الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠

وقال له عمر يوم طعن : أمّا أنت يا زبير فَوَعِق لقس (١) مؤمن الرضا ، كافر الغضب ، يوماً إنسان ، ويوماً شيطان ، ولعلّها لو أفضت إليك ظلت يومك تلاطم بالبطحاء على مدّ من شعير ، أفرأيت إن أفضت إليك فليت شعري من يكون للناس يوم تكون شيطاناً؟ ومن يكون يوم تغضب؟ وما كان الله ليجمع لك أمر هذه الأمّة وأنت على هذه الصفة (٢).

وقال له أيضاً : أمّا أنت يا زبير فو الله مالان قلبك يوماً ولا ليلة ، وما زلت جلْفاً جافياً (٣).

وهل طلحة هذا هو الذي قتل عثمان ، وحال بينه وبين الماء ، ومنعه عن أن يُدفن في جبانة المسلمين ، وقتله مروان أخذاً بثار عثمان ، وهما بعد من العشرة المبشّرة؟ غفرانك اللهمّ وإليك المصير.

وهل طلحة هذا هو الذي أقام عليّ أمير المؤمنين عليه‌السلام عليه الحجّة يوم الجمل باستنشاده إيّاه حديث الولاية «من كنت مولاه فعليّ مولاه» فاعتذر بما اعتذر من نسيانه الحديث ، لكنّه لم يرتدع بعد عن غيّه بمناصرة أمير المؤمنين مع بيعته إيّاه ، ولا فوّض الحقّ إلى أهله حتى أتى عليه سهم مروان فجرّعه منيّته ، وهو الخارج على إمام وقته! أفهل ترى الإمام والخارج عليه كلاّ منهما في الجنّة؟

وهل طلحة هذا هو الذي نزل فيه قوله تعالى : (وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) الأحزاب : ٥٣.

نزلت الآية الشريفة لمّا قال طلحة : أيحجبنا محمد عن بنات عمّنا ويتزوّج

__________________

(١) الوعِق : سيّىء الخُلُق. اللقِس : شره النفس ، الحريص على كلّ شيء.

(٢) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٦٢ [١ / ١٨٥ خطبة ٣]. (المؤلف)

(٣) شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ١٧٠ [١٢ / ٢٥٩ خطبة ٢٢٣]. (المؤلف)

١٨١

نساءنا من بعدنا؟ فإن حدث به حدث لنزّوّجن (١) نساءه من بعده. وقال : إن مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتزوّجت عائشة وهي بنت عمّي ، فبلغ ذلك رسول الله فتأذّى به فنزلت.

أقبل عليه عمر يوم طعن وقال له : أقول أم أسكت؟ قال : قل فإنّك لا تقول من الخير شيئاً. قال : أما إنّي أعرفك منذ أصيبت إصبعك يوم أُحد والبا بالذي (٢) حدث لك ، ولقد مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ساخطاً عليك بالكلمة التي قلتها يوم نزلت آية الحجاب.

قال أبو عثمان الجاحظ : إنّ طلحة لمّا أُنزلت آية الحجاب ، قال بمحضر ممّن نقل عنه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما الذي يغنيه حجابهنّ اليوم ، فسيموت غداً فننكحهنّ!! قال أبو عثمان : لو قال لعمر قائل : أنت قلت : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مات وهو راضٍ عن الستّة ، فكيف تقول الآن لطلحة : إنّه مات عليه‌السلام ساخطاً عليك للكلمة التي قلتها لكان قد رماه بمشاقصه ، ولكن من الذي كان يجسر على عمر أن يقول له ما دون هذا ، فكيف هذا (٣)؟

راجع (٤) : تفسير القرطبي (١٤ / ٢٢٨) ، فتح القدير (٤ / ٢٩٠) ، تفسير ابن كثير (٣ / ٥٠٦) ، تفسير البغوي (٥ / ٢٢٥) ، تفسير الخازن (٥ / ٢٢٥) ، تفسير الآلوسى (٢٢ / ٧٤).

وهل سعد بن أبي وقّاص أحد العشرة المبشّرة كان مذعناً بالرواية وصدقها ،

__________________

(١) في فتح القدير ، وتفسير الألوسي ، والجامع لأحكام القرآن : لنتزوّجنّ.

(٢) كذا في الطبعة المعتمدة لدى المؤلف ، وفي الطبعة المعتمدة لدينا : والَبأو الذي. ومعنى البأو الكبر والفخر.

(٣) شرح ابن أبي الحديد : ١ / ٦٢ ، ٣ / ١٧٠ [١ / ١٨٦ خطبة ٣ ، ١٢ / ٢٥٩ خطبة ٢٢٣]. (المؤلف)

(٤) الجامع لأحكام القرآن : ١٤ / ١٤٧ ، فتح القدير : ٤ / ٢٩٩ ، تفسير البغوي : ٣ / ٥٤١ ، تفسير الخازن : ٣ / ٤٧٦.

١٨٢

وهو القائل لمّا سُئل عن عثمان ، ومن قتله ، ومن تولّى كبره : إنّي أخبرك أنّه قُتل بسيف سلّته عائشة ، وصقله طلحة وسمّه ابن أبي طالب ، وسكت الزبير وأشار بيده ، وأمسكنا نحن ولو شئنا دفعناه عنه؟ فهل هذه كلّها تجتمع مع التصديق بتلك الرواية؟ سبحان الذي جمع في جنّته الظالم والمظلوم ، والقاتل والمقتول ، والخليفة والخارجين عليه ، إن هي إلاّ اختلاق.

