الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠

إلاّ ولعنه وكنت معه ، ولاّك عمر الشام فخنته ، ثم ولاّك عثمان فتربّصت عليه ، وأنت الذي كنت تنهى أباك عن الإسلام حتى قلت مخاطباً له :

يا صخر لا تسلمنْ طوعاً فتفضحَنا

بعد الذين ببدرٍ أصبحوا مزقا

لا تركننّ إلى أمر تقلّدنا

والراقصات بنعمان به الحرقا

وكنت يوم بدر ، وأُحد ، والخندق ، والمشاهد كلّها تقاتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقد علمت الفراش الذي وُلدت عليه».

قال السبط في التذكرة (١) (ص ١١٦) : قال الأصمعي والكلبي في المثالب : معنى قول الحسن لمعاوية : قد علمت الفراش الذي ولدت فيه : أنّ معاوية كان يقال إنّه من أربعة من قريش : عمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي ، مسافر بن أبي عمرو ، أبي سفيان ، العبّاس بن عبد المطّلب. وهؤلاء كانوا ندماء أبي سفيان ، وكان [كلّ] منهم يُتّهم بهند.

فأمّا عمارة بن الوليد فكان من أجمل رجالات قريش.

وأمّا مسافر بن أبي عمرو ، فقال الكلبي : عامّة الناس على أنّ معاوية منه ، لأنّه كان أشدّ الناس حبّا لهند ، فلمّا حملت هند بمعاوية خاف مسافر أن يظهر أنّه منه ، فهرب إلى ملك الحيرة فأقام عنده ، ثم إنّ أبا سفيان قدم الحيرة فلقيه مسافر وهو مريض من عشقه لهند ، وقد سقى بطنه ، فسأله عن أهل مكة فأخبره ، وقيل : إنّ أبا سفيان تزوّج هنداً بعد انفصال مسافر عن مكة ، فقال له أبو سفيان : إنّي تزوّجت هنداً بعدك ، فازداد مرضه ، وجعل يذوب ، فوصف الكيّ ، فاحضروا المكاوي والحجّام. فبينا الحجّام يكويه إذ حبق الحجّام ، فقال مسافر : قد يحبق العير والمكواة في النار (٢). فسارت مثلاً ، ثم مات مسافر من عشقه لهند.

__________________

(١) تذكرة الخواص : ص ٢٠٢ ، وما بين المعقوفين منه.

(٢) مجمع الأمثال : ٢ / ٤٨٠ رقم ٢٨٥٠.

٢٤١

وقال الكلبي : كانت هند من المغْلِيمات (١) ، وكانت تميل إلى السودان من الرجال ، فكانت إذا ولدت ولداً أسود قتلته ، قال : وجرى بين يزيد بن معاوية وبين إسحاق بن طابة بين يدي معاوية وهو خليفة ، فقال يزيد لإسحاق : إنّ خيراً لك أن يدخل بنو حرب كلّهم الجنّة. أشار يزيد إلى أنّ أُمّ إسحاق كانت تتّهم ببعض بني حرب ، فقال له إسحاق : إنّ خيراً لك أن يدخل بنو العبّاس كلّهم الجنّة. فلم يفهم يزيد قوله وفهم معاوية ، فلمّا قام إسحاق قال معاوية ليزيد : كيف تشاتم الرجال قبل أن تعلم ما يقال فيك؟ قال : قصدت شَيْنَ إسحاق. قال : وهو كذلك أيضاً. قال : وكيف؟ قال : أما علمت أنّ بعض قريش في الجاهليّة يزعمون أنّي للعبّاس؟ فسُقِط في يدي يزيد.

وقال الشعبي : وقد أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى هند يوم فتح مكة بشيء من هذا ، فإنّها لمّا جاءت تبايعه وكان قد أهدر دمها ، فقالت : على ما أُبايعك؟ فقال : «على أن لا تزنين». فقالت : وهل تزني الحرّة؟ فعرفها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنظر إلى عمر فتبسّم.

وقال الزمخشري في ربيع الأبرار (٢) (ج ٣) (٣) باب القرابات والأنساب وذكر حقوق الآباء والأُمّهات وصلة الرحم والعقوق :

وكان معاوية يُعزى إلى أربعة : مسافر بن أبي عمرو ، وإلى عمارة بن الوليد ، وإلى العبّاس بن عبد المطّلب ، وإلى الصباح مغنّي أسود كان لعمارة. قالوا : وكان أبو سفيان دميماً ، قصيراً ، وكان الصباح عسيفاً لأبي سفيان ، شابّا وسيماً ، فدعته هند إلى نفسها ـ وقالوا : إنّ عتبة بن أبي سفيان من الصباح أيضاً ـ وإنّما كرهت أن تضعه في

__________________

(١) المغْلِيمات : جمع مَغليمة. وهي التي تغلبها شهوتها.

(٢) وقفت منه على عدّة نسخ ، منها نسخة في مكتبة الأوقاف العامّة ببغداد رقم ٣٨٨. (المؤلف)

(٣) ربيع الأبرار : ٣ / ٥٥١.

٢٤٢

منزلها ، فخرجت إلى أجياد فوضعته هناك ، وفي ذلك قال حسّان :

لمن الصبيُّ بجانبِ البطحاءِ

في الترب مُلقى غير ذي مهدِ

نجلت به بيضاءُ آنسةٌ

من عبد شمسٍ صلبةُ الخدِّ

وقال ابن أبي الحديد في شرح النهج (١) (١ / ١١١) : كانت هند تُذكَر في مكة بفجور وعهر ، وقال الزمخشري في كتاب ربيع الأبرار : كان معاوية. وذكر إلى آخر الكلمة المذكورة ، فقال : والذين نزّهوا هنداً عن هذا القذف ، فذكر حديث الفاكه الذي ذكره أبو عبيد معمر بن المثنّى.

وفي كتاب لزياد بن أبيه مجيباً معاوية عن تعييره إيّاه بأمّه سُميّة : وأمّا تعييرك لي بسميّة فإن كنتُ ابن سُميّة فأنت ابن جماعة.

شرح ابن أبي الحديد (٢) (٤ / ٦٨).

