الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠

ثم جعل هذا كالتشبّه بالكفّار في وجوب التجنّب عن شعارهم ، وسيوافيك التفصيل في بيان هذه كلّها ونظرائها عند الكلام على الفتاوى الشاذّة عن الكتاب والسنّة إن شاء الله تعالى.

وقال الشيخ اسماعيل البروسوي في تفسيره روح البيان (٤ / ١٤٢) : قال في عقد الدرر واللآلئ (١) : المستحبّ في ذلك اليوم ـ يعني يوم عاشوراء ـ فعل الخيرات من الصدقة والصوم والذكر وغيرهما ، ولا ينبغي للمؤمن أن يتشبّه بيزيد الملعون في بعض الأفعال ، وبالشيعة والروافض والخوارج أيضاً. يعني لا يجعل ذلك اليوم يوم عيد أو يوم مأتم ، فمن اكتحل يوم عاشوراء فقد تشبّه بيزيد الملعون وقومه ، وإن كان للاكتحال في ذلك اليوم أصل صحيح ، فإنّ ترك السنّة سنّة إذا كان شعاراً لأهل البدعة كالتختّم باليمين ، فإنّه في الأصل سنّة لكنّه لمّا كان شعار أهل البدعة والظلمة ، صارت السنّة أن يجعل الخاتم في خنصر اليد اليسرى في زماننا ، كما في شرح القهستاني.

ومن قرأ يوم عاشوراء وأوائل المحرّم مقتل الحسين رضى الله عنه ، فقد تشبّه بالروافض ، خصوصاً إذا كان بألفاظ مخلّة بالتعظيم لأجل تحزين السامعين ، وفي كراهية القهستاني : لو أراد ذكر مقتل الحسين ، ينبغي أن يذكر أوّلاً مقتل سائر الصحابة لئلاّ يشابه الروافض.

وقال حجّة الإسلام الغزالي : يحرم على الواعظ وغيره رواية مقتل الحسين وحكايته وما جرى بين الصحابة من التشاجر والتخاصم ، فإنّه يهيج بغض الصحابة والطعن فيهم ، وهم أعلام الدين ، وما وقع بينهم من المنازعات فيحمل على محامل صحيحة ، ولعلّ ذلك لخطأ في الاجتهاد ، لا لطلب الرئاسة والدنيا كما لا يخفى. انتهى.

__________________

(١) في فضل الشهور والأيّام والليالي للشيخ شهاب الدين أحمد بن أبي بكر الحموي الشهير بالرسّام.(المؤلف)

٣٠١

وقال ابن حجر في فتح الباري (١) (١١ / ١٤٢) : تنبيه : اختلف في السلام على غير الأنبياء بعد الاتفاق على مشروعيّته في تحيّة الحيّ ، فقيل : يشرع مطلقاً. وقيل : بل تبعاً ولا يفرد لواحد لكونه صار شعاراً للرافضة. ونقله النووي عن الشيخ أبي محمد الجويني.

ـ ١٠ ـ

أُحدوثة تقديم الخطبة على الصلاة

قال الزرقاني في شرح الموطّأ (٢) (١ / ٣٢٤) في بيان كون الصلاة قبل الخطبة في العيدين : ففي الصحيحين (٣) عن ابن عبّاس : شهدت العيد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي بكر وعمر [وعثمان] (٤) ، فكلّهم كانوا يصلّون قبل الخطبة ، واختلف في أوّل من غيّر ذلك ، ففي مسلم ، عن طارق بن شهاب : أوّل من بدأ بالخطبة يوم العيد قبل الصلاة مروان. وفي رواية ابن المنذر بسند صحيح عن الحسن البصري : أوّل من خطب قبل الصلاة عثمان ، صلّى بالناس ثم خطبهم أي على العادة ، فرأى ناساً لم يدركوا الصلاة ففعل ذلك أي صار يخطب قبل الصلاة ، وهذه العلّة غير التي اعتلّ بها مروان ، لأنّ عثمان راعى مصلحة الجماعة في إدراكهم الصلاة ، وأمّا مروان فراعى مصلحتهم في إسماعهم الخطبة ، لكن قيل : إنّهم في زمنه كانوا يتعمّدون ترك سماعهم لما فيها من سبّ من لا يستحق السبّ ، والإفراط في مدح بعض الناس ، فعلى هذا إنّما راعى مصلحة نفسه ، ويحتمل أنّ عثمان فعل ذلك أحياناً بخلاف مروان ، فواظب عليه فلذا نسب إليه ، و [روي] (٥) عن عمر مثل فعل عثمان ، قال عياض ومن تبعه : لا يصحّ عنه. وفيه

__________________

(١) فتح الباري : ١١ / ١٧٠.

(٢) شرح الموطّأ : ١ / ٣٦٣ ح ٤٢٩.

(٣) صحيح البخاري : ١ / ٣٢٧ ح ٩١٩ ، صحيح مسلم : ٢ / ٢٨٣ ح ١ كتاب صلاة العيدين.

(٤) الزيادة من شرح الموطّأ والصحيحين.

(٥) الزيادة من شرح الموطّأ.

٣٠٢

نظر لأنّ عبد الرزّاق (١) ، وابن أبي شيبة (٢) ، روياه جميعاً عن ابن عيينة ، عن يحيى بن سعيد الأنصاري ، عن يوسف بن عبد الله بن سلام ، وهذا إسناد صحيح ، لكن يعارضه حديثا ابن عبّاس وابن عمر ، فإن جمع بوقوع ذلك منه نادراً ، وإلاّ فما في الصحيحين أصحّ.

وأخرج الشافعي (٣) ، عن عبد الله بن يزيد نحو حديث ابن عبّاس ، وزاد حتى قدم معاوية فقدم الخطبة ، وهذا يشير إلى أنّ مروان إنّما فعل ذلك تبعاً لمعاوية ، لأنّه كان أمين المدينة من جهته ، وروى عبد الرزّاق (٤) ، عن ابن جريج ، عن الزهري : أوّل من أحدث الخطبة قبل الصلاة في العيد معاوية ، وروى ابن المنذر ، عن ابن سيرين : أوّل من فعل ذلك زياد بالبصرة. قال عياض : ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأثر مروان ، لأنّ كلاّ من مروان وزياد كان عاملاً لمعاوية ، فيحمل على أنّه ابتدأ ذلك ، وتبعه عمّاله. انتهى.