وهل تُصدّق في سعد هذه الرواية وهو المتخلّف عن بيعة إمام وقته ، والمتقاعس عن نصرته بعد ما تمّت بيعته ، وأجمعت عليها الأُمّة ، وأصفق عليها البدريّون والمهاجرون والأنصار ، وحقّت كلمة العذاب على من نزعها من ربقته؟ أفهل نزل في سعد كتاب من الله أخرجه عن محكمات الإسلام وبشّر له بالجنّة؟

وهل يتراءى لك من ثنايا التاريخ وراء صحائف أعمال أبي عبيدة بن الجرّاح ـ حفّار القبور بالمدينة ـ ما يؤهّله لهذه البشارة؟ ويدعم له ما يستحقّ به للذكر من الفضيلة غير ما قام به يوم السقيفة من دحضه ولاية الله الكبرى ، وتركاضه وراء الانتخاب الدستوري ، واقتحامه في تلكم البوائق التي عمّ شؤمها الإسلام ، وهدّت قوائم الوئام والسلام ، وجرّت الويلات على أُمّة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى اليوم ، وهتكت حرمة المصطفى في ظلم ابنته بضعة لحمه وفلذة كبده ، واضطهاد خليفته ، واهتضام أخيه علم الهدى؟ فكأنّها كانت كلّها قربات فأوجبت لابن الجرّاح الجنّة (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ) (١).

نبأ يصكّ المسامع :

وجاء بعد لأي من عمر الدهر من لم ير في الرواية فضيلة رابية تخصّ العشرة ،

__________________

(١) الجاثية : ٢١.

١٨٣

نظراً إلى أنّ البشارة بالجنّة كما سمعت تعمّ المؤمنين جمعاء ولا تنحصر بقوم منهم دون آخرين ، ووجد فيها مع ذلك نقصاً من ناحية خلوّها عن ذكر عائشة أمّ المؤمنين ، فصبّها في قالب يروقه ، وصوّر لها صورة مكبّرة تخصّ بأُولئك العشرة ولا يشاركهم فيها أحد ، وأسند إلى أبي ذر الغفاري أنّه قال : دخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزل عائشة فقال : يا عائشة : ألا أُبشّرك؟ قالت : بلى يا رسول الله ، قال : أبوك في الجنّة ورفيقه إبراهيم ، وعمر في الجنّة ورفيقه نوح ، وعثمان في الجنّة ورفيقه أنا ، وعليّ في الجنّة ورفيقه يحيى بن زكريّا ، وطلحة في الجنّة ورفيقه داود ، والزبير في الجنّة ورفيقه إسماعيل ، وسعد بن أبي وقّاص في الجنّة ورفيقه سليمان بن داود ، وسعيد بن زيد في الجنّة ورفيقه موسى بن عمران ، وعبد الرحمن بن عوف في الجنّة ورفيقه عيسى بن مريم ، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنّة ورفيقه إدريس عليه‌السلام. ثم قال : يا عائشة أنا سيّد المرسلين ، وأبوك أفضل الصدّيقين ، وأنت أُمّ المؤمنين (١).

ليت لهذه الرواية إسناداً معنعناً حتى نعرف واضعها ومختلقها على النبيّ الأقدس ، وليت مفتعلها يدري بأنّ الرفاقة بين اثنين تستدعي مشاكلتهما في الخصال ، وتقتضيها الوحدة الجامعة من النفسيّات والملكات ، فهل يسع لأيّ إنسان أن يقارن بين أُولئك الأنبياء المعصومين وبين تسعة رهط كانوا في المدينة في شيء ممّا يوجب الرفاقة؟ وهل لبشر أن يفهم سرّ هذا التقسيم في كلّ نبيّ معصوم مع رفيقه الذي لا عصمة له؟ ولعمر الحقّ إنّ هذا الانتخاب والاختيار في الرفاقة يضاهي الانتخاب في أصل الخلافة الذي كان لا عن جدارة وتأمّل. ما عشت أراك الدهر عجباً!

لما ذا لم يكن عبد الله بن مسعود الذي صحّ عند القوم في الثناء عليه : أنّه كان أشبه الناس هدياً ، ودلاّ ،وسمتاً بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٢) رفيق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ويرافقه عثمان؟

__________________

(١) الرياض النضرة : ١ / ٢٠ [١ / ٣١] وقال : أخرجه الملاّ في سيرته [ج ٥ / ق ٢ / ١٩٦]. (المؤلف)

(٢) راجع الغدير : ٩ / ٩ الطبعة الأولى [ص ٢٠ من هذه الطبعة]. (المؤلف)

١٨٤

ولما ذا لم يرافق عيسى بن مريم أبو ذر الثابت فيه : أنّه أشبه الناس بعيسى بن مريم هدياً ، وبرّا ، وزهداً ، ونسكاً ، وصدقاً ، وجدّا ، وخلقا ، وخُلقاً ، (١) ويرافقه عبد الرحمن بن عوف؟

ولما ذا رافق رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عثمان بن عفّان ولا مشاكلة بينهما خلقاً ، وخُلقاً ، وأصلا ، ومحتداً ، وسيرةً ، وسريرة ، ولم يتّخذ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعفر بن أبي طالب رفيقاً له ، وقد جاء عنه قوله له : «يا حبيبي ، أشبه الناس بخلقي وخلقي ، وخلقت من الطينة التي خلقت منها» ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أمّا أنت يا جعفر فأشبه خلقك خلقي ، وأشبه خُلقك خُلقي ، وأنت منّي وشجرتي» (٢)؟

ولما ذا اختار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لرفاقته عثمان ولم يرافق أبا بكر ، وقد صحّ عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند القوم : لو كنت متّخذاً خليلاً لاتّخذت أبا بكر. وجاء عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في مكذوبة ـ أنّه كان يدعو ويقول : اللهمّ إنّك جعلت أبا بكر رفيقي في الغار ، فاجعله رفيقي في الجنّة (٣).

