية.

ثم أيّ مسلم يبلغ أمله عند قتل إمام الحقّ ، ووأد خطّة الهدى ، إلاّ من ارتطم في الضلالة ، وسبح في الإلحادسبحاً طويلاً؟

وأمّا قوله : وأهلك الله أهل البغي والعدوان. فانظر واقرأ قول العزيز الحكيم : (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) (١) يلهج بهذه الكلمة كأنّه بمجلب عن البغي والعدوان ـ وهو ولفيفه هم الفئة الباغية بنصّ النبيّ الأعظم ـ وهو يندّد بمن يحسب أنّه تردّى بهما. نعم ؛ حنّ قدح ليس منها. هل الباغي هو من خرج على إمام زمانه يناضله وينازله؟ أو أنّ إمام الوقت ـ المعصوم بنصّ الكتاب ـ هو الباغي؟ والعياذ بالله ، وإن كان القوم أعداءه وهو عدوّ لهم فهم أعداء الله وأعداء رسوله بغير واحد من النصوص النبويّة ، وقد شملتهم دعوة صاحب الرسالة المتواترة : «وعادِ من عاداه ، واخذل من خذله».

نظرة فيما تشبّث به معاوية في قتال علي عليه‌السلام :

الثاني من الأمرين اللذين تشبّث بهما ابن آكلة الأكباد في تثبيط الملأ عن نصرة الإمام عليه‌السلام وتأليبهم على قتاله : أنّ عنده ثأر عثمان وعليه ترته ، وللحاكم في هذه

__________________

(١) الكهف : ٥.

٤٠٨

القضية أن ينظر :

أوّلاً : إلى أنّ معاوية نفسه لم يشهد وقعة عثمان حتى يبصر المباشر لقتله ، وإنّما تثبّط عن نصرته ، بل كان يحبّذ قتله طمعاً في أن ينال الملك (١) بعده بحججه التافهة.

وثانياً : إلى أنّ أمير المؤمنين ـ سلام الله عليه ـ كان غائباً عن المدينة المنوّرة عند وقوع الواقعة (٢) ، فكيف تصحّ مباشرته لقتل أو قتال؟! أو كان ساكناً في عقر داره بالمدينة لا له ولا عليه.

وثالثاً : إلى شهادات الزور المتولّدة من دسائس ابن حرب ترمي أبرأ الناس من ذلك الدم المراق ، بإيعاز من ابن النابغة ، ذلك العامل الوحيد في قتل عثمان ، وقد سمعت عقيرته أذن الدنيا : أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادي السباع (٣).

قال الجرجاني : لمّا بات عمرو عند معاوية وأصبح ، أعطاه مصر طعمة له ، وكتب له بها كتاباً وقال : ما ترى؟ قال : امض الرأي الأوّل. فبعث مالك بن هبيرة الكندي في طلب محمد بن أبي حذيفة ، فأدركه فقتله ، وبعث إلى قيصر بالهدايا فوادعه. ثم قال : ما ترى في عليّ؟ قال : أرى فيه خيراً ، أتاك في هذه البيعة خير أهل العراق ، ومن عند خير الناس في أنفس الناس ، ودعواك أهل الشام إلى ردّ هذه البيعة خطر شديد ، ورأس أهل الشام شرُحبيل بن السمط الكندي ، وهو عدوّ لجرير المرسل إليك ، فأرسل إليه ووطّن له ثقاتك فليُفشوا في الناس : أنّ عليّا قتل عثمان ، وليكونوا أهل الرضا عند شُرحبيل ، فإنّها كلمة جامعة لك أهل الشام على ما تحبّ ، وإن تعلّقت بقلب شُرحبيل لم تخرج منه بشيء أبدا.

فكتب إلى شرحبيل : إنّ جرير بن عبد الله قدم علينا من عند عليّ بن أبي

__________________

(١) راجع ما أسلفناه في الجزء التاسع : ص ١٤٩ ـ ١٥٢. (المؤلف)

(٢) مرّ حديثه في الجزء التاسع : ص ٢٤٣. (المؤلف)

(٣) أنظر ما فصّلناه في الجزء التاسع : ص ١٣٦ ـ ١٣٨. (المؤلف)