وقال السكتواري في محاضرة الأوائل (٥) (ص ١٤٤) : أوّل من بدأ بالخطبة قبل الصلاة معاوية ، وجرى ذلك في الأمراء المروانيّة ، كمروان وزياد وهو فعله بالعراق ، ومعاوية بالمدينة شرّفها الله تعالى.

قال الأميني : مرّ في الجزء الثامن (ص ١٦٤ ـ ١٦٧) بيان السنّة الثابتة في خطبة العيدين ، وأنّها بعد الصلاة كما مضى عليه الرسول الأمين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّبعه الشيخان ، وعثمان ردحاً من أيّامه ، ثم حداه عيّه عن تلفيق الخطبة بصورة مرضيّة ، فكانت

__________________

(١) المصنّف : ٣ / ٢٨٣ ـ ٢٨٤ ح ٥٦٤٤ و ٥٦٤٥.

(٢) مصنّف ابن أبي شيبة : ٢ / ١٧١.

(٣) كتاب الأُمّ للشافعي : ١ / ٢٣٥.

(٤) المصنّف : ٣ / ٢٨٤ ح ٥٦٤٦.

(٥) وانظر الأوائل لأبي هلال العسكري : ص ١٢٥.

٣٠٣

الناس تتفرّق عن استماعها ، إلى تقديمها على الصلاة ليمنعهم انتظارهم لها عن الانجفال ؛ ثم اقتصّ أثره عمّاله والمتغلّبون على الأُمّة من بعد من بني أبيه ، وإن افترقت العلّة فيهم عنها فيه ، فإنّهم لمّا طغوا في البلاد طفقوا يسبّون أمير المؤمنين عليّا عليه‌السلام في خطبهم ، فكان الحضور لا يستبيحون ذلك فيتفرّقون ، فبدا لهم تقديمها لإسماع الناس.

وأوّل من أحدث أُحدوثة السبّ هو معاوية ، فالشنعة عليه في المقام أعظم ممّن بدّل السنّة قبله ، فإنّه وإن تابع البادي على البدعة غير أنّه قرنها بأخرى شوهاء شنعاء ، فأمعن النظرة في تطبيق هذه البدعة بصورتها الأخيرة على ما صحّ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «من سبّ عليّا فقد سبّني ومن سبّني فقد سبّ الله» (١) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تسبّوا عليّا فإنّه ممسوس في ذات الله» (٢) ثم ارجع البصر كرّتين إلى أنّه هل يُباح لأيّ مسلم أن يجتهد بجواز سبّ مولانا أمير المؤمنين ، تجاه نصّ الكتاب العزيز في تطهيره ، وولايته ، ومودّته ، وكونه نفس النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، تجاه هذا النصّ الجليّ الخاص له عليه‌السلام والنصوص العامّة الواردة في سباب المؤمن مثل قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سباب المسلم فسوق» (٣)؟! وهل يشكّ مسلم أنّ أمير المؤمنين أوّل المسلمين ، وأولاهم بهم من أنفسهم ، وهو أميرهم وسيّدهم؟

__________________

(١) أخرجه الحفّاظ بإسناد رجاله كلّهم ثقات ، صححه الحاكم والذهبي [في المستدرك على الصحيحين ٣ / ١٣٠ ح ٤٦١٥ و ٤٦١٦ وكذا في تلخيصه]. (المؤلف)

(٢) حلية الأولياء : ١ / ٦٨. (المؤلف)

(٣) أخرجه البخاري [في ١ / ٢٧ ح ٤٨] ، ومسلم [١ / ١١٤ ح ١١٦ كتاب الإيمان] ، والترمذي [في صحيحه ٤ / ٣١١ ح ١٩٨٣] ، وابن ماجة [في السنن ٢ / ١٢٩٩ ح ٣٩٣٩] ، والنسائي [في سننه ٢ / ٣١٣ ح ٣٥٦٧ ـ ٣٥٧٨] ، والحاكم والدارقطني وغيرهم في الصحاح والمسانيد. (المؤلف) وانظر السنن للبيهقي : ٩ / ٢٠ ، ومسند أحمد : ١ / ٦٣٦ ح ٣٦٣٩ ، والمعجم الكبير للطبراني : ١٠ / ١٠٥ ح ١٠١٠٥ ، وحلية الأولياء : ٥ / ٢٣ ، وتاريخ بغداد : ٣ / ٣٩٧ رقم ١٥٢١ ج.

٣٠٤

ـ ١١ ـ

حدّ من حدود الله متروك

ذكر الماوردي وآخرون أنّ معاوية أُتي بلصوص فقطعهم ، حتى بقي واحد من بينهم ، فقال :

يميني أميرَ المؤمنين أُعيذُها

بعفوِك أن تلقى نكالاً يُبينها (١)

يدي كانت الحسناءَ لو تمّ سترُها

ولا تعدمُ الحسناءُ عيباً يشينها

فلا خير في الدنيا وكانت حبيبةً

إذا ما شمالي فارقتها يمينها

فقال معاوية : كيف أصنع بك؟ قد قطعنا أصحابك. فقالت أُمّ السارق : يا أمير المؤمنين اجعلها في ذنوبك التي تتوب منها. فخلّى سبيله ، فكان أوّل حدّ ترك في الإسلام (٢).

قال الأميني : أفهل عرف معاوية من هذا اللصّ خصوصيّة استثنته من حكم الكتاب النهائيّ العامّ (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما) (٣)؟! أم أنّ الرأفة بأُمّه تركت حدّا من حدود الله لم يُقَم؟ وفي الذكر الحكيم (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ) (٤) (تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (٥) (وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها) (٦) أم أنّه كان لمعاوية

__________________

(١) يُبينها : من أبان الشيء إذا قطعه.

(٢) الأحكام السلطانية ص ٢١٩ [٢ / ٢٢٨] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٣٦ [٨ / ١٤٥ حوادث سنة ٦٠ ه‍] ، محاضرة السكتواري : ص ١٦٤. (المؤلف)

(٣) المائدة : ٣٨.

(٤) الطلاق : ١.

(٥) البقرة : ٢٢٩.

(٦) النساء : ١٤.

