الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠

بذلك إلاّ رفعة. المحاسن والمساوئ للبيهقي (١) (١ / ٤٠).

(يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ) (٢)

ـ ١٦ ـ

قتال ابن هند عليًّا أمير المؤمنين عليه‌السلام

نحن مهما غضضنا الطرف عن شيء في الباب ، فلا يسعنا أن نتغاضى عن أنّ مولانا أمير المؤمنين هو ذلك المسلم الأوحديّ الذي يحرم إيذاؤه وقتاله (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً) (٣) ، ومن المتسالم عليه عند أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوله : «سباب المسلم ـ المؤمن ـ فسوق ، وقتاله كفر» (٤). وقد اقترف معاوية الإثمين معاً ، فسبّ وقاتل سيّد المسلمين جميعاً ، وآذى أوّل من أسلم من الأُمّة المرحومة ، وآذى فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٥) ، ومن آذى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقد آذى الله (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ) (٦).

على أنّه ـ سلام الله عليه ـ كان خليفة الوقت يومئذٍ كيفما قلنا أو تمحّلنا في أمر الخلافة ، وكان تصدّيه لها بالنصّ ، وإجماع أهل الحلّ والعقد ، وبيعة المهاجرين والأنصار ، ورضى الصحابة جمعاء ، خلا نفر يسير شذّوا عن الطريقة المثلى لا يفتّون في عضد جماعة ، ولا يؤثّرون على انعقاد طاعة ، بعثت بعضهم الضغائن ، وحدت آخر

__________________

(١) المحاسن والمساوئ : ص ٥٥.

(٢) التوبة : ٣٢.

(٣) الأحزاب : ٥٨.

(٤) أنظر الغدير : ٢ / ٢٥٤.

(٥) التوبة : ٦١.

(٦) الأحزاب : ٥٧.

٣٨١

المطامع ، واندفع ثالث إلى نوايا خاصّة رغب فيها لشخصيّاته. وكيفما كانت الحالة فأمير المؤمنين عليه‌السلام وقتئذٍ الخليفة حقّا ، وإنّ من ناوأه وخرج عليه يجب قتله ، وإنّما خلع ربقة الإسلام من عنقه ، وأهان سلطان الله ، ويلقى الله ولا حجّة له ، وقد جاء في النصّ الجليّ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستكون هنات وهنات ، فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأُمّة وهم جميع فاضربوا رأسه بالسيف كائناً من كان».

وفي لفظ : «فمن رأيتموه يمشي إلى أُمّة محمد فيفرّق جماعتهم فاقتلوه».

وفي لفظ الحاكم : «فاقتلوه كائناً من كان من الناس». راجع صفحة (٢٧ ، ٢٨) من هذا الجزء.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «من أتاكم وأمركم جمع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم ، فاقتلوه». راجع (ص ٢٨) من هذا الجزء.

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خرج من الطاعة ، وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهليّة ، ومن قاتل تحت راية عميّة يغضب للعصبيّة ، أو يدعو إلى عصبيّة ، أو ينصر عصبيّة ، فقتل فقتلة جاهليّة ، ومن خرج على أُمّتي يضرب برّها وفاجرها ، لا يتحاشى من مؤمنها ولا يفي لذي عهدها ، فليس منّي ولست منه» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة ولا حجّة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهليّة» (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من رأسه إلاّ أن يراجع ، ومن دعا دعوة جاهليّة فإنّه من جثا جهنّم» ، قال رجل : يا رسول الله

__________________

(١) صحيح مسلم : ٦ / ٢١ [٤ / ١٢٤ ح ٥٣ كتاب الإمارة] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٥٦ ، مسند أحمد : ٢ / ٢٩٦ [٢ / ٥٧٣ ٧٨٨٤] ، تيسير الوصول : ٢ / ٣٩ [٢ / ٤٧]. (المؤلف)

(٢) صحيح مسلم : ٦ / ٢٢ [٤ / ١٢٦ ح ٥٨ كتاب الإمارة] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٥٦. (المؤلف)

٣٨٢

وإن صام وصلّى؟ قال : «نعم وإن صام وصلّى ، فادعوا بدعوة الله الذي سمّاكم بها المسلمين المؤمنين ، عباد الله» (١).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه» (٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس أحد يفارق الجماعة قيد شبر فيموت إلاّ مات ميتة جاهليّة» (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من خرج عن الطاعة وفارق الجماعة فمات ، مات ميتة جاهليّة» (٤).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أهان سلطان الله في الأرض أهانه الله» (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من طريق معاوية نفسه : «من فارق الجماعة شبراً دخل النار» (٦)

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فارق الجماعة ، واستذلّ الإمارة لقي الله ولا حجّة له عند الله» (٧).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اسمعوا وأطيعوا وإن استُعمل عليكم عبد حبشيّ كأنّ رأسه زبيبة» (٨).

__________________

(١) سنن البيهقي : ٨ / ١٥٧ ، مستدرك الحاكم : ١ / ١١٧ [١ / ٢٠٤ ح ٤٠٤] صدر الحديث. (المؤلف)

(٢) سنن البيهقي : ٨ / ١٥٧ ، مستدرك الحاكم : ١ / ١١٧ [١ / ٢٠٣ ح ٤٠١]. (المؤلف)

(٣) صحيح البخاري باب السمع والطاعة للإمام [ج ٦ / ٢٦١٢ ح ٦٧٢٤] ، سنن البيهقي : ٨ / ١٥٧. (المؤلف)

(٤) تيسير الوصول : ٢ / ٣٩ [٢ / ٤٧] نقلاً عن الشيخين. (المؤلف)

(٥) صحيح الترمذي : ٩ / ٦٩ [٤ / ٤٣٥ ح ٢٢٢٤] ، تيسير الوصول : ٢ / ٣٩ [٢ / ٤٧]. (المؤلف)

(٦) مستدرك الحاكم : ١ / ١١٨ [١ / ٢٠٥ ح ٤٠٧]. (المؤلف)

