الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠

جبرك إيّاي على البيعة ليزيد ، فلعمري لئن أجبرتني عليها لقد أجبرناك وأباك على الإسلام حتى أدخلناكما كارهين غير طائعين. والسلام.

الإمامة والسياسة (١) (١ / ١٤٧ ، ١٤٨).

وكتب معاوية إلى عبد الله بن الزبير :

رأيت كرامَ الناسِ إن كُفَّ عنهمُ

بحلمٍ رأوا فضلاً لمن قد تحلّما

ولا سيّما إن كان عفواً بقدرةٍ

فذلك أحرى أن يُجَلَ ويُعظما

ولست بذي لؤم (٢) فتعذر بالذي

أتاه من الأخلاق من كان ألوما

ولكنّ غشّا لست تعرف غيره

وقد غشّ قبل اليوم إبليس آدما

فما غشّ إلاّ نفسَه في فعالهِ

فأصبح ملعوناً وقد كان مكرما

وإنّي لأخشى أن أنالَكَ بالذي

أردت فيجزي الله من كان أظلما

فكتب عبد الله بن الزبير إلى معاوية :

ألا سمع اللهُ الذي أنا عبدُه

فأخزى إلهُ الناسِ من كان أظلما

وأجرا على الله العظيم بحلمه

وأسرعهم في الموبقات تقحّما

أغرّك أن قالوا : حليم بغرّةٍ

وليس بذي حلمٍ ولكن تحلّما

ولو رمت ما إن قد عزمت وجدتني

هزبرَ عرينٍ يترك القرن أكتما

وأقسم لو لا بيعة لك لم أكن

لأنقضَها لم تنجُ منّي مسلما

الإمامة والسياسة (١ / ١٤٧ ، ١٤٨).

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٥٤ ـ ١٥٥.

(٢) في المصدر : بذي لوم.

٣٤١

بيعة يزيد في المدينة المشرّفة :

حجّ معاوية في سنة (٥٠) ، واعتمر في رجب سنة (٥٦) ، وكان في كلا السفرين يسعى وراء بيعة يزيد ، وله في ذلك خطوات واسعة ومواقف ومفاوضات مع بقيّة الصحابة ووجوه الأُمّة ، غير أنّ المؤرّخين خلطوا أخبار الرحلتين بعضها ببعض وما فصّلوها تفصيلاً.

الرحلة الأولى :

قال ابن قتيبة (١) : قالوا : استخار الله معاوية وأعرض عن ذكر البيعة حتى قدم المدينة سنة خمسين ، فتلقّاه الناس ، فلمّا استقرّ في منزله أرسل إلى عبد الله بن عبّاس ، وعبد الله بن جعفر بن أبي طالب ، وإلى عبد الله بن عمر ، وإلى عبد الله بن الزبير ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس حتى يخرج هؤلاء النفر ، فلمّا جلسوا تكلّم معاوية فقال :

الحمد لله الذي أمرنا بحمده ، ووعدنا عليه ثوابه ، نحمده كثيراً كما أنعم علينا كثيراً ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله. أمّا بعد : فإنّي قد كبر سنّي ووهن عظمي ، وقرُب أجلي ، وأوشكت أن أُدعى فأُجيب ، وقد رأيت أن استخلف عليكم بعدي يزيد ، ورأيته لكم رضا ، وأنتم عبادلة قريش وخيارها وأبناء خيارها ، ولم يمنعني أن أُحضر حسناً وحسيناً إلاّ أنّهما أولاد أبيهما [عليٍ] (٢) ، على حسن رأيي فيهما وشديد محبّتي لهما ، فردّوا على أمير المؤمنين خيراً يرحمكم الله.

فتكلّم عبد الله بن العبّاس ، فقال :

الحمد لله الذي ألهمنا أن نحمده واستوجب علينا الشكر على آلائه وحسن

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٨.

(٢) من المصدر.

٣٤٢

بلائه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأنّ محمداً عبده ورسوله ، وصلّى الله على محمد وآل محمد.

أمّا بعد : فإنّك قد تكلّمت فأنصتنا ، وقلت فسمعنا ، وإنّ الله جلّ ثناؤه وتقدّست أسماؤه اختار محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرسالته ، واختاره لوحيه ، وشرّفه على خلقه ، فأشرف الناس من تشرّف به ، وأولاهم بالأمر أخصّهم به ، وإنّما على الأُمّة التسليم لنبيّها إذ اختاره الله لها ، فإنّه إنّما اختار محمداً بعلمه ، وهو العليم الخبير ، وأستغفر الله لي ولكم.

فقام عبد الله بن جعفر ، فقال :

الحمد لله أهل الحمد ومُنتهاه ، نحمده على إلهامنا حمده ، ونرغب إليه في تأدية حقّه ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله واحداً صمداً لم يتّخذ صاحبةً ولا ولدا ، وأنّ محمداً عبده ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. أمّا بعد : فإنّ هذه الخلافة إن أُخذ فيها بالقرآن ، فأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ، وإن أُخذ فيها بسنّة رسول الله ، فأولو رسول الله ، وإن أُخذ بسنّة الشيخين أبي بكر وعمر ، فأيّ الناس أفضل وأكمل وأحقّ بهذا الأمر من آل الرسول ، وايم الله لو ولّوه بعد نبيّهم لوضعوا الأمر موضعه ، لحقّه وصدقه ، ولأُطيع الله ، وعُصي الشيطان ، وما اختلف في الأُمّة سيفان ، فاتّق الله يا معاوية فإنّك قد صرت راعياً ونحن الرعيّة ، فانظر لرعيّتك ، فإنّك مسؤول عنها غداً ، وأمّا ما ذكرت من ابني عمّي وتركك أن تُحضرهما ، فو الله ما أصبت الحقّ ، ولا يجوز لك ذلك إلاّ بهما ، وإنّك لتعلم أنّهما معدن العلم والكرم ، فقل أو دع ، وأستغفر الله لي ولكم.

فتكلّم عبد الله بن الزبير ، فقال :

الحمد لله الذي عرّفنا دينه ، وأكرمنا برسوله ، أحمده على ما أبلى وأولى ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله. وأنّ محمداً عبده ورسوله. أمّا بعد : فإنّ هذه الخلافة لقريش خاصّة ، تتناولها بمآثرها السنيّة ، وأفعالها المرضيّة ، مع شرف الآباء ، وكرم الأبناء ،

٣٤٣

فاتّق الله يا معاوية وأنصف من نفسك ، فإنّ هذا عبد الله بن عبّاس ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهذا عبد الله بن جعفر ذي الجناحين ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنا عبد الله بن الزبير ابن عمّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليّ خلّف حسناً وحسيناً ، وأنت تعلم من هما ، وما هما ، فاتّق الله يا معاوية وأنت الحاكم بيننا وبين نفسك.

