الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي
المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠
جبرك إيّاي على البيعة ليزيد ، فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الإسلام حتى أدخلناكما كارهين غير طائعين. والسلام.
الإمامة والسياسة (١) (١ / ١٤٧ ، ١٤٨).
وكتب معاوية إلى عبد الله بن الزبير :
رأيت كرامَ الناسِ إن كُفَّ عنهمُ |
|
بحلمٍ رأوا فضلاً لمن قد تحلّما |
ولا سيّما إن كان عفواً بقدرةٍ |
|
فذلك أحرى أن يُجَلَ ويُعظما |
ولست بذي لؤم (٢) فتعذر بالذي |
|
أتاه من الأخلاق من كان ألوما |
ولكنّ غشّا لست تعرف غيره |
|
وقد غشّ قبل اليوم إبليس آدما |
فما غشّ إلاّ نفسَه في فعالهِ |
|
فأصبح ملعوناً وقد كان مكرما |
وإنّي لأخشى أن أنالَكَ بالذي |
|
أردت فيجزي الله من كان أظلما |
فكتب عبد الله بن الزبير إلى معاوية :
ألا سمع اللهُ الذي أنا عبدُه |
|
فأخزى إلهُ الناسِ من كان أظلما |
وأجرا على الله العظيم بحلمه |
|
وأسرعهم في الموبقات تقحّما |
أغرّك أن قالوا : حليم بغرّةٍ |
|
وليس بذي حلمٍ ولكن تحلّما |
ولو رمت ما إن قد عزمت وجدتني |
|
هزبرَ عرينٍ يترك القرن أكتما |
وأقسم لو لا بيعة لك لم أكن |
|
لأنقضَها لم تنجُ منّي مسلما |
الإمامة والسياسة (١ / ١٤٧ ، ١٤٨).
__________________
(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٥٤ ـ ١٥٥.
(٢) في المصدر : بذي لوم.
بيعة يزيد في المدينة المشرّفة :
حجّ معاوية في سنة (٥٠) ، واعتمر في رجب سنة (٥٦) ، وكان في كلا السفرين يسعى وراء بيعة يزيد ، وله في ذلك خطوات واسعة ومواقف ومفاوضات مع بقيّة الصحابة ووجوه الأُمّة ، غير أنّ المؤرّخين خلطوا أخبار الرحلتين بعضها ببعض وما فصّلوها تفصيلاً.
الرحلة الأولى :
قال ابن قتيبة (١) : قالوا : استخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتى قدم المدينة سنة خمسين ، فتلقّاه الناس ، فلمّا استقرّ في منزله أرسل إلى عبد الله بن عبّاس ، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وإلى عبد الله بن عمر ، وإلى عبد الله بن الزبير ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر ، فلمّا جلسوا تكلّم معاوية فقال :
الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيراً كما أنعم علينا كثيراً ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله. أمّا بعد : فإنّي قد كبر سنّي ووهن عظمي ، وقرُب أجلي ، وأوشكت أن أُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أن استخلف عليكم بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها ، ولم يمنعني أن أُحضر حسناً وحسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما [عليٍ] (٢) ، على حسن رأيي فيهما وشديد محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً يرحمكم الله.
فتكلّم عبد الله بن العبّاس ، فقال :
الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن
__________________
(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٨.
(٢) من المصدر.
بلائه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وصلّى الله على محمد وآل محمد.
أمّا بعد : فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذ اختاره الله لها ، فإنّه إنّما اختار محمداً بعلمه ، وهو العليم الخبير ، وأستغفر الله لي ولكم.
فقام عبد الله بن جعفر ، فقال :
الحمد لله أهل الحمد ومُنتهاه ، نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقّه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله واحداً صمداً لم يتّخذ صاحبةً ولا ولدا ، وأنّ محمداً عبده ورسوله صلىاللهعليهوآلهوسلم. أمّا بعد : فإنّ هذه الخلافة إن أُخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أُخذ فيها بسنّة رسول الله ، فأولو رسول الله ، وإن أُخذ بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر ، فأيّ الناس أفضل وأكمل وأحقّ بهذا الأمر من آل الرسول ، وايم الله لو ولّوه بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ، لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الله ، وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتّق الله يا معاوية فإنّك قد صرت راعياً ونحن الرعيّة ، فانظر لرعيّتك ، فإنّك مسؤول عنها غداً ، وأمّا ما ذكرت من ابني عمّي وتركك أن تُحضرهما ، فو الله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز لك ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، وأستغفر الله لي ولكم.
فتكلّم عبد الله بن الزبير ، فقال :
الحمد لله الذي عرّفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله. وأنّ محمداً عبده ورسوله. أمّا بعد : فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصّة ، تتناولها بمآثرها السنيّة ، وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء ، وكرم الأبناء ،
فاتّق الله يا معاوية وأنصف من نفسك ، فإنّ هذا عبد الله بن عبّاس ابن عمّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وعليّ خلّف حسناً وحسيناً ، وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتّق الله يا معاوية وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.