٤٠٩

طالب بأمر فظيع (١) ، فاقدم. ودعا معاوية : يزيد بن أسد ، وبُسر بن أرطاة ، وعمرو بن سفيان ، ومخارق بن الحارث ، وحمزة بن مالك ، وحابس بن سعد الطائي ، وهؤلاء رءوس قحطان واليمن ، وكانوا ثقات معاوية وخاصّته ، وبني عمّ شرحبيل بن السمط ، فأمرهم أن يلقوه ويُخبروه : أنّ عليّا قتل عثمان. فلمّا قدم كتاب معاوية على شُرحبيل وهو بحمص ، استشار أهل اليمن ، فاختلفوا عليه ، فقام إليه عبد الرحمن بن غنم الأزدي وهو صاحب معاذ بن جبل وخَتَنِه ، وكان أفقه أهل الشام ، فقال : يا شُرحبيل إنّ الله لم يزل يزيدك خيراً مذ هاجرت إلى اليوم ، وإنّه لا ينقطع المزيد من الله حتى ينقطع الشكر من الناس ، ولا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم ، إنّه قد ألقي إلينا قتل عثمان ، وأنّ عليّا قتل عثمان (٢) ، فإن يك قتله فقد بايعه المهاجرون والأنصار ، وهم الحكّام على الناس ، وإن لم يكن قتله فعلام تصدّق معاوية عليه؟ لا تهتك (٣) نفسك وقومك ، فإن كرهت أن يذهب بحظّها جرير ، فسر إلى عليّ فبايعه على شامك وقومك ، فأبى شُرحبيل إلاّ أن يسير إلى معاوية ، فبعث إليه عياض الثمالي وكان ناسكاً :

يا شُرحُ يا بن السمط إنّك بالغٌ

بودِّ عليٍّ ما تريد من الأمرِ

ويا شُرحُ إنَّ الشام شأمك ما بها

سواك فدع قول المضلّل من فهرِ

فإنَّ ابن حربٍ ناصبٌ لك خدعةً

تكون علينا مثل راغية البكرِ (٤)

فإن نال ما يرجو بنا كان ملكنا

هنيئاً له ، والحرب قاصمة الظهرِ

__________________

(١) في شرح النهج : بأمر مفظع.

(٢) في شرح ابن أبي الحديد [٢ / ٧١ خطبة ٢٦] : إنّه قد أُلقي إلى معاوية أنّ عليّا قتل عثمان ، ولهذا يريدك. (المؤلف)

(٣) في وقعة صفّين : لا تهلك.

(٤) الراغية : الرغاء ، البكر : ولد الناقة. مثل يضرب في التشاؤم. أنظر ثمار القلوب : ص ٢٨٢ [ص ٣٥٢ رقم ٥٣٨]. (المؤلف)

٤١٠

فلا تبِغيَنْ حرب العراق فإنّها

تحرّم أطهار النساء من الذعرِ

وإنَّ عليّا خير من وطئ الحصى

من الهاشميّين المداريك للوترِ

له في رقاب الناس عهد وذمّةٌ

كعهد أبي حفصٍ وعهد أبي بكرِ

فبايع ولا ترجع على العقب كافراً

أُعيذك بالله العزيز من الكفرِ

ولا تسمعن قول الطغام فإنّما

يريدون أن يُلقوك في لجّة البحرِ

وما ذا عليهم أن تطاعن دونهم

عليّا بأطراف المثقّفة السمرِ

فإن غَلبوا كانوا علينا أئمّةً

وكنّا بحمد الله من ولد الظهرِ (١)

وإن غُلبوا لم يصلَ بالحرب غيرُنا

وكان عليٌّ حربَنا آخرَ الدهرِ

يهون على عُليا لؤيّ بن غالبٍ

دماءُ بني قحطان في ملكهم تجري

فدع عنك عثمانَ بنَ عفّانَ إنّنا

لك الخيرُ ، لا ندري وإنّك لا تدري

على أيِّ حالٍ كان مصرعُ جنبِه

فلا تسمعن قول الأُعيور أو عمرِو

قال : لمّا قدم شُرحبيل على معاوية تلقّاه الناس فأعظموه ، ودخل على معاوية ، فتكلّم معاوية ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : يا شُرحبيل إنّ جرير بن عبد الله يدعونا إلى بيعة عليّ ، وعليّ خير الناس (٢) لو لا أنّه قتل عثمان بن عفّان ، وقد حبست نفسي عليك ، وإنّما أنا رجل من أهل الشام ، أرضى ما رضوا ، وأكره ما كرهوا. فقال شُرحبيل : أخرج فأنظر. فخرج فلقيه هؤلاء النفر الموطّؤون له ، فكلّهم يخبره بأنّ عليّا قتل عثمان بن عفّان. فخرج مغضباً إلى معاوية ، فقال : يا معاوية أبى الناس إلاّ أنّ عليّا قتل عثمان ، وو الله لئن بايعت له لنخرجنّك من الشام أو لنقتلنّك. قال معاوية : ما كنت لأُخالف عليكم ، وما أنا إلاّ رجل من أهل الشام. قال : فردّ هذا الرجل إلى صاحبه إذاً. قال : فعرف معاوية أنّ شُرحبيل قد نفذت بصيرته في حرب