فتكلّم عبد الله بن عمر ، فقال :

الحمد الله الذي أكرمنا بدينه ، وشرّفنا بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أمّا بعد : فإنّ هذه الخلافة ليست بهرقليّة ، ولا قيصريّة ، ولا كسرويّة ، يتوارثها الأبناء عن الآباء ، ولو كان كذلك كنت القائم بها بعد أبي ، فو الله ما أدخلني مع الستّة من أصحاب الشورى ، إلاّ [على] أنّ الخلافة ليست شرطاً مشروطاً ، وإنّما هي في قريش خاصّة ، لمن كان لها أهلاً ، ممّن ارتضاه المسلمون لأنفسهم ، من كان أتقى وأرضى ، فإن كنت تريد الفتيان من قريش ، فلعمري إنّ يزيد من فتيانها ، واعلم أنّه لا يُغني عنك من الله شيئاً.

فتكلّم معاوية ، فقال :

قد قلت وقلتم ، وإنّه قد ذهبت الآباء وبقيت الأبناء ، فابني أحبّ إليّ من أبنائهم ، مع أنّ ابني إن قاولتموه وجد مقالاً ، وإنّما كان هذا الأمر لبني عبد مناف ، لأنّهم أهل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمّا مضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولّى الناس أبا بكر وعمر ، من غير معدن الملك والخلافة ، غير أنّهما سارا بسيرة جميلة ، ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف ، فلا يزال فيهم إلى يوم القيامة ، وقد أخرجك الله يا بن الزبير وأنت يا بن عمر منها ، فأمّا ابنا عمّي هذان فليسا بخارجين من الرأي إن شاء الله.

ثم أمر بالرحلة وأعرض عن ذكر البيعة ليزيد ، ولم يقطع عنهم شيئاً من صِلاتهم وأُعطياتهم ، ثم انصرف راجعاً إلى الشام ، وسكت عن البيعة ، فلم يعرض لها إلى سنة إحدى وخمسين.

٣٤٤

الإمامة والسياسة (١ / ١٤٢ ـ ١٤٤) ، جمهرة الخطب (٢ / ٢٣٣ ـ ٢٣٦) (١).

قال الأميني : لم يذكر في هذا اللفظ ما تكلّم به عبد الرحمن ، ذكره ابن حجر في الإصابة (٢ / ٤٠٨) قال : خطب معاوية فدعا الناس إلى بيعة يزيد ، فكلّمه الحسين بن عليّ ، وابن الزبير ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال له عبد الرحمن : أهرقليّة كلّما مات قيصر كان قيصر مكانه؟ لا نفعل والله أبداً.

صورة أخرى :

من محاورة الرحلة الأُولى :

قدم معاوية المدينة حاجّا (٢) ، فلمّا أن دنا من المدينة خرج إليه الناس يتلقّونه ما بين راكب وماش ، وخرج الناس والصبيان ، فلقيه النساء على حال طاقتهم وما تسارعوا به في الفوت والقرب ، فَلانَ لمن كافحه ، وفاوض العامّة بمحادثته ، وتألّفهم جهده مقاربة ومصانعة ليستميلهم إلى ما دخل فيه الناس ، حتى قال في بعض ما يجتلبهم به : يا أهل المدينة ما زلت أطوي الحزن من وعثاء السفر بالحبّ لمطالعتكم حتى انطوى البعيد ، ولان الخشن ، وحقّ لجار رسول الله أن يُتاق إليه. فردّ عليه القوم : بنفسك ودارك ومهاجرك أما إنّ لك منهم كإشفاق الحميم البرّ والحفيّ.

حتى إذا كان بالجرف لقيه الحسين بن عليّ وعبد الله بن عبّاس ، فقال معاوية : مرحباً بابن بنت رسول الله ، وابن صنو أبيه. ثم انحرف إلى الناس فقال : هذان شيخا بني عبد مناف. وأقبل عليهما بوجهه وحديثه ، فرحّب وقرّب ، وجعل يواجه هذا مرّة ، ويضاحك هذا أخرى. حتى ورد المدينة ، فلمّا خالطها لقيته المشاة ، والنساء ، والصبيان ، يسلّمون عليه ويسايرونه إلى أن نزل ، فانصرفا عنه ، فمال الحسين إلى

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٨ ـ ١٥٠ ، جمهرة خطب العرب : ٢ / ٢٤٦ ـ ٢٤٨.

(٢) من المتسالم عليه أنّ معاوية حجّ في سنة خمسين. (المؤلف)

٣٤٥

منزله ، ومضى عبد الله بن عبّاس إلى المسجد ، فدخله.

وأقبل معاوية ومعه خلق كثير من أهل الشام حتى أتى عائشة أمّ المؤمنين فاستأذن عليها ، فأذنت له وحده ، لم يدخل عليها معه أحد ، وعندها مولاها ذكوان ، فقالت عائشة : يا معاوية أكنت تأمن أن أُقعِد لك رجلاً فأقتلك كما قتلت أخي محمد ابن أبي بكر؟ فقال معاوية : ما كنت لتفعلين ذلك. قالت : لم؟ قال : لأنّي في بيت آمن ، بيت رسول الله. ثم إنّ عائشة حمدت الله وأثنت عليه ، وذكرت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وذكرت أبا بكر وعمر ، وحضّته على الاقتداء بهما والاتّباع لأثرهما ، ثم صمتت ، قال : فلم يخطب معاوية ، وخاف أن لا يبلغ ما بلغت ، فارتجل الحديث ارتجالاً ، ثم قال :

أنت والله يا أمّ المؤمنين العالمة بالله وبرسوله دللتِنا على الحقّ ، وحضضتِنا على حظّ أنفسنا ، وأنت أهل لأن يُطاع أمرك ، ويُسمع قولك ، وإنّ أمر يزيد قضاء من القضاء ، وليس للعباد الخيرة من أمرهم! وقد أكّد الناس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا عهودهم على ذلك ومواثيقهم ، أفترى أن ينقضوا عهودهم ومواثيقهم؟!

فلمّا سمعت ذلك عائشة علمت أنّه سيمضي على أمره ، فقالت : أمّا ما ذكرت من عهود ومواثيق فاتّق الله في هؤلاء الرهط ، ولا تعجل فيهم ، فعلّهم لا يصنعون إلاّ ما أحببت.

ثم قام معاوية ، فلمّا قام قالت عائشة : يا معاوية قتلت حُجراً وأصحابه العابدين المجتهدين. فقال معاوية : دعي هذا ، كيف أنا في الذي بيني وبينك وفي حوائجك؟ قالت : صالح. قال : فدعينا وإيّاهم حتى نلقى ربّنا.