فتكلّم عبد الله بن عمر ، فقال :
الحمد الله الذي أكرمنا بدينه ، وشرّفنا بنبيّه صلىاللهعليهوآلهوسلم : أمّا بعد : فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة ، يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو الله ما أدخلني مع الستّة من أصحاب الشورى ، إلاّ [على] أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصّة ، لمن كان لها أهلاً ، ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، من كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش ، فلعمري إنّ يزيد من فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك من الله شيئاً.
فتكلّم معاوية ، فقال :
قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ من أبنائهم ، مع أنّ ابني إن قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ، لأنّهم أهل رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلمّا مضى رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولّى الناس أبا بكر وعمر ، من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرة جميلة ، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد أخرجك الله يا بن الزبير وأنت يا بن عمر منها ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله.
ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد ، ولم يقطع عنهم شيئاً من صِلاتهم وأُعطياتهم ، ثم انصرف راجعاً إلى الشام ، وسكت عن البيعة ، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.
الإمامة والسياسة (١ / ١٤٢ ـ ١٤٤) ، جمهرة الخطب (٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٦) (١).
قال الأميني : لم يذكر في هذا اللفظ ما تكلّم به عبد الرحمن ، ذكره ابن حجر في الإصابة (٢ / ٤٠٨) قال : خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد ، فكلّمه الحسين بن عليّ ، وابن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال له عبد الرحمن : أهرقليّة كلّما مات قيصر كان قيصر مكانه؟ لا نفعل والله أبداً.
صورة أخرى :
من محاورة الرحلة الأُولى :
قدم معاوية المدينة حاجّا (٢) ، فلمّا أن دنا من المدينة خرج إليه الناس يتلقّونه ما بين راكب وماش ، وخرج الناس والصبيان ، فلقيه النساء على حال طاقتهم وما تسارعوا به في الفوت والقرب ، فَلانَ لمن كافحه ، وفاوض العامّة بمحادثته ، وتألّفهم جهده مقاربة ومصانعة ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس ، حتى قال في بعض ما يجتلبهم به : يا أهل المدينة ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحبّ لمطالعتكم حتى انطوى البعيد ، ولان الخشن ، وحقّ لجار رسول الله أن يُتاق إليه. فردّ عليه القوم : بنفسك ودارك ومهاجرك أما إنّ لك منهم كإشفاق الحميم البرّ والحفيّ.
حتى إذا كان بالجرف لقيه الحسين بن عليّ وعبد الله بن عبّاس ، فقال معاوية : مرحباً بابن بنت رسول الله ، وابن صنو أبيه. ثم انحرف إلى الناس فقال : هذان شيخا بني عبد مناف. وأقبل عليهما بوجهه وحديثه ، فرحّب وقرّب ، وجعل يواجه هذا مرّة ، ويضاحك هذا أخرى. حتى ورد المدينة ، فلمّا خالطها لقيته المشاة ، والنساء ، والصبيان ، يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل ، فانصرفا عنه ، فمال الحسين إلى
__________________
(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٨ ـ ١٥٠ ، جمهرة خطب العرب : ٢ / ٢٤٦ ـ ٢٤٨.
(٢) من المتسالم عليه أنّ معاوية حجّ في سنة خمسين. (المؤلف)
منزله ، ومضى عبد الله بن عبّاس إلى المسجد ، فدخله.
وأقبل معاوية ومعه خلق كثير من أهل الشام حتى أتى عائشة أمّ المؤمنين فاستأذن عليها ، فأذنت له وحده ، لم يدخل عليها معه أحد ، وعندها مولاها ذكوان ، فقالت عائشة : يا معاوية أكنت تأمن أن أُقعِد لك رجلاً فأقتلك كما قتلت أخي محمد ابن أبي بكر؟ فقال معاوية : ما كنت لتفعلين ذلك. قالت : لم؟ قال : لأنّي في بيت آمن ، بيت رسول الله. ثم إنّ عائشة حمدت الله وأثنت عليه ، وذكرت رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ، وذكرت أبا بكر وعمر ، وحضّته على الاقتداء بهما والاتّباع لأثرهما ، ثم صمتت ، قال : فلم يخطب معاوية ، وخاف أن لا يبلغ ما بلغت ، فارتجل الحديث ارتجالاً ، ثم قال :
أنت والله يا أمّ المؤمنين العالمة بالله وبرسوله دللتِنا على الحقّ ، وحضضتِنا على حظّ أنفسنا ، وأنت أهل لأن يُطاع أمرك ، ويُسمع قولك ، وإنّ أمر يزيد قضاء من القضاء ، وليس للعباد الخيرة من أمرهم! وقد أكّد الناس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم ، أفترى أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟!
فلمّا سمعت ذلك عائشة علمت أنّه سيمضي على أمره ، فقالت : أمّا ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتّق الله في هؤلاء الرهط ، ولا تعجل فيهم ، فعلّهم لا يصنعون إلاّ ما أحببت.
ثم قام معاوية ، فلمّا قام قالت عائشة : يا معاوية قتلت حُجراً وأصحابه العابدين المجتهدين. فقال معاوية : دعي هذا ، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟ قالت : صالح. قال : فدعينا وإيّاهم حتى نلقى ربّنا.