(٧) مستدرك الحاكم : ١ / ١١٩ [١ / ٢٠٦ ح ٤١٠]. (المؤلف)

(٨) صحيح البخاري باب السمع والطاعة [٦ / ٢٦١٢ ح ٦٧٢٣] ، صحيح مسلم : ٦ / ١٥ [٤ / ١١٦ ح ٣٧ كتاب الإمارة] ، واللفظ للبخاري. (المؤلف)

٣٨٣

أوَهل ترى معاوية في خروجه على أمير المؤمنين عليه‌السلام ألف الجماعة ولازم الطاعة؟ أو أنّه باغٍ أهان سلطان الله ، واستذلّ الإمارة الحقّة ، وخرج عن الطاعة ، وفارق الجماعة وخلع ربقة الإسلام من رأسه؟

النصوص النبويّة تأبى إلاّ أن يكون الرجل على رأس البغاة ، كما كان على رأس الأحزاب يوم كان وثنيّاً ، وما أشبه آخره بأوّله ، ولذلك أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمير المؤمنين بقتاله ، وأنّ من يقتل عمّاراً هي الفئة الباغية ، ولم يختلف اثنان في أنّ أصحاب معاوية هم الذين قتلوه ، غير أنّ معاوية نفسه لم يتأثّر بتلك الشية ، ولم تثنه عن بغيه تلكم القتلة وأمثالها من الصلحاء الأبرار ، الذين ولغ في دمائهم.

أضف إلى ذلك أنّ معاوية هو الخليفة الأخير ببيعة طغام الشام وطغاتهم ، إن كانت لبيعتهم الشاذّة قيمة في الشريعة ، وقد حتّم الإسلام قتل خليفة مثله ، بقول نبيّه الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ستكون خلفاء فتكثر» قالوا : فما تأمرنا؟ قال : «فُوا ببيعة الأوّل فالأوّل ، وأعطوهم حقّهم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع ، فإن جاء أحد ينازعه فاضربوا عنق الآخر».

وهذه الأحاديث الصحيحة الثابتة (١) ، هي التي تصحّح الحديث الوارد في معاوية نفسه ، وإن ضعف إسناده عند القوم ، من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا رأيتم معاوية على منبري فاقتلوه» (٢). وهو المعتضد بما ذكره المناوي في كنوز الدقائق (٣) (ص ١٤٥) من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قاتل عليّا على الخلافة فاقتلوه كائناً من كان».

__________________

(١) راجع : صفحة : ٢٧ ، ٢٨ ، ٢٧٢ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٢) راجع : صفحة ١٤٢ من هذا الجزء. (المؤلف)

(٣) كنوز الدقائق : ٢ / ١١٤.

٣٨٤

وبعد أن تراءت الفئتان أصحاب أمير المؤمنين عليه‌السلام وطغمة معاوية حكم فيهم كتاب الله تعالى بقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللهِ) (١) وبها استدلّ أئمّة الفقه كالشافعيّ على قتال أهل البغي (٢) ، وأصحاب معاوية هم الفئة الباغية بنصّ من الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣).

وقال محمد بن الحسن الشيباني الحنفي المتوفّى (١٨٧) : لو لم يقاتل معاوية عليّا ظالماً له ، متعدّياً باغياً ، كنّا لا نهتدي لقتال أهل البغي. الجواهر المضيئة (٢ / ٢٦).

قال القرطبي في تفسيره (٤) (١٦ / ٣١٧) : في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية ، المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين.

وقال : قال القاضي أبو بكر بن العربي (٥) : هذه الآية أصل في قتال المسلمين : والعمدة في حرب المتأوّلين ، وعليها عوّل الصحابة ، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملّة ، وإيّاها عنى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : «تقتل عمّاراً الفئة الباغية». وقوله عليه‌السلام في الخوارج : «يخرجون على خير فرقة أو على حين فرقة». والرواية الأولى أصحّ لقوله عليه‌السلام : «تقتلهم أولى الطائفتين إلى الحقّ» ، وكان الذي قتلهم عليّ بن أبي طالب ومن كان معه. فتقرّر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أنّ عليّا رضى الله عنه كان إماماً ، وأنّ كلّ من خرج عليه باغٍ ، وأنّ قتاله واجب حتى يفيء إلى الحقّ ، وينقاد إلى الصلح. انتهى

وقال الزيلعي في نصب الراية (٤ / ٦٩) : وأمّا أنّ الحق كان بيد عليّ في نوبته ،

__________________

(١) الحجرات : ٩.

(٢) سنن البيهقي : ٨ / ١٧١. (المؤلف)

(٣) راجع ما أسلفناه في الجزء الثالث. (المؤلف)

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ١٦ / ٢٠٨.

(٥) أنظر العواصم والقواصم : ص ١٦٨ ـ ١٧٠.

٣٨٥

فالدليل عليه قول النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعمّار : «تقتلك الفئة الباغية». ولا خلاف أنّه كان مع عليّ وقتله أصحاب معاوية ، قال إمام الحرمين في كتاب الإرشاد : وعليّ رضى الله عنه كان إماماً حقّا في ولايته ، ومقاتلوه بغاة ، وحسن الظن بهم يقتضي أن يظنّ بهم قصد الخير وإن أخطأوه ، وأجمعوا على أنّ عليّا كان مصيباً في قتال أهل الجمل ، وهم طلحة ، والزبير ، وعائشة ، ومن معهم ، وأهل صفّين ، وهم معاوية وعسكره ، وقد أظهرت عائشة الندم (١). انتهى.

وحقّا قالت عائشة : ما رأيت مثل ما رغبت عنه هذه الأُمّة من هذه الآية : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (٢) وأمّ المؤمنين هي أوّل من رغبت عن هذه الآية ، وضيّعت حكمها ، وخالفتها وخرجت من عقر دارها ، وتركت خدرها ، وتبرّجت تبرّج الجاهليّة الأولى ، وحاربت إمام زمانها ، ولعلّها ندمت وبكت حتى بلّت خمارها ، ولمّا ...