٦٨ ـ أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه (٣) من طريق عبد الملك بن عمير قال : قدم جارية بن قدامة السعدي على معاوية ، فقال : من أنت؟ قال : جارية بن قدامة. قال : وما عسيت أن تكون هل أنت إلاّ نحلة؟ قال : لا تقل فقد شبّهتني بها حامية اللسعة حلوة البصاق ، والله ما معاوية إلاّ كلبة تعاوي الكلاب ، وما أُميّة إلاّ تصغير أَمة.

وأخرج عن الفضل بن سويد قال : وفد جارية بن قدامة على معاوية ، فقال له معاوية : أنت الساعي مع عليّ بن أبي طالب ، والموقد النار في شعلك ، تجوس قرى عربيّة تسفك دماءهم؟ قال جارية : يا معاوية دع عنك عليّا فما أبغضنا عليّا منذ

__________________

(١) شرح نهج البلاغة : ١ / ٣٣٦ خطبة ٢٥.

(٢) شرح نهج البلاغة : ١٦ / ١٨٣ كتاب ٤٤.

(٣) مختصر تاريخ دمشق : ٥ / ٣٦٥.

٢٤٣

أحببناه ، ولا غششناه منذ صحبناه. قال : ويحك يا جارية ما كان أهونك على أهلك إذ سمّوك جارية! قال : أنت يا معاوية كنت أهون على أهلك إذ سمّوك معاوية. إلى آخره. وذكره بطوله وما قبله السيوطي في تاريخ الخلفاء (١) (ص ١٣٣).

وفي لفظ ابن عبد ربّه : قال معاوية لجارية : ما كان أهونك على أهلك إذ سمّوك جارية! قال : ما كان أهونك على أهلك إذ سمّوك معاوية وهي الأُنثى من الكلاب! قال : لا أُمّ لك. قال : أُمّي ولدتني للسيوف التي لقيناك بها في أيدينا ، قال : إنّك لتهدّدني؟ ـ قال : أما والله إنّ القلوب التي أبغضناك بها لبين جوانحنا ، والسيوف التي قاتلناك بها لفي أيدينا ـ إنّك لم تفتتحنا قسراً ، ولم تملكنا عنوة ، ولكنك أعطيتنا عهداً وميثاقاً ، وأعطيناك سمعاً وطاعة ، فإن وفيت لنا وفينا لك ، وإن فزعت إلى غير ذلك فإنّا تركنا وراءنا رجالاً شداداً وألسنة حِداداً. قال له معاوية : لا كثّر الله في الناس أمثالك. قال جارية : قل معروفاً وراعنا فإنّ شرّ الدعاء المحتطب.

العقد الفريد (٢) (٢ / ١٤٣) في مجاوبة الأُمراء والردّ عليهم ، وذكره الأبشيهي قريباً من هذا اللفظ في المستطرف (٣) (١ / ٧٣) وما ذكرناه بين الخطّين من لفظه.

٦٩ ـ دخل شريك بن الأعور على معاوية وكان دميماً ، فقال له معاوية : إنّك لدميم والجميل خير من الدميم ، وإنّك لشريك وما لله من شريك ، وإنّ أباك لأعور والصحيح خير من الأعور ، فكيف سُدْت قومك؟

فقال له : إنّك معاوية وما معاوية إلاّ كلبة عوت فاستعوت الكلاب ، وإنّك لابن صخر والسهل خير من الصخر ، وإنّك لابن حرب والسلم خير من الحرب ، وإنّك

__________________

(١) تاريخ الخلفاء : ص ١٨٦.

(٢) العقد الفريد : ٣ / ٢١٤.

(٣) المستطرف : ١ / ٥٨.

٢٤٤

لابن أُميّة وما أُميّة إلاّ أَمَة صُغِّرت ، فكيف صرت أمير المؤمنين؟ ثم خرج وهو يقول :

أيشتمني معاويةُ بنُ حربٍ

وسيفي صارمٌ ومعي لساني

وحولي من ذوي يزنٍ ليوثٌ

ضراغمةٌ تهشُّ إلى الطعانِ

يعيّر بالدمامة من سفاهٍ

وربّات الجمال من الغواني

المستطرف (١) (١ / ٧٢).

قال الأميني : إنّ معاوية لمّا كان تتوجّه إليه تلكم القوارص من ناحية اسمه ، ولعلّه كان لا ينسى معناه عند توجيه الخطاب إليه بذلك ، ولم يك له بدّ منه إذ سمّته به هند وما كان يسعه أن يخطّئها ، فبذل ألف ألف درهم لعبد الله بن جعفر الطيار أن يسمّي أحد أولاده معاوية (٢) ، زعماً منه بتخفيف الوطأة إن كان له سميّ في البيت الهاشمي. لكن خفي على المغفّل أنّ فناء آل هاشم لا يقصر عن فناء أصحاب الكهف ، فإنّ كلبهم ما دنّس ساحتهم ، فانّى تدنّس الأسماء تلك الأفنية المقدّسة التي منها بيوت أذن الله أن ترفع ويُذكر فيها اسمه؟!

٧٠ ـ ومن خطبة لمولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : «والله ما معاوية بأدهى منّي ، ولكنّه يغدر ويفجر ، ولولا كراهية الغدر لكنت من أدهى الناس ، ولكن كلّ غدرة فجرة ، ولكلّ فجرة كفرة ، ولكلّ غادر لواء يُعرف به يوم القيامة».

ولابن أبي الحديد في شرحه (٣) (٢ / ٥٧٢ ـ ٥٨٩) كلمة ضافية في شرح هذه الخطبة فيها فوائد جمّة من جهات شتّى ، ومنها كلمة الجاحظ أبي عثمان حول معاوية ،

__________________

(١) المستطرف : ١ / ٥٧.

(٢) تاج العروس : ١٠ / ٢٦٠. (المؤلف)

(٣) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢١١ ـ ٢٦٠ كتاب ١٩٣.

٢٤٥

وقول أبي جعفر النقيب : إنّ معاوية من أهل النار لا لمخالفته عليّا ولا بمحاربته إيّاه ، ولكن عقيدته لم تكن صحيحة ولا إيمانه حقّا ، وكان من رءوس المنافقين هو وأبوه ، ولم يسلم قلبه قطّ ، وإنّما أسلم لسانه ، وكان يذكر من حديث معاوية ومن فلتات قوله ، وما حفظ عنه من كلام يقتضي فساد العقيدة شيئاً كثيراً ... إلى آخره.