٣٠٥

مؤمِّن من العقاب غداً وإن تعمّد اليوم إلغاء حدّ من حدود الله؟ وهل نيّة التوبة عن المعصية تبيح اجتراح تلك السيّئة؟ إنّ هذا لشيءٌ عجاب ، ومن ذا الّذي طمّنه بأنّه سيوفّق للتوبة عنها ولا يحول بينه وبينها ذنوب تسلبه التوفيق ، أو عظائم تسلبه الإيمان ، أو استخفاف بالشريعة ينتهي به إلى نار الخلود؟ ويظهر منه أنّ التعمّد لاقتراف الذنوب بأمل التوبة كان مطّرداً عند معاوية ، وهذا ممّا يخلّ بأنظمة الشريعة ، ونواميس الدين ، وطقوس الإسلام ، فإنّ النفوس الشريرة إنّما تترك أكثر المعاصي خوفاً من العقوبة الفعليّة ، فإن زحزحت عنها بأمثال هذه التافهات لم يبق محظور يُفسد النفوس ، ويقلق السلام ، ويعكّر صفو الإسلام إلاّ وقد عمل به ، وهذا نقض لغاية التشريع ، وإقامة الحدود الكابحة لجماح الجرأة على الله ورسوله.

وهب أنّ التوبة مكفّرة عن العصيان في الجملة ، ولكن من ذا الذي أنبأه أنّها من تلك التوبة المقبولة؟ (إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً* وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً) (١).

ـ ١٢ ـ

معاوية ولبسه ما لا يجوز

أخرج أبو داود من طريق خالد قال : وفد المقدام بن معدي كرب ، وعمرو بن الأسود ، ورجل من بني أسد من أهل قنسرين إلى معاوية بن أبي سفيان ، فقال معاوية للمقدام : أعلمت أنّ الحسن بن عليّ توفّي؟ فرجّع (٢) المقدام ، فقال له رجل : (٣)

__________________

(١) النساء : ١٧ ، ١٨.

(٢) أي قال : إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

(٣) في مسند أحمد : ٤ / ١٣٠ [٥ / ١١٨ ح ١٦٧٣٨] : فقال له معاوية : أتراها مصيبة؟ أنظر إلى أمانة أبي داود! (المؤلف)

٣٠٦

أتراها مصيبة؟ فقال : ولم لا أراها مصيبة؟ وقد وضعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حجره ، فقال : «هذا منّي وحسين من عليّ». فقال الأسدي : جمرة أطفأها الله عزّ وجلّ ، قال : فقال المقدام : أمّا أنا فلا أبرح اليوم حتى أغيظك وأُسمعك ما تكره ، ثمّ قال : يا معاوية إن أنا صدقت فصدّقني ، وإن أنا كذبت فكذّبني ، قال : أفعل. قال فأَنشدك بالله : هل تعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن لبس الحرير؟ قال : نعم. قال : فأَنشدك بالله : هل سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ينهى عن لبس الذهب؟ قال : نعم. قال : فأَنشدك بالله : هل تعلم أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهى عن لبس جلود السباع والركوب عليها؟ قال : نعم. قال : فو الله لقد رأيت هذا كلّه في بيتك يا معاوية فقال معاوية : قد علمت أنّي لن أنجو منك يا مقدام (١).

قال الأميني : هل يُرجى خير ممّن اعترف بكلّ ما قيل له من المحظورات المتسالم عليها التي ارتكبها فهلاّ أقلع عنها لمّا ذُكّر بحكمها الذي نسيه أو لم يعبأ به؟ لكنّ الرجل طاغوت يعمل عمل الفراعنة ولم يكترث لمغبّته ، ولم يُبالِ بمخالفة السنّة الثابتة ، فزهٍ به خليفة تولّى أمر الأُمّة بغير مرضاتها ، وتغلّب على إمرتها من دون أيّ حنكة.

قد جاء في كتاب لأمير المؤمنين عليه‌السلام إلى عمرو بن العاص ، قوله : فإنّك قد جعلت دينك تبعاً لدنيا امرئ ظاهرٍ غيّه ، مهتوك ستره ... إلى آخره.

قال ابن أبي الحديد في شرح النهج (٢) (٤ / ٦٠) : فأمّا قوله عليه‌السلام في معاوية : ظاهر غيّه ، فلا ريب في ظهور ضلاله وبغيه وكلّ باغ غاوٍ. وأمّا مهتوك ستره : فإنّه كان كثير الهزل والخلاعة ، صاحب جلساء وسمّار ، ومعاوية لم يتوقّر ولم يلزم قانون الرئاسة إلاّ منذ خرج على أمير المؤمنين ، واحتاج إلى الناموس والسكينة ، وإلاّ فقد كان في أيّام

__________________

(١) سنن أبي داود : ٢ / ١٨٦ [٤ / ٦٨ ح ٤١٣١]. (المؤلف)

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٦٠ كتاب ٣٩.

٣٠٧

عثمان شديد التهتك ، موسوماً بكلّ قبيح ، وكان في أيّام عمر يستر نفسه قليلاً خوفاً منه ، إلاّ أنّه كان يلبس الحرير والديباج ، ويشرب في آنية الذهب والفضة ، ويركب البغلات ذوات السروج المحلاّة بها جلال الديباج والوشي ، وكان حينئذ شابّا ، وعنده نزق الصبا ، وأثر الشبيبة ، وسكر السلطان والإمرة ، ونقل الناس عنه في كتب السيرة أنّه كان يشرب الخمر في أيّام عثمان في الشام ، وأمّا بعد وفاة أمير المؤمنين واستقرار الأمر له فقد اختلف فيه ، فقيل : إنّه شرب الخمر في ستر. وقيل : إنّه لم يشرب. ولا خلاف في أنّه سمع الغناء وطرب عليه ، وأعطى ووصل عليه أيضاً.

إقرأ وتبصّر!

ـ ١٣ ـ

مأساة الاستلحاق سنة أربع وأربعين

كان من ضروريّات الإسلام إلى هذه السنّة (٤٤) ، إلى هذا اليوم الأشنع الذي تقدّم فيه ابن آكلة الأكباد ببدعته الخرقاء على ما قاله رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بملء فمه المبارك ، واتّخذته الأُمّة أصلاً مسلّماً في باب الأنساب : الولد للفراش وللعاهر الحجر.