ثم خرج ومعه ذكوان فاتّكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول : تالله إن رأيت كاليوم قط خطيباً أبلغ من عائشة بعد رسول الله ، ثم مضى حتى أتى منزله ، فأرسل إلى الحسين بن عليّ فخلا به ، فقال له : يا ابن أخي قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم ، يا ابن أخي فما أربك إلى الخلاف؟ قال الحسين :
أرسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلاً منهم وإلاّ لم تكن عجلت عليّ بأمر. قال : وتفعل؟ قال : نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلاً بالطريق فقال : يقول لك أخوك ابن الزبير : ما كان؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئاً.
ثم أرسل معاوية إلى ابن الزبير فخلا به ، فقال له : قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا ابن أخي فما أربك إلى الخلاف؟ قال : فأرسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلاً منهم ، وإلاّ لم تكن عجلت عليّ بأمر. قال : وتفعل؟ قال : نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً.
فأرسل بعده إلى ابن عمر فأتاه وخلا به ، فكلّمه بكلام هو ألين من صاحبيه ، وقال : إنّي كرهت أن أدع أمّة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها (١) ، وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم فما أربك إلى الخلاف؟ قال ابن عمر : هل لك في أمر تحقن به الدماء ، وتدرك به حاجتك؟! فقال معاوية : وددت ذلك. فقال ابن عمر : تبرز سريرك ثم أجيء فأُبايعك على أنّي [بعدك] (٢) أدخل فيما اجتمعت عليه الأمّة ، فو الله لو أنّ الأُمّة اجتمعت [بعدك] (٣) على عبد حبشيّ لدخلت فيما تدخل فيه الأُمّة. قال : وتفعل؟ قال : نعم ثم خرج.
وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، فخلا به قال : بأيّ يد أو رجل تقدم على معصيتي؟ فقال عبد الرحمن : أرجو أن يكون ذلك خيراً لي. فقال معاوية : والله لقد هممت أن أقتلك. فقال : لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا ، ولأدخلك في الآخرة النار. ثم خرج.
__________________
(١) أتصدّق أنّ محمداً صلىاللهعليهوآلهوسلم ترك أمّته كالضأن لا راعي لها ولم يرض بذلك معاوية؟! حاشا نبيّ الرحمة عن أن يدع الأمّة كما يحسبون ، غير أنهم نبذوا وصيّته وراء ظهورهم ، وجرّوا الويلات على الأُمّة حتى اليوم. (المؤلف)
(٢) من الإمامة والسياسة.
(٣) من الإمامة والسياسة.
بقي معاوية يومه ذلك يُعطي الخواصّ. ويُدني بذمّة الناس (١) ، فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني أمر بفراش فوضع له ، وسوّيت مقاعد الخاصّة حوله وتلقاءه من أهله ، ثم خرج وعليه حلّة يمانيّة وعمامة دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه ، وقد تغلّى (٢) وتعطّر ، فقعد على سريره ، وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن قرب ، ثم أرسل إلى الحسين بن عليّ ، وعبد الله بن عبّاس ، فسبق ابن عبّاس ، فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش عن يساره ، فحادثه مليّا ثم قال : يا ابن عبّاس لقد وفّر الله حظّكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول عليه الصلاة والسلام. فقال ابن عبّاس : نعم أصلح الله أمير المؤمنين ، وحظّنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلّ أوفر. فجعل معاوية يحدّثه ويحيد به عن طريق المجاوبة ، ويعدل إلى ذكر الأعمار على اختلاف الغرائز والطبائع ، حتى أقبل الحسين بن عليّ ، فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت عن يمينه ، فدخل الحسين وسلّم ، فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة ، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم ، فأخبره ثم سكت. ثم ابتدأ معاوية فقال :
أمّا بعد : فالحمد لله وليّ النعم ، ومنزل النقم ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علوّا كبيرا ، وأنّ محمداً عبده المختصّ المبعوث إلى الجنّ والإنس كافّة ، لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فأدّى عن الله وصدع بأمره ، وصبر عن الأذى في جنبه ، حتى أوضح دين الله ، وأعزّ أولياءه ، وقمع المشركين ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، فمضى ـ صلوات الله عليه ـ وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما سخّر له زهادة واختياراً لله ، وأنفة واقتداراً على الصبر ، بغياً لما يدوم ويبقى ، فهذه صفة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، ثم
__________________
(١) كذا ، وفي الطبعة المعتمدة لدينا من الإمامة والسياسة : ويعصي مذمّة الناس.
(٢) تغلّى : تضمّخ بالغالية ، وهي من أفضل أنواع المسك.
خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك (١) ، وبين ذلك خوض طالما عالجناه مشاهدةً ومكافحةً ومعاينةً وسماعاً ، وما أعلم منه فوق ما تعلمان ، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم الله ما أُحاول به من أمر الرعيّة من سدّ الخلل ، ولمّ الصدع بولاية يزيد ، بما أيقظ العين ، وأحمد الفعل ، هذا معناي في يزيد وفيكما فضل القرابة ، وحظوة العلم ، وكمال المروءة ، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، مع علمه بالسنّة وقراءة القرآن ، والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب ، وقد علمتما أنّ الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة ، قدّم على الصدّيق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل ، من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنّة مذكورة ، فقادهم الرجل بإمرة ، وجمع بهم صلاتهم ، وحفظ عليهم فيئهم ، وقال ولم يقل معه ، وفي رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أسوة حسنة ، فمهلاً بني عبد المطلب فإنّا وأنتم شعبا نفع وجدّ ، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما ، فما يقول القائل إلاّ بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما ، وأستغفر الله لي ولكما.
كلمة الإمام السبط :
فتيسّر ابن عبّاس للكلام ونصب يده للمخاطبة ، فأشار إليه الحسين وقال : «على رسلك ، فأنا المراد ، ونصيبي في التهمة أوفر». فأمسك ابن عبّاس ، فقام الحسين ، فحمد الله وصلّى على الرسول ، ثم قال :
«أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم من جميع جزءاً ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله ، من إيجاز الصفة والتنكّب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت
__________________
(١) كذا ، وفي الطبعة المعتمدة : وثالث مشكور.
الشمس أنوار السُّرُج ، ولقد فضّلت حتى أفرطت ، وأستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حقّ من أتمّ (٢) حقّه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.
وفهمت ما ذكرته عن يزيد ، من اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش ، والحمام السبّق لأترابهنّ ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده باصراً ، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فو الله ما برحت تقدّر (٣) باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم ، حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص.
ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا [تراثاً] ، ولقد ـ لعمر الله ـ أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة ، وجئت لنابها ما (٤) حججتم به القائم عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان ويكون ، حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ حتى أَنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال صلىاللهعليهوآلهوسلم : لا جرم معشر
__________________
(٢) في الطبعة المعتمدة من الإمامة والسياسة : اسم.
(٣) في الطبعة المعتمدة من الإمامة والسياسة : تقدح.
(٤) في الطبعة المعتمدة من الإمامة والسياسة : أما.
المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف يحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابع وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته؟ وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إنّ هذا لهو الخسران المبين ، وأستغفر الله لي ولكم».
فنظر معاوية إلى ابن عبّاس ، فقال : ما هذا يا ابن عبّاس؟ ولما عندك أدهى وأمرّ. فقال ابن عبّاس : لعمر الله إنّها لذريّة الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهّر ، فالْهُ عمّا تريد ، فإنّ لك في الناس مقنعاً حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.
فقال معاوية : أَعوَدُ الحلم التحلّم ، وخيرُه التحلّم عن الأهل ، انصرفا في حفظ الله. ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، وإلى عبد الله بن عمر ، وإلى عبد الله ابن الزبير ، فجلسوا ، فحمد الله وأثنى عليه معاوية ، ثم قال :
يا عبد الله بن عمر قد كنت تحدّثنا أنّك لا تحبّ أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة ، وأنّ لك الدنيا وما فيها ، وإنّي أُحذّرك أن تشقّ عصا المسلمين ، وتسعى في تفريق ملئهم ، وأن تسفك دماءهم ، وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء ، وليس للعباد خيرة من أمرهم ، وقد وكّد الناس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم. ثم سكت.
فتكلّم عبد الله بن عمر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :
أمّا بعد : يا معاوية قد كان قبلك خلفاء ، وكان لهم بنون ، ليس ابنك بخير من أبنائهم ، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك ، فلم يُحابوا في هذا الأمر أحداً ، ولكن اختاروا لهذه الأُمّة حيث علموهم ، وإنّك تحذّرني أن أشقّ عصا المسلمين وأُفرّق ملأهم ، وأسفك دماءهم ، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله ، ولكن إن استقام الناس
فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أُمّة محمد.
فقال معاوية : يرحمك الله ، ليس عندك خلاف. ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر ، فقال له عبد الرحمن :
إنّك والله لوددت أنّا نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد ، والذي نفسي بيده لتجعلنّها شورى أو لأُعيدنّها جذعة ، ثم قام ليخرج ، فتعلّق معاوية بطرف ردائه ، ثم قال : على رسلك ، اللهمّ اكفنيه بما شئت ، لا تظهرنّ لأهل الشام. فإنّي أخشى عليك منهم. ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر ، ثم قال له : أنت ثعلب روّاغ ، كلّما خرجت من جُحر انجحرت في آخر ، أنت ألّبت هذين الرجلين ، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه. فقال ابن الزبير : أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيّكما نطيع؟ أنطيعك؟! أم نطيعه؟! إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها ، وبايع ليزيد ، فنحن نبايعه. فكثر كلامه وكلام ابن الزبير ، حتى قال له معاوية في بعض كلامه : والله ما أراك إلاّ قاتلاً نفسك ، ولكأنّي بك قد تخبّطت في الحبالة. ثم أمرهم بالانصراف ، واحتجب عن الناس ثلاثة أيّام لا يخرج.