ولما ذا لم يكن عثمان رفيق إبراهيم ، وقد جاء في مناقبه ـ المكذوبة ـ أنّه شبيه إبراهيم. كما مرّ في (٩ / ٣٥٠).

ولما ذا لم يكن عمر رفيق موسى ، وعثمان رفيق هارون ، وعليّ بن أبي طالب رفيق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذاً بما مرّ من مكذوبة أنس مرفوعاً : ما من نبيّ إلاّ وله نظير في أُمّتي ، فأبو بكر نظير إبراهيم ، وعمر نظير موسى ، وعثمان نظير هارون ، وعليّ بن أبي طالب نظيري (٤)؟

__________________

(١) الغدير : ٨ / ٣٢٩ ، ٣٢١ الطبعة الأولى [ص ٤٣٩ ، ٤٤٠ من هذه الطبعة]. (المؤلف)

(٢) مجمع الزوائد : ٩ / ٢٧٢ ، ٢٧٥. (المؤلف)

(٣) الغدير : ٩ / ٢٩٤ الطبعة الأولى [ص ٤٠١ من هذه الطبعة]. (المؤلف)

(٤) راجع ما مرّ في هذا الجزء : ص ٧٥. (المؤلف)

١٨٥

نعم ؛ عزب عن مفتعل الرواية ما جاء عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «يا عليّ أنت أخي ، وصاحبي ، ورفيقي ، في الجنّة» ، وهذه الرفاقة والصحبة والأُخوّة تقتضيها البرهنة الصادقة ، وتعاضدها المجانسة بين نبيّ العظمة وصنوه الطاهر في كلّ خَلّة ومأثرة ، وهي التي جمعتهما في آية التطهير ، وجعلتهما نفساً واحدة في الذكر الحكيم ، وقارنت بين ولايتيهما في محكم القرآن ، وكلّ تلكم الموضوعات نعرات الإحن ، ونفثات الأضغان ، اختلقت تجاه هذه المرفوعة في فضل مولانا سيّد العترة أمير المؤمنين عليه‌السلام.

وهلمّ معي نسائل أبا ذر المنتهي إليه إسناد الرواية وعائشة المخاطبة بها ، هل كانا على ثقة وتصديق بها ، وأنّها صدرت من مصدر الوحي الإلهي الذي لا ينطق عن الهوى أم لا؟ ولئن سألتهما فعلى الخبيرين سقطت ، وأبو ذر هو الذي ما أظلّت الخضراء ، ولا أقلّت الغبراء أصدق منه ، وإذا أنت قرأت حديث ما جرى بين عثمان وأبي ذر لوجدت سيّد غفار في جانب جُنب عن هذه الرواية ، ولمّا يحكم عقلك بأن يكون هو راويها ونداء أبي ذرّ في الملأ الديني وقد تنغّر (١) على عثمان بعدُ يرنّ في أُذن الدنيا ، وقوارص لمزه وهمزه إيّاه بعد تلوكه الأشداق في أندية الرجال ، وكلمه المأثورة الخالدة في صفحات التاريخ تضادّ ما عزي إليه من الرواية ، وكلّ خطابه وعتابه إيّاه يُعرب عن أنّ أبا ذر قطّ لم يُؤمن بما اختلق عليه ، ولم يك يسمعه من الصادع الكريم ، وكان يحدّث الناس غير مكترث لبوادر عثمان ما كان سمعه من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قوله : «إذا كملت بنو أُميّة ثلاثين رجلاً اتّخذوا بلاد الله دولا ، وعباد الله خولا ، ودين الله دغلا». كان يحدّث عثمان بذلك وعثمان يكذّبه (٢) ، ومن كذّبه فقد كذّب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) تنغّر : غلى وغضب.

(٢) راجع الغدير : ٩ / ٧٨ ـ ٨٦. (المؤلف)

١٨٦

ولم يكن أبو ذر شاذّا عن الصحابة في رأيه السيّئ ونقمته على عثمان ، بل نبأ المتجمهرين عليه من المهاجرين والأنصار ، والناقمين عليه من الحواضر الإسلامية ، والمجتمعين على وأده ، المحتجّين عليه بالكتاب العزيز ، يعطينا خُبراً بأنّ الرواية لا تصحّ عندهم ، ولا يصدّقها رجل صدق منهم.

وهل نسيتها أمّ المؤمنين المخاطَبة بها ، أو تغاضت عنها يوم كانت تنادي في ملأ من الصحابة : اقتلوا نعثلاً قتله الله؟ ويوم قالت لمروان : وددت والله أنّك وصاحبك هذا الذي يعنيك أمره ، في رجل كلّ واحد منكما رحىً وأنّكما في البحر. ويوم قالت : وددتُ والله أنّه في غرارة من غرائري هذه وأنّي طوّقت حمله حتى ألقيه في البحر ، ويوم قالت لابن عباس : إنّ الله قد آتاك عقلاً ، وفهماً ، وبياناً ، فإيّاك أن تردّ الناس عن هذه الطاغية. ويوم أخرجت ثوب رسول الله وهي تقول : هذا ثوب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يبلَ ، وعثمان قد أبلى سنّته. ويوم قالت لمّا بلغها نعيه : أبعده الله ذلك بما قدّمت يداه ، وما الله بظلاّم للعبيد. ويوم قالت : بُعداً لنعثل وسحقاً (١).

أيخبرك ضميرك الحرّ بأنّ صاحبة تلكم المواقف الهائلة كانت تصدّق تلك الرواية ، وتؤمن بها وترى نعثلاً رفيق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الجنّة؟ فاستعذ بالله من أن تكون من الجاهلين.