__________________

(١) يقال : فلان من ولد الظهر ، بالفتح. أي ليس منّا. وقيل : معناه أنّه لا يلتفت إليه. (المؤلف)

(٢) هل تجتمع كلمة الرجل هذه مع سبابه المقذع عليّا وقوارصه التي أوعزنا إليها؟ هذا هو النفاق ، وهكذا يكون المنافق ذا لسانين ووجهين. (المؤلف)

٤١١

أهل العراق ، وأنّ الشام كلّه مع شُرحبيل.

فخرج شُرحبيل فأتى حصين بن نمير ، فقال : ابعث إلى جرير فليأتنا ، فبعث إليه حصين : أن زرنا ، فإنّ عندنا شُرحبيل بن السمط ، فاجتمعا عنده ، فتكلّم شُرحبيل ، فقال : يا جرير أتيتنا بأمر ملفّف (١) لتُلقينا في لهوات الأسد ، وأردت أن تخلط الشام بالعراق ، وأطرأت عليّا وهو قاتل عثمان ، والله سائلك عمّا قلت يوم القيامة. فأقبل عليه جرير فقال : يا شُرحبيل أمّا قولك : إنّي جئت بأمر ملفّف. فكيف يكون أمراً ملفّفاً وقد اجتمع عليه المهاجرون والأنصار ، وقوتل على ردّه طلحة والزبير؟! وأمّا قولك : إنّي ألقيتك في لهوات الأسد ، ففي لهواتها ألقيت نفسك ، وأمّا خلط العراق بالشام ، فخلطُهما على حقّ خيرٌ من فرقتهما على باطل. وأمّا قولك : إنّ عليّا قتل عثمان ، فو الله ما في يديك من ذلك إلاّ القذف بالغيب من مكان بعيد ، ولكنّك ملت إلى الدنيا ، وشيء كان في نفسك على زمن سعد بن أبي وقّاص (٢).

فبلغ معاوية قول الرجلين ، فبعث إلى جرير فزجره ولم يدر ما أجابه أهل الشام ، وكتب جرير إلى شرحبيل :

شُرحبيل يا بن السمطِ لا تتبعِ الهوى

فمالك في الدنيا من الدين من بَدلْ

وقل لابن حربٍ مالك اليوم حرمةٌ

تروم بها ما رمتَ فاقطع له الأملْ

شُرحبيلُ إنّ الحقّ قد جدَّ جِدّه

وإنّك مأمونُ الأديم من النغَلْ

فأرِودْ (٣) ولا تفرط بشيء نخافه

عليك ولا تعجل فلا خير في العجَلْ

ولا تك كالمجري إلى شرِّ غايةٍ

فقد خُرق السربال واستنوَق الجملْ

وقال ابن هند في عليٍّ عضيهةً

ولله في صدر ابن أبي طالب أجلْ

__________________

(١) في شرح ابن أبي الحديد : ملفق [وفي الطبعة المحققة والمعتمدة ٣ / ٨٠ : ملفّف] ج. (المؤلف)

(٢) أنظر تفاصيل القصة في الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٦٠ حوادث سنة ٣٦ ه‍.

(٣) أَرود : تمهّل.