ثم خرج فأمر المنادي أن ينادي في الناس أن يجتمعوا لأمر جامع ، فاجتمع الناس في المسجد ، وقعد هؤلاء (١) حول المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر يزيد وفضله ، وقراءته القرآن ، ثم قال : يا أهل المدينة لقد هممت ببيعة يزيد ، وما تركت قرية ولا مدرة إلاّ بعثت إليها بيعته ، فبايع الناس جميعاً وسلّموا ، وأخّرت المدينة بيعته ، وقلت : بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه ، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله ، والله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد ، لبايعت له.
فقام الحسين فقال : «والله لقد تركت من هو خير منه أباً وأُمّا ونفساً» ، فقال
__________________
(١) يعني المتخلّفين عن بيعة يزيد. (المؤلف)
معاوية : كأنّك تريد نفسك؟ فقال الحسين : «نعم أصلحك الله». فقال معاوية : إذاً أُخبرك ، أمّا قولك خير منه أُمّا فلعمري أُمّك خير من أُمّه ، ولو لم يكن إلاّ أنّها امرأة من قريش لكان لنساء قريش فضلهنّ ، فكيف وهي ابنة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم؟! ثم فاطمة في دينها وسابقتها ، فأُمّك لعمر الله خير من أُمّه. وأمّا أبوك فقد حاكم أباه إلى الله فقضى لأبيه على أبيك. فقال الحسين : «حسبك جهلك ، آثرت العاجل على الآجل». فقال معاوية : وأمّا ما ذكرت من أنّك خير من يزيد نفساً ، فيزيد والله خير لأُمّة محمد منك. فقال الحسين : «هذا هو الإفك والزور ، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو ، خير منّي؟» فقال معاوية : مهلاً عن شتم ابن عمّك ، فإنّك لو ذُكِرت عنده بسوء لم يشتمك.
ثم التفت معاوية إلى الناس وقال : أيّها الناس قد علمتم أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم قُبض ولم يستخلف أحداً ، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر ، وكانت بيعته بيعة هدى ، فعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه ، فلما حضرته الوفاة رأى أن [يستخلف عمر ، فعمل عمر بكتاب الله وسنّة نبيّه. فلما حضرته الوفاة رأى أن] (١) يجعلها شورى بين ستّة نفر اختارهم من المسلمين ، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله ، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر ، كلّ ذلك يصنعونه نظراً للمسلمين ، فلذلك رأيت أن أُبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ، ونظراً لهم بعين الإنصاف (٢).
رحلة معاوية الثانية وبيعة يزيد فيها :
قال ابن الأثير : فلمّا بايعه أهل العراق والشام ، سار معاوية إلى الحجاز في ألف فارس ، فلمّا دنا من المدينة لقيه الحسين بن عليّ أوّل الناس ، فلمّا نظر إليه قال :
__________________
(١) ما بين المعقوفين ساقط من طبعة الغدير المتداولة ، وأثبتناه من الإمامة والسياسة.
(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٩ ـ ١٥٥ [١ / ١٥٧ ـ ١٦٣] ، تاريخ الطبري : ٦ / ١٧٠ [٥ / ٣٠٣ حوادث سنة ٥٦ ه] واللفظ لابن قتيبة. (المؤلف)
لا مرحباً ولا أهلاً ، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه ، قال : «مهلاً فإنّي والله لست بأهل لهذه المقالة». قال : بلى ولشرّ منها. ولقيه ابن الزبير فقال : لا مرحباً ولا أهلاً ، خبّ ضب (١) تلعة ، يدخل رأسه ويضرب بذنبه ، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ، ويدقّ ظهره ، نحيّاه عنّي. فضُرِب وجه راحلته. ثم لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال له معاوية : لا أهلاً ولا مرحباً ، شيخ قد خرف وذهب عقله ، ثم أمر فضُرِب وجه راحلته ، ثم فعل بابن عمر نحو ذلك ، فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة ، فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ، ولم يروا منه ما يحبّون ، فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها ، وخطب معاوية بالمدينة ، فذكر يزيد فمدحه ، وقال : من أحقّ منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟! وما أظنّ قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتثّ أصولهم ، وقد أنذرت إن أغنت النذر. ثم أنشد متمثّلاً :
قد كنتُ حذّرتكَ آل المصطلقْ |
|
وقلت : يا عمرو أطعني وانطلقْ |
إنَّك إن كلّفتني ما لم أطقْ |
|
ساءك ما سرّك منّي من خلقْ |
دونك ما استسقيته فاحسُ وذقْ
ثم دخل على عائشة وقد بلغها أنّه ذكر الحسين وأصحابه ، فقال : لَأَقتلنّهم إن لم يبايعوا فشكاهم إليها ، فوعظته وقالت له : بلغني أنّك تتهدّدهم بالقتل؟ فقال : يا أمّ المؤمنين هم أعزّ من ذلك ، ولكنّي بايعت ليزيد وبايعه غيرهم ، أفترين أن أنقض بيعة تمّت؟ قالت : فارفق بهم فإنّهم يصيرون إلى ما تحبّ إن شاء الله ، قال : أفعل. وكان في قولها له : ما يؤمنك أن أُقعِد لك رجلاً يقتلك وقد فعلت بأخي ما فعلت ـ تعني أخاها محمداً ـ؟ فقال لها : كلاّ يا أمّ المؤمنين إنّي في بيت أمن. قالت : أجل. ومكث بالمدينة ما شاء الله.