ومن هنا وهناك كان مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام يوجب قتال أهل الشام ، ويقول : «لم أجد بدّا من قتالهم ، أو الكفر بما أُنزل على محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم» وفي لفظ : «ما هو إلاّ

__________________

(١) هكذا حكاه الزيلعي عن الإرشاد وأنت تجده محرّفاً عند الطبع ، راجع الإرشاد : ص ٤٣٣ [ص ٣٦٥]. (المؤلف) [وقال المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير : ٦ / ٣٦٥ ـ ٣٦٦ ، في تعليقه على الحديث : ويح عمار تقتله الفئة الباغية ما نصّه : وهذا صريح في بغي طائفة معاوية الّذين قتلوا عماراً في وقعة صفّين ، وأنّ الحق مع عليّ وهو من الإخبار بالمغيّبات ... وهذا الحديث من أثبت الأحاديث وأصحّها ، ولما لم يقدر معاوية على إنكاره قال : إنما قتله من أخرجه. فأجابه عليّ عليه‌السلام : بأن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذن قتل حمزة حين أخرجه. وقال الإمام الجرجاني في كتاب الإمامة : أجمع فقهاء الحجاز والعراق من فريقي الحديث والرأي منهم : مالك والشافعي وأبو حنيفة والأوزاعي والجمهور الأعظم من المتكلمين والمسلمين أنّ علياً مصيب في قتاله لأهل صفّين كما هو مصيب في أهل الجمل ، وأنّ الذين قاتلوه بغاة ظالمون].

(٢) السنن الكبرى للبيهقي : ٨ / ١٧٢ ، مستدرك الحاكم : ٢ / ١٥٦ [٢ / ١٦٨ ح ٢٦٦٤]. (المؤلف)

٣٨٦

الكفر بما نزل على محمد ، أو قتال القوم» (١).

وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يأمر وجوه أصحابه كأمير المؤمنين ، وأبي أيّوب الأنصاري ، وعمّار بن ياسر ، بقتال الناكثين والقاسطين والمارقين ، وقد مرّت أحاديثه في الجزء الثالث (ص ١٩٢ ـ ١٩٥) وكان من المتّفق عليه عند السلف أنّ القاسطين هم أصحاب معاوية.

فبأيّ حجّة ولو كانت داحضة ، كان معاوية الذي يجب قتله وقتاله يستسيغ محاربة عليّ أمير المؤمنين؟ وبين يديه كتاب الله وسنّة نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن كان ممّن يقتصّ أثرهما ، وفي الذكر الحكيم قوله سبحانه : (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) (٢) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) (٣) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٤) (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) (٥).

فلم يكن القتال أوّل فاصل لنزاع الأُمّة قبل الرجوع إلى محكمات الكتاب ، وما فيه فصل الخطاب من السنّة المباركة ، ولذلك كان مولانا أمير المؤمنين يُتمّ عليهم الحجّة بكتابه وخطابه ، منذ بدء الأمر برفع الخصومه إلى الكتاب الكريم وهو عدله ، وكان يخاطب وفد معاوية ويقول : «ألا إنّي أدعوكم إلى كتاب الله عزّ وجلّ وسنّة نبيّه».

تاريخ الطبري (٦) (٦ / ٤).

ومن كتاب له عليه‌السلام إلى معاوية ومن قبله من قريش قوله : «ألا وإنّي أدعوكم

__________________

(١) نهج البلاغة : ١ / ٩٤ [ص ٨٤ خطبة ٤٣] ، كتاب صفّين : ٥٤٢ [ص ٤٧٤] ، مستدرك الحاكم : ٣ / ١١٥ [٣ / ١٢٤ ح ٤٥٩٧] ، الشفا للقاضي عياض ، شرح ابن أبي الحديد : ١ / ١٨٣ [٢ / ٢٠٨ خطبة ٣٥] ، البحر الزخّار : ٥ / ٤١٥ [٦ / ٤١٥]. (المؤلف)

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٤) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٥) المائدة : ٤٤ و ٤٥ و ٤٧.

(٦) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ٨ حوادث سنة ٣٧ ه‍.

٣٨٧

إلى كتاب الله وسنّة نبيّه ، وحقن دماء هذه الأُمّة».

شرح نهج البلاغة (١) (١ / ١٩).

فلم يعبئوا به إلاّ بعد ما اضطرّوا إلى التترّس به ، وقد أخبر بذلك الإمام قبل وقوع الواقعة ، فيما كتب إلى معاوية : «وكأنّي بك غداً وأنت تضجّ من الحرب ضجيج الجمال من الأثقال ، وستدعوني أنت وأصحابي إلى كتاب تعظّمونه بألسنتكم ، وتجحدونه بقلوبكم»

شرح ابن أبي الحديد (٢) (٣ / ٤١١ و ٤ / ٥٠).

وفي كتاب آخر له عليه‌السلام إليه : «وكأنّي بجماعتك تدعوني ـ جزعاً من الضرب المتتابع والقضاء الواقع ، ومصارع بعد مصارع ـ إلى كتاب الله ، وهي كافرة جاحدة ، أو مبايعة حائدة».

نهج البلاغة (٣) (٢ / ١٢).

فقد صدّق الخبر الخبر واتّخذوه جُنّة مكراً وخداعاً يوم رُفِعت المصاحف ، وكانوا كما قال مولانا أمير المؤمنين يومئذٍ : «عباد الله إنّي أحقّ من أجاب إلى كتاب الله ، ولكنّ معاوية ، وعمرو بن العاص ، وابن أبي معيط ، وحبيب بن مسلمة ، وابن أبي سرح ، ليسوا بأصحاب دين ولا قرآن ، إنّي أعرف بهم منكم ، صحبتهم أطفالاً ، وصحبتهم رجالاً ، فكانوا شرّ أطفال وشرّ رجال ، إنّها كلمة حقّ يُراد بها الباطل. إنّهم والله ما رفعوها أنّهم يعرفونها ويعملون بها ، ولكنّها الخديعة والوهن والمكيدة» (٤).