٧١ ـ لمّا قتل العبّاس بن ربيعة يوم صفّين عرار بن أدهم من أصحاب معاوية ، تأسّف معاوية على عرار ، وقال : متى ينطف فحل بمثله؟ أيُطلّ دمه؟ لاها الله ذا. ألا لله رجل يشري نفسه يطلب بدم عرار؟ فانتدب له رجلان من لخم. فقال : اذهبا فأيّكما قتل العبّاس برازاً فله كذا. فأتياه ودعواه إلى البراز ، فقال : إنّ لي سيّداً أُريد أن أُؤامره ، فأتى عليّا فأخبره الخبر ، فقال عليّ : «والله لودّ معاوية أنّه ما بقي من هاشم نافخ ضرمة إلاّ طعن في نيطه (١) إطفاءً لنور الله ، ويأبى الله إلاّ أن يتمّ نوره ولو كره الكافرون».

عيون الأخبار لابن قتيبة (١ / ١٨٠).

٧٢ ـ لمّا سلّم الحسن الأمر إلى معاوية ، قال الخوارج : قد جاء الآن ما لا شكّ فيه ، فسيروا إلى معاوية فجاهدوه. فأقبلوا وعليهم فروة بن نوفل حتى حلّوا بالنخيلة عند الكوفة ، وكان الحسن بن عليّ قد سار يريد المدينة ، فكتب إليه معاوية يدعوه إلى قتال فروة ، فلحقه رسوله بالقادسيّة أو قريباً منها فلم يرجع ، وكتب إلى معاوية : «لو آثرت أن أُقاتل أحداً من أهل القبلة لبدأت بقتالك ، فانّي تركتك لصلاح الأُمّة وحقن دمائها»

الكامل لابن الأثير (٢) (٣ / ١٧٧).

__________________

(١) النيط : الوسط بين الأمرين. (المؤلف)

(٢) الكامل في التاريخ : ٢ / ٤٤٩ حوادث سنة ٤١ ه‍.

٢٤٦

٧٣ ـ قال الأسود بن يزيد : قلت لعائشة : ألا تعجبين لرجل من الطلقاء ينازع أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخلافة؟ فقالت : وما تعجب من ذلك؟ هو سلطان الله يؤتيه البرّ والفاجر ، وقد ملك فرعون أهل مصر أربعمائة سنة ، وكذلك غيره من الكفّار.

تاريخ ابن كثير (١) (٨ / ١٣١) قال : أخرجه أبو داود الطيالسي ، وابن عساكر (٢).

تشبيه أم المؤمنين معاوية بفرعون وغيره من الكفّار في ملكه يُعرب عن جليّة حال ذلك الملك العضوض ومالك أزمّته (وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ* يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ* وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ) (٣).

٧٤ ـ أخرج الحافظ ابن عساكر في تاريخه (٤) (٦ / ٤٢٥) من طريق الشعبي قال : خطب الناس معاوية ، فقال : لو أنّ أبا سفيان ولد الناس كلّهم كانوا أكياساً. فقام إليه صعصعة بن صوحان فقال له : قد ولد الناس كلّهم من هو خير من أبي سفيان : آدم عليه‌السلام فمنهم الأحمق والكيّس ، فقال معاوية : إنّ أرضنا قريبة من المحشر. فقال له : إنّ المحشر لا يبعد على مؤمن ولا يقرب من كافر. فقال معاوية : إنّ أرضنا أرض مقدّسة. فقال له صعصعة : إنّ الأرض لا يقدّسها شيء ولا ينجّسها ، إنّما تقدّسها الأعمال. فقال معاوية : عباد الله اتّخذوا الله وليّا واتّخذوا خلفاءه جنّة تحترزوا بها. فقال صعصعة ، كيف وكيف؟ وقد عطّلت السنّة ، وأخفرت الذمّة ، فصارت عشواء مطلخمّة ، في دهياء مدلهمّة ، قد استوعبتها الأحداث ، وتمكّنت منها الأنكاث. فقال له

__________________

(١) البداية والنهاية : ٨ / ١٤٠ حوادث سنة ٦٠ ه‍.

(٢) مختصر تاريخ دمشق : ٢٥ / ٤٢.

(٣) هود : ٩٧ ـ ٩٩.

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٢٤ / ٩٢ ـ ٩٣ رقم ٢٨٨١.

٢٤٧

معاوية : يا صعصعة ، لَأَن تقعي على ظلعك خير لك من استبراء رأيك ، وإبداء ضعفك ، تعرض بالحسن بن علي عليّ ، ولقد هممت أن أبعث إليه. فقال له صعصعة : إي والله وجدتهم أكرمكم جدوداً ، وأحياكم حدوداً ، وأوفاكم عهوداً ، ولو بعثت إليه لوجدته في الرأي أريباً ، وفي الأمر صليباً ، وفي الكرم نجيباً ، يلذعك بحرارة لسانه ، ويقرعك بما لا تستطيع إنكاره.

فقال له معاوية : والله لأجفينّك عن الوساد ، ولأشردنّ بك في البلاد ، فقال له صعصعة : والله إنّ في الأرض لسعة ، وإنّ في فراقك لدعة ، فقال معاوية : والله لأحبسنّك عطاءك. قال : إن كان ذلك بيدك فافعل ، إنّ العطاء وفضائل النعماء في ملكوت من لا تنفد خزائنه ، ولا يبيد عطاؤه ، ولا يحيف في قضيّته. فقال له معاوية : لقد استقتلت. فقال له صعصعة : مهلاً ، لم أقل جهلاً ، ولم أستحلّ قتلاً ، لا تقتل النفس التي حرّم الله إلاّ بالحقّ ، ومن قتل مظلوماً كان الله لقاتله مقيماً ، يرهقه أليماً ، ويجرعه حميماً ، ويصليه جحيما.