__________________
(١) يقال : رجل خَبّ وخِبّ ، أى خَدّاع ، خبيث. وفي المثل : أخبّ من ضب. أنظر مجمع الأمثال : ١ / ٤٥٧ رقم ١٣٦٩.
ثم خرج إلى مكة ، فلقيه الناس ، فقال أولئك النفر : نتلقّاه فلعلّه قد ندم على ما كان منه. فلقوه ببطن مرّ ، فكان أوّل من لقيه الحسين ، فقال له معاوية : مرحباً وأهلاً يا بن رسول الله وسيد شباب المسلمين. فأمر له بدابّة فركب وسايره ، ثم فعل بالباقين مثل ذلك ، وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة ، فكانوا أوّل داخل وآخر خارج ، ولا يمضي يوم إلاّ ولهم صلة ، ولا يذكر لهم شيئاً ، حتى قضى نسكه ، وحمل أثقاله ، وقرب مسيره ، فقال بعض أولئك النفر لبعض : لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبّكم وما صنعه إلاّ لما يريد ، فأعدّوا له جواباً. فاتّفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير.
فأحضرهم معاوية وقال : قد علمتم سيرتي فيكم ، وصلتي لأرحامكم ، وحملي ما كان منكم ، ويزيد أخوكم وابن عمّكم ، وأردت أن تقدّموه باسم الخلافة ، وتكونوا أنتم تعزلون وتأمرون وتجبون المال وتقسمونه ، لا يعارضكم في شيء من ذلك. فسكتوا ، فقال : ألا تجيبون؟ مرّتين ، ثم أقبل على ابن الزبير فقال : هات لعمري إنّك خطيبهم ، فقال : نعم نخيّرك بين ثلاث خصال ، قال : اعرضهنّ. قال : تصنع كما صنع رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أو كما صنع أبو بكر ، أو كما صنع عمر ، قال معاوية : ما صنعوا؟ قال : قبض رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم ولم يستخلف أحداً فارتضى الناس أبا بكر ، قال : ليس فيكم مثل أبي بكر ، وأخاف الاختلاف. قالوا : صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر ، فإنّه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه ، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر ، جعل الأمر شورى في ستّة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية : هل عندك غير هذا؟ قال : لا. ثم قال : فأنتم؟ قالوا : قولنا قوله. قال : فإنّي قد أحببت أن أتقدّم إليكم أنّه قد أعذر من أنذر ، إنّي كنت أخطب منكم (١) فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رءوس الناس فأحمل ذلك وأصفح ، وإنّي قائم بمقالة فأُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها
__________________
(١) في الكامل في التاريخ : ٢ / ٥١٣ : فيكم.
السيف إلى رأسه ، فلا يُبقِيَنَّ رجل إلاّ على نفسه. ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم ، فقال : أقم على رأس كلّ رجل من هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف ، فإن ذهب رجل منهم يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.
ثم خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يُبتَزّ أمر دونهم ، ولا يقضى إلاّ عن مشورتهم ، وإنّهم قد رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله. فبايع الناس ، وكانوا يتربّصون بيعة هؤلاء النفر ، ثم ركب رواحله وانصرف إلى المدينة ، فلقي الناس أولئك النفر ، فقالوا لهم : زعمتم أنّكم لا تبايعون ، فلم رضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ (١) قالوا : والله ما فعلنا. فقالوا : ما منعكم أن تردّوا على الرجل؟ قالوا : كادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ، ثم انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم ، فأتاه ابن عبّاس فقال له : ما بالك جفوتنا؟ قال : إنّ صاحبكم ـ يعني الحسين عليهالسلام ـ لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال : يا معاوية إنّي لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ، ثم أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلّهم خوارج عليك. قال : يا أبا العبّاس تعطون ، وترضون ، وترادون (٢).
وجاء في لفظ ابن قتيبة : إنّ معاوية نزل عن المنبر وانصرف ذاهباً إلى منزله ، وأمر من حرسه وشرطته قوماً أن يُحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم : الحسين بن عليّ ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وأوصاهم معاوية قال : إنّي خارج العشيّة إلى أهل الشام فأُخبرهم أنّ هؤلاء النفر قد بايعوا وسلّموا ، فإن تكلّم أحد منهم بكلام يصدّقني أو يكذّبني فيه فلا ينقضي كلامه حتى يطير رأسه. فحذر القوم ذلك ، فلمّا كان العشيّ
__________________
(١) كذا في الكامل ، وفي الطبعة المعتمدة من العقد الفريد : فلما دُعيتم وأرضيتم بايعتم!