٤١٢

وما لعليٍّ في ابن عفّان سقطةٌ

بأمرٍ ولا جلبٍ عليه ولا قتلْ (١)

وما كان إلاّ لازماً قعرَ بيتهِ

إلى أن أتى عثمانَ في بيته الأجلْ

فمن قال قولاً غيرَ هذا فحسبُه

من الزورِ والبهتانِ قولُ الذي احتملْ

وصيّ رسول الله من دون أهله

فوارسه الأولى به يُضرب المثلْ (٢)

فلمّا قرأ شُرحبيل الكتاب ذعر وفكّر ، وقال : هذه نصيحة لي في ديني ودنياي. ولا والله لا أعجل في هذا الأمر بشيء وفي نفسي منه حاجة. فاستتر له القوم ، ولفّف له معاوية الرجال يدخلون إليه ويخرجون ، ويُعظّمون عنده قتل عثمان ويرمون به عليّا ، ويقيمون الشهادة الباطلة والكتب المختلقة ، حتى أعادوا رأيه وشحذوا عزمه ، وبلغ ذلك قومه ، فبعث ابن أُخت له من بارق ـ وكان يرى رأي عليّ بن أبي طالب فبايعه بعد ، وكان ممّن لحق من أهل الشام وكان ناسكاً ـ فقال :

لعمر أبي الأشقى ابن هند لقد رمى

شُرحبيل بالسهمِ الذي هو قاتلُه

ولفّف قوماً يسحبون ذيولَهم

جميعاً وأولى الناسِ بالذنب فاعلُه

فألفى يمانيّا ضعيفاً نخاعُه

إلى كلّ ما يهوون تُحدى رواحلهُ

فطاطا لها لمّا رموْهُ بثقلِها

ولا يُرزَقُ التقوى من اللهِ خاذلُه

ليأكل دنياً لابنِ هندٍ بدينِهِ

ألا وابنُ هندٍ قبلَ ذلك آكلُه

وقالوا عليّ في ابن عفّان خدعةً

ودبَّت إليه بالشنان غوائلُه

ولا والذي أرسى ثبيراً مكانه

لقد كُفَّ عنه كفّه ووسائلُه

وما كان إلاّ من صحاب محمدٍ

وكلّهمُ تغلي عليه مراجلُه

فلمّا بلغ شُرحبيل هذا القول قال : هذا بَعيث الشيطان ، الآن امتحن الله قلبي ،

__________________

(١) في شرح ابن أبي الحديد [٣ / ٨١ خطبة ٤٣] : يقول ولا مالا عليه ولا قتل. الممالأة : المساعدة. (المؤلف)

(٢) في شرح ابن أبي الحديد [٣ / ٨١ خطبة ٤٣] : ومن باسمه في فضله يضرب المثل. (المؤلف)

٤١٣

والله لأسيّرنَّ صاحب هذا الشعر أو ليفوتنّني ، فهرب الفتى إلى الكوفة ، وكاد أهل الشام أن يرتابوا.

وبعث معاوية إلى شُرحبيل بن السمط فقال : إنّه كان من إجابتك الحقّ ، وما وقع فيه أجرك على الله ، وقبله عنك صلحاء الناس ما علمت ، وإنّ هذا الأمر الذي قد عرفته لا يتمّ إلاّ برضا العامّة ، فسر في مدائن الشام ، ونادِ فيهم : بأنّ عليّا قتل عثمان ، وأنّه يجب على المسلمين أن يطلبوا بدمه ، فسار فبدأ بأهل حمص فقام خطيباً ، فقال : يا أيّها الناس إنّ عليّا قتل عثمان بن عفّان ، وقد غضب له قوم فقتلهم ، وهزم الجميع وغلب على الأرض ، فلم يبق إلاّ الشام ، وهو واضع سيفه على عاتقه ، ثم خائض به غمار الموت حتى يأتيكم أو يحدث الله أمراً ، ولا نجد أحداً أقوى على قتاله من معاوية ، فجدّوا وانهضوا ، فأجابه الناس إلاّ نسّاك أهل حمص ، فإنّهم قاموا إليه فقالوا : بيوتنا قبورنا ومساجدنا ، وأنت أعلم بما ترى ، وجعل شرحبيل يستنهض مدائن الشام حتى استفرغها ، لا يأتي على قوم إلاّ قبلوا ما أتاهم به ، فبعث إليه النجاشي بن الحارث (١) وكان صديقاً له :

شُرَحْبيلُ ما للدين فارقتَ أمرنا

ولكن لبغض المالكيّ جريرِ

وشحناء دبّت بين سعدٍ وبينه

فأصبحتَ كالحادي بغير بعيرِ

وما أنت إذ كانت بجيلة عاتبت

قريشاً فيا لله بعدَ نصيرِ

أتفصل أمراً غبت عنه بشبهةٍ

وقد حار فيها عقلُ كلّ بصيرِ

بقول رجالٍ لم يكونوا أئمّةً

ولا للتي لقَّوكها بحضورِ

وما قول قومٍ غائبين تقاذفوا

من الغيب ما دلاّهمُ بغرورِ

وتترك أنّ الناس أَعطَوا عهودَهم

عليّا على أُنسٍ به وسرورِ

__________________

(١) كذا في وقعة صفّين ، والمعروف أنه النجاشي من بني الحارث بن كعب ، واسمه قيس بن عمرو ، مرّت ترجمته في هامش ص ١٢٥ من الجزء الثاني من الغدير.