ثم خرج ومعه ذكوان فاتّكأ على يد ذكوان وهو يمشي ويقول : تالله إن رأيت كاليوم قط خطيباً أبلغ من عائشة بعد رسول الله ، ثم مضى حتى أتى منزله ، فأرسل إلى الحسين بن عليّ فخلا به ، فقال له : يا ابن أخي قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم ، يا ابن أخي فما أربك إلى الخلاف؟ قال الحسين :

٣٤٦

أرسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلاً منهم وإلاّ لم تكن عجلت عليّ بأمر. قال : وتفعل؟ قال : نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً فخرج وقد أقعد له ابن الزبير رجلاً بالطريق فقال : يقول لك أخوك ابن الزبير : ما كان؟ فلم يزل به حتى استخرج منه شيئاً.

ثم أرسل معاوية إلى ابن الزبير فخلا به ، فقال له : قد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر من قريش أنت تقودهم يا ابن أخي فما أربك إلى الخلاف؟ قال : فأرسل إليهم فإن بايعوك كنت رجلاً منهم ، وإلاّ لم تكن عجلت عليّ بأمر. قال : وتفعل؟ قال : نعم. فأخذ عليه أن لا يخبر بحديثهما أحداً.

فأرسل بعده إلى ابن عمر فأتاه وخلا به ، فكلّمه بكلام هو ألين من صاحبيه ، وقال : إنّي كرهت أن أدع أمّة محمد بعدي كالضأن لا راعي لها (١) ، وقد استوثق الناس لهذا الأمر غير خمسة نفر أنت تقودهم فما أربك إلى الخلاف؟ قال ابن عمر : هل لك في أمر تحقن به الدماء ، وتدرك به حاجتك؟! فقال معاوية : وددت ذلك. فقال ابن عمر : تبرز سريرك ثم أجيء فأُبايعك على أنّي [بعدك] (٢) أدخل فيما اجتمعت عليه الأمّة ، فو الله لو أنّ الأُمّة اجتمعت [بعدك] (٣) على عبد حبشيّ لدخلت فيما تدخل فيه الأُمّة. قال : وتفعل؟ قال : نعم ثم خرج.

وأرسل إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، فخلا به قال : بأيّ يد أو رجل تقدم على معصيتي؟ فقال عبد الرحمن : أرجو أن يكون ذلك خيراً لي. فقال معاوية : والله لقد هممت أن أقتلك. فقال : لو فعلت لأتبعك الله في الدنيا ، ولأدخلك في الآخرة النار. ثم خرج.

__________________

(١) أتصدّق أنّ محمداً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ترك أمّته كالضأن لا راعي لها ولم يرض بذلك معاوية؟! حاشا نبيّ الرحمة عن أن يدع الأمّة كما يحسبون ، غير أنهم نبذوا وصيّته وراء ظهورهم ، وجرّوا الويلات على الأُمّة حتى اليوم. (المؤلف)

(٢) من الإمامة والسياسة.

(٣) من الإمامة والسياسة.

٣٤٧

بقي معاوية يومه ذلك يُعطي الخواصّ. ويُدني بذمّة الناس (١) ، فلمّا كان صبيحة اليوم الثاني أمر بفراش فوضع له ، وسوّيت مقاعد الخاصّة حوله وتلقاءه من أهله ، ثم خرج وعليه حلّة يمانيّة وعمامة دكناء وقد أسبل طرفها بين كتفيه ، وقد تغلّى (٢) وتعطّر ، فقعد على سريره ، وأجلس كتّابه منه بحيث يسمعون ما يأمر به ، وأمر حاجبه أن لا يأذن لأحد من الناس وإن قرب ، ثم أرسل إلى الحسين بن عليّ ، وعبد الله بن عبّاس ، فسبق ابن عبّاس ، فلمّا دخل وسلّم عليه أقعده في الفراش عن يساره ، فحادثه مليّا ثم قال : يا ابن عبّاس لقد وفّر الله حظّكم من مجاورة هذا القبر الشريف ودار الرسول عليه الصلاة والسلام. فقال ابن عبّاس : نعم أصلح الله أمير المؤمنين ، وحظّنا من القناعة بالبعض والتجافي عن الكلّ أوفر. فجعل معاوية يحدّثه ويحيد به عن طريق المجاوبة ، ويعدل إلى ذكر الأعمار على اختلاف الغرائز والطبائع ، حتى أقبل الحسين بن عليّ ، فلمّا رآه معاوية جمع له وسادة كانت عن يمينه ، فدخل الحسين وسلّم ، فأشار إليه فأجلسه عن يمينه مكان الوسادة ، فسأله معاوية عن حال بني أخيه الحسن وأسنانهم ، فأخبره ثم سكت. ثم ابتدأ معاوية فقال :

أمّا بعد : فالحمد لله وليّ النعم ، ومنزل النقم ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله المتعالي عمّا يقول الملحدون علوّا كبيرا ، وأنّ محمداً عبده المختصّ المبعوث إلى الجنّ والإنس كافّة ، لينذرهم بقرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، فأدّى عن الله وصدع بأمره ، وصبر عن الأذى في جنبه ، حتى أوضح دين الله ، وأعزّ أولياءه ، وقمع المشركين ، وظهر أمر الله وهم كارهون ، فمضى ـ صلوات الله عليه ـ وقد ترك من الدنيا ما بذل له ، واختار منها الترك لما سخّر له زهادة واختياراً لله ، وأنفة واقتداراً على الصبر ، بغياً لما يدوم ويبقى ، فهذه صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثم

__________________

(١) كذا ، وفي الطبعة المعتمدة لدينا من الإمامة والسياسة : ويعصي مذمّة الناس.

(٢) تغلّى : تضمّخ بالغالية ، وهي من أفضل أنواع المسك.