٣٨ ـ قال محمد بن آدم : رأيت بمكة أسقفاً (٢) يطوف بالكعبة ، فقلت له : ما الذي نزعك عن دين آبائك؟ قال : تبادلت (٣) خيراً منه. فقلت : وكيف ذلك؟ قال : ركبت البحر ، فلمّا توسّطناه انكسرت المركب ، فلم تزل الأمواج تدفعني حتى رمتني

__________________

(١) راجع الغدير : ٩ / ٧٨ ـ ٨٦. (المؤلف)

(٢) الأسقف والأسقف : فوق القسيس ودون المطران ، والكلمة يونانية ، جمعها أساقفة وأساقف. (المؤلف)

(٣) في المصدر : تبدّلت خيراً منه.

١٨٧

في جزيرة من جزائر البحر ، فيها أشجار كثيرة ، ولها ثمر أحلى من الشهد وألين من الزبد ، وفيها نهر عذب ، فحمدت الله على ذلك ، وقلت : آكل من هذا الثمر ، وأشرب من هذا النهر حتى يقضي الله بأمره.

فلمّا ذهب النهار ، خفت على نفسي من الوحش ، فطلعت على شجرة ونمت على غصن من أغصانها ، فلمّا كان في جوف الليل وإذا بدابّة على وجه الأرض تسبّح الله وتقول : لا إله إلاّ الله العزيز الجبّار ، محمد رسول الله النبيّ المختار ، أبو بكر الصدّيق صاحبه في الغار ، عمر الفاروق فاتح الأمصار ، عثمان القتيل في الدار ، عليّ سيف الله على الكفّار ، فعلى مبغضهم لعنة الله العزيز الجبّار ، ومأواه النار وبئس القرار ، ولم تزل تكرّر هذه الكلمات إلى الفجر.

فلمّا طلع الفجر قالت : لا إله إلاّ الله الصادق الوعد والوعيد ، محمد رسول الله الهادي الرشيد ، أبو بكر ذو الرأي السديد ، عمر بن الخطّاب سور من حديد ، عثمان الفضيل الشهيد ، عليّ بن أبي طالب ذو البأس الشديد ، فعلى مبغضهم لعنة الربّ المجيد.

ثم أقبلت إلى البرّ ، فإذا رأسها رأس نعامة ، ووجهها وجه إنسان ، وقوائمها قوائم بعير ، وذنبها ذنب سمكة ، فخشيت على نفسي الهلكة فهربت ، فنطقت بلسان فصيح فقالت : يا هذا قف وإلاّ تهلك. فوقفت فقالت : ما دينك؟ فقلت : دين النصرانيّة. فقالت : ويلك ارجع إلى دين الحنيفيّة ، فقد حللت بفناء قوم من مسلمي الجنّ لا ينجو منهم إلاّ من كان مسلماً ، فقلت : وكيف الإسلام؟ قالت : تشهد أن لا إله إلاّ الله ، وأنّ محمداً رسول الله ، فقلتها ، فقالت : أتمّ إسلامك بالترحّم على أبي بكر ، وعمر ، وعثمان وعلي ـ رضي الله تعالى عنهم ـ. فقلت : ومن أتاكم بذلك؟ قالت : قوم منّا حضروا عند رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سمعوه يقول : إذا كان يوم القيامة تأتي الجنّة فتنادي بلسان طلق فصيح : إلهي قد وعدتني أن تشيّد أركاني. فيقول الجليل جلّ جلاله : قد شيّدت ـ أي رفعت ـ أركانك بأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وزيّنتك بالحسن

١٨٨

والحسين. ثم قالت الدابّة : أتريد أن تقعد هاهنا أم الرجوع إلى أهلك؟ فقلت : الرجوع إلى أهلي. فقالت : اصبر حتى تمرّ بك مركب.

فبينما نحن كذلك وإذا بمركب أقبلت تجري ، فأومأت إليها ، فرفعوا إليّ زورقاً فركبت فيه ، ثم جئت إليهم فوجدت المركب فيها اثنا عشر رجلاً كلّهم نصارى فقالوا : ما الذي جاء بك إلى هاهنا؟ فقصصت عليهم قصّتي ، فعجبوا عن آخرهم ، وأسلموا جميعاً. مصباح الظلام للسيد محمد الجرداني (١) (٢ / ٣٠).

قال الأميني : ابن آدم راوي هذه الأغلوطة لا يعرفه الحفّاظ رجال الجرح والتعديل في أولاد آدم ، وإنّما عرّفوه بالجهالة ، ولا أحسب أنّ آدم أبا البشر أيضاً يعرف ابنه هذا ، ولا تدري الأُمّهات أيّ ابن بيّ هو ، والأسقف صاحب القصّة وابن آدم هما صنوان في الجهالة ، لا يعرفهما آدميّ.

ونحن إن صدّقنا متن الرواية ، وذهبنا إلى ما ذهب إليه مسلم الجنّ وأخبر به ، ولعنّا مبغضي الخلفاء الأربعة ، ورأينا مأواهم النار. فإلى من وجّهنا القوارص عندئذ ، وأين تقع من سبابنا أُمّة كبيرة من الصحابة العدول ، أو عدول الصحابة الذين كان بينهم وبين أيّ من هؤلاء الأربعة عداء محتدم وبغضاء لاهبة؟ أنا هنا في مشكلة لا تنحلّ لي!

وعجبي من رعونة أولئك الرهط من النصارى الذين قبلوا من الأسقف دعواه المجرّدة ، وأذعنوا لها وصدّقوه فيما جاء به عن وادي الجنّ ، وما كانوا مصدّقين نبأ الرسول الأمين عن إله السماوات المحفوفة دعوته بألف من الدلائل والبيّنات ، والمتلوّة بأنباء الكهنة والأساقفة والهتافات الكثيرة التي سجّلها التاريخ ، كأنّهم سحرهم سجع دابّة الجنّ الموزون في ورد ليله وسحره ، ووجدوه آية الحقّ ، وشاهد الدعوى.