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ٣ / ٢١٠ خطبة ٤٨.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٥ / ٨٣ كتاب ١٠ ، ١٦ / ١٣٤ كتاب ٣٢.

(٣) نهج البلاغة : ص ٣٧١ كتاب ١٠.

(٤) راجع ما أسلفناه من كلمات الإمام عليه‌السلام [ص ٢١١ ـ ٢٢٣ من هذا الجزء] ، ففيها المقنع لطالب الحق. (المؤلف)

٣٨٨

ولم يألُ الرسول الكريم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جهداً في تحذير المسلمين عن التورّط في هذه الفتنة العمياء بخصوصها ، ويعرّفهم مكانة أمير المؤمنين ، ويكرّههم مسّه بشيءٍ من الأذى من قتال ، أو سبّ ، أو لعن ، أو بغض ، أو تقاعد عن نصرته ، ويحثّهم على ولائه واتّباعه واقتصاص أثره ، والكون معه بعد ما قرن الله ولايته بولايته وولاية الرسول ، وطاعته بطاعتهما فقال : (إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ) (١) وقوله تعالى (٢) : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) (٣).

لكن معاوية لم يقنعه الكتاب والسنّة فباء بتلكم الآثام كلّها ، وجانب هاتيك الأحكام الواجبة جمعاء ، فكان من القاسطين وهو يرأسهم (وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً) (٤). نعم ؛ لم يقنع معاوية :

[١ ـ] قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ منّي بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي»

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعليّ مولاه ، اللهمّ والِ من والاه ، وعادِ من عاداه ، وانصر من نصره ، واخذل من خذله».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله ، ومن أطاع عليّا فقد أطاعني ، ومن عصى عليّا فقد عصاني».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروني ، بم تخلفوني فيهما».

__________________

(١) راجع ما فصّلناه في : ٢ / ٥٢ ، ٥٨ و ٣ / ١٥٥ ـ ١٦٢. (المؤلف)

(٢) النساء : ٥٩.

(٣) صحيح البخاري باب التفسير [٤ / ١٦٧٤ ح ٤٣٠٨] ، كتاب الأحكام [٦ / ٢٦١١ ح ٦٧١٨] ، صحيح مسلم : ٦ / ١٣ [٤ / ١١٤ ح ٣١ كتاب الإمارة]. (المؤلف)

(٤) الجنّ : ١٥.

٣٨٩

[٥ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من يريد أن يحيى حياتي ، ويموت مماتي ، ويسكن جنّة الخلد التي وعدني ربّي فليتولَّ عليّ بن أبي طالب ، فإنّه لن يخرجكم من هدى ، ولن يدخلكم في ضلالة».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ ربّ العالمين عهد إليّ عهداً في عليّ بن أبي طالب ، فقال : إنّه راية الهدى ، ومنار الإيمان ، وإمام أوليائي ، ونور جميع من أطاعني».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عنوان صحيفة المؤمن حبّ عليّ بن أبي طالب».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا نظر إلى عليّ وفاطمة والحسن والحسين : «أنا حرب لمن حاربكم ، وسلم لمن سالمكم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ منّي وأنا منه ، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي».

[١٠ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث : «عليّ أمير المؤمنين ، إمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين إلى جنّات ربّ العالمين ، أفلح من صدّقه ، وخاب من كذّبه ، ولو أنّ عبداً عَبَدَ الله بين الركن والمقام ألف عام وألف عام ، حتى يكون كالشنّ البالي ، ولقي الله مبغضاً لآل محمد ، أكبّه الله على منخره في نار جهنّم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له : «لا يحبّك إلاّ مؤمن ، ولا يبغضك إلاّ منافق».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم آخذاً بيد الحسن والحسين : «من أحبّني وأحبّ هذين وأباهما وأمّهما ، كان معي في درجتي يوم القيامة».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ منّي بمنزلة رأسي من بدني».

[١٥ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «والذي نفسي بيده لا يبغضنا أهل البيت أحد إلاّ أدخله الله النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا عليّ طوبى لمن أحبّك وصدق فيك ، وويل لمن أبغضك

٣٩٠

وكذب فيك».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّني فليحبّ عليّا ، ومن أبغض عليّا فقد أبغضني ، ومن أبغضني فقد أبغض الله عزّ وجلّ ، ومن أبغض الله أدخله النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسبّوا عليّا فإنّه ممسوس بذات الله».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذا أمير البررة ، قاتل الفجرة ، منصور من نصره ، مخذول من خذله».

[٢٠ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من آذى عليّا فقد آذاني».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّ عليّا فقد أحبّني ، ومن أبغض عليّا فقد أبغضني».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أوحي إليّ في عليّ ثلاث : أنّه سيّد المسلمين ، وإمام المتّقين ، وقائد الغرّ المحجّلين».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من سبّ عليّا فقد سبّني ، ومن سبّني فقد سبّ الله عزّ وجلّ ، ومن سبّ الله كبّه الله على منخريه في النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو أنّ عبداً عَبَدَ الله سبعة آلاف سنة ، ثم أتى الله عزّ وجلّ ببغض عليّ بن أبي طالب ، جاحداً لحقّه ، ناكثاً لولايته ، لأتعس الله خيره ، وجدع أنفه».

[٢٥ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليٍّ عليه‌السلام : «سجيّته سجيّتي ، ودمه دمي ، وهو عيبة علمي ، لو أنّ عبداً من عباد الله عزّ وجلّ عَبَدَ الله ألف عام بين الركن والمقام ، ثم لقي الله عزّ وجلّ مبغضاً لعليّ بن أبي طالب وعترتي ، أكبّه الله على منخره يوم القيامة في نار جهنّم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليٍّ عليه‌السلام : «يا عليّ لو أنّ أُمتي صاموا حتى يكونوا ، كالحنايا ، وصلّوا حتى يكونوا كالأوتار ، ثم أبغضوك لَأكبّهم الله في النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يجوز أحد الصراط إلاّ من كتب له عليّ الجواز».