٣٤٨

خلفه رجلان محفوظان وثالث مشكوك (١) ، وبين ذلك خوض طالما عالجناه مشاهدةً ومكافحةً ومعاينةً وسماعاً ، وما أعلم منه فوق ما تعلمان ، وقد كان من أمر يزيد ما سبقتم إليه وإلى تجويزه ، وقد علم الله ما أُحاول به من أمر الرعيّة من سدّ الخلل ، ولمّ الصدع بولاية يزيد ، بما أيقظ العين ، وأحمد الفعل ، هذا معناي في يزيد وفيكما فضل القرابة ، وحظوة العلم ، وكمال المروءة ، وقد أصبت من ذلك عند يزيد على المناظرة والمقابلة ما أعياني مثله عندكما وعند غيركما ، مع علمه بالسنّة وقراءة القرآن ، والحلم الذي يرجح بالصمّ الصلاب ، وقد علمتما أنّ الرسول المحفوظ بعصمة الرسالة ، قدّم على الصدّيق والفاروق ومن دونهما من أكابر الصحابة وأوائل المهاجرين يوم غزوة السلاسل ، من لم يقارب القوم ولم يعاندهم برتبة في قرابة موصولة ولا سنّة مذكورة ، فقادهم الرجل بإمرة ، وجمع بهم صلاتهم ، وحفظ عليهم فيئهم ، وقال ولم يقل معه ، وفي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسوة حسنة ، فمهلاً بني عبد المطلب فإنّا وأنتم شعبا نفع وجدّ ، وما زلت أرجو الإنصاف في اجتماعكما ، فما يقول القائل إلاّ بفضل قولكما ، فردّا على ذي رحم مستعتب ما يحمد به البصيرة في عتابكما ، وأستغفر الله لي ولكما.

كلمة الإمام السبط :

فتيسّر ابن عبّاس للكلام ونصب يده للمخاطبة ، فأشار إليه الحسين وقال : «على رسلك ، فأنا المراد ، ونصيبي في التهمة أوفر». فأمسك ابن عبّاس ، فقام الحسين ، فحمد الله وصلّى على الرسول ، ثم قال :

«أمّا بعد يا معاوية فلن يؤدّي القائل وإن أطنب في صفة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جميع جزءاً ، وقد فهمت ما لبست به الخلف بعد رسول الله ، من إيجاز الصفة والتنكّب عن استبلاغ النعت ، وهيهات هيهات يا معاوية ، فضح الصبح فحمة الدجى ، وبهرت

__________________

(١) كذا ، وفي الطبعة المعتمدة : وثالث مشكور.

٣٤٩

الشمس أنوار السُّرُج ، ولقد فضّلت حتى أفرطت ، وأستأثرت حتى أجحفت ، ومنعت حتى بخلت ، وجرت حتى جاوزت ، ما بذلت لذي حقّ من أتمّ (٢) حقّه بنصيب حتى أخذ الشيطان حظّه الأوفر ، ونصيبه الأكمل.

وفهمت ما ذكرته عن يزيد ، من اكتماله ، وسياسته لأُمّة محمد ، تريد أن توهم الناس في يزيد ، كأنّك تصف محجوباً ، أو تنعت غائباً ، أو تخبر عمّا كان ممّا احتويته بعلم خاصّ ، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه ، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المهارشة عند التهارش ، والحمام السبّق لأترابهنّ ، والقينات ذوات المعازف ، وضروب الملاهي ، تجده باصراً ، ودع عنك ما تحاول ، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق بأكثر ممّا أنت لاقيه! فو الله ما برحت تقدّر (٣) باطلاً في جور ، وحنقاً في ظلم ، حتى ملأت الأسقية ، وما بينك وبين الموت إلاّ غمضة ، فتقدم على عمل محفوظ في يوم مشهود ، ولات حين مناص.

ورأيتك عرضت بنا بعد هذا الأمر ، ومنعتنا عن آبائنا [تراثاً] ، ولقد ـ لعمر الله ـ أورثنا الرسول عليه الصلاة والسلام ولادة ، وجئت لنابها ما (٤) حججتم به القائم عند موت الرسول ، فأذعن للحجّة بذلك ، وردّه الإيمان إلى النصف ، فركبتم الأعاليل ، وفعلتم الأفاعيل ، وقلتم : كان ويكون ، حتى أتاك الأمر يا معاوية من طريق كان قصدها لغيرك ، فهناك فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وذكرت قيادة الرجل القوم بعهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأميره له ، وقد كان ذلك ولعمرو بن العاص يومئذ فضيلة بصحبة الرسول وبيعته له ، وما صار لعمرو يومئذ حتى أَنِفَ القوم إمرته ، وكرهوا تقديمه ، وعدّوا عليه أفعاله ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لا جرم معشر

__________________

(٢) في الطبعة المعتمدة من الإمامة والسياسة : اسم.

(٣) في الطبعة المعتمدة من الإمامة والسياسة : تقدح.

(٤) في الطبعة المعتمدة من الإمامة والسياسة : أما.

٣٥٠

المهاجرين ، لا يعمل عليكم بعد اليوم غيري ، فكيف يحتجّ بالمنسوخ من فعل الرسول في أوكد الأحوال وأولاها بالمجتمع عليه من الصواب؟ أم كيف صاحبت بصاحب تابع وحولك من لا يؤمن في صحبته ، ولا يعتمد في دينه وقرابته؟ وتتخطّاهم إلى مسرف مفتون ، تريد أن تلبس الناس شبهة يسعد بها الباقي في دنياه ، وتشقى بها في آخرتك ، إنّ هذا لهو الخسران المبين ، وأستغفر الله لي ولكم».

فنظر معاوية إلى ابن عبّاس ، فقال : ما هذا يا ابن عبّاس؟ ولما عندك أدهى وأمرّ. فقال ابن عبّاس : لعمر الله إنّها لذريّة الرسول ، وأحد أصحاب الكساء ، ومن البيت المطهّر ، فالْهُ عمّا تريد ، فإنّ لك في الناس مقنعاً حتى يحكم الله بأمره وهو خير الحاكمين.

فقال معاوية : أَعوَدُ الحلم التحلّم ، وخيرُه التحلّم عن الأهل ، انصرفا في حفظ الله. ثم أرسل معاوية إلى عبد الرحمن بن أبي بكر ، وإلى عبد الله بن عمر ، وإلى عبد الله ابن الزبير ، فجلسوا ، فحمد الله وأثنى عليه معاوية ، ثم قال :

يا عبد الله بن عمر قد كنت تحدّثنا أنّك لا تحبّ أن تبيت ليلة وليس في عنقك بيعة جماعة ، وأنّ لك الدنيا وما فيها ، وإنّي أُحذّرك أن تشقّ عصا المسلمين ، وتسعى في تفريق ملئهم ، وأن تسفك دماءهم ، وإنّ أمر يزيد قد كان قضاء من القضاء ، وليس للعباد خيرة من أمرهم ، وقد وكّد الناس بيعتهم في أعناقهم ، وأعطوا على ذلك عهودهم ومواثيقهم. ثم سكت.