__________________

(١) مصباح الظلام : ٢ / ٧٢ ح ٣٦٢.

١٨٩

٣٩ ـ قال القرطبي في تفسيره (١) (٢٠ / ١٨٠) : قال أُبيّ بن كعب : قرأت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والعصر ، ثم قلت : ما تفسيرها يا نبيّ الله؟

قال : (وَالْعَصْرِ) : قسم من الله أقسم ربّكم بآخر النهار. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) : أبو جهل. (إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا) : أبو بكر. (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) : عمر. (وَتَواصَوْا بِالْحَقِ) : عثمان. (وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) : عليّ ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ. وهكذا خطب ابن عبّاس على المنبر ، موقوفاً عليه.

وذكره المحبّ الطبري في رياضه النضرة (٢) (١ / ٣٤) ، والشربيني في تفسيره (٣) (٤ / ٥٦١).

قال الأميني : أيسوغ التقوّل على الله وعلى رسوله وتحريف الكلم عن مواضعه بمثل هذه المهزأة المرسلة؟ وهل ينبغي لمؤلّف في التفسير أو الحديث أن يسوّد بها صحيفته أو صحيفة تأليفه؟ وهل لنا في مثل المقام أن نطالبه بالسند ونناقش فيه بالإرسال؟ وهلاّ ما في متن الرواية ما يغنينا عن البحث عن رجال الإسناد إن كان له إسناد؟ وهل يوجد في صحائف أعمال أُولئك الرجال وسيرتهم الثابتة ، وفيما حفظه التاريخ الصحيح لهم ما يصدّق هذا التلفيق؟ نعم ، نحن على يقين من أنّ الباحث يجد في غضون أجزاء كتابنا هذا شواهد كثيرة تتأتّى له بها حصحصة الحقّ. وهل يصدّق ذو مسكة أن يخطب بمثل هذه الأفيكة ابن عباس حبر الأُمّة ، ويدنّس بها ساحة قدس صاحب الرسالة الخاتمة؟

على أنّ المأثور عن ابن عبّاس من طريق ابن مردويه ، في قوله تعالى :

__________________

(١) الجامع لأحكام القرآن : ٢٠ / ١٢٣.

(٢) الرياض النضرة : ١ / ٤٩.

(٣) تفسير الشربيني : ٤ / ٥٨٥.

١٩٠

(إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (١) أنّه قال : ذكر عليّا وسلمان (٢) ، ويؤيّده قوله الوارد في قوله تعالى : (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) (٣) قال : نزلت في عليّ يوم بدر ، فالذين اجترحوا السيّئات : عتبة ، وشيبة ، والوليد ، والذين آمنوا وعملوا الصالحات علي عليه‌السلام (٤). ومرّ في الجزء الثاني (٥) (ص ٥٢) من طريق ابن عباس قوله : لمّا نزلت : (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) (٦) قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لعليّ : «هو أنت وشيعتك».

فرواية أُبيّ بن كعب اختُلقت تجاه هذه الأخبار التي يساعدها العقل والمنطق والاعتبار.

ولصراحة الكذب في فصول هذه السفسطة ، لم يذكرها أحد من المفسّرين غير القرطبي والشربيني وهي بين أيديهم ، ولعلّ ابن حجر يوعز إلى بطلانها في فتح الباري (٧) (٨ / ٥٩٢) بقوله : تنبيه ، لم أرَ في تفسير هذه السورة حديثاً مرفوعاً صحيحاً.

على أنّ الظاهر من سياق السورة أنّ الجُمل التالية للذين آمنوا أوصاف لهم ، لا أنّها إعراب عن أُناس آخرين غير من هو المراد من الجملة الأولى.

٤٠ ـ أخرج الواحدي في أسباب النزول (٨) (ص ٢٠٧) عن عبد الرحمن بن حمدان العدل ، قال : أخبرنا أحمد بن جعفر بن مالك ، قال : أخبرنا عبد الله بن أحمد

__________________

(١) العصر : ٣.

(٢) الدرّ المنثور : ٦ / ٣٩٢ ج ٨ / ٦٢٢ ج ومرّ في : ٢ / ٥٨. (المؤلف)

(٣) الجاثية : ٢١.

(٤) تذكرة السبط : ص ١١ جص ١٧ ج ، ومرّ في : ٢ / ٥٦. (المؤلف)

(٥) ص : ٩٩ من هذه الطبعة.

(٦) البينة : ٧.

(٧) فتح الباري : ٨ / ٧٢٩.

(٨) أسباب النزول : ص ١٨٦.

١٩١

ابن حنبل ، قال حدّثني محمد بن سليمان بن خالد الفحّام ، قال : حدّثنا عليّ بن هاشم ، عن كثير النواء ، قال : قلت لأبي جعفر : إنّ فلاناً حدّثني عن عليّ بن الحسين : أنّ هذه الآية نزلت في أبي بكر ، وعمر ، وعلي : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ) (١) قال : والله إنّها لفيهم نزلت ، وفيهم (٢) نزلت الآية ، قلت : وأيّ غلّ هو؟ قال : غلّ الجاهليّة ، إنّ بني تيم ، وبني عدي ، وبني هاشم ، كان بينهم في الجاهليّة ، فلمّا أسلم هؤلاء القوم وأجابوا أخذت أبا بكر الخاصرة ، فجعل عليّ رضى الله عنه يسخن يده فيضمخ (٣) بها خاصرة أبي بكر ، فنزلت هذه الآية.