جاء هذا الحديث من طريق أبي هريرة في الصحاح الستة (١) ، صحيح البخاري : (٢ / ١٩٩) في الفرائض ، صحيح مسلم (١ / ٤٧١) في الرضاع ، صحيح الترمذي (١ / ١٥٠ و ٢ / ٣٤) ، سنن النسائي (٢ / ١١٠) ، سنن أبي داود (١ / ٣١٠) ، سنن البيهقي (٧ / ٤٠٢ ، ٤١٢).

ومن طريق عائشة أخرجه الحفّاظ المذكورون إلاّ الترمذي كمافي نصب الراية للزيلعي (٣ / ٢٣٦).

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ٢٤٩٩ ح ٦٤٣٢ ، صحيح مسلم : ٣ / ٢٥٦ ح ٣٧ كتاب الرضاع ، سنن الترمذي : ٣ / ٤٦٣ ح ١١٥٧ ، السنن الكبرى للنسائي : ٣ / ٣٧٨ ح ٥٦٧٦ و ٥٦٧٧ ، سنن أبي داود : ٢ / ٢٨٢ ح ٢٢٧٣.

٣٠٨

ومن طريق عمر وعثمان في سنن البيهقي (٧ / ٤٠٢) ، ومن طريق عبد الله بن عمرو ، أخرجه أبو داود في اللعان (١) (١ / ٣١٠) ، وأخرجه أحمد في مسنده (٢) من غير طريق (١ / ١٠٤ و ٢ / ٤٠٩ و ٥ / ٣٢٦) وغيرها.

وصحّ عند الأُمّة قول نبيّها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ادّعى أباً في الإسلام غير أبيه فالجنّة عليه حرام» (٣).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خطبة له بمنى : «لعن الله من ادّعى إلى غير أبيه ، أو تولّى غير مواليه ، الولد للفراش وللعاهر الحجر». وفي لفظ :

«الولد للفراش وللعاهر الحجر ، ألا ومن ادّعى إلى غير أبيه ، أو تولّى غير مواليه رغبة عنهم ، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، ولا يقبل منه صرف ولا عدل» (٤)

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «ليس من رجل ادّعى بغير أبيه وهو يعلم إلاّ كفر ، ومن ادّعى ما ليس له فليس منّا» (٥).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ادّعى إلى غير أبيه لم يرُح رائحة الجنّة ، وإنّ ريحها ليوجد

__________________

(١) سنن أبي داود : ٢ / ٢٨٣ ح ٢٢٧٤.

(٢) مسند أحمد : ١ / ١٦٧ ح ٨٢٢ ، ٣ / ١٣٠ ح ٩٠٤٧ ، ٦ / ٤٤٦ ح ٢٢٢٧٢.

(٣) مسند أحمد : ٥ / ٣٨ ، ٤٦ [٦ / ١٧ ح ١٩٨٨٣ ، ص ٢٩ ح ١٩٩٥٣] ، سنن البيهقي : ٧ / ٤٠٣. (المؤلف)

(٤) رواه البخاري [٢ / ٧٢٤ ح ١٩٤٨] ، ومسلم [٣ / ٢٥٦ ح ٣٦ كتاب الرضاع] ، وأبو داود [٤ / ٣٣٠ ح ٥١١٥] ، والترمذي [٣ / ٤٦٣ ح ١١٥٧] والنسائي [٣ / ٣٧٨ ح ٥٦٧٦] ، راجع مسند أحمد : ٤ / ١٨٦ ، ١٨٧ [٥ / ٢٠٤ ح ١٧٢١١ ـ ١٧٢١٣] ، مسند أبي داود الطيالسي : ص ١٦٩ [ح ١٢١٧] ، والترغيب والترهيب : ٣ / ٢١ [٣ / ٧٣ ح ١]. (المؤلف)

(٥) أخرجه البخاري [٣ / ١٢٩٢ ح ٣٣١٧] ومسلم [١ / ١١٣ ح ١١٢ كتاب الإيمان] وعنهما البيهقي في السنن : ٧ / ٤٠٣ وابن المنذر في الترغيب والترهيب : ٣ / ٢١ [٣ / ٧٣]. (المؤلف)

٣٠٩

من قدر سبعين عاماً. أو : مسيرة سبعين عاماً» (٦).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ادّعى إلى غير أبيه وهو يعلم أنّه غير أبيه ، فالجنّة عليه حرام» (٧).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ادّعى إلى غير أبيه ، أو انتمى إلى غير مواليه ، فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة» (٨).

لكن سياسة معاوية المتجهّمة تجاه الهتافات النبويّة ، أصمته عن سماعها ، وجعلت للعاهر كلّ النصيب ، فوهبت زياداً كلّه لأبي سفيان العاهر ، بعد ما بلغ أشدّه لما وجد فيه من أُهبة الوقيعة في أضداده ، وهم أولياء عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وُلد زياد على فراش عُبيد مولى ثقيف ، وربّي في شرّ حجر ، ونشأ في أخبث نشء ، فكان يقال له قبل الاستلحاق : زياد بن عبيد الثقفي ، وبعده زياد بن أبي سفيان ، ومعاوية نفسه كتب إليه في أيّام الحسن السبط ـ سلام الله عليه ـ : من أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان إلى زياد بن عُبيد ، أمّا بعد : فإنّك عبد قد كفرت النعمة ، واستدعيت النقمة ، ولقد كان الشكر أُولى بك من الكفر ، وإنّ الشجرة لتضرب بعرقها ، وتتفرّع من أصلها ، إنّك لا أُمّ لك ، بل لا أب لك.