فتكلّم عبد الله بن عمر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال :

أمّا بعد : يا معاوية قد كان قبلك خلفاء ، وكان لهم بنون ، ليس ابنك بخير من أبنائهم ، فلم يروا في أبنائهم ما رأيت في ابنك ، فلم يُحابوا في هذا الأمر أحداً ، ولكن اختاروا لهذه الأُمّة حيث علموهم ، وإنّك تحذّرني أن أشقّ عصا المسلمين وأُفرّق ملأهم ، وأسفك دماءهم ، ولم أكن لأفعل ذلك إن شاء الله ، ولكن إن استقام الناس

٣٥١

فسأدخل في صالح ما تدخل فيه أُمّة محمد.

فقال معاوية : يرحمك الله ، ليس عندك خلاف. ثم قال معاوية لعبد الرحمن بن أبي بكر نحو ما قاله لعبد الله بن عمر ، فقال له عبد الرحمن :

إنّك والله لوددت أنّا نكلك إلى الله فيما جسرت عليه من أمر يزيد ، والذي نفسي بيده لتجعلنّها شورى أو لأُعيدنّها جذعة ، ثم قام ليخرج ، فتعلّق معاوية بطرف ردائه ، ثم قال : على رسلك ، اللهمّ اكفنيه بما شئت ، لا تظهرنّ لأهل الشام. فإنّي أخشى عليك منهم. ثم قال لابن الزبير نحو ما قاله لابن عمر ، ثم قال له : أنت ثعلب روّاغ ، كلّما خرجت من جُحر انجحرت في آخر ، أنت ألّبت هذين الرجلين ، وأخرجتهما إلى ما خرجا إليه. فقال ابن الزبير : أتريد أن تبايع ليزيد؟ أرأيت إن بايعناه أيّكما نطيع؟ أنطيعك؟! أم نطيعه؟! إن كنت مللت الخلافة فاخرج منها ، وبايع ليزيد ، فنحن نبايعه. فكثر كلامه وكلام ابن الزبير ، حتى قال له معاوية في بعض كلامه : والله ما أراك إلاّ قاتلاً نفسك ، ولكأنّي بك قد تخبّطت في الحبالة. ثم أمرهم بالانصراف ، واحتجب عن الناس ثلاثة أيّام لا يخرج.

ثم خرج فأمر المنادي أن ينادي في الناس أن يجتمعوا لأمر جامع ، فاجتمع الناس في المسجد ، وقعد هؤلاء (١) حول المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم ذكر يزيد وفضله ، وقراءته القرآن ، ثم قال : يا أهل المدينة لقد هممت ببيعة يزيد ، وما تركت قرية ولا مدرة إلاّ بعثت إليها بيعته ، فبايع الناس جميعاً وسلّموا ، وأخّرت المدينة بيعته ، وقلت : بيضته وأصله ومن لا أخافهم عليه ، وكان الذين أبوا البيعة منهم من كان أجدر أن يصله ، والله لو علمت مكان أحد هو خير للمسلمين من يزيد ، لبايعت له.

فقام الحسين فقال : «والله لقد تركت من هو خير منه أباً وأُمّا ونفساً» ، فقال

__________________

(١) يعني المتخلّفين عن بيعة يزيد. (المؤلف)

٣٥٢

معاوية : كأنّك تريد نفسك؟ فقال الحسين : «نعم أصلحك الله». فقال معاوية : إذاً أُخبرك ، أمّا قولك خير منه أُمّا فلعمري أُمّك خير من أُمّه ، ولو لم يكن إلاّ أنّها امرأة من قريش لكان لنساء قريش فضلهنّ ، فكيف وهي ابنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! ثم فاطمة في دينها وسابقتها ، فأُمّك لعمر الله خير من أُمّه. وأمّا أبوك فقد حاكم أباه إلى الله فقضى لأبيه على أبيك. فقال الحسين : «حسبك جهلك ، آثرت العاجل على الآجل». فقال معاوية : وأمّا ما ذكرت من أنّك خير من يزيد نفساً ، فيزيد والله خير لأُمّة محمد منك. فقال الحسين : «هذا هو الإفك والزور ، يزيد شارب الخمر ومشتري اللهو ، خير منّي؟» فقال معاوية : مهلاً عن شتم ابن عمّك ، فإنّك لو ذُكِرت عنده بسوء لم يشتمك.

ثم التفت معاوية إلى الناس وقال : أيّها الناس قد علمتم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قُبض ولم يستخلف أحداً ، فرأى المسلمون أن يستخلفوا أبا بكر ، وكانت بيعته بيعة هدى ، فعمل بكتاب الله وسنّة نبيّه ، فلما حضرته الوفاة رأى أن [يستخلف عمر ، فعمل عمر بكتاب الله وسنّة نبيّه. فلما حضرته الوفاة رأى أن] (١) يجعلها شورى بين ستّة نفر اختارهم من المسلمين ، فصنع أبو بكر ما لم يصنعه رسول الله ، وصنع عمر ما لم يصنعه أبو بكر ، كلّ ذلك يصنعونه نظراً للمسلمين ، فلذلك رأيت أن أُبايع ليزيد لما وقع الناس فيه من الاختلاف ، ونظراً لهم بعين الإنصاف (٢).

رحلة معاوية الثانية وبيعة يزيد فيها :

قال ابن الأثير : فلمّا بايعه أهل العراق والشام ، سار معاوية إلى الحجاز في ألف فارس ، فلمّا دنا من المدينة لقيه الحسين بن عليّ أوّل الناس ، فلمّا نظر إليه قال :

__________________

(١) ما بين المعقوفين ساقط من طبعة الغدير المتداولة ، وأثبتناه من الإمامة والسياسة.

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ١٤٩ ـ ١٥٥ [١ / ١٥٧ ـ ١٦٣] ، تاريخ الطبري : ٦ / ١٧٠ [٥ / ٣٠٣ حوادث سنة ٥٦ ه‍] واللفظ لابن قتيبة. (المؤلف)

٣٥٣

لا مرحباً ولا أهلاً ، بدنة يترقرق دمها والله مهريقه ، قال : «مهلاً فإنّي والله لست بأهل لهذه المقالة». قال : بلى ولشرّ منها. ولقيه ابن الزبير فقال : لا مرحباً ولا أهلاً ، خبّ ضب (١) تلعة ، يدخل رأسه ويضرب بذنبه ، ويوشك والله أن يؤخذ بذنبه ، ويدقّ ظهره ، نحيّاه عنّي. فضُرِب وجه راحلته. ثم لقيه عبد الرحمن بن أبي بكر ، فقال له معاوية : لا أهلاً ولا مرحباً ، شيخ قد خرف وذهب عقله ، ثم أمر فضُرِب وجه راحلته ، ثم فعل بابن عمر نحو ذلك ، فأقبلوا معه لا يلتفت إليهم حتى دخل المدينة ، فحضروا بابه فلم يؤذن لهم على منازلهم ، ولم يروا منه ما يحبّون ، فخرجوا إلى مكة فأقاموا بها ، وخطب معاوية بالمدينة ، فذكر يزيد فمدحه ، وقال : من أحقّ منه بالخلافة في فضله وعقله وموضعه؟! وما أظنّ قوماً بمنتهين حتى تصيبهم بوائق تجتثّ أصولهم ، وقد أنذرت إن أغنت النذر. ثم أنشد متمثّلاً :