٧٥ ـ لمّا ولي معاوية بن يزيد بن معاوية صعد المنبر ، فقال : إنّ هذه الخلافة حبل الله ، وإنّ جدّي معاوية نازع الأمر أهله ، ومن هو أحقّ به منه ، عليّ بن أبي طالب ، وركب بكم ما تعلمون ، حتى أتته منيّته فصار في قبره رهيناً بذنوبه ، ثم قلّد أبي الأمر ، وكان غير أهل له ، ونازع ابن بنت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقصف عمره ، وانبتر عقبه ، وصار في قبره رهيناً بذنوبه ، ثم بكى.

الصواعق لابن حجر (١) (ص ١٣٤).

٧٦ ـ قال الحارث بن مسمار البهراني : حبس معاوية صعصعة بن صوحان العبدي ، وعبد الله بن الكوّاء اليشكري ، ورجالاً من أصحاب عليّ مع رجال من

__________________

(١) الصواعق المحرقة : ص ٢٢٤.

٢٤٨

قريش ، فدخل عليهم معاوية يوماً فقال : نشدتكم بالله إلاّ ما قلتم حقّا وصدقاً ، أيّ الخلفاء رأيتموني؟ فقال ابن الكوّاء : لو لا أنّك عزمت علينا ما قلنا ، لأنّك جبّار عنيد ، لا تراقب الله في قتل الأخيار ، ولكنّا نقول : إنّك ما علمنا واسع الدنيا ، ضيّق الآخرة ، قريب الثرى ، بعيد المرعى ، تجعل الظلمات نوراً ، والنور ظلمات.

فقال معاوية : إنّ الله أكرم هذا الأمر بأهل الشام الذابّين عن بيضته ، التاركين لمحارمه ، ولم يكونوا كأمثال أهل العراق المنتهكين لمحارم الله ، والمحلّين ما حرّم الله ، والمحرّمين ما أحلّ الله. فقال عبد الله بن الكوّاء ، يا بن أبي سفيان إنّ لكلّ كلام جواباً ، ونحن نخاف جبروتك ، فإن كنت تطلق ألسنتنا ذببنا عن أهل العراق بألسنة حداد لا يأخذها في الله لومة لائم ، وإلاّ فإنّا صابرون حتى يحكم الله ويضعنا على فرجه. قال : والله لا يطلق لك لسان.

ثم تكلّم صعصعة فقال : تكلّمت يا بن أبي سفيان فأبلغت ، ولم تقصّر عمّا أردت وليس الأمر على ما ذكرت ، أنّى يكون الخليفة من ملك الناس قهراً ، ودانهم كبراً ، واستولى بأسباب الباطل كذباً ومكراً؟ أما والله مالك في يوم البدر (١) مضرب ولا مرمى ، وما كنت فيه إلاّ كما قال القائل : (لا حلّي ولا سيري) (٢) ولقد كنت أنت وأبوك في العير والنفير ممّن أجلب على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنّما أنت طليق ابن طليق ، أطلقكما رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأنّى تصلح الخلافة لطليق؟ فقال معاوية : لو لا أنّي أرجع إلى قول أبي طالب حيث يقول :

قابلتُ جهلَهمُ حلماً ومغفرةً

والعفو عن قدرةٍ ضربٌ من الكرمِ

لقتلتكم.

مروج الذهب (٣) (٢ / ٧٨).

__________________

(١) في المصدر : بدر.

(٢) يريد : لم يكن له فيه أمر ولا نهي.

(٣) مروج الذهب : ٣ / ٥١.

٢٤٩

٧٧ ـ عن أبي مزروع الكلبي (١) قال : دخل صعصعة بن صوحان على معاوية ، فقال له : يا بن صوحان ، أنت ذو معرفة بالعرب وبحالها ـ إلى أن قال ـ : فأخبرني عن أهل الحجاز. قال : أسرع الناس إلى فتنة ، وأضعفهم عنها ، وأقلّهم غناءً فيها ، غير أنّ لهم ثباتاً في الدين ، وتمسّكاً بعروة اليقين ، يتّبعون الأئمّة الأبرار ، ويخلعون الفسقة الفجّار. فقال معاوية : من البررة والفسقة؟ فقال : يا بن أبي سفيان ترك الخداع من كشف القناع ، عليّ وأصحابه من الائمّة الأبرار ، وأنت وأصحابك من أولئك.

إلى أن قال معاوية : أخبرني عن أهل الشام. قال : أطوع الناس لمخلوق ، وأعصاهم للخالق ، عصاة الجبّار ، وحلفة الأشرار ، فعليهم الدمار ، ولهم سوء الدار. فقال معاوية : والله يا بن صوحان إنّك لحامل مديتك منذ أزمان ، إلاّ أنّ حلم ابن أبي سفيان يردّ عنك. فقال صعصعة : بل أمر الله وقدرته ، إنّ أمر الله كان قدراً مقدوراً (٢).

٧٨ ـ عن إبراهيم بن عقيل البصري ، قال : قال معاوية يوماً وعنده صعصعة ، وكان قدم عليه بكتاب عليّ وعنده وجوه الناس : الأرض لله ، وأنا خليفة الله ، فما آخذ من مال الله فهو لي ، وما تركت منه كان جائزاً لي ، فقال صعصعة :

تمنّيك نفسك ما لا يكو

ن جهلاً مُعاويَ لا تأثمِ

فقال معاوية : يا صعصعة تعلّمت الكلام. قال : العلم بالتعلّم ، ومن لا يعلم يجهل ، قال معاوية : ما أحوجك إلى أن أذيقك وبال أمرك! قال : ليس ذلك بيدك ، ذلك بيد الذي لا يؤخّر نفساً إذا جاء أجلها ، قال : ومن يحول بيني وبينك؟ قال : الذي يحول بين المرء وقلبه. قال معاوية : اتّسع بطنك للكلام كما اتّسع بطن البعير للشعير.

__________________

(١) في المصدر : عن ابن مردوع الكلبي.

(٢) مروج الذهب : ٢ / ٧٨ ، ٧٩ [٣ / ٥٢ ـ ٥٣]. (المؤلف)

٢٥٠

قال : اتّسع بطن من لا يشبع ، ودعا عليه من لا يجمع (١). (٢)

٧٩ ـ سئل صعصعة بن صوحان عن معاوية ، قال : صانع الدنيا فاقتلدها ، وضيّع الآخرة فنبذها ، وكان صاحب من أطعمه وأخافه.