[و] يقول فيه : أمس عبد واليوم أمير ، خطّة ما ارتقاها مثلك يا ابن سميّة ، وإذا أتاك كتابي هذا فخذ الناس بالطاعة والبيعة ، وأسرع الإجابة فإنّك إن تفعل فدمك

__________________

(٦) سنن ابن ماجة : ٢ / ١٣ [٢ / ٨٧٠ ح ٢٦١١] ، تاريخ بغداد : ٢ / ٣٤٧ [رقم ٨٤٩] ، الترغيب والترهيب : ٣ / ٢١ [٣ / ٧٤]. (المؤلف)

(٧) رواه البخاري [٦ / ٢٤٨٥ ح ٦٣٨٥] ، ومسلم [١ / ١١٤ ح ١١٥ كتاب الايمان] وأبو داود [٤ / ٣٣٠ ح ٥١١٣] وابن ماجة [٢ / ٨٧٠ ح ٢٦١٠] كما في سنن البيهقي : ٧ / ٤٠٣ ، والترغيب والترهيب : ٣ / ٢١ [٣ / ٧٣]. (المؤلف)

(٨) الترغيب والترهيب : ٣ / ٢٢ [٣ / ٧٤] عن أبي داود [٤ / ٣٣٠ ح ٥١١٥]. (المؤلف)

٣١٠

حقنت ، ونفسك تداركت ، وإلاّ اختطفتك بأضعف ريش ، ونلتك بأهون سعي ، وأُقسم قسماً مبروراً أن لا أوتى بك إلاّ في زمارة تمشي حافياً من أرض فارس إلى الشام ، حتى أُقيمك في السوق وأبيعك عبداً ، وأردّك إلى حيث كنت فيه وخرجت منه. والسلام (١).

ثم لمّا انقضت الدولة الأمويّة صار يُقال له : زياد بن أبيه ، وزياد بن أُمّه ، وزياد ابن سميّة ، أُمّه سميّة كانت لدهقان من دهاقين الفرس بزندرود بكسكر ، فمرض الدهقان فدعا الحارث بن كلدة الطبيب الثقفي فعالجه فبرأ ، فوهبه سميّة ، وزوّجها الحارث غلاماً له روميّا يقال له : عبيد. فولدت زياداً على فراشه ، فلمّا بلغ أشدّه اشترى أباه عُبيداً بألف درهم فأعتقه ، كانت أُمّه من البغايا المشهورة بالطائف ذات راية.

أخرج أبو عمر وابن عساكر قالا : بعث عمر بن الخطّاب زياداً في إصلاح فساد وقع باليمن ، فرجع من وجهه وخطب خطبة لم يسمع الناس مثلها ، فقال عمرو ابن العاص : أما والله لو كان هذا الغلام قرشيّا لساق العرب بعصاه. فقال أبو سفيان : والله إنّي لأعرف الذي وضعه في رحم أُمّه ، فقال له عليّ بن أبي طالب : «ومن هو يا أبا سفيان؟» قال : أنا. قال : مهلاً يا أبا سفيان. وفي لفظ ابن عساكر : فقال له عمرو : اسكت يا أبا سفيان فإنّك لتعلم أنّ عمر إن سمع هذا القول منك كان سريعاً إليك بالشرّ ، فقال أبو سفيان :

أما والله لو لا خوف شخصٍ

يراني يا عليّ من الأعادي

لأظهر أمره صخرُ بنُ حربٍ

ولم تكن المقالة عن زيادِ

وقد طالت مجاملتي ثقيفاً

وتركي فيهمُ ثمرَ الفؤادِ

__________________

(١) شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ٦٨ [١٦ / ١٨٢ كتاب ٤٤]. (المؤلف)

٣١١

فذلك الذي حمل معاوية على ما صنع بزياد (١).

وفي العقد الفريد (٢) (٣ / ٣): أمر عمر زياداً أن يخطب فأحسن في خطبته وجوّد ، وعند أصل المنبر أبو سفيان بن حرب ، وعليّ بن أبي طالب ، فقال أبو سفيان لعليّ : أيعجبك ما سمعت من هذا الفتى؟ قال : نعم. قال : أما إنّه ابن عمّك! قال : وكيف ذلك؟ قال : أنا قذفته في رحم أُمّه سميّة. قال : فما يمنعك أن تدّعيه؟ قال : أخشى هذا القاعد على المنبر ـ يعني عمر ـ أن يفسد عليّ إهابي! فبهذا الخبر استلحق معاوية زياداً وشهد له الشهود بذلك. وهذا خلاف حكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : «الولد للفراش وللعاهر الحجر».

قال الأميني : لو كان معاوية استلحق زياداً بهذا الخبر لكان استلحاقه عمرو بن العاص أولى. إذ ادّعاه أبو سفيان يوم ولادته قائلاً : أما إنّي لا أشكّ أنّي وضعته في رحم أمّه.

واختصم معه العاص ، غير أنّ النابغة أبت إلاّ العاص لما زعمت من الشحّ في أبي سفيان ، وفي ذلك قال حسّان بن ثابت :

أبوك أبو سفيانَ لا شكّ قد بدت

لنا فيك منه بيّناتُ الدلائلِ

ففاخر به إمّا فخرتَ ولا تكن

تفاخرُ بالعاص الهجينِ ابن وائلِ

إلى آخر ما مرّ في الجزء الثاني (ص ١٢٣).

نعم ؛ لكلّ بغيّ كان يتّصل بسميّة أمّ زياد ، والنابغة أمّ عمرو ، وهند أُمّ معاوية ، وحمامة أُمّ أبي سفيان ، والزرقاء أُمّ مروان ، وأضرابهنّ من مشهورات البغاء ، ويأتيهنّ

__________________

(١) الاستيعاب : ١ / ١٩٥ [القسم الثاني / ٥٢٥ رقم ٨٢٥] ، تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٤١٠ [١٩ / ١٧٥ رقم ٢٣٠٩ ، وفي مختصر تايخ دمشق : ٩ / ٧٦]. (المؤلف)

(٢) العقد الفريد : ٥ / ٦.

٣١٢

أن يختصم في ولائدهنّ.