(٢) العقد الفريد : ٢ / ٣٠٢ ـ ٣٠٤ [٤ / ١٦١ ـ ١٦٣] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٢١ ـ ٢١٨ [٢ / ٥١١ حوادث سنة ٥٦ ه] ، ذيل الأمالي ص ١٧٧ [٣ / ١٧٥] ، جمهرة الرسائل : ٢ / ٦٩ رقم ٧٢ واللفظ لابن الأثير. (المؤلف)
خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدّثهم وقد ألبسهم الحلل ، فألبس ابن عمر حلّة حمراء ، وألبس الحسين حلّة صفراء ، وألبس عبد الله بن عبّاس حلّة خضراء ، وألبس ابن الزبير حلّة يمانيّة ، ثم خرج بينهم وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم ـ أي القوم ـ وأنّهم بايعوا ، فقال : يا أهل الشام إنّ هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين ، وقد بايعوا وسلّموا ذلك ، والقوم سكوت لم يتكلّموا شيئاً حذر القتل ، فوثب أُناس من أهل الشام فقالوا : يا أمير المؤمنين إن كان رابك منهم ريب فخلّ بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم. فقال معاوية : سبحان الله ما أحلّ دماء قريش عندكم يا أهل الشام! لا أسمع لهم ذاكراً بسوء ، فإنّهم قد بايعوا وسلّموا ، وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم ، ثم ارتحل معاوية راجعاً إلى مكة ، وقد أعطى الناس أعطياتهم ، وأجزل العطاء ، وأخرج إلى كلّ قبيلة جوائزها وأُعطياتها ، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء ، فخرج عبد الله بن عبّاس في أثره حتى لحقه بالروحاء ، فجلس ببابه ، فجعل معاوية يقول : من بالباب؟ فيقال : عبد الله ابن عبّاس ، فلم يأذن لأحد. فلمّا استيقظ قال : من بالباب؟ فقيل : عبد الله بن عبّاس. فدعا بدابّته فأدخلت إليه ثم خرج راكباً ، فوثب إليه عبد الله بن عبّاس فأخذ بلجام البغلة ، ثم قال : أين تذهب؟ قال : إلى مكة. قال : فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا؟ فأوما إليه معاوية فقال : والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم. قال ابن عبّاس : فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد ، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عديّ ، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا. فقال معاوية : لستم كغيركم ، لا والله لا أُعطيكم درهماً حتى يبايع صاحبكم ، فقال ابن عبّاس : أما والله لئن لم تفعل لألحقنّ بساحل من سواحل الشام ثم لأقولنّ ما تعلم ، والله لأتركنّهم عليك خوارج. فقال معاوية : لا بل أعطيكم جوائزكم ، فبعث بها من الروحاء ، ومضى راجعاً إلى الشام. الإمامة والسياسة (١) (١ / ١٥٦).
__________________
(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٦٣.
قال الأميني : إنّ المستشفّ لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جدّ عليم أنّها تمّت برواعد الإرهاب ، وبوارق التطميع ، وعوامل البهت والافتراء ، فيرى معاوية يتوعّد هذا ، ويقتل ذاك ، ويولّي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له ، ويدرّ من رضائخه على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة ، وفي القوم من لا يؤثّر فيه شيء من ذلك كلّه ، غير أنّه لا رأي لمن لا يُطاع ، لكنّ إمام الهدى ، وسبط النبوّة ، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كلّه مصحراً بالحقيقة ، ومصارحاً بالحقّ ، وداحضاً للباطل مع كلّ تلكم الحنادس المدلهمّة ، أصغت إليه أُذن أم لا ، وصغى إلى قيله أحد أو أعرض ، فقام بواجب الموقف رافعاً عقيرته بما تستدعيه الحالة ، ويوجبه النظر في صالح المسلمين ولم يثنه اختلاق معاوية عليه وعلى من وافقه في شيء من الأمر ، ولا ما أعدّه لهم من التوعيد والإرجاف بهم ، ولم تك تأخذه في الله لومة لائم ، حتى لفظ معاوية نفسه الأخير رمزاً للخزاية وشية العار ، ولقي الحسين عليهالسلام ربّه وقد أدّى ما عليه ، رمزاً للخلود ومزيد الحبور في رضوان الله الأكبر ، نعم ، لقي الحسين عليهالسلام ربّه وهو ضحيّة تلك البيعة ـ بيعة يزيد ـ كما لقي أخوه الحسن ربّه مسموماً من جرّاء تلكم البيعة الملعونة التي جرّت الويلات على أُمّة محمد صلىاللهعليهوآلهوسلم واستتبعت هدم الكعبة ، والإغارة على دار الهجرة يوم الحرّة ، وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار للنكال والسوأة ، وأعظمها رزايا مشهد الطفّ التي استأصلت شأفة أهل بيت الرحمة ـ صلوات الله عليهم ـ ، وتركت بيوت الرسالة تنعق فيها النواعب ، وتندب النوادب ، وقرّحت الجفون ، وأسكبت المدامع ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (١).
نعم ؛ تمّت تلك البيعة المشومة مع فقدان أيّ جدارة وحنكة في يزيد ، تؤهّله لتسنّم عرش الخلافة على ما تردّى به من ملابس الخزي وشية العار ، من معاقرة
__________________
(١) الشعراء : ٢٢٧.