٤١٤

إذا قيل : هاتوا واحداً يُقتدى به (١)

نظيراً له لم يفصحوا بنظيرِ

لعلّك أن تشقى الغداة بحربِه

شُرحبيل ما ما جئته بصغيرِ (٢)

راجع (٣) : كتاب صفّين لنصر بن مزاحم (٤٩ ـ ٥٧) ، الاستيعاب ترجمة شُرحبيل (١ / ٥٨٩) أُسد الغابة (٢ / ٣٩٢) ، الكامل لابن الأثير (٣ / ١١٩) ، شرح ابن أبي الحديد (١ / ١٣٩ ، ٢٤٩ ، ٢٥٠).

فبهذه الصورة البشعة من الشهادات المزوّرة والكتب المختلقة تمّت بيعة معاوية لقتال عليّ أمير المؤمنين.

ورابعاً : إلى أنّ عثمان قتله رجال مجتهدون من المهاجرين والأنصار ، ووجوه أصحاب محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم العدول ، بعد إقامة الحجّة عليه ، وإثبات شذوذه عن الكتاب والسنّة ، وإهدار دمه بحكم الكتاب (٤) ، فليس على القوم قَود ولا قصاص ، ولم يك مولانا أمير المؤمنين إلاّ رجلاً من المهاجرين ، أورد كما أوردوا ، وأصدر كما أصدروا ، وما كان الله ليجمعهم على ضلال ، ولا ليضربهم بالعمى.

وقد كتب بهذا أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى معاوية (٥) ، وجاء الحجاج به في كلمات غير واحد من الصحابة ، مثل قول الصحابيّ العظيم هاشم المرقال المذكور (٩ / ١٢١) وفي هذا الجزء (ص ٢٩٠) ، وقول عمّار بن ياسر الممدوح بالكتاب والسنّة ، الذي أسلفناه في (٩ / ١١٠) ، وقول أبي الطفيل الشيخ الصحابيّ الكبير الآنف في (٩ / ١٣٩) ،

__________________

(١) كذا في شرح النهج ، وفي وقعة صفّين : تقتدونه.

(٢) في شرح ابن أبي الحديد [٣ / ٨٣ خطبة ٤٣] : فليس الذي قد جئته بصغير. (المؤلف)

(٣) وقعة صفّين : ص ٤٤ ـ ٥١ ، الاستيعاب : القسم الثاني / ٧٠٠ رقم ١١٦٨ ، أُسد الغابة : ٢ / ٥١٤ ، رقم ٢٤١٠ ، الكامل في التاريخ : ٢ / ٣٦٠ حوادث سنة ٣٦ ه‍ ، شرح نهج البلاغة : ٢ / ٧١ ـ ٧٣ خطبة ٢٦ و ٣ / ٧٩ ـ ٨٣ خطبة ٤٣.

(٤) راجع ما مرّ في الجزء التاسع : ١٦٨ ـ ٢٠٨. (المؤلف)

(٥) راجع ما أسلفناه في : ٩ / ١٥٧ ـ ١٦٢. (المؤلف)

٤١٥

وقول عبد الرحمن بن عثمان السابق في (٩ / ١٥٨) ، فما ذنب عليّ عليه‌السلام إن آواهم ، ونصرهم وأيّدهم ، ودفع عنهم عادية الباغين.

وخامساً : إلى أنّ الذين كانوا في جيش أمير المؤمنين عليه‌السلام أو الذين تحكّمت بينه وبينهم آصرة المودّة لم يكونوا كلّهم قتلة عثمان ، ولا باشروا شيئاً من أمره ، ولم يكن لأكثرهم في الأمر وردٌ ولا صدر ، وإنّما كان فيهم من أولئك الصحابة العدول أناس معلومون أووا إلى إمام الحقّ ، فبأيّ حجّة شرعيّة كان ابن صخر يستبيح قتل الجميع ، واستقرأهم في البلاد بعد مقتل مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام وقبله ، فقتّلهم تقتيلاً؟!