قد كنتُ حذّرتكَ آل المصطلقْ

وقلت : يا عمرو أطعني وانطلقْ

إنَّك إن كلّفتني ما لم أطقْ

ساءك ما سرّك منّي من خلقْ

دونك ما استسقيته فاحسُ وذقْ

ثم دخل على عائشة وقد بلغها أنّه ذكر الحسين وأصحابه ، فقال : لَأَقتلنّهم إن لم يبايعوا فشكاهم إليها ، فوعظته وقالت له : بلغني أنّك تتهدّدهم بالقتل؟ فقال : يا أمّ المؤمنين هم أعزّ من ذلك ، ولكنّي بايعت ليزيد وبايعه غيرهم ، أفترين أن أنقض بيعة تمّت؟ قالت : فارفق بهم فإنّهم يصيرون إلى ما تحبّ إن شاء الله ، قال : أفعل. وكان في قولها له : ما يؤمنك أن أُقعِد لك رجلاً يقتلك وقد فعلت بأخي ما فعلت ـ تعني أخاها محمداً ـ؟ فقال لها : كلاّ يا أمّ المؤمنين إنّي في بيت أمن. قالت : أجل. ومكث بالمدينة ما شاء الله.

__________________

(١) يقال : رجل خَبّ وخِبّ ، أى خَدّاع ، خبيث. وفي المثل : أخبّ من ضب. أنظر مجمع الأمثال : ١ / ٤٥٧ رقم ١٣٦٩.

٣٥٤

ثم خرج إلى مكة ، فلقيه الناس ، فقال أولئك النفر : نتلقّاه فلعلّه قد ندم على ما كان منه. فلقوه ببطن مرّ ، فكان أوّل من لقيه الحسين ، فقال له معاوية : مرحباً وأهلاً يا بن رسول الله وسيد شباب المسلمين. فأمر له بدابّة فركب وسايره ، ثم فعل بالباقين مثل ذلك ، وأقبل يسايرهم لا يسير معه غيرهم حتى دخل مكة ، فكانوا أوّل داخل وآخر خارج ، ولا يمضي يوم إلاّ ولهم صلة ، ولا يذكر لهم شيئاً ، حتى قضى نسكه ، وحمل أثقاله ، وقرب مسيره ، فقال بعض أولئك النفر لبعض : لا تخدعوا فما صنع بكم هذا لحبّكم وما صنعه إلاّ لما يريد ، فأعدّوا له جواباً. فاتّفقوا على أن يكون المخاطب له ابن الزبير.

فأحضرهم معاوية وقال : قد علمتم سيرتي فيكم ، وصلتي لأرحامكم ، وحملي ما كان منكم ، ويزيد أخوكم وابن عمّكم ، وأردت أن تقدّموه باسم الخلافة ، وتكونوا أنتم تعزلون وتأمرون وتجبون المال وتقسمونه ، لا يعارضكم في شيء من ذلك. فسكتوا ، فقال : ألا تجيبون؟ مرّتين ، ثم أقبل على ابن الزبير فقال : هات لعمري إنّك خطيبهم ، فقال : نعم نخيّرك بين ثلاث خصال ، قال : اعرضهنّ. قال : تصنع كما صنع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو كما صنع أبو بكر ، أو كما صنع عمر ، قال معاوية : ما صنعوا؟ قال : قبض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يستخلف أحداً فارتضى الناس أبا بكر ، قال : ليس فيكم مثل أبي بكر ، وأخاف الاختلاف. قالوا : صدقت فاصنع كما صنع أبو بكر ، فإنّه عهد إلى رجل من قاصية قريش ليس من بني أبيه فاستخلفه ، وإن شئت فاصنع كما صنع عمر ، جعل الأمر شورى في ستّة نفر ليس فيهم أحد من ولده ولا من بني أبيه. قال معاوية : هل عندك غير هذا؟ قال : لا. ثم قال : فأنتم؟ قالوا : قولنا قوله. قال : فإنّي قد أحببت أن أتقدّم إليكم أنّه قد أعذر من أنذر ، إنّي كنت أخطب منكم (١) فيقوم إليّ القائم منكم فيكذّبني على رءوس الناس فأحمل ذلك وأصفح ، وإنّي قائم بمقالة فأُقسم بالله لئن ردّ عليّ أحدكم كلمة في مقامي هذا ، لا ترجع إليه كلمة غيرها حتى يسبقها

__________________

(١) في الكامل في التاريخ : ٢ / ٥١٣ : فيكم.

٣٥٥

السيف إلى رأسه ، فلا يُبقِيَنَّ رجل إلاّ على نفسه. ثم دعا صاحب حرسه بحضرتهم ، فقال : أقم على رأس كلّ رجل من هؤلاء رجلين ، ومع كلّ واحد سيف ، فإن ذهب رجل منهم يردّ عليّ كلمة بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفيهما.

ثم خرج وخرجوا معه حتى رقى المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إنّ هؤلاء الرهط سادة المسلمين وخيارهم ، لا يُبتَزّ أمر دونهم ، ولا يقضى إلاّ عن مشورتهم ، وإنّهم قد رضوا وبايعوا ليزيد ، فبايعوا على اسم الله. فبايع الناس ، وكانوا يتربّصون بيعة هؤلاء النفر ، ثم ركب رواحله وانصرف إلى المدينة ، فلقي الناس أولئك النفر ، فقالوا لهم : زعمتم أنّكم لا تبايعون ، فلم رضيتم وأعطيتم وبايعتم؟ (١) قالوا : والله ما فعلنا. فقالوا : ما منعكم أن تردّوا على الرجل؟ قالوا : كادنا وخفنا القتل. وبايعه أهل المدينة ، ثم انصرف إلى الشام وجفا بني هاشم ، فأتاه ابن عبّاس فقال له : ما بالك جفوتنا؟ قال : إنّ صاحبكم ـ يعني الحسين عليه‌السلام ـ لم يبايع ليزيد فلم تنكروا ذلك عليه. فقال : يا معاوية إنّي لخليق أن أنحاز إلى بعض السواحل فأقيم به ، ثم أنطق بما تعلم حتى أدع الناس كلّهم خوارج عليك. قال : يا أبا العبّاس تعطون ، وترضون ، وترادون (٢).