قال الأميني : لا تُدعم أيّ مأثرة بمثل هذا الإسناد المركّب من مجهول كعبد الرحمن العدل ، ومحمد الفحّام ، وممّن خرف في آخر عمره (٤) ، حتى كان لا يعرف شيئاً ممّا يُقرأ عليه ، كما قاله أبو الحسن بن الفرات (٥). وحكى الخطيب البغدادي في تاريخه (٤ / ٤) عن أبي عبد الله أحمد بن أحمد القصري ، قال : قدمت أنا وأخي من القصر إلى بغداد وأبو بكر ـ أحمد بن جعفر ـ بن مالك القطيعي حيّ ، وكان مقصودنا درس الفقه والفرائض ، فأردنا السماع من ابن مالك ، فقال لنا ابن اللبان الفرضي : لا تذهبوا إليه فإنّه قد ضعف واختلّ ، ومنعت ابني السماع منه ، قال : فلم نذهب إليه. وذكره ابن حجر في اللسان (٦) (١ / ١٤٥) ، وقال (٧) في (٢ / ٢٣٧) : إنّه شيخ ليس بمتقن.

__________________

(١) الحجر : ٤٧.

(٢) كذا في أسباب النزول ، وفي الدرّ المنثور [٥ / ٨٥] : وفيمن تنزل إلاّ فيهم؟ (المؤلف)

(٣) في الدرّ المنثور : فيكوى. (المؤلف)

(٤) هو أحمد بن جعفر بن مالك أبو بكر القطيعي. (المؤلف)

(٥) ميزان الاعتدال : ١ / ٤١ [١ / ٨٧ رقم ٣٢٠]. (المؤلف)

(٦) لسان الميزان : ١ / ١٥١ رقم ٤٦٤.

(٧) لسان الميزان : ٢ / ٢٩٣ رقم ٢٥٢٦.

١٩٢

ومن شيعيّ غالٍ (١) ، وصفه بذلك الجوزجاني ، وابن حبّان ، ولعلّ الدارقطني ضعّفه لذلك ، وذكره ابن حبّان في الضعفاء (٢) ، وإن ذكره في الثقات (٣) أيضاً.

وبعد هؤلاء كثير النواء الذي عرّفناكه قُبيل هذا صحيفة (١١٧) ، وأنّه ضعيف زائغ منكر الحديث ، بابه باب سعد بن طريف الذي كان يضع الحديث ، وكان شيعيّا مفرطاً ، ضعيفاً جدّا عند القوم.

وفي تأويل قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ). الآية ، أحاديث تافهة عندهم ، أعجب من رواية الواحدي منها :

قال الصفوري في نزهة المجالس (٢ / ٢١٧) ، قال ابن عبّاس في قوله تعالى : (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) أي من حقد وعداوة ، إذا كان يوم القيامة تنصب كراسي من ياقوت أحمر فيجلس أبو بكر على كرسيّ ، وعمر على كرسيّ ، وعثمان على كرسيّ ، ثم يأمر الله الكراسي فتطير بهم إلى تحت العرش ، فتسبل عليهم خيمة من ياقوتة بيضاء ، ثم يؤتى بأربع كاسات ، فأبو بكر يسقي عمر ، وعمر يسقي عثمان ، وعثمان يسقي عليّا ، وعليّ يسقي أبا بكر ، ثم يأمر الله جهنّم أن تتمخّض بأمواجها فتقذف الروافض على ساحلها ، فيكشف الله عن أبصارهم فينظرون إلى منازل أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فيقولون : هؤلاء الذين أسعدهم الله ، وفي رواية : فيقولون : هؤلاء الذين سعد الناس بمتابعتهم ، وشقينا نحن بمخالفتهم ، ثم يُرَدّون إلى جهنّم بحسرة وندامة.

ومنها : من طريق الكلبي ، عن أبي صالح ، عن ابن عبّاس (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قال : نزلت في عشرة : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وطلحة ،

__________________

(١) هو عليّ بن هاشم. (المؤلف)

(٢) كتاب المجروحين : ٢ / ١١٠.

(٣) الثقات : ٧ / ٢١٣.

١٩٣

والزبير ، وسعد ، وسعيد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعبد الله بن مسعود.

ومن طريق النعمان بن بشير ، عن عليّ (وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ) قال : ذاك عثمان ، وطلحة ، والزبير ، وأنا.

هكذا يحرّفون الكلم عن مواضعه ، وهل من مُسائل رواة هذه السفاسف عن الغلّ الذي نزع من صدور أولئك المذكورين متى نُزع؟ وإلى أين ذهب؟ وهذا الحديث والتاريخ يُعِلماننا أنّ الغلّ المنتزَع منهم بعد إسلامهم لم يزل مستقرّا بينهم منذ يوم وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما وقع هناك من حوار وشجار ، إلى الحوادث الواقعة حول واقعة الدار ، إلى المحتشد الدامي يوم الجمل ، أو ليست هذه كلّها منبعثة عن غلّ محتدم ، ووغر في الصدور ، وسخيمة في القلوب ، وبغضة مستثيرة؟ أو ليس منها أن يستبيح الإنسان دم صاحبه وهتك حُرماته والوقيعة في عرضه ، فهل مع هذه كلّها صحيح أنّه نُزع ما في صدورهم من غلّ؟

والآيات المحرّفة من هذا القبيل كثيرة جدّا لو تجمع يأتي منها كتاب ضخم ، غير أنّا لا يروقنا البحث عنها فإنّه إطالة من غير جدوى فهي بأنفسها وما فيها من تهافت وتفاهة كافية في إبطالها ، وما عساني أن أقول في مثل ما رووه في قوله تعالى (وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ* تَجْرِي بِأَعْيُنِنا) (١) : أنّ نوحاً عليه‌السلام لمّا عمل السفينة جاءه جبريل عليه‌السلام بأربعة مسامير ، مكتوب على كلّ مسمار عين : عين عبد الله وهو أبو بكر ، وعين عمر ، وعين عثمان ، وعين علي فجرت السفينة ببركتهم (٢).

وللقوم في تحريف الكتاب معارك دامية منها وقعة سنة (٣١٧) ببغداد بين

__________________

(١) القمر : ١٣ ، ١٤.