وسادساً : إلى أنّ معاوية لم يكن وليّ دم عثمان وإنّما أولياؤه ولده ، وإن كان لهم حقّ القصاص فعجزوا عن طلبه ، فعليهم رفع الأمر إلى خليفة الوقت وهو مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام لينظر في أمرهم ، ويحكم بحكم الله الباتّ ، وهو أقضى الأُمّة بنصّ الرسول الأمين.

نعم ؛ كانت لمعاوية ترات (١) عند أمير المؤمنين عليه‌السلام بأخيه حنظلة بن أبي سفيان ، وجدّه لأُمّه عتبة بن ربيعة ، وخاله الوليد بن عتبة بن ربيعة ، وأبناء عمّه العاص بن سعيد بن العاص بن أُميّة ، وعقبة بن أبي مُعيط بن أبي عمرو بن أميّة. لكنّه لم ينبس عنهم ببنت شفة لأنّها ما كانت تنطلي على المسلمين ، فإنّهم وثنيّون مشركون حاربوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فذاقوا وبال أمرهم ، وإنّما تترّس بدم عثمان بضرب من السيرة الجاهليّة من صحّة قيام أيّ فردٍ منِ أفراد العشيرة بدم أيّ مقتول منها وإن بعدت بينهم الرحم والقرابة ، وهذه السيرة غير المشروعة كان يرنّ صداها في مسامع أهل الشام البعداء من مبادئ الدين وطقوسه ، ومن ثم استهواهم معاوية ، واستحوذ عليهم بذلك التدجيل ، ولم تكن تلك الحرب الزبون إلاّ أنّها إحن

__________________

(١) جمع ترة ، وهي الثأر.

٤١٦

بدريّة ، وأحقاد جاهليّة ، وضغائن أُحديّة ، وثب بها معاوية حين الغفلة ، ليدرك ثارات بني عبد شمس ، ولم تك تخفى هذه الغاية على أيّ أحد حتى المخدّرات في الحجال (١).

وسابعاً : إلى أنّ أوّل واجب على معاوية أن يتنازل إلى ما لزمه من البيعة الحقّة فيدخل في جماعة المسلمين ، ولا يشقّ عصاهم بالتقاعس عنها ، ثم يرفع الخصومة إلى صاحب البيعة ، فيرى فيه رأيه كما جاء في كتاب لأمير المؤمنين إلى معاوية ، من قوله :

«وأمّا قولك : ادفع إليّ قتلة عثمان. فما أنت وذاك؟ وهاهنا بنو عثمان وهم أولى بذلك منك (٢) ، فإن زعمت أنّك أقوى على طلب دم عثمان منهم ، فارجع (٣) إلى البيعة التي لزمتك لأنّها بيعة شاملة لا يستثنى فيها الخيار ، ولا يستأنف فيها النظر وحاكم القوم إليّ» (٤).

وفي كتاب آخر له عليه‌السلام كتبه إليه :

«وقد أكثرت في قتلة عثمان ، فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك ، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون ، ثم حاكمت القوم إليّ حملتك وإيّاهم على كتاب الله ، وأمّا تلك التي تريدها فهي خدعة الصبيّ عن اللبن.

ولعمري يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك لتجدنّني أبرأ الناس من دم

__________________

(١) أنظر ما مرّ من كلمة أمّ الخير في الجزء التاسع : ص ٣٧١. (المؤلف)

(٢) في رواية المبرّد : وبعد : فما أنت وعثمان؟ إنّما أنت رجل من بني أميّة ، وبنو عثمان أولى بمطالبة دمه. (المؤلف)

(٣) في رواية المبرّد : فادخل فيما دخل فيه المسلمون ثم حاكم القوم إليّ. (المؤلف)

(٤) الإمامة والسياسة : ١ / ٨٨ [١ / ٩٢] ، الكامل للمبرد : ١ / ٢٢٥ [١ / ٢٧١] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٨٤ ، ٢٨٥ [٤ / ١٣٧] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٥٢ [٣ / ٨٩ خطبة ٤٣]. (المؤلف)

٤١٧

عثمان ، ولتعلمنّ أنّي كنت في عزلة عنه ، إلاّ أن تتجنّى (١) فتجنَّ ما بدا لك» (٢).