كتب معاوية إلى زياد يوم كان عامل عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام : أمّا بعد فإنّ العشّ الذي رُبّيتَ به معلوم عندنا ، فلا تدع أن تأوي إليه كما تأوي الطيور إلى أوكارها ، ولولا شيء ـ والله أعلم به ـ لقلت كما قال العبد الصالح (فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ) (١) وكتب في آخر كتابه :

لله درُّ زيَاد أيّما رجل

لو كان يعلم ما يأتي وما يذرُ

تنسى أباك وقد حقّت مقالته (٢)

إذ تخطب الناس والوالي لنا عمرُ

فافخر بوالدِك الأدنى ووالدِنا

إنّ ابن حرب له في قومِه خطرُ

إنّ انتهازك (٣) قوماً لا تناسبهم

عدّ الأنامل عار ليس يغتفرُ

فانزل بعيداً (٤) فإنّ الله باعدهم

عن كلِّ فضلٍ به يعلو الورى مضرُ

فالرأي مطرف والعقل تجربةٌ

فيها لصاحبها الإيراد والصدرُ

فلمّا ورد الكتاب على زياد قام في الناس ، فقال : العجب كلّ العجب من ابن آكلة الأكباد ورأس النفاق ، يخوّفني بقصده إيّاي وبيني وبينه ابن عمّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في المهاجرين والأنصار ، أما والله لو أذن في لقائه لوجدني أعرف الناس بضرب السيف. واتّصل الخبر بعليّ رضى الله عنه ، فكتب إلى زياد :

«أمّا بعد : فقد ولّيتك الذي ولّيتك وأنا لا أزال (٥) له أهلاً ، وإنّه قد كانت من أبي سفيان فلتة من أمانيّ الباطل ، وكذب النفس ، لا يوجب له ميراثاً ، ولا يحلّ

__________________

(١) النمل : ٣٧.

(٢) في تاريخ دمشق ١٩ / ١٧٥ : وقد خفّت نعامته.

(٣) في المصدر : إن ابتهارك.

(٤) في المصدر : فاترك ثقيفاً.

(٥) في المصدر : وأنا أراك له أهلاً.

٣١٣

له نسبا ، ـ وفي لفظ : لا تستحقّ بها نسباً ولا ميراثاً ـ وإنّ معاوية يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه و [من] (٦) عن يمينه و [من] (٧) عن شماله ، فأحذر ثم احذر ، والسلام».

فلمّا بلغ أبا بكرة أخا زياد لأمّه سميّة أنّ معاوية استلحقه وأنّه رضي ذلك ، آلى يميناً أن لا يكلّمه أبداً ، وقال : هذا زنى أُمّه وانتفى من أبيه ، ولا والله ما علمت سميّة رأت أبا سفيان قطّ ، ويله ما يصنع بأمّ حبيبة زوج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنت أبي سفيان؟ أيريد أن يراها؟ فإن حجبته فضحته ، وإن رآها فيا لها مصيبة ، يهتك من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرمة عظيمة.

وحجّ زياد في زمن معاوية ودخل المدينة ، فأراد الدخول على أمّ حبيبة ، ثم ذكر قول أبي بكرة ، فانصرف عن ذلك. وقيل : إنّ أُمّ حبيبة حجبته ، ولم تأذن له في الدخول عليها.

قال أبو عمر : لما ادّعى معاوية زياداً دخل عليه بنو أُميّة وفيهم عبد الرحمن بن الحكم ، فقال : يا معاوية لو لم تجد إلاّ الزنج لاستكثرت بهم علينا قلّة وذلّة. فأقبل معاوية على مروان وقال : أخرج عنّا هذا الخليع. فقال مروان : والله إنّه لخليع ما يطاق. فقال معاوية : والله لو لا حلمي وتجاوزي لعلمت أنّه يطاق ، ألم يبلغني شعره فيّ وفي زياد؟ ثم قال لمروان : اسمعنيه. فقال :

ألا أبلغ معاوية بن صخرٍ

لقد ضاقت بما تأتي اليدانِ

أتغضب أن يُقال : أبوك عفّ

وترضى أن يقال : أبوك زانِ

فأشهد أنّ رحمك من زيادٍ

كرحم الفيل من ولد الأتانِ

وأشهد أنّها حملت زياداً

وصخرٌ من سميّةَ غيرُ دانِ

__________________

(٦) و (٧) الزيادة من تاريخ دمشق.

٣١٤

هذه الآبيات تُروى لزياد (١) بن ربيعة بن مفرِّغ الحميري الشاعر ، ومن رواها له جعل أوّلها :

ألا أبلغ معاوية بن صخرٍ

مغلغلةً من الرجل اليمانِ

وذكر الأبيات كما ذكرناها سواء. وروى عمر بن شبة وغيره : أنّ ابن مفرِّغ لمّا وصل إلى معاوية أو إلى ابنه يزيد ، بعد أن شفعت فيه اليمانية وغضبت لما صنع به عبّاد وأخوه عبيد الله ، وبعد أن لقي من عبّاد بن زياد وأخيه عبيد الله ما لقي ممّا يطول ذكره ، وقد نقله أهل الأخبار ورواة الأشعار بكّر وقال : يا أمير المؤمنين ركب منّي ما لم يركب من مسلم قطّ على غير حدث في الإسلام ولا خلع يد من طاعة. فقال له معاوية : ألست القائل :

ألا أبلغ معاويةَ بن حربٍ

مغلغلةً من الرجلِ اليمانِ

أتغضبُ أن يقال : أبوك عفٌ

وترضى أن يقال : أبوك زانِ

فقال ابن المفرّغ : لا والذي عظّم حقّك ورفع قدرك ، يا أمير المؤمنين ما قلتها قطّ ، ولقد بلغني أنّ عبد الرحمن بن الحكم قالها ونسب إليّ. فقال : أفلست القائل :

شهدتُ بأنّ أمّك لم تباشر

أبا سفيانَ واضعةَ القناعِ

ولكن كان أمراً فيه لبسٌ

على وجهٍ شديدٍ وارتياعِ؟ (٢)

أو لست القائل :

إنّ زياداً ونافعاً وأبا بك

رة عندي من أعجب العجبِ

__________________

(١) هو يزيد بن ربيعة الشاعر الشهير. توجد ترجمته في الأغاني : ١٧ / ٥١ ـ ٧٣ [١٨ / ٢٦٢ ـ ٣٠٧]. (المؤلف)

(٢) هذه القصيدة كما قال أبو الفرج : طويلة. ذكر منها في الأغاني : ١٧ / ٦٦ [١٨ / ٢٩١] تسعة عشر بيتاً. (المؤلف)

٣١٥

هم رجال ثلاثة خلقوا

في رحم أُنثى وكلّهم لأبِ (١)

ذا قرشيّ كما يقول وذا

مولىً وهذا بزعمه عربي

في أشعار قلتها في زياد وبنيه تهجوهم؟ أغرب فلا عفا الله عنك ، قد عفوت عن جرمك ، ولو صحبت زياداً لم يكن شيء ممّا كان ، اذهب فاسكن أيّ أرض أحببت. فاختار الموصل.