(٢) نزهة المجالس : ٢ / ٢١٤ ، نقلاً عن شوارد الملح. (المؤلف)

١٩٤

أصحاب أبي بكر المروزي الحنبلي ، وبين طائفة أخرى من العامّة أيضاً ، اختلفوا في تفسير قوله تعالى : (عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً) (١). فقالت الحنابلة : يجلسه معه على العرش. وقال الآخرون : المراد بذلك الشفاعة العظمى. فاقتتلوا بذلك ، وقتل بينهم قتلى. تاريخ ابن كثير (٢) (١١ / ١٦٢).

فخذ ما ذكرناه مقياساً لمئات الخرافات من أمثاله تقوّلها على الله ألسنة الغلاة في الفضائل ، واتّخذوا آيات الله هزوا ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحقّ (وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٣).

منتهى المقال

هذه نماذج من أفائك الوضّاعين في الفضائل ، حسبتها الأغرار حقائق فسوّدوا بها صحائف من التفسير والحديث والتاريخ ، وموّهوا بها على الحقائق الراهنة ، وفكّكوا بها عرى الإسلام ، وشتّتوا شمل الأُمّة ، وفرّقوا صفوفها ، وكذبوا واتّبعوا أهواءهم وكلّ أمر مستقرّ ، أردنا بسردها أن نعطيك مقياساً لما حاولوه من المغالاة ، نكتفي بها عن غيرها ، وهناك مئات من أمثالها ضربنا الصفح عنها تنزّهاً عن نبش المخاريق ونشر المخازي ، والباحث يجد شواهد صادقة على دعوانا في غضون الرياض النضرة علبة السفاسف والخرافات ، والصواعق المحرقة عيبة الأفائك والأكاذيب ، والسيرة الحلبيّة المشحونة بالموضوعات ، ونزهة المجالس موسوعة الترّهات والصحاصح ، ومصباح الظلام ديوان كلّ حديث مفترى ورواية مفتعلة ، إلى تآليف

__________________

(١) الإسراء : ٧٩.

(٢) البداية والنهاية : ١١ / ١٨٤.

(٣) البقرة : ٧٥.

١٩٥

جمّة من القديم والحديث : (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (١) ، (فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) (٢) ، (وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ) (٣) ، (وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ) (٤).

__________________

(١) البقرة : ٧٩.

(٢) القصص : ٦٦.

(٣) العنكبوت : ١٣.

(٤) التوبة : ٤٢.

١٩٦

المغالاة في فضائل

معاوية بن أبي سفيان

كنّا نرتئي أنّ معاوية في غنىً عن إفاضة القول في مخاريقه ، لما عرفته الأُمّة من نفسيّته الموبوءة ، وأعماله الوبيلة ، وجرائمه الموبقة الجمّة ، ورذائله الكثيرة ، ونسبه الموصوم ، وأصله اللئيم ، ومحتده الدنيّ ، وأنّ من يضع فيه المدائح تندى جبهته عن سردها لمثله ، غير أنّا وجدنا الأمل قد أكدى ، والظنّ قد أخفق ، وأنّ القحّة والصلف لم يدعا لأُولئك الوضّاعين حدّا يقفون عليه ، فحاولنا أن نذكر يسيراً من معرّفاته لإيقاف الباحث على حقيقة الحال فيما عزوه إليه من الثناء ، غير مكترثين لهلجة ابن كثير ، والهتاف الذي سمعه بعض السلف على جبل بالشام ـ ولعلّ الهاتف هو الشيطان ـ : من أبغض معاوية سحبته الزبانية إلى جهنّم الحامية ، يرمى به في الحامية الهاوية.

ولا مبالين بطيف خيال ركن إليه ابن كثير أيضاً ، قال : قال بعضهم : رأيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعنده أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، ومعاوية ، إذ جاء رجل ، فقال عمر : يا رسول الله هذا يتنقّصنا ، فكأنّه انتهره رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : يا رسول الله إنّي لا أتنقّص هؤلاء ولكن هذا ـ يعني معاوية ـ فقال : ويلك أوليس هو من أصحابي؟ قالها ثلاثاً ، ثم أخذ رسول الله حربة فناولها معاوية ، فقال : جابهه في لبّته. فضربه بها وانتبهت ، فبكّرت إلى منزلي فإذا ذلك الرجل قد أصابته الذبحة من الليل ومات ، وهو راشد الكندي.

١٩٧

ولا معتدّين برأي سعيد بن المسيّب : من مات محبّا لأبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، وشهد للعشرة بالجنّة ، وترحّم على معاوية ، كان حقّا على الله أن لا يناقشه الحساب (١).

ولا بأضغاث أحلام جاءت عن عمر بن عبد العزيز ، وفيها قول معاوية : غُفِر لي وربّ الكعبة. مرّ حديثها في الجزء التاسع (ص ٣٥٠).

ولا عابئين بقول أحمد : مالهم ولمعاوية؟ نسأل الله العافية.

فلا نقيم أيّ وزن لأمثال هذه السفاسف من آراء مجرّدة ، أو ركون إلى خيال ، أو احتجاج بهاتف مجهول ، أو جنوح إلى طيف حالم تجاه ما يؤثر عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الرجل ، وما جاء فيه من الكلم القيّمة للسلف الصالح الناظرين إلى أعماله من كثب ، العارفين بعُجره وبُجره ، الواقفين على إعلانه وإسراره ، الناقدين لمخازيه ، المتبصّرين في أمره ، الخبيرين بنواياه في جاهليته وإسلامه ، وإليك نبذة منها :

١ ـ عن عليّ بن الأقمر ، عن عبد الله بن عمر ، قال : خرج رسول الله من فجّ فنظر إلى أبي سفيان وهو راكب ، ومعاوية وأخوه أحدهما قائد والآخر سائق ، فلمّا نظر إليهم رسول الله قال : «اللهمّ العن القائد والسائق والراكب». قلنا : أنت سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : نعم ، وإلاّ فصمّتا أُذناي كما عميتا عيناي (٢).