٣٩١

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا يجوز أحد الصراط إلاّ ومعه براءة بولايته وولاية أهل بيته ، يشرف على الجنّة ، فيدخل محبّيه الجنّة ، ومبغضيه النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «معرفة آل محمد براءة من النار ، وحبّ آل محمد جواز على الصراط ، والولاية لآل محمد أمان من العذاب».

[٣٠ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «يا أيّها الناس ، أُوصيكم بحبّ ذي قرنيها أخي وابن عمّي عليّ بن أبي طالب ، فإنّه لا يحبّه إلاّ مؤمن ، ولا يبغضه إلاّ منافق».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيكون بعدي قوم يقاتلون عليّا ، على الله جهادهم ، فمن لم يستطع جهادهم بيده فبلسانه ، فمن لم يستطع بلسانه فبقلبه ، ليس وراء ذلك شيء».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : «أنت وشيعتك تأتي يوم القيامة ، أنت وهم ، راضين مرضيّين ، ويأتي أعداؤك غضاباً مقمحين. قال : ومن عدوّي؟ قال : من تبرّأ منك ولعنك».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «مَثَل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح ، من ركبها نجا ، ومن تخلّف عنها غرق».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «الزموا مودّتنا أهل البيت ، فإنّه من لقي الله عزّ وجلّ وهو يودّنا دخل الجنّة بشفاعتنا ، والذي نفسي بيده لا ينفع عبداً عمله إلاّ بمعرفة حقّنا».

[٣٥ ـ] وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لو أنّ رجلاً صفن بين الركن والمقام ، فصلّى وصام ، ثم لقي الله وهو مبغض لأهل بيت محمد ، دخل النار».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الله جعل أجري عليكم المودّة في أهل بيتي ، وإنّي سائلكم غداً عنهم».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «وقفوهم إنّهم مسؤولون عن ولاية عليّ».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا وأهل بيتي شجرة في الجنة وأغصانها في الدنيا ، فمن تمسّك بنا اتّخذ إلى ربّه سبيلاً».

٣٩٢

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد خيّم خيمة وفيها عليّ وفاطمة والحسن والحسين : «معشر المسلمين أنا سلم من سالم أهل الخيمة ، حرب لمن حاربهم ، وليّ لمن والاهم ، لا يحبّهم إلاّ سعيد الجدّ ، طيّب المولد ، ولا يبغضهم إلاّ شقيّ الجدّ رديء المولد».

٤٠ ـ وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا جمع الله الأوّلين والآخرين يوم القيامة ، ونصب الصراط على جسر جهنّم ، ما جازها أحد حتى كانت معه براءة بولاية عليّ بن أبي طالب» (١).

هذا مولانا أمير المؤمنين ، وهذا غيض من فيض ممّا جاء في ولائه وعدائه ، فأيّ صحابيّ عادل ، عاصر نبيّ الرحمة ووعى منه هاتيك الكلمات الدرّية ، وشاهد مولانا عليه‌السلام ، وعرف انطباقها عليه بتمام معنى الكلمة ، ثم ينحاز عنه ويتّخذ سبيلاً غير سبيله فيبغي به الغوائل ، ويتربّص به الدوائر ، ويقع فيه بملء فمه وحشو فؤاده ، ويرميه بقذائف الحقد والشنآن؟ لعلّك لا تجد مسلماً هو هكذا غير من ألهته العصبيّة عن الهدى ، وتدهورت به إلى هوّة الشهوات السحيقة ، ولعلّك لا تجد ذلك الرجل البائس إلاّ ابن أبي سفيان المجابه للكتاب والسنّة ، بعد الإنكار بقلبه بالهزء والسخريّة بلسانه ، فعل مردة الوقت وطواغيت الأُمّة ، فتراه عندما روى له سعد بن أبي وقّاص ـ أحد العشرة المبشّرة ـ أحاديث ممّا سمعه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في عليّ عليه‌السلام ونهض ليقوم ضرط له معاوية استهزاءً ، كما مرّ حديثه في هذا الجزء (ص ٢٥٨).

وحينما ذكر له أبو ذر الغفاري ذلك الصادق المصدّق قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «است معاوية في النار» (٢). جابهه بالضحك وأمر بحبسه.

__________________

(١) أنظر الأجزاء : ١ / ٦٠٣ ـ ٦٠٥ ، ٦٥٩ ، ٦٧٢ ، ٦٧٣ ، ٦٧٥ و ٢ / ٩٩ ، ١٠٠ ، ٤٢٣ ـ ٤٢٥ ، ٤٣٣ ، ٤٣٧ ، ٤٤٠ ، ٤٥٧ ، ٤٥٨ و ٣ / ٣٩ ، ٤٣ ، ٩٩ ، ١١٨ ، ١٢٠ ، ١٧١ ، ٢٥٥ ، ٢٦٠ ـ ٢٦٤ ٢٦٩ ، ٢٧٧ ، ٢٨٣ ، ٤١٠ و ٥ / ٥٧٥ و ٦ / ٤٤٣ ، ٤٦٦ و ٧ / ٢٣٧ ـ ٢٣٩ و ٨ / ٢٣٦ ، ٢٧٤ و ٩ / ٣٦٤ و ١٠ / ٦٩ ، ٧١ ، ٣٠٢ ، ٣٨٩ ، ٣٩١ ، ٣٩٢ و ١١ / ١٣ ، ١٦٠. وراجع الفهارس الفنية في الجزء الثاني عشر لتحديد مواقع الأحاديث من الكتاب.

(٢) أنظر الجزء : ٨ / ٤٢٩ من هذا الكتاب.