قال أبو عمر (٢) : ليزيد بن مفرّغ في هجو زياد وبنيه من أجل ما لقي من عبّاد ابن زياد بخراسان أشعار كثيرة ، وقصّته مع عبّاد بن زياد وأخيه عبيد الله بن زياد مشهورة ، ومن قوله يهجوهم :

أعبّادُ ما للؤم عنك محوّلُ

ولا لك أمٌّ في قريشٍ ولا أبُ

وقل لعبيد الله مالك والدٌ

بحقّ ولا يدري امرؤ كيف تنسبُ (٣)

قال عبيد الله بن زياد : ما هُجيت بشيء أشدّ عليّ من قول ابن مفرّغ :

فكّر ففي ذاك إن فكّرت معتبر

هل نلت مكرمة إلاّ بتأميرِ

عاشت سميّة ما عاشت وما علمت

أنّ ابنها من قريش في الجماهيرِ

وقال غيره :

زياد لست أدري من أبوه

ولكنّ الحمار أبو زيادِ

وروينا : أنّ معاوية بن أبي سفيان قال حين أنشده مروان شعر أخيه عبد الرحمن : والله لا أرضى عنه حتى يأتي زياداً فيترضّاه ويعتذر إليه. وأتاه

__________________

(١) ويروى : أنثى مخالف النسب. (المؤلف)

(٢) الاستيعاب : القسم الثاني ٥٢٨ رقم ٨٢٥.

(٣) ذكر أبو الفرج في الأغاني : ١٧ / ٥٩ ج ١٨ / ٢٧٧ ج من بائية ابن المفرغ هذه اثني عشر بيتاً. (المؤلف)

٣١٦

عبد الرحمن يستأذن عليه معتذراً فلم يأذن له ، فأقبلت قريش على عبد الرحمن بن الحكم ، فلم يدعوه حتى أتى زياداً ، فلمّا دخل فسلّم عليه فتشاوس (١) له زياد بعينه ، وكان يكسر عينه ، فقال له زياد : أنت القائل ما قلت؟ فقال عبد الرحمن : وما الذي قلت؟ فقال : قلت ما لا يُقال. فقال عبد الرحمن : أصلح الله الأمير إنّه لا ذنب لمن اعتب ، وإنّما الصفح عمّن أذنب ، فاسمع منّي ما أقول ، قال : هات. فأنشأ يقول :

إليك أبا المغيرةِ تبتُ ممّا

جرى بالشامِ من جورِ اللسانِ

وأغضبتُ الخليفةَ فيك حتى

دعاه فرطُ غيظٍ أن لحاني

وقلت لمن لحاني في اعتذاري

إليك الحقّ شأنك غير شاني

عرفت الحقّ بعد خطاء رأيي

وما ألبسته غير البيانِ

زيادٌ من أبي سفيانَ غصنٌ

تهادى ناضرٌ بين الجنانِ

أراك أخاً وعمّا وابنَ عمٍ

فما أدري بعينٍ ما تراني

وأنت زيادةٌ في آل حربٍ

أحبّ إليَّ من وسطى بناني

ألا أبلغ معاويةَ بنَ حربٍ

فقد ظفرتْ بما تأتي اليدانِ

فقال له زياد : أراك أحمق مترفاً شاعراً صَنِع اللسان ، يسوغ لك ريقك ساخطاً ومسخوطاً ، ولكنّا قد سمعنا شعرك وقبلنا عذرك ، فهات حاجتك. قال : كتاب إلى أمير المؤمنين بالرضا عنّي. قال : نعم ، فكتب كتاباً أخذه ومضى حتى دخل على معاوية ، ففضّ الكتاب ورضي عنه وردّه إلى حاله وقال : قبّح الله زياداً ألم ينتبه له إذ قال :

وأنت زيادة في آل حرب (٢)

قال أبو عبيدة : كان زياد يزعم أنّ أُمّه سميّة بنت الأعور من بني عبد شمس بن

__________________

(١) من شاس : نظر بمؤخر عينه تكبّراً أو تغيّظاً. (المؤلف)

(٢) إلى هنا ينتهي المنقول عن الاستيعاب.

٣١٧

زيد مناة بن تميم ، فقال ابن مفرّغ يردّ ذلك عليه :

فأُقِسمُ ما زيادٌ من قريش

ولا كانت سميّةُ من تميمِ

ولكن نسل عبد من بغيّ

عريق الأصلِ في النسب اللئيمِ (١)

وأخرج الطبري في تاريخه (٢) (٦ / ١٢٣) بإسناده عن أبي إسحاق : أنّ زياداً لمّا قدم الكوفة قال : قد جئتكم في أمر ما طلبته إلاّ لكم. قالوا : أدعنا إلى ما شئت. قال : تُلْحقون نسبي بمعاوية. قالوا : أمّا بشهادة الزور فلا ، فأتى البصرة فشهد له رجل.

قال ابن عساكر وابن الأثير : كان أبو سفيان صار إلى الطائف فنزل على خمّار يقال له أبو مريم السلولي ، وكانت لأبي مريم بعد صحبة ، فقال أبو سفيان لأبي مريم بعد أن شرب عنده : قد اشتدّت به العزوبة ، فالتمس لي بغيّا. فقال : هل لك في جارية الحارث بن كلدة سميّة امرأة عبيد؟ فقال : هاتها على طول ثديها وريح إبطيها. فجاء بها إليه فوقع بها ، فولدت زياداً فادّعاه معاوية.

وروى ابن عساكر ، عن ابن سيرين ، عن أبي بكرة ، قال : قال زياد لأبي بكرة : ألم تر أنّ أمير المؤمنين أرادني على كذا وكذا ، وولدت على فراش عُبيد وأشبهته ، وقد علمت أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من ادّعى لغير أبيه فليتبوّأ مقعده من النار». ثم جاء العام المقبل وقد ادّعاه. وقال محمد بن إسحاق : كنّا جلوساً عند أبي

__________________

(١) الأغاني : ١٧ / ٥١ ـ ٦٧ [١٨ / ٢٦٢ ـ ٢٩٤] ، الاستيعاب : ١ / ١٩٥ ـ ١٩٨ [القسم الثاني / ٥٢٥ ـ ٥٣٠ رقم ٨٢٥] ، تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٤٠٦ ـ ٤٢٣ [١٩ / ١٦٢ ـ ٢٠٩ رقم ٢٣٠٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٧٧] ، مروج الذهب : ٢ / ٥٦ ، ٥٧ [٣ / ١٥ ـ ١٧] ، تاريخ ابن كثير : ٨ / ٩٥ ، ٩٦ [٨ / ١٠٣ ـ ١٠٤ سنة ٥٩ ه‍] ، الاتحاف : ص ٢٢ [٦٦] (المؤلف)

(٢) تاريخ الأُمم والملوك : ٥ / ٢١٥ حوادث سنة ٤٤ ه‍.