تاريخ ابن عساكر (٦ / ٤٢٤). (٣)

٨٠ ـ أخرج أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني (٤) (٣ / ١٨) قال : أخبرني أحمد بن عبد العزيز الجوهري ، قال : حدّثنا عمر بن شبة ، قال : حدّثني أحمد بن معاوية ، عن الهيثم بن عدي ، قال : حجّ معاوية حجّتين في خلافته ، وكانت له ثلاثون بغلة يحجّ عليها نساؤه وجواريه ، قال : فحجّ في إحداهما فرأى شخصاً يصلّي في المسجد الحرام عليه ثوبان أبيضان ، فقال : من هذا؟ قالوا : شعبة بن غريض (٥) ، وكان من اليهود ، فأرسل إليه يدعوه فأتاه رسوله ، فقال : أجب أمير المؤمنين. قال : أو ليس قد مات أمير المؤمنين قبل؟ قال : فأجب معاوية.

فأتاه فلم يسلّم عليه بالخلافة ، فقال له معاوية : ما فعلت أرضك التي بتيماء (٦)؟ قال : يُكسى منها العاري ، ويردّ فضلها على الجار ، قال : أفتبيعها؟ قال : نعم. قال : بكم؟ قال : بستين ألف دينار ، ولولا خلّة أصابت الحيّ لم أبعها. قال : لقد أغليت.

__________________

(١) مروج الذهب : ٢ / ٧٩ [٣ / ٥٣] ، جمهرة الخطب : ١ / ٢٥٧ [١ / ٤٤٥ رقم ٣٤٢]. (المؤلف)

(٢) المراد بمن لا يجمع رسول الله ٦ ، والمعنى أنه لا يجمع الدنيا ، والعبارة تعريض بمعاوية ، حيث دعا عليه رسول الله ٦ بقوله : «لا أشبع الله بطنه».

(٣) تاريخ مدينة دمشق : ٢٤ / ٩٠ رقم ٢٨٨١ ، وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٦ / ٤٢٦.

(٤) الأغاني : ٣ / ١٢٣.

(٥) كذا في الأغاني والصحيح كما ضبطه ابن حجر في الإصابة [٢ / ٤٣ رقم ٣٢٤٥] : سعنة ، بالمهملة والنون. ويقال بالمثنّاة التحتانية وعريض بالمهملة أيضاً. (المؤلف)

(٦) تيما : محلّ بين الحجاز والشام [معجم البلدان : ٢ / ٦٧]. (المؤلف)

٢٥١

قال : أما لو كانت لبعض أصحابك لأخذتها بستمائة ألف دينار ثم لم تِبَل (١). قال : أجل ، وإذ بخلت بأرضك ، فأنشدني شعر أبيك يرثي نفسه ، فقال : قال أبي :

يا ليت شعري حين أُندَبُ هالكاً

ما ذا تؤبّنني به أنواحي

أيقلن لا تبعد فربّ كريهةٍ

فرّجتها ببشارةٍ وسماحِ

ولقد ضربت بفضل مالي حقّه

عند الشتاء وهبّة الأرواحِ

ولقد أخذت الحقّ غير مخاصم

ولقد رددت الحقّ غير ملاحِ

وإذا دُعيت لصعبةٍ سهَّلتها

أُدعى بأفلح مرّة ونجاحِ

فقال : أنا كنت بهذا الشعر أولى من أبيك. قال : كذبت ولؤمت. قال : أمّا كذبت فنعم ، وأمّا لؤمت فَلِم؟ قال : لأنّك كنت ميّت الحقّ في الجاهليّة وميّته في الإسلام. أمّا في الجاهليّة فقاتلت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والوحي ، جعل الله كيدك المردود. وأمّا في الإسلام فمنعت ولد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخلافة ، وما أنت وهي وأنت طليق ابن طليق؟ فقال معاوية : قد خرف الشيخ فأقيموه ، فأُخذ بيده فأُقيم.

وذكره ملخّصاً ابن حجر في الإصابة (٢ / ٤٣) من طريق آخر عن عبد الله بن الزبير وزاد : فقال : ما خرفت ولكن أنشدك الله يا معاوية ، أما تذكر لمّا كنّا جلوساً عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فجاء عليّ فاستقبله النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : «قاتل الله من يقاتلك ، وعادى من يعاديك». فقطع عليه معاوية حديثه ، وأخذ معه في حديث آخر.

__________________

(١) لم تِبَل : لم تبالِ.

٢٥٢

معاوية في ميزان القضاء

لعمر الحقّ إنّ واحدة من هذه الشهادات كافية في تحطيم قدر الرجل والإسفاف بمستواه إلى الحضيض الأسفل ، فكيف بجميعها؟ فإنّها صدرت من سادات الصحابة وأعيانهم العدول جميعهم عند القوم ، فضلاً عن هؤلاء الذين لا يُشكّ في ورعهم وقداسة ساحتهم عن السقطة في القول والعمل ، ولا سيّما وفيهم الإمام المعصوم ، الخليفة حقّا ، المطهّر بلسان الذكر الحكيم عن أيّ رجاسة ، الذي يدور الحقّ معه حيثما دار ، وهو مع القرآن والقرآن معه ، لن يفترقا حتى يردا الحوض (١) ، وقبل الجميع ما رويناه عن النبيّ الأقدس صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حقّ هذا الإنسان.