وثامناً : إلى أنّ طلحة والزبير قد نهضا قبل معاوية بتلك الغاية التي هو راميها ، وأخرجا حبيسة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خدرها ، وحاربهما الإمام عليه‌السلام بعد ما أتمّ عليهما الحجّة ، وكتب إليهما : «وقد زعمتما أن (٣) قتلت عثمان ، فبيني وبينكما من تخلّف عنّي وعنكما من أهل المدينة (٤) ، ثم يُلزم كلّ امرئ بقدر ما احتمل ، وزعمتما أنّي آويت قتلة عثمان ، فهؤلاء بنو عثمان فليدخلوا في طاعتي ، ثم يُخاصموا إليّ قتلة أبيهم. وما أنتما وعثمان إن كان قُتل ظالماً أو مظلوماً؟ وقد بايعتماني وأنتما بين خصلتين قبيحتين : نكث بيعتكما ، وإخراجكما أمّكما» (٥).

وكتب عليه‌السلام إلى معاوية : «إنّ طلحة والزبير بايعاني ، ثم نقضا بيعتهما ، وكان نقضهما كردّتهما ، فجاهدتهما بعد ما أعذرت إليهما ، حتى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون ، فادخل فيما دخل فيه المسلمون» (٦).

فهلاّ كانت بحسب معاوية تلكم الحجج؟! وقد طنّ في أُذن الدنيا قول أمير

__________________

(١) تجنّى عليه : ادّعى عليه ذنباً لم يفعله. فتُجنّ : أي تستره وتخفيه [كذا ضبط في الطبعة التي اعتمدها المؤلف من شرح النهج ، وفي الطبعة المعتمدة لدينا : فتَجنّ ـ بفتح التاء ـ والمعنى : فادّعِ عليّ ما بدا لك الادّعاء. وهذا الضبط ظاهراً أوفق بالسياق] (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ٨١ [١ / ٨٥] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٨٤ [٤ / ١٣٦] ، نهج البلاغة : ٢ / ٧ ، ١٢٤ [ص ٣٦٧ كتاب ٦] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٤٨ و ٣ / ٣٠٠ [٣ / ٧٥ خطبة ٤٣ و ١٤ / ٣٥ كتاب ٦]. (المؤلف)

(٣) في المصدرين : أنّي.

(٤) نظراء سعد بن أبي وقّاص ، عبد الله بن عمر ، محمد بن مسلمة. (المؤلف)

(٥) نهج البلاغة : ٢ / ١١٢ [ص ٤٤٦ كتاب ٥٤] ، الإمامة والسياسة : ١ / ٦٢ [١ / ٦٦]. (المؤلف)

(٦) كتاب صفّين لنصر بن مزاحم : ص ٣٤ طبعة مصر [ص ٢٩] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٨٤ [٤ / ١٣٦] ، الإمامة والسياسة : ١ / ٨١ [١ / ٨٥] ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٢٤٨ و ٣ / ٣٠٠ [٣ / ٧٥ خطبة ٤٣ و ١٤ / ٣٦]. (المؤلف)

٤١٨

المؤمنين عليه‌السلام : «ما هو إلاّ الكفر ، أو قتال القوم». فهلاّ عرف الرجل وبال أمر أصحاب الجمل ، ومغبّة تلك النخوة والغرور ، والتركاض وراء الأهواء والشهوات ، بعد قتل آلاف مؤلّفة من الصالح والطالح ، من أهل الحقّ والباطل؟ فإشهاره السيف لإزهاق النفوس بريئة كانت أو متّهمة من رجال أو نساء أو أغلمة ، وقتل أمم وزرافات تُعدّ بالآلاف بإنسان واحد قتله المجتهدون العدول من أُمّة محمد بعد إقامة الحجّة عليه ، إنّما هو ممّا حظرته الشريعة ، ولم يُعرف له مساغ من الدين ، وكان ابن هند في الأمر كما كتب إليه الإمام عليه‌السلام : «لست تقول فيه بأمر بيّن يُعرف له أثر ، ولا عليك منه شاهد ، ولست متعلّقاً بآية من كتاب الله ، ولا عهد من رسول الله» (١).

وتاسعاً : إلى أنّ ما حكم به خليفة الوقت يجب اتّباعه ولا يجوز نقضه ، فقد كتب عليّ عليه‌السلام إلى معاوية في كتاب له : «وأمّا ما ذكرت من أمر قتلة عثمان ، فإنّي نظرت في هذا الأمر ، وضربت أنفه وعينه فلم أره يسعني دفعهم إليك ولا إلى غيرك ، ولعمري لئن لم تنزع عن غيّك وشقاقك لتعرفنّهم عمّا قليل يطلبونك ، لا يكلّفونك أن تطلبهم في برّ ولا بحر» (٢).