٣٩٣

ولمّا بقر عبد الرحمن بن سهل الأنصاري روايا خمر لمعاوية وبلغه شأنه ، قال : دعوه فإنّه شيخ قد ذهب عقله (١). يستهزئ بإنكاره على تلك الكبيرة الموبقة ، وليت شعري بم هذا الهزء والسخريّة؟ أبالصحابيّ العادل؟ أم بمن استند إليه في حكمه بتحريم الخمر؟ أم بالشريعة التي جاءت به؟ إنّ ابن آكلة الأكباد بمقربة من كلّ ذلك ، أو أنّه لا يدين الله بذلك الحكم البات؟

ولمّا سمع من عمرو بن العاص ما حدّثه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله لعمّار «تقتلك الفئة الباغية». قال لعمرو : إنّك شيخ أخرق ، ولا تزال تحدّث بالحديث ، وأنت ترحض في بولك ، أنحن قتلناه؟ إنّما قتله عليّ وأصحابه ، جاءوا به حتى ألقوه بين رماحنا! وقال : أفسدت عليّ أهل الشام ، أكلّ ما سمعت من رسول الله تقوله (٢)؟!

أهذا هزء؟ أم أنّ معاوية بلغ من السفاهة مبلغاً يحسب معه أنّ أمير المؤمنين هو قاتل عمّار ، إذن فما قوله في سيّد الشهداء حمزة وجعفر الطيّار (٣)؟ أكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قاتلهما يوم ألقاهما بين رماح المشركين وسيوفهم؟ لا تستبعد مكابرة الطاغية بقوله : إنّ رسول الله قتلهما. أو إنّ الرجل وجد حُمراً مستنفرة فألجمها ، وألجم مراشدها بتلكم التمويهات؟ وكلّ هذه معقولة غير مستعصية على استقراء أعمال معاوية وأفعاله.

ثم ما ذا يعني بقوله : أفسدت عليّ ... أيريد كبحاً أمام جري السنّة الشريفة؟ أو يروم إسدال غطاء على مجاليها؟ أو الإعراض عن مدلولها لأنّه لا يلائم خطّته؟ ولا يستبعد شيء من ذلك ممّن طبع الله على قلبه وهو ألدّ الخصام.

__________________

(١) راجع ما مرّ في هذا الجزء : ص ١٨١. (المؤلف)

(٢) أسلفنا تفصيله في الجزء الأوّل : ص ٣٢٩. (المؤلف)

(٣) بهذا أجاب الإمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، عن كلام الرجل كما في تاريخ الخميس : ٢ / ٢٧٧. [وانظر فيض القدير في شرح الجامع الصغير : ٦ / ٣٦٥ عند تعليقه على حديث : ويح عمار تقتله الفئة الباغية]. (المؤلف)

٣٩٤

ولمّا حدّثه عبادة بن الصامت حديث حرمة الربا (١) ، وقد نطق بها القرآن الكريم فقال : اسكت عن هذا الحديث ولا تذكره. فقال عبادة : بلى وإن رغم أنف معاوية. ولمّا سمع من عبادة حديثه عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنّ هذا لا يقول شيئاً.

فلم يك يرى قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شيئاً يُعبأ به ويُصاخ إليه ، ويعوّل عليه.

ولمّا قدم المدينة لقيه أبو قتادة الأنصاري (٢) فقال له معاوية : يا أبا قتادة تلقّاني الناس كلّهم غيركم يا معشر الأنصار ، ما منعكم؟ قال : لم يكن معنا دواب. فقال معاوية : فأين النواضح؟ قال أبو قتادة : عقرناها في طلبك يوم بدر. قال : نعم يا أبا قتادة. قال أبو قتادة : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال لنا : إنّا سنرى بعده أثرة. قال معاوية : فما أمركم به عند ذلك؟ قال : أمرنا بالصبر. قال : فاصبروا حتى تلقوه. قال عبد الرحمن بن حسّان حين بلغه قول معاوية :

ألا أبلغ معاويةَ بنَ صخرٍ

أميرَ المؤمنين نثا كلامي

فإنّا صابرون ومنظروكم

إلى يوم التغابن والخصامِ (٣)

وحقّ القول : أنّ المخذول لا يخضع لهتاف النبوّة ، ولا أنّهم سوف يلقون صاحبها ، ويرفعون إليه ظلامتهم ، فيحكم لهم على من استأثر عليهم ، وحسبه ذلك إلحاداً وبغياً.

وفي رواية : أنّ أبا أيّوب أتى معاوية ، فشكا إليه أنّ عليه ديناً فلم ير منه ما

__________________

(١) مرّ حديثه في هذا الجزء : ص ١٨٥. (المؤلف)

(٢) في رواية ابن عساكر [تاريخ مدينة دمشق : ٢٦ / ٢٠١ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق ١١ / ٣٠٩] : عبادة بن صامت الأنصاري. (المؤلف)

(٣) الاستيعاب : ١ / ٢٥٥ [القسم الثالث / ١٤٢١ رقم ٢٤٣٥] ، تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٢١٣ [٢٦ / ٢٠١ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٩] ، تاريخ الخلفاء للسيوطي : ص ١٣٤ [ص ١٨٨]. (المؤلف)

٣٩٥

يحبّ ، فرأى أمراً كرهه ، فقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إنّكم سترون بعدى أثرة». قال : فأيّ شيء قال لكم؟ قال : أمرنا بالصبر. قال : فاصبروا. قال : فو الله لا أسألك شيئاً أبداً (١).

وفي لفظ : ظ دخل أبو أيّوب على معاوية ، فقال : صدق رسول الله [سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : يا معشر الأنصار] (٢) إنّكم سترون بعدي أثرة فعليكم بالصبر. فبلغت معاوية ، فقال : صدق رسول الله أنا أوّل من صدّقه. فقال أبو أيّوب : أجرأة على الله وعلى رسوله؟ لا أكلّمه أبداً ولا يأويني وإيّاه سقف بيت. تاريخ ابن عساكر (٣) (٥ / ٤٢).

وفي لفظ الحاكم (٤) : إنّ أبا أيّوب أتى معاوية ، فذكر حاجة له فجفاه ولم يرفع به رأساً ، فقال أبو أيّوب : أما إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد أخبرنا أنّه سيصيبنا بعده أثرة. قال : فبِمَ أمركم؟ قال : أمرنا أن نصبر حتى نرد عليه الحوض. قال : فاصبروا إذاً. فغضب أبو أيّوب وحلف أن لا يكلّمه أبداً. الخصائص الكبرى (٥) (٢ / ١٥٠).