فالرجل أخذاً بمجامع تلكم الشهادات الصادقة للسلف الصالح ، محكوم عليه نصّ أقوالهم من دون أيّ تحريف وتحوير منّا ، بأنّه امرؤ ليس له بصر يهديه ولا قائد يرشده ، دعاه الهوى فأجابه ، وقاده الضلال فاتّبعه ، وما أتى به من ضلالة ليس ببعيد الشبه ممّا أتى به أهله المشركون الكفرة ، مصيره إلى اللظى ، مبوّؤه النار ، اللعين ابن اللعين ، الفاجر ابن الفاجر ، المنافق ابن المنافق ، الطليق ابن الطليق ، الوثن ابن الوثن ، الجلف المنافق ، الأغلف القلب ، القليل العقل ، الجبان الرذل ، يخبط في عماية ، ويتيه في ضلالة ، شديد اللزوم للأهواء المبتدعة ، والحيرة المتّبعة ، لم يكن من أهل القرآن ، ولا مريداً حكمه ، يجري إلى غاية خُسر ، ومحلّة كفر ، قد أولجته نفسه شرّا ، وأقحمته

__________________

(١) راجع الجزء الثالث من كتابنا هذا [ص : ٢٥١]. (المؤلف)

٢٥٣

غيّا ، وأوردته المهالك ، وأوعرت عليه المسالك ، غمص الناس ، وسفه الحقّ ، فاسق مهتوك ستره ، يشين الكريم بمجلسه ، ويسفه الحليم بخلطته ، ابن آكلة الأكباد ، الكذّاب العسوف ، إمام الردى ، وعدوّ النبيّ ، لم يزل عدوّا لله والسنّة والقرآن والمسلمين ، رجل البِدع والأحداث ، كانت بوائقه تُتّقى ، وكان على الإسلام مخوفاً ، الغادر الفاسق ، مثله كمثل الشيطان ، يأتي المرء من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، لم يجعل الله له سابقة في الدين ، ولا سلف صدق في الإسلام ، القاسط النابذ كتاب الله وراء ظهره ، كان شرّ الأطفال وشرّ الرجال ، كهف المنافقين ، دخل في الاسلام كرهاً ، وخرج منه طوعاً ، لم يقدم إيمانه ولم يحدث نفاقه ، كان حرباً لله ولرسوله ، حزباً من أحزاب المشركين ، عدوّا لله ولنبيّه وللمؤمنين ، أقولُ الناس للزور ، وأضلّهم سبيلاً ، وأبعدهم من رسول الله وسيلة ، الغاوي اللعين ، ليس له فضل في الدين معروف ، ولا أثر في الإسلام محمود ، عادى الله ورسوله وجاهدهما ، وبغى على المسلمين ، وظاهر المشركين ، فلمّا أراد الله أن يظهر دينه وينصر رسوله ، أتاه فأسلم ، وهو والله راهب غير راغب ، قُبض رسول الله والرجل يُعرف بعداوة المسلم ومودّة المجرم ، يُطفئ نور الله ، ويظاهر أعداء الله ، أغوى جفاةً فأوردهم النار وأورثهم العار ، لم يكن في إسلامه بأبرّ وأتقى ولا أرشد ولا أصوب منه في أيّام شركه وعبادته الأصنام.

هذا معاوية عند رجال الدين الصحيح الأبرار الصادقين ، وهذه صحيفة من تاريخه السوداء ، وتؤكّد هذه الكلم القيّمة ما يؤثر عن الرجل من بوائق وموبقات ، هي بمفردها حجج دامغة على سقوطه عن مبوّأ الصالحين ، فإنّها لا تتأتّى إلاّ عن تهاون بأمر الله ونهيه ، وإغضاء عن نواميس الدين وشرائع الإسلام ، وتزحزح عن سنّة الله ، وتعدّ وشذوذٍ عن حدوده (وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (١) وإليك نزراً منها :

__________________

(١) البقرة : ٢٢٩.

٢٥٤

ـ ١ ـ

معاوية والخمر

١ ـ أخرج إمام الحنابلة أحمد في مسنده (١) (٥ / ٣٤٧) من طريق عبد الله بن بريدة ، قال : دخلت أنا وأبي على معاوية ، فأجلسنا على الفرش ، ثم أُتينا بالطعام فأكلنا ، ثم أُتينا بالشراب فشرب معاوية ، ثم ناول أبي ، قال : ما شربته منذ حرّمه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثم قال معاوية : كنت أجمل شباب قريش ، وأجودهم ثغراً ، وما شيء كنت أجد له لذّة كما كنت أجده وأنا شاب ، غير اللبن أو إنسان حسن الحديث يحدّثني.

٢ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه (٢) (٧ / ٢١١) من طريق عمير (٣) بن رفاعة ، قال : مرّ على عبادة (٤) بن الصامت وهو في الشام قطارة تحمل الخمر ، فقال : ما هذه؟ أزيت؟ قيل : لا ، بل : خمر تُباع لفلان ، فأخذ شفرة من السوق ، فقام إليها فلم يذر فيها راوية إلاّ بقرها ، وأبو هريرة إذ ذاك بالشام ، فأرسل فلان إلى أبي هريرة يقول له : أما تمسك عنّا أخاك عبادة؟ أمّا بالغدوات فيغدو إلى السوق فيفسد على أهل الذمّة متاجرهم ، وأمّا بالعشيّ فيقعد في المسجد ليس له عمل إلاّ شتم أعراضنا أو عيبنا ، فأمسك عنّا أخاك.

فأقبل أبو هريرة يمشي حتى دخل على عبادة ، فقال له : يا عبادة مالك

__________________

(١) مسند أحمد : ٦ / ٤٧٦ ح ٢٢٤٣٢.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٦ / ١٩٧ ـ ١٩٨ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٦.

(٣) في الطبعة المحققة من تاريخ ابن عساكر وكذا في مختصره : عبيد بن رفاعة.

(٤) كان بدويّا عقبياً أحد نقباء الأنصار ، بايع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على أن لا يخاف في الله لومة لائم. سنن البيهقي : ٥ / ٢٧٧. (المؤلف)

٢٥٥

ولمعاوية؟ ذره وما حمل ، فإنّ الله يقول : (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ) (١). قال : يا أبا هريرة لم تكن معنا إذ بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بايعناه على السمع والطاعة في النشاط والكسل ، وعلى النفقة في العسر واليسر ، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا في الله لومة لائم ، وعلى أن ننصره إذا قدم علينا يثرب ، فنمنعه ممّا نمنع منه أنفسنا ، وأزواجنا ، وأهلنا ، ولنا الجنّة ، فهذه بيعة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم التي بايعناه عليها ، فمن نكث فإنّما ينكث على نفسه ، ومن أوفى بما بايع عليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفى الله له بما بايع عليه نبيّه. فلم يكلّمه أبو هريرة بشيء.