فهلاّ كان ذلك نصّا من الإمام عليه‌السلام على أنّه لا مساغ له لأن يدفع قتلة عثمان لأيّ إنسان ثائر ، وأنّ طلب ذلك منه غيّ وشقاق ، فهل كان معاوية يحسب أنّ أمير المؤمنين عليه‌السلام يتنازل عن رأيه إذا ما ارتضاه هو؟ أو يعدل عن الحقّ ويتّبع هواه؟ حاشا ثم حاشا ، أو لم يكن من واجب معاوية البخوع لحكم الإمام المطهّر بنصّ القرآن ، والإخبات إلى رأيه الذي لا يفارق القرآن؟ كيف لا؟ وقد صحّ عند القوم عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم روايات تمسّكوا بها في اتّباع نظراء معاوية ويزيد من أئمّة الضلال

__________________

(١) كتاب صفّين لابن مزاحم : ص ١٢٢ [ص ١٠٩] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٤١٢ [١٥ / ٨٦]. (المؤلف)

(٢) كتاب صفّين : ص ٩٦ ، ١٠٢ [ص ٨٦ ، ٩١] ، العقد الفريد : ٢ / ٢٨٦ [٤ / ١٣٩] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ٤٠٩ [١٥ / ٧٨]. (المؤلف)

٤١٩

وأُمراء الجور والعدوان ، مثل ما عُزي إليه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يكون بعدي أئمّة لا يهتدون بهداي ، ولا يستنّون بسنّتي ، وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس». قال حذيفة : قلت : كيف أصنع يا رسول الله إن أدركت ذلك؟ قال : تسمع وتطيع للأمير ، وإن ضُرب ظهرك ، وأُخذ مالك ، فاسمع وأطع (١).

وسأل سلمة بن يزيد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا نبيّ الله أرأيت إن قامت علينا أُمراء يسألوننا حقّهم ، ويمنعونا حقّنا ، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه ، ثم سأله فأعرض عنه ، ثم سأله فجذبه الأشعث بن قيس ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : اسمعوا وأطيعوا فإنّما عليهم ما حمّلوا وعليكم ما حُمّلتم (٢). هذا رأي القوم في أُمراء الشرّ والفساد فما ظنّك بالإمام العادل ، المستجمع لشرائط الخلافة ، الذي ملأت الدنيا النصوص في وجوب اقتصاص أثره ، والموافقة لآرائه ، وكلّ ما يرتئيه من حقّ واضح؟!

وعاشراً : إلى أنّ قاتل عثمان المباشر لقتله اختلف فيه ، كما مرّ تفصيله في الجزء التاسع ويأتي أيضاً بين جبلة بن الأيهم المصري ، وكبيرة السكوني ، وكنانة بن بشر التجيبي ، وسودان بن حمران ، ورومان اليماني ، ويسار بن غلياض (٣) ، وعند ابن عساكر (٤) يقال له : حمال (٥). فقُتل منهم من قُتل في الوقت ، ولم يكن أحد من الباقين في جيش الإمام عليه‌السلام ، ولا ممّن آواهم هو ، فلم يكن لأحد عند غيرهم ثار ، وأمّا الذين آواهم الإمام عليه‌السلام فهم المسبّبون لقتله من المهاجرين والأنصار ، أو المؤلّبون عليه من الصحابة العدول ، ولم يشذّ عنهم إلاّ أُناس يعدّون بالأنامل.

وبعد هذه كلّها هلاّ كانت لتبرئة مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام نفسه من دم عثمان

__________________

(١) صحيح مسلم : ٦ / ٢٠ [٤ / ١٢٤ ح ٥٢ كتاب الإمارة] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٥٧. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٦ / ١٩ [٤ / ١٢٢ ح ٤٩] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٥٨. (المؤلف)

(٣) ذكره المحب الطبري في رياضه : ٣ / ٦٤ ، يسار بن عياض.

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٣٩ / ٤٠٨ رقم ٤٦١٩ ، وفيه : حمار.

(٥) الصواعق : ص ٦٦ [ص ١١١ وفيه : حمار بدلاً من : حمال]. (المؤلف)

٤٢٠