وحضر أبو بكرة مجلس معاوية ، فقال له : حدثنا يا أبا بكرة ، فقال : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الخلافة ثلاثون ثم يكون الملك. قال عبد الرحمن بن أبي بكرة : وكنت مع أبي ، فأمر معاوية فوُجئ في أقفائنا حتى أُخرجنا (٦).

ولعلّك تعرف خبيئة ضمير معاوية بما حدّثه ابن بكار في الموفّقيات ، عن مطرف بن المغيرة بن شعبة الثقفي ، قال : سمعت المدائني يقول : قال مطرف بن المغيرة :

__________________

(١) تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٤١ [١٦ / ٥٤ رقم ١٨٧٦ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٧ / ٣٤٠]. (المؤلف)

(٢) ما بين المعقوفين ساقط من الطبعات السابقة ، وأثبتناه من المصدر.

(٣) تاريخ مدينة دمشق : ١٦ / ٥٦ رقم ١٨٧٦.

(٤) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٥٢٠ ح ٥٩٣٥.

(٥) الخصائص الكبرى : ٢ / ٢٥٥.

(٦) أخرجه ابن سعد كما في النصائح الكافية : ١٥٩ الطبعة الأولى [ص ١٩٥]. (المؤلف)

٣٩٦

وفدت مع أبي المغيرة إلى معاوية ، فكان أبي يأتيه يتحدّث عنده ثم ينصرف إليّ فيذكر معاوية. ويذكر عقله ، ويعجب ممّا يرى منه ، إذ جاء ذات ليلة فأمسك عن العشاء ، فرأيته مغتمّا فانتظرته ساعة ، وظننت أنّه لشيء حدث فينا أو في عملنا ، فقلت له : مالي أراك مغتمّا منذ الليلة؟ قال : يا بنيّ إنّي جئت من عند أخبث الناس. قلت له : وما ذاك؟ قال : قلت له وقد خلوت به : إنّك قد بلغت منّا يا أمير المؤمنين ، فلو أظهرت عدلاً ، وبسطت خيراً ، فانّك قد كبرت ، ولو نظرت إلى إخوتك من بني هاشم ، فوصلت أرحامهم ، فو الله ما عندهم اليوم شيء تخافه. فقال لي : هيهات هيهات ، ملك أخو تيم فعدل وفعل ما فعل ، فو الله ما غدا أن هلك فهلك ذكره ، إلاّ أن يقول قائل : أبو بكر ، ثم ملك أخو عدي فاجتهد وشمّر عشر سنين ، فو الله ما غدا أن هلك فهلك ذكره ، إلاّ أن يقول قائل : عمر ، ثم ملك أخونا عثمان فملك رجل لم يكن أحد في مثل نسبه ، فعمل ما عمل وعمل به فو الله ما غدا أن هلك فهلك ذكره ، وذكر ما فعل به ، وإنّ أخا هاشم يصرخ به في كلّ يوم خمس مرّات : أشهد أنّ محمداً رسول الله. فأيّ عمل يبقى مع هذا لا أمّ لك ، والله إلاّ دفناً دفناً (١)؟!!

فهل تجد إذن عند معاوية إذعاناً بما جاء من الكتاب في عليّ عليه‌السلام؟ أو تراه مخبتاً إلى شيء من الكثير الطيّب الوارد عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الثناء على الإمام الطاهر؟ حينما عاداه ، وأبغضه ، ونقّصه ، وسبّه ، وهتك حرماته ، وآذاه ، وقذفه بالطامّات ، وحاربه ، وقاتله ، وتخلّف عن بيعته ، وخرج عليه.

أو ترى أن يسوغ لمسلم صدّق نبيّه ولو في بعض تلكم الآثار والمآثر أن يبوح بما كتبه ابن هند إلى الإمام عليه‌السلام من الكلم القارصة ، بمثل قوله في كتاب له إليه عليه‌السلام : ثم تركك دار الهجرة التي قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عنها : إنّ المدينة لتنفي خبثها ، كما ينفي الكير خبث الحديد ، فلعمري لقد صحّ وعده ، وصدق قوله ، ولقد نفت خبثها

__________________

(١) مروج الذهب : ٢ / ٣٤١ [٤ / ٤٩]. (المؤلف)

٣٩٧

وطردت عنها من ليس بأهل أن يستوطنها ، فأقمت بين المصرين ، وبعدت عن بركة الحرمين ، ورضيت بالكوفة بدلاً من المدينة ، وبمجاورة الخورنق والحيرة عوضاً عن مجاورة خاتم النبوّة.

ومن قبل ذلك ما عيّبت خليفتي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيّام حياتهما فقعدت عنهما ، وألّبت عليهما ، وامتنعت من بيعتهما ، ورُمتَ أمراً لم يرك الله تعالى له أهلاً ، ورقيت سلّماً وعراً ، وحاولت مقاماً دحضاً (١) ، وادّعيت ما لم تجد عليه ناصراً ، ولعمري لو ولّيتها حينئذ لما ازدادت إلاّ فساداً واضطراباً ، ولا أعقبت ولايتكها إلاّ انتشاراً وارتداداً ، لأنك الشامخ بأنفه ، الذاهب بنفسه ، المستطيل على الناس بلسانه ويده.

وها أنا سائر اليك في جمع من المهاجرين والأنصار ، تحفّهم سيوف شاميّة ، ورماح قحطانيّة ، حتى يحاكموك إلى الله ، فانظر لنفسك والمسلمين ، وادفع إليّ قتلة عثمان فإنّهم خاصّتك وخلصاؤك المحدقون بك ، فإن أبيت إلاّ سلوك سبيل اللجاج والإصرار على الغيّ والضلال ، فاعلم أنّ هذه الآية إنّما نزلت فيك وفي أهل العراق معك (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذاقَهَا اللهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) (٢).