٣ ـ وأخرج في التاريخ (٢) (٧ / ٢١٣) من طريق عمرو بن قيس ، قال : إنّ عبادة أتى حجرة معاوية وهو بأنطرطوس (٣) ، فألزم ظهره الحجرة وأقبل على الناس بوجهه وهو يقول : بايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن لا أُبالي في الله لومة لائم ، ألا إنّ المقداد ابن الأسود قد غلّ بالأمس حماراً ، [قال :] وأقبلت أَوْسقٌ من مالٍ ، فأشارت (٤) الناس إليها فقال [عبادة] : أيّها الناس [ألا] إنّها تحمل الخمر ، والله ما يحلّ لصاحب هذه الحجرة أن يعطيكم منها شيئاً ، ولا يحلّ لكم أن تسألوه ، وإن [كانت] معبلة (٥) ـ يعني سهماً ـ في جنب أحدكم ، [قال :] فأتى رجلٌ المقداد [بن الأسود] وفي يده قرصافة (٦) ، فجعل يتلّ الحمار بها وهو يقول : [يا] معاوية هذا حمارك ، شأنك به ، حتى

__________________

(١) البقرة : ١٣٤.

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٦ / ٢٠٠ رقم ٣٠٧١ وما بين المعقوفات منه ، وفي تهذيب تاريخ دمشق : ٧ / ٢١٦.

(٣) بلدة من سواحل بحر الشام ، هي آخر أعمال دمشق من البلاد الساحلية وأوّل أعمال حمص. [معجم البلدان : ١ / ٢٧٠]. (المؤلف)

(٤) في المحقّقة : فاشرأبّ الناس إليها.

(٥) المعبلة : نصل طويل عريض.

(٦) القرصافة : القطيفة.

٢٥٦

أورده الحجرة.

٤ ـ وفد عبد الله (١) بن الحارث بن أميّة بن عبد شمس على معاوية ، فقرّبه حتى مسّت ركبتاه رأسه ، ثم قال له معاوية : ما بقي منك؟ قال : ذهب والله خيري وشرّي ، فقال له معاوية : ذهب والله خير قليل ، وبقي شرّ كثير ، فما لنا عندك؟ قال : إن أحسنت لم أحمدك ، وإن أسأت لُمتك! قال : والله ما أنصفتني ، قال : ومتى أنصفك ، فو الله لقد شججتُ أخاك حنظلة فما أعطيتك عقلاً ولا قوداً ، وأنا الذي أقول :

أصخرَ بن حربٍ لا نعدُّكَ سيّداً

فَسُدْ غيرنا إذ كنت لست بسيّدِ

وأنت الذي تقول :

شربتُ الخمرَ حتى صرتُ كلاّ

على الأدنى وما لي من صديقِ

وحتى ما أوسّد من وسادٍ

إذا أنشو سوى الترب السحيقِ

ثم وثب على معاوية يخبطه بيده ، ومعاوية ينحاز ويضحك.

رواها ابن عساكر في تاريخه (٢) (٧ / ٣٤٦) ، وقال ابن حجر في الإصابة (٢ / ٢٩١) : روى الكوكبي من طريق عبسة بن عمرو (٣) ، قال : وفد عبد الله بن الحارث على معاوية ، فقال له معاوية : ما بقي منك؟ قال : ذهب والله خيري وشرّي ، فذكر قصّة ـ يعني هذه.

٥ ـ أخرج ابن عساكر في تاريخه (٤) ، وابن سفيان في مسنده ، وابن قانع وابن

__________________

(١) أدرك الإسلام وهو شيخ كبير ، ثم عاش بعد ذلك إلى خلافة معاوية. الإصابة : ٢ / ٢٩١ [رقم ٤٥٩٧]. (المؤلف)

(٢) تاريخ مدينة دمشق : ٢٧ / ٣١٢ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٢ / ٩٤.

(٣) كذا في الإصابة ، وفي الطبعة المحققة من تاريخ دمشق : عنبسة بن عمرو.

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٣٤ / ٤١٩ رقم ٣٨٢٨ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١٤ / ٢٦٣.

٢٥٧

مندة من طريق محمد بن كعب القرظي ، قال : غزا عبد الرحمن بن سهل الأنصاري في زمن عثمان ، ومعاوية أمير على الشام ، فمرّت به روايا خمر ـ لمعاوية ـ فقام إليها برمحه فبقر كلّ راوية منها ، فناوشه الغلمان حتى بلغ شأنه معاوية ، فقال : دعوه فإنّه شيخ قد ذهب عقله. فقال : كلاّ والله (١) ما ذهب عقلي ، ولكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نهانا أن ندخل بطوننا وأسقيتنا خمراً ، وأحلف بالله لئن بقيت حتى أرى في معاوية ما سمعت من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبقرنّ بطنه ، أو لأموتنّ دونه.

وذكره ابن حجر في الإصابة (٢ / ٤٠١) ، ولخّصه في تهذيب التهذيب (٢) (٦ / ١٩٢) ، وأخرجه ملخّصاً أبو عمر في الاستيعاب (٣) (٢ / ٤٠١) ، وذكره ابن الأثير في أُسد الغابة (٤) (٣ / ٢٩٩) باللفظ المذكور إلى (وأَسقيتنا) فقال : أخرجه الثلاثة ـ يعني ابن مندة وأبو نعيم وأبو عمر.

قال الأميني : لعلّ في الناس من يحسب أنّ سلسلة الاستهتار بمعاقرة الخمور كانت مبدوّة بيزيد بن معاوية ، وإن لم يحكم الضمير الحرّ بإنتاج أبوين صالحين في دار طنّبت بالصلاح والدين ، تخلو عن الخمر والفجور ، ولداً مستهتراً مثل يزيد الطاغية المتخصّص في فنون العيث والفساد ، لكن هذه الأنباء تُعلمنا أنّ هاتيك الخزاية كانت موروثة له من أبيه الماجن المشيع للفحشاء في الذين آمنوا ، بحمل الخمور إلى حاضرته على القطار تارة ، وعلى حماره أخرى ، بملإ من الأشهاد ، ونصب أعين المسلمين ، وتوزيعها في الملأ الدينيّ ، وهو يحاول مع ذلك أن لا ينقده أحد ، ولا ينقم عليه ناقم ، وكم لهذه المحاولة من نظائر ، ينبو عنها العدد ولا تقف على حدّ ، فهو وما ولد سواسية في الخمر والفحشاء والمجون ، وهذه هي التي أسقطته عند صلحاء الأُمّة ،

__________________

(١) كذا في مختصر تاريخ دمشق ، وفي الإصابة : كذب والله.