وجاء في لفظ ابن قتيبة : إنّ معاوية نزل عن المنبر وانصرف ذاهباً إلى منزله ، وأمر من حرسه وشرطته قوماً أن يُحضروا هؤلاء النفر الذين أبوا البيعة وهم : الحسين بن عليّ ، وعبد الله بن عمر ، وعبد الله بن الزبير ، وعبد الله بن عبّاس ، وعبد الرحمن بن أبي بكر ، وأوصاهم معاوية قال : إنّي خارج العشيّة إلى أهل الشام فأُخبرهم أنّ هؤلاء النفر قد بايعوا وسلّموا ، فإن تكلّم أحد منهم بكلام يصدّقني أو يكذّبني فيه فلا ينقضي كلامه حتى يطير رأسه. فحذر القوم ذلك ، فلمّا كان العشيّ

__________________

(١) كذا في الكامل ، وفي الطبعة المعتمدة من العقد الفريد : فلما دُعيتم وأرضيتم بايعتم!

(٢) العقد الفريد : ٢ / ٣٠٢ ـ ٣٠٤ [٤ / ١٦١ ـ ١٦٣] ، الكامل لابن الأثير : ٣ / ٢١ ـ ٢١٨ [٢ / ٥١١ حوادث سنة ٥٦ ه‍] ، ذيل الأمالي ص ١٧٧ [٣ / ١٧٥] ، جمهرة الرسائل : ٢ / ٦٩ رقم ٧٢ واللفظ لابن الأثير. (المؤلف)

٣٥٦

خرج معاوية وخرج معه هؤلاء النفر وهو يضاحكهم ويحدّثهم وقد ألبسهم الحلل ، فألبس ابن عمر حلّة حمراء ، وألبس الحسين حلّة صفراء ، وألبس عبد الله بن عبّاس حلّة خضراء ، وألبس ابن الزبير حلّة يمانيّة ، ثم خرج بينهم وأظهر لأهل الشام الرضا عنهم ـ أي القوم ـ وأنّهم بايعوا ، فقال : يا أهل الشام إنّ هؤلاء النفر دعاهم أمير المؤمنين فوجدهم واصلين مطيعين ، وقد بايعوا وسلّموا ذلك ، والقوم سكوت لم يتكلّموا شيئاً حذر القتل ، فوثب أُناس من أهل الشام فقالوا : يا أمير المؤمنين إن كان رابك منهم ريب فخلّ بيننا وبينهم حتى نضرب أعناقهم. فقال معاوية : سبحان الله ما أحلّ دماء قريش عندكم يا أهل الشام! لا أسمع لهم ذاكراً بسوء ، فإنّهم قد بايعوا وسلّموا ، وارتضوني فرضيت عنهم رضي الله عنهم ، ثم ارتحل معاوية راجعاً إلى مكة ، وقد أعطى الناس أعطياتهم ، وأجزل العطاء ، وأخرج إلى كلّ قبيلة جوائزها وأُعطياتها ، ولم يخرج لبني هاشم جائزة ولا عطاء ، فخرج عبد الله بن عبّاس في أثره حتى لحقه بالروحاء ، فجلس ببابه ، فجعل معاوية يقول : من بالباب؟ فيقال : عبد الله ابن عبّاس ، فلم يأذن لأحد. فلمّا استيقظ قال : من بالباب؟ فقيل : عبد الله بن عبّاس. فدعا بدابّته فأدخلت إليه ثم خرج راكباً ، فوثب إليه عبد الله بن عبّاس فأخذ بلجام البغلة ، ثم قال : أين تذهب؟ قال : إلى مكة. قال : فأين جوائزنا كما أجزت غيرنا؟ فأوما إليه معاوية فقال : والله ما لكم عندي جائزة ولا عطاء حتى يبايع صاحبكم. قال ابن عبّاس : فقد أبى ابن الزبير فأخرجت جائزة بني أسد ، وأبى عبد الله بن عمر فأخرجت جائزة بني عديّ ، فما لنا إن أبى صاحبنا وقد أبى صاحب غيرنا. فقال معاوية : لستم كغيركم ، لا والله لا أُعطيكم درهماً حتى يبايع صاحبكم ، فقال ابن عبّاس : أما والله لئن لم تفعل لألحقنّ بساحل من سواحل الشام ثم لأقولنّ ما تعلم ، والله لأتركنّهم عليك خوارج. فقال معاوية : لا بل أعطيكم جوائزكم ، فبعث بها من الروحاء ، ومضى راجعاً إلى الشام. الإمامة والسياسة (١) (١ / ١٥٦).

__________________

(١) الإمامة والسياسة : ١ / ١٦٣.

٣٥٧

قال الأميني : إنّ المستشفّ لحقيقة الحال من أمر هذه البيعة الغاشمة جدّ عليم أنّها تمّت برواعد الإرهاب ، وبوارق التطميع ، وعوامل البهت والافتراء ، فيرى معاوية يتوعّد هذا ، ويقتل ذاك ، ويولّي آخر على المدن والأمصار ويجعلها طعمة له ، ويدرّ من رضائخه على النفوس الواطئة ذوات الملكات الرذيلة ، وفي القوم من لا يؤثّر فيه شيء من ذلك كلّه ، غير أنّه لا رأي لمن لا يُطاع ، لكنّ إمام الهدى ، وسبط النبوّة ، ورمز الشهادة والإباء لم يفتأ بعد ذلك كلّه مصحراً بالحقيقة ، ومصارحاً بالحقّ ، وداحضاً للباطل مع كلّ تلكم الحنادس المدلهمّة ، أصغت إليه أُذن أم لا ، وصغى إلى قيله أحد أو أعرض ، فقام بواجب الموقف رافعاً عقيرته بما تستدعيه الحالة ، ويوجبه النظر في صالح المسلمين ولم يثنه اختلاق معاوية عليه وعلى من وافقه في شيء من الأمر ، ولا ما أعدّه لهم من التوعيد والإرجاف بهم ، ولم تك تأخذه في الله لومة لائم ، حتى لفظ معاوية نفسه الأخير رمزاً للخزاية وشية العار ، ولقي الحسين عليه‌السلام ربّه وقد أدّى ما عليه ، رمزاً للخلود ومزيد الحبور في رضوان الله الأكبر ، نعم ، لقي الحسين عليه‌السلام ربّه وهو ضحيّة تلك البيعة ـ بيعة يزيد ـ كما لقي أخوه الحسن ربّه مسموماً من جرّاء تلكم البيعة الملعونة التي جرّت الويلات على أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واستتبعت هدم الكعبة ، والإغارة على دار الهجرة يوم الحرّة ، وأبرزت بنات المهاجرين والأنصار للنكال والسوأة ، وأعظمها رزايا مشهد الطفّ التي استأصلت شأفة أهل بيت الرحمة ـ صلوات الله عليهم ـ ، وتركت بيوت الرسالة تنعق فيها النواعب ، وتندب النوادب ، وقرّحت الجفون ، وأسكبت المدامع ، إنّا لله وإنّا إليه راجعون (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (١).