٣١٨

سفيان ، فخرج زياد فقال : ويل أمّه لو كان له صلب قوم ينتمي إليهم (١).

ولمّا بويع معاوية قدم زياد على معاوية فصالحه على ألفي ألف ، ثم أقبل فلقيه مصقلة بن هبيرة الشيباني ، وضمن له عشرين ألف درهم ليقول لمعاوية : إنّ زياداً قد أكل فارس برّا وبحراً ، وصالحك على ألفي ألف درهم ، والله ما أرى الذي يقال إلاّ حقّا. فإذا قال لك : وما يقال؟ فقل : يُقال : إنّه ابن أبي سفيان. ففعل مصقلة ذلك ، ورأى معاوية أن يستميل زياداً ، واستصفى مودّته باستلحاقه ، فاتّفقا على ذلك ، وأحضر الناس وحضر من يشهد لزياد ، وكان فيمن حضر أبو مريم السلولي ، فقال له معاوية : بم تشهد يا أبا مريم؟ فقال : أنا أشهد أنّ أبا سفيان حضر عندي وطلب منّي بغيّا ، فقلت له : ليس عندي إلاّ سميّة. فقال : ائتني بها على قذرها ووضرها. فأتيته بها فخلا معها ، ثم خرجت من عنده وإنّ إسكتيها لَيقطران منيّا. فقال له زياد : مهلاً أبا مريم إنّما بُعثت شاهداً ولم تُبعث شاتماً. فاستلحقه معاوية (٢).

وفي العقد الفريد (٣) (٣ / ٣) : يقال : إنّ أبا سفيان خرج يوماً وهو ثمل إلى تلك الرايات ، فقال لصاحبة الراية : هل عندك من بغيّ؟ فقالت : ما عندي إلاّ سميّة. قال : هاتها على نتن إبطيها. فوقع بها فولدت له زياداً على فراش عبيد.

فوجد زياد نفسه بعد حسبه الواطئ ونسبه الوضيع ، بعد أن كان لا يُعزى إلى

__________________

(١) العقد الفريد : ٣ / ٢ [٥ / ٥ ـ ٦] ، تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٤٠٩ [١٩ / ١٧٤ ، وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٥ / ٤١٢ ، مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٧٥] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٩١ [٢ / ٤٧٠ حوادث سنة ٤٤ ه‍]. (المؤلف)

(٢) تاريخ اليعقوبي : ٢ / ١٩٤ [٢ / ٢١٩] ، مروج الذهب : ٢ / ٥٦ [٣ / ١٦] ، تاريخ ابن عساكر : ٥ / ٤٠٩ [٦ / ١٩ / ١٧٢ رقم ٢٣٠٩ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ٩ / ٧٦] ، كامل ابن الأثير : ٣ / ١٩٢ [٢ / ٧٤٠ حوادث سنة ٤٤ ه‍] ، شرح ابن أبي الحديد : ٤ / ٧٠ [١٦ / ١٨٧] ، الإتحاف للشبراوي : ص ٢٢ [ص ٦٦]. (المؤلف)

(٣) العقد الفريد : ٥ / ٥.

٣١٩

أبٍ معلوم عمراً طويلاً يقرب من خمسين عاماً (١) ، فيقال له : زياد بن أبيه. أخا (٢) ملك الوقت ، وابن من يُزعم أنّه من شرفاء بيئته ، وقد تسنّى له الحصول على مكانة رابية ، فأغرق نزعاً في جلب مرضاة معاوية ، المحابي له بتلك المرتبة التي بمثلها حابت هند ابنها المردّد بين خمسة رجال أو ستّة من بغايا الجاهليّة ، لكنّ آكلة الأكباد ألحقت معاوية بأبي سفيان لدلالة السحنة والشبه ، فطفق زياد يَلِغ في دماء الشيعة ، ولمعاوية من ورائه تصدية ومكاء.

وإنّ غلواء الرجل المحابي أعمته عن استقباح نسبة الزنا لأبيه ، يوم استحسن أن يكون له أخ مثل زياد ، شديد في بأسه ، يأتمر أوامره ، وينتهي إلى ما يودّه من بوائق وموبقات ، ولم يكترث لحكم الشريعة بحرمة مثل ذلك الإلحاق ، واستعظامها إيّاه ، ولا يصيخ إلى قول النبيّ الصادق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال يونس بن أبي عبيد الثقفي لمعاوية : يا معاوية قضى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّ «الولد للفراش وللعاهر الحجر». فعكست ذلك وخالفت سنّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : أعد. فأعاد يونس مقاله هذا ، فقال معاوية : يا يونس والله لتنتهينّ أو لأطيرنّ بك طيراً بطيئاً وقوعها (٣).

انظر إلى إيمان الرجل بنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإخباته إلى حديثه بعد استعادته ، وعنايته بقبوله ورعايته حرمته ، والحكَم في هذه الشنيعة كلّ ذي مسكة من علماء الأُمّة وذوي حنكتها ومؤلّفيها وكتّابها.

قال سعيد بن المسيّب : أوّل (٤) قضيّة ردّت من قضاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علانية ،

__________________

(١) قيل : ولد عام الفتح سنة ثمان ، وقيل : عام الهجرة ، وقيل : قبل الهجرة ، وقيل : يوم بدر. (المؤلف)

(٢) مفعول به ثانٍ لقوله : وجد ، أول الفقرة.

(٣) الإتحاف للشبراوي : ص ٢٢ [ص ٦٧]. (المؤلف)

(٤) ليست بأوّل قارورة كسرت في الإسلام ، وإنّما ردّ من يوم السقيفة وهلمّ جرّا إلى يوم الاستلحاق ، من قضايا رسول الله ، ما يربو على العدّ. (المؤلف)

٣٢٠