(٢) تهذيب التهذيب : ٦ / ١٧٣.

(٣) الاستيعاب : القسم الثالث / ٨٣٦ رقم ١٤٢٤.

(٤) أُسد الغابة : ٣ / ٤٥٨ رقم ٣٣٢٢.

٢٥٨

وحطّته عن أعينهم ، فلا يرون له حرمة ولا كرامة ، ولا يقيمون له وزناً ، حتى إنّه لمّا استخلف قام على المنبر فخطب الناس ، فذكر أبا بكر ، وعمر ، وعثمان ، ثم قال : وليت فأخذت حتى خالط لحمي ودمي فهو (١) خير منّي ، وأنا خير ممّن بعدي. يا أيّها الناس إنّما أنا لكم جنّة.

فقام عبادة بن صامت فقال : أرأيت إن احترقت الجنّة؟ قال : إذن تخلص إليك النار ، قال : من ذلك أفرّ. فأمر به فأخذ. فأضرط بمعاوية (٢) ، ثم قال : علمت كيف كانت البيعتان حين دعينا إليهما؟ دعينا على أن نبايع على أن لا نزني ، ولا نسرق ، ولا نخاف في الله لومة لائم ، فقلت : أمّا هذه فاعفني يا رسول الله ، ومضيت أنا عليها ، وبايعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولأنت يا معاوية أصغر في عيني من أن أخافك في الله عزّ وجلّ (٣).

وذكر معاوية الفرار من الطاعون في خطبته ، فقال له عبادة : أمّك هند أعلم منك (٤). وسيوافيك قوله له : لا أُساكنك بأرض ، وقوله : لنحدّثن بما سمعنا من رسول الله وإن رغم معاوية ، ما أُبالي أن لا أصحبه في جنده ليلة سوداء ، وقال أبو الدرداء له : لا أُساكنك بأرض أنت بها.

ومن جرّاء هذه المكافحة والكشف عن عورات الرجل ، كتب معاوية إلى عثمان بالمدينة : إنّ عبادة قد أفسد عليّ الشام وأهله ، فإمّا أن تكفّه إليك ، وإمّا أن أُخلي بينه

__________________

(١) إشارة إلى عثمان.

(٢) أضرط به : استخفّ به وسخر منه ، وهو أن يجمع شفتيه ويخرج من بينهما صوتاً.

(٣) تاريخ الشام لابن عساكر : ٧ / ٢١٣ [٢٦ / ١٩٩ ـ ٢٠٠ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٨]. (المؤلف)

(٤) أخرجه ابن عساكر والطبراني كما في تاريخ الشام : ٧ / ٢١٠ [٢٦ / ١٩٥ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٦]. (المؤلف)

٢٥٩

وبين الشام. فكتب إليه عثمان : أن أرحل عبادة حتى ترجعه إلى داره من المدينة ، فبعث بعبادة حتى قدم المدينة ، فدخل على عثمان في الدار وليس فيها إلاّ رجل من السابقين أو من التابعين الذين قد أدركوا القوم متوافرين ، فلم يفجَ عثمان به إلاّ وهو قاعد في جانب الدار ، فالتفت إليه وقال : ما لنا ولك يا عبادة؟ فقام عبادة بين ظهراني الناس فقال : إنّي سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا القاسم يقول : «إنّه سيلي أموركم بعدي رجال يعرّفونكم ما تنكرون ، وينكرون عليكم ما تعرفون ، فلا طاعة لمن عصى ، فلا تضلّوا بربّكم» ، فوالذي نفس عبادة بيده إنّ فلاناً ـ يعني معاوية ـ لمن أُولئك. فما راجعه عثمان بحرف (١).

وحذا معاوية في هذه الموبقة حذو أبيه أبي سفيان ، فإنّه كان يشرب الخمر وهو من أظهر آثامه وبوائقه ، وقد جاء في حديث أبي مريم السلولي الخمّار بالطائف : أنّه نزل عنده وشرب وثمل ، وزنا بسميّة أُمّ زياد بن أبيه ، والحديث يأتي في استلحاق معاوية زياداً.

فبيت معاوية حانوت الخمر ، ودكّة الفجور ، ودار الفحشاء والمنكر من أوّل يومه ، والخمر شعار أهله ، وما أغنتهم النذر إذ جاءت ، وهم بمجنب عن قول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ لا بل هم أهله ـ «لعنت الخمر وشاربها ، وساقيها ، وبائعها ، ومبتاعها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وعاصرها ، ومعتصرها ، وآكل ثمنها» (٢).

__________________

(١) مسند أحمد : ٥ / ٣٢٥ [٦ / ٤٤٤ ح ٢٢٢٦٣] ، تاريخ ابن عساكر : ٧ / ٢١٢ [٢٦ / ١٩٨ رقم ٣٠٧١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٣٠٧]. (المؤلف)

(٢) سنن أبي داود : ٢ / ١٦١ [٣ / ٣٢٦ ح ٣٦٧٤] ، سنن ابن ماجة : ٢ / ١٧٤ [٢ / ١١٢٢ ح ٣٣٨٠ ، ٣٣٨١] ، جامع الترمذي : ١ / ١٦٧ [٣ / ٥٨٩ ح ١٢٩٥] ، مستدرك الحاكم : ٤ / ١٤٤ ، ١٤٥ [٤ / ١٦١ ح ٧٢٢٨ ، ٧٢٢٩] ، وأخرجه أحمد في المسند : ٢ / ٧١ [٢ / ١٨٤ ح ٥٣٦٧ ، ٥٣٦٨] ، وابن أبي شيبة [في مصنّفه : ٦ / ٤٤٧ ح ١٦٦٦] ، وابن راهويه ، والبزّار [في مسنده : ٥ / ٣٩ ح ١٦٠١] ، وابن حبّان [في صحيحه : ١٢ / ١٧٩ ح ٥٣٥٦] ، راجع نصب الراية للزيلعي : ٤ / ٢٦٣. (المؤلف)

٢٦٠