وقوله في كتاب له : وإن كنت موائلاً فازدد غيّا إلى غيّك ، فطالما خفّ عقلك ، ومنّيت نفسك ما ليس لك ، والتويت على من هو خير منك ، ثم كانت العاقبة لغيرك ، واحتملت الوزر بما أحاط بك من خطيئتك.

وقوله في كتاب له أيضاً : فدعني من أساطيرك ، واكفف عنّي من أحاديثك ، وأقصر عن تقوّلك على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وافترائك من الكذب ما لم يقُل ، وغرور من معك والخداع لهم ، فقد استغويتهم ويوشك أمرك أن ينكشف لهم فيعتزلوك ، ويعلموا

__________________

(١) مكان دحض بالفتح ويحرك : زلق. (المؤلف)

(٢) النحل : ١١٢.

٣٩٨

أنّ ما جئت به باطل مضمحلّ.

وقوله من كتاب آخر له : فما أعظم الرين على قلبك! والغطاء على بصرك! الشره من شيمتك ، والحسد من خليقتك!!

وقوله في كتاب له إليه عليه‌السلام : فدع الحسد ، فإنّك طالما لم تنتفع به ، ولا تفسد سابقة جهادك بشرّة نخوتك ، فإنّ الأعمال بخواتيمها ، ولا تُمحّص سابقتك بقتال من لا حقّ لك في حقّه ، فإنّك إن تفعل لا تضرّ بذلك إلاّ نفسك ، ولا تمحق إلاّ عملك ، ولا تبطل إلاّ حجّتك ، ولعمري إنّ ما مضى لك من السابقات لشبيه أن يكون ممحوقاً لما اجترأت عليه من سفك الدماء ، وخلاف أهل الحقّ ، فاقرأ السورة التي يذكر فيها الفلق ، وتعوّذ من نفسك ، فإنّك الحاسد إذا حسد.

وقوله من كتاب له إليه عليه‌السلام : فلمّا استوثق الإسلام وضرب بجرانه ، عدوت عليه ، فبغيته الغوائل ، ونصبت له المكايد ، وضربت له بطن الأمر وظهره ، ودسست عليه وأغريت به ، وقعدت ـ حين استنصرك ـ عن نصره ، وسألك أن تدركه قبل أن يمزّق ، فما أدركته ، وما يوم المسلمين منك بواحد ، لقد حسدت أبا بكر والتويت عليه ، ورمت إفساد أمره ، وقعدت في بيتك ، واستغويت عصابة من الناس حتى تأخّروا عن بيعته ، ثم كرهت خلافة عمر وحسدته ، واستطالت مدّته وسُررت بقتله ، وأظهرت الشماتة بمصابه ، حتى أنّك حاولت قتل ولده لأنّه قتل قاتل أبيه ، ثم لم تكن أشدّ منك حسداً لابن عمّك عثمان. إلخ.

وقوله في كتاب له إليه عليه‌السلام : أمّا بعد : فإنّا كنّا نحن وإيّاكم يداً جامعة ، وإلفة أليفة ، حتى طمعت يا ابن أبي طالب ، فتغيّرت وأصبحت تعدّ نفسك قويّا على من عاداك بطغام أهل الحجاز ، وأوباش أهل العراق ، وحمقى الفسطاط ، وغوغاء السواد ، وايم الله لَينجَلينّ عنك حمقاها ، ولَينقشِعنّ عنك غوغاؤها انقشاع السحاب عن السماء.

٣٩٩

قتلت عثمان بن عفّان ، ورقيت سلّماً أطلعك الله عليه مطلع سوء ، عليك لا لك ، وقتلت الزبير وطلحة ، وشرّدت أُمّك عائشة ، ونزلت بين المصرين فمنّيت وتمنّيت ، وخُيّل لك أنّ الدنيا قد سُخِّرت لك بخيلها ورجلها ، وإنّما تعرف أُمنيّتك ، لو قد زرتك في المهاجرين من الشام بقيّة الإسلام ، فيحيطون بك من ورائك ، ثم يقضي الله علمه فيك ، والسلام على أولياء الله (١).

فأيّ أحد من غوغاء الناس ومن جهلة الأُمّة يحسب في صاحب هذه الكلمات المخزية نزعة دينيّة؟ أو حياءً وانقباضاً في النفس ولو قيد شعرة؟ أو بخوعاً إلى كتاب الله وهو يطهّر أهل البيت وعليّ سيد العترة ، ويراه نفس النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقرن ولايته بولاية الله وولاية رسوله ، وطاعته بطاعتهما؟!

نعم : هكذا فليكن رضيع ثدي هند وربيب حجر حمامة ، والناشئ تحت راية البغاء ، ووليد بيت أميّة ، وثمرة تلك الشجرة الملعونة في القرآن ، هكذا يسرف معاوية في القول ، ويجازف مفرطاً فيه ، (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (٢) ، وهو سرف الفؤاد لا يعبأ بما تلقّته الأُمّة بالقبول من قول نبيّها في عليّ عليه‌السلام : «أنت الصدّيق الأكبر ، أنت الفاروق الذي تفرق بين الحقّ والباطل ، وأنت يعسوب الدين» (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عليّ مع القرآن والقرآن معه ، لا يفترقان حتى يردا عليّ الحوض» (٤).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ ، ولن يفترقا حتى يردا عليّ

__________________

(١) توجد هذه الكتب على تفصيلها في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد : ٣ / ٤١ ، ٤١٢ ، ٤٤٨ و ٤ / ٥٠ ، ٥١ ، ٢٠١ [١٥ / ٨٢ ، ٨٧ ، ١٨٦ و ٦ / ١٣٤ ـ ١٣٥ و ١٧ / ٢٥٢ ـ ٢٥٣]. ، وهي مبثوثة في جمهرة الرسائل : ١ / ٣٩٨ ـ ٤٨٣. (المؤلف)

(٢) سورة ق : ١٨.

(٣) الحاوي للفتاوي للسيوطي : ٢ / ١٩٦.

(٤) ٢٠

٤٠٠