نعم ؛ تمّت تلك البيعة المشومة مع فقدان أيّ جدارة وحنكة في يزيد ، تؤهّله لتسنّم عرش الخلافة على ما تردّى به من ملابس الخزي وشية العار ، من معاقرة

__________________

(١) الشعراء : ٢٢٧.

٣٥٨

الخمور ، ومباشرة الفجور ، ومنادمة القيان ذوات المعازف ، ومهارشة الكلاب ، إلى ما لا يتناهى من مظاهر الخزاية ، وقد عرفته الناس بذلك كلّه منذ أولياته وعرّفه به أُناس آخرون ، وحسبك شهادة وفدٍ بعثه أهل المدينة إلى يزيد ، وفيهم : عبد الله بن حنظلة غسيل الملائكة ، وعبد الله بن أبي عمرو المخزومي ، والمنذر بن الزبير ، وآخرون كثيرون من أشراف أهل المدينة ، فقدموا على يزيد فأكرمهم ، وأحسن إليهم ، وأعظم جوائزهم ، وشاهدوا أفعاله ، ثم انصرفوا من عنده وقدموا المدينة كلهم إلاّ المنذر ، فلمّا قدم الوفد المدينة قاموا فيهم ، فأظهروا شتم يزيد وعتبة (١) ، وقالوا : إنّا قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، ويعزف بالطنابير ، ويضرب عنده القيان ، ويلعب بالكلاب ، ويُسامر الحُرّاب ـ وهم اللصوص والفتيان ـ وإنّا نُشهدكم أنّا قد خلعناه ، فتابعهم الناس (٢).

وقال عبد الله بن حنظلة ، ذلك الصحابيّ العظيم المنعوت بالراهب ، قتيل يوم الحرّة يومئذٍ : يا قوم اتّقوا الله وحده لا شريك له ، فو الله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ، إنّ رجلاً ينكح الأُمّهات والبنات والأخوات ، ويشرب الخمر ، ويدع الصلاة ، والله لو لم يكن معي أحد من الناس لأبليت لله فيه بلاءً حسناً (٣)

ولمّا قدم المدينة أتاه الناس ، فقالوا : ما وراءك؟ قال : أتيتكم من عند رجل ، والله لو لم أجد إلاّ بنيّ هؤلاء لجاهدته بهم (٤).

__________________

(١) كذا في تاريخ الطبري ، وفي الكامل والبداية والنهاية : شتم يزيد وعيبه ، وهو الصحيح ظاهراً.

(٢) تاريخ الطبري : ٧ / ٤ [٥ / ٤٨٠ حوادث سنة ٦٢ ه‍] ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٤٥ [٢ / ٥٨٨ حوادث سنة ٦١ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٢١٦ [٨ / ٢٣٥ حوادث سنة ٦٢ ه‍] فتح الباري : ١٣ / ٥٩ [١٣ / ٧٠]. (المؤلف)

(٣) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٣٧٢ [٢٧ / ٤٢٩ رقم ٣٢٧٠ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ١٢٧]. (المؤلف)

(٤) تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٣٧٢ [٢٧ / ٤٢٧ رقم ٣٢٧٠ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ١٢٧] ، الكامل لابن الأثير : ٤ / ٤٥ [٢ / ٥٨٨ سنة ٦٢ ه‍] ، الإصابة : ٢ / ٢٩٩ [رقم ٤٦٣٧]. (المؤلف)

٣٥٩

وقال المنذر بن الزبير لمّا قدم المدينة : إنّ يزيد قد أجازني بمائة ألف ، ولا يمنعني ما صنع بي أن أُخبركم خبره ، والله إنّه ليشرب الخمر ، والله إنّه ليسكر حتى يدع الصلاة (١)

وقال عتبة بن مسعود لابن عبّاس : أتبايع يزيد وهو يشرب الخمر ، ويلهو بالقيان ، ويستهتر بالفواحش؟ قال : مه فأين ما قلت لكم؟ وكم بعده من آتٍ ممّن يشرب الخمر ، أو هو شرّ من شاربها ، أنتم إلى بيعته سراع ، أما والله إنّي لأنهاكم وأنا أعلم أنّكم فاعلون ، حتى يصلب مصلوب قريش بمكة ـ يعني عبد الله بن الزبير (٢).

نعم : لم يك على مخازي يزيد من أوّل يوم حجاب مسدول يُخفيها على الأباعد والأقارب ، غير أنّ أقرب الناس إليه ـ وهو أبوه معاوية ـ غضّ الطرف عنها جمعاء ، وحسب أنّها تخفى على الملأ الدينيّ بالتمويه ، وطفق يذكر له فضلاً وعلماً بالسياسة ، فجابهه لسان الحقّ ، وإنسان الفضيلة ، حسين العظمة ، بكلماته المذكورة في صفحة (٢٤٨ و ٢٥٠) ومعاوية هو نفسه يندّد بابنه في كتاب كتبه إليه ، ومنه قوله : اعلم يا يزيد : إنّ أوّل ما سلبكه السكر معرفة مواطن الشكر لله على نعمه المتظاهرة ، وآلائه المتواترة ، وهي الجرحة العظمى ، والفجعة الكبرى : ترك الصلوات المفروضات في أوقاتها ، وهو من أعظم ما يحدث من آفاتها ، ثم استحسان العيوب ، وركوب الذنوب ، وإظهار العورة ، وإباحة السرّ ، فلا تأمن نفسك على سرّك ، ولا تعتقد على فعلك (٣).

فنظراً إلى ما عرفته الأُمّة من يزيد ، من مخازيه وملكاته الرذيلة ، عدّ الحسن البصري استخلاف معاوية إيّاه من موبقاته الأربع ، كما مرّ حديثه في صفحة (٢٢٥).

__________________

(١) كامل ابن الأثير : ٤ / ٤٥ [٢ / ٥٨٨ حوادث سنة ٦٢ ه‍] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٢١٦ [٨ / ٢٣٦ حوادث سنة ٦٢ ه‍]. (المؤلف)

(٢) الإمامة والسياسة : ١ / ١٦٧ [١ / ١٧٤]. (المؤلف)

(٣) صبح الأعشى : ٦ / ٣٨٧ [٦ / ٣٧٤]. (المؤلف)

٣٦٠