الخمور ، ومباشرة الفجور ، ومنادمة القيان ذوات المعازف ، ومهارشة الكلاب ، إلى ما لا يتناهى من مظاهر الخزاية ، وقد عرفته الناس بذلك كلّه منذ أولياته وعرّفه به أُناس آخرون ، وحسبك شهادة وفدٍ بعثه أهل المدينة إلى يزيد ، وفيهم : عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة ، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي ، والمنذر بن الزبير ، وآخرون كثيرون من أشراف أهل المدينة ، فقدموا على يزيد فأكرمهم ، وأحسن إليهم ، وأعظم جوائزهم ، وشاهدوا أفعاله ، ثم انصرفوا من عنده وقدموا المدينة كلهم إلاّ المنذر ، فلمّا قدم الوفد المدينة قاموا فيهم ، فأظهروا شتم يزيد وعتبة (١) ، وقالوا : إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، ويعزف بالطنابير ، ويضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويُسامر الحُرّاب ـ وهم اللصوص والفتيان ـ وإنّا نُشهدكم أنّا قد خلعناه ، فتابعهم الناس (٢).
وقال عبد الله بن حنظلة ، ذلك الصحابيّ العظيم المنعوت بالراهب ، قتيل يوم الحرّة يومئذٍ : يا قوم اتّقوا الله وحده لا شريك له ، فو الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ، إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً (٣)
ولمّا قدم المدينة أتاه الناس ، فقالوا : ما وراءك؟ قال : أتيتكم من عند رجل ، والله لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم (٤).
__________________
(١) كذا في تاريخ الطبري ، وفي الكامل والبداية والنهاية : شتم يزيد وعيبه ، وهو الصحيح ظاهراً.
(٢) تاريخ الطبري : ٧ / ٤ [٥ / ٤٨٠ حوادث سنة ٦٢ ه] ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٤٥ [٢ / ٥٨٨ حوادث سنة ٦١ ه] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٢١٦ [٨ / ٢٣٥ حوادث سنة ٦٢ ه] فتح الباري : ١٣ / ٥٩ [١٣ / ٧٠]. (المؤلف)
(٣) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٣٧٢ [٢٧ / ٤٢٩ رقم ٣٢٧٠ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ١٢٧]. (المؤلف)
(٤) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٣٧٢ [٢٧ / ٤٢٧ رقم ٣٢٧٠ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ١٢٧] ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٤٥ [٢ / ٥٨٨ سنة ٦٢ ه] ، الإصابة : ٢ / ٢٩٩ [رقم ٤٦٣٧]. (المؤلف)
وقال المنذر بن الزبير لمّا قدم المدينة : إنّ يزيد قد أجازني بمائة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أن أُخبركم خبره ، والله إنّه ليشرب الخمر ، والله إنّه ليسكر حتى يدع الصلاة (١)
وقال عتبة بن مسعود لابن عبّاس : أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر ، ويلهو بالقيان ، ويستهتر بالفواحش؟ قال : مه فأين ما قلت لكم؟ وكم بعده من آتٍ ممّن يشرب الخمر ، أو هو شرّ من شاربها ، أنتم إلى بيعته سراع ، أما والله إنّي لأنهاكم وأنا أعلم أنّكم فاعلون ، حتى يصلب مصلوب قريش بمكة ـ يعني عبد الله بن الزبير (٢).
نعم : لم يك على مخازي يزيد من أوّل يوم حجاب مسدول يُخفيها على الأباعد والأقارب ، غير أنّ أقرب الناس إليه ـ وهو أبوه معاوية ـ غضّ الطرف عنها جمعاء ، وحسب أنّها تخفى على الملأ الدينيّ بالتمويه ، وطفق يذكر له فضلاً وعلماً بالسياسة ، فجابهه لسان الحقّ ، وإنسان الفضيلة ، حسين العظمة ، بكلماته المذكورة في صفحة (٢٤٨ و ٢٥٠) ومعاوية هو نفسه يندّد بابنه في كتاب كتبه إليه ، ومنه قوله : اعلم يا يزيد : إنّ أوّل ما سلبكه السكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة ، وآلائه المتواترة ، وهي الجرحة العظمى ، والفجعة الكبرى : ترك الصلوات المفروضات في أوقاتها ، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها ، ثم استحسان العيوب ، وركوب الذنوب ، وإظهار العورة ، وإباحة السرّ ، فلا تأمن نفسك على سرّك ، ولا تعتقد على فعلك (٣).
فنظراً إلى ما عرفته الأُمّة من يزيد ، من مخازيه وملكاته الرذيلة ، عدّ الحسن البصري استخلاف معاوية إيّاه من موبقاته الأربع ، كما مرّ حديثه في صفحة (٢٢٥).
__________________
(١) كامل ابن الأثير : ٤ / ٤٥ [٢ / ٥٨٨ حوادث سنة ٦٢ ه] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٢١٦ [٨ / ٢٣٦ حوادث سنة ٦٢ ه]. (المؤلف)
(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ١٦٧ [١ / ١٧٤]. (المؤلف)
(٣) صبح الأعشى : ٦ / ٣٨٧ [٦ / ٣٧٤]. (المؤلف)