وفي تاريخ الطبري (١١ / ٣٥٧): (٣) قد رأى صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا سفيان مقبلاً على حمار ومعاوية يقود به ، ويزيد ابنه يسوق به قال : «لعن الله القائد والراكب والسائق».

وإلى هذا الحديث أشار الإمام السبط فيما يخاطب به معاوية بقوله ، «أنشدك الله

__________________

(١) تاريخ ابن كثير : ٨ / ١٣٩ ، ١٤٠ [٨ / ١٤٨ حوادث سنة ٦٠ ه‍]. (المؤلف)

(٢) كتاب صفّين طبعة مصر ص ٢٤٧ [ص ٢٢٠]. (المؤلف)

(٣) تاريخ الأمم والملوك : ١٠ / ٥٨ حوادث سنة ٢٨٤ ه‍.

١٩٨

يا معاوية ، أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه وأخوك عتبة هذا يقوده ، فرآكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : اللهمّ العن الراكب والقائد والسائق؟» (٤).

وإليه أشار محمد بن أبي بكر في كتاب كتبه إلى معاوية بقوله : وأنت اللعين ابن اللعين. وسيوافيك الكتاب إن شاء الله تعالى.

٢ ـ عن البراء بن عازب ، قال : أقبل أبو سفيان ومعه معاوية ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ العن التابع والمتبوع ، اللهمّ عليك بالأُقيعس» ، فقال ابن البراء لأبيه : من الأُقيعس؟ قال : معاوية (٥).

ومعاوية فُظاظة (٦) من لعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيثما لعن آكل الربا ، والخمر وشاربها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه. والرجل أعرف شخصيّة بهذه المخازي ، كما سيوافيك حديثه.

٣ ـ أخرج (٧) أحمد في المسند (٤ / ٤٢١) ، وأبو يعلى ، ونصر بن مزاحم في كتاب صفّين (ص ٢٤٦) طبعة مصر من طريق أبي برزة الأسلمي ، والطبراني في الكبير من طريق ابن عباس : كنّا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سفر ، فسمع رجلين يتغنّيان وأحدهما يجيب الآخر ، وهو يقول :

يزالُ (٨) حواريٌّ تلوحُ عظامه

زوى الحرب عنه أن يجنّ فيقبرا

__________________

(٤) سيوافيك تمام كلام أبي محمد السبط في هذا البحث. (المؤلف)

(٥) كتاب صفّين ـ طبعة مصر ـ : ص ٢٤٤ [ص ٢١٧]. (المؤلف)

(٦) فُظاظة : من الفظيظ وهو ماء الكرش. وافتظظت الكرش إذا اعتصرت ماءها ، كأنه عصارة من اللعنة ، أو فُعالة من الفظيظ ماء الفحل ، أي نطفة من اللعنة.

(٧) مسند أحمد : ٥ / ٥٨٠ ح ١٩٢٨١ ، مسند أبي يعلى : ١٣ / ٤٢٩ ح ٧٤٣٦ ، وقعة صفّين : ص ٢١٩ ، المعجم الكبير : ١١ / ٣٢ ح ١٠٩٧٠.

(٨) أي ما يزال ، قال في اللسان : زلت أفعل ، أي ما زلت.

١٩٩

وفي لفظ ابن عباس :

ولا يزال جوادي تلوح عظامه

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «انظروا من هما؟». قال : فقالوا : معاوية وعمرو بن العاصي ، فرفع رسول الله يديه فقال : «اللهمّ أركسهما ركساً ، ودعّهما إلى النار دعّا». وفي لفظ ابن عباس : «اللهمّ اركسهما في الفتنة ركساً».

وجاء الإيعاز إلى الحديث في لسان العرب (١) (٧ / ٤٠٤ و ٩ / ٤٣٩).

قال الأميني : لمّا لم يجد القوم غمزاً في إسناد هذا الحديث ، وكان ذلك عزيزاً على من يتولّى معاوية ، فحذف أحد الاسمين وجعل مكانهما فلاناً وفلاناً ، واختلق آخرون تجاهه ما أخرجه ابن قانع في معجمه ، عن محمد بن عبدوس كامل ، عن عبد الله بن عمر ، عن سعيد أبي العباس التيمي ، عن سيف بن عمر ، عن أبي عمر مولى إبراهيم ابن طلحة ، عن زيد بن أسلم ، عن صالح شقران ، قال : بينما نحن ليلة في سفر إذ سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صوتاً ، فذهبت انظر فإذا معاوية بن رافع ، وعمرو بن رفاعة بن التابوت يقول :

لا يزال جوادي تلوح عظامه

ذوى الحرب عنه أن يموت فيقبرا

فأتيت النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبرته فقال : «اللهمّ اركسهما ودعّهما إلى نار جهنّم دعّا» فمات عمرو بن رفاعة قبل أن يقدم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من السفر.

قال السيوطي في اللآلئ المصنوعة (١ / ٤٢٧) : وهذه الرواية أزالت الإشكال وبيّنت أنّ الوهم وقع في الحديث الأوّل في لفظة واحدة وهي قوله : ابن العاصي ، وإنّما هو ابن رفاعة أحد المنافقين ، وكذلك معاوية بن رافع أحد المنافقين ، والله أعلم.

ألا من يُسائل هذا الضليع في فنّ الحديث المتعهّد لتنقيبه ، عن الإشكال في

__________________

(١) لسان العرب : ٤ / ٣٥٤ و ٥ / ٣٠١.

٢٠٠