الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ١٠

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مركز الغدير للدراسات الإسلامية
المطبعة: فروردين
الطبعة: ١
الصفحات: ٥٣٠

١
٢

٣
٤

٥
٦

الجزء العاشر

يحوي مناقب الخلفاء والنظرة فيها متناً وإسناداً ، ويتلوها بحث حرّ عن المغالاة في فضائل معاوية ، يوقف القارئ على نفسيّات الرجل وملكاته ، ويميط الستر عن صحائف من تاريخ حياته السوداء ، ويعرّفه بعُجره وبُجره ، ولسنا مجازفين في القول ، منحازين عن الحق ، متعصّبين لمبدإ أو عقيدة.

٧
٨

بسم الله الرحمن الرحيم

سُبحانَكَ نَحنُ نُسبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ، وَمَا لَنَا لَا نُؤمِنَ بِالله وَمَا جَاءنَا مِنَ الحَقِّ وَنَطمَعُ أنْ يُدخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القَومِ الصَّالِحينَ. يَا أيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءُكُم بُرهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ ، هذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوعِظَةٌ لِلمُتَّقِينَ ، قَدْ جِئتكُم بِالحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعضَ الَّذِي تَختَلِفُونَ فِيه ، وَإنَّا لَنَعلَمُ أنَّ مِنكُمْ مُكذِّبِينَ ، وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ اوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعدِ مَا جَاءَتهُم البَيِّنَةُ ، خُذُوا مَا آتَينَاكُم بِقُوَّةٍ ، وَاتَّبِعُوا أحسَنَ مَا انْزِلَ إلَيكُم مِنْ رَبِّكُم ، اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسألُكُم أجْراً وَهُم مُهتَدُونَ ، نَحْنُ نَقُصُّ عَليَكَ نَبَأَهُم بِالحَقِّ ، وَاعتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا ، وَأطِيعُوا اللهَ وَرسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُم ، وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعدِ مَا جَاءَتهُمُ البَيِّنَاتُ ، إنّهُم أَلفَوا آبَاءهم ضَالِّينَ فَهُم عَلَى آثَارِهِم يُهْرَعُونَ ، وَلَقَدْ ضَلَّ قَبلَهُم أكْثَرُ الأَوّلِينَ ، ويُحاجُّون في اللهِ مِنْ بَعدِ ما استُجِيبَ لَه حُجتَّهُمُ دَاحِضَةٌ ، فَمَنْ حَاجَّك فِيهِ مِنْ بَعد مَا جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ فَقُلْ : تَعَالوا نَدْعُ أبنَاءَنَا وَأبنَاءَكُم وَنِسَاءَنَا ونِسَاءَكُم وَأنفُسَنَا وَأنفُسَكُم ثُمَّ نَبْتَهِلْ فنَجَعَلْ لَعنَةَ اللهِ عَلَى الكَاذِبِين.

الأميني

٩
١٠

بقية البحث

عن مناقب الخلفاء الثلاثة

٤ ـ أخرج البخاري في كتاب المناقب من صحيحه (١) (٥ / ٢٤٣) باب فضل أبي بكر بعد النبيّ من طريق عبد الله بن عمر قال : كنّا نخيّر بين الناس في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنخيّر أبا بكر ، ثم عمر بن الخطاب ، ثم عثمان بن عفّان.

وذكر في باب مناقب عثمان (٢) (٥ / ٢٦٢) عن ابن عمر أيضاً بلفظ : كنّا في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نعدل بأبي بكر أحداً ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نترك أصحاب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا نفاضل بينهم. وبهذا اللفظ حكاه الحافظ العراقي عن الصحيحين في طرح التثريب (١ / ٨٢).

وأخرج في تاريخه (١ / قسم ٢ / ١٣) بلفظ : كنّا في عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده نقول : خير أصحاب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان.

وأخرج أحمد في مسنده (٣) (٢ / ١٤) عن ابن عمر قال : كنّا نعدّ ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّ وأصحابه متوافرون : أبو بكر وعمر وعثمان ثم نسكت.

وأخرج (٤) أبو داود والطبراني عن ابن عمر : كنّا نقول ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّ : أفضل أمّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعده أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، فيسمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فلا ينكره (٥).

__________________

(١) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٣٧ ح ٣٤٥٥.

(٢) صحيح البخاري : ٣ / ١٣٥٢ ح ٣٤٩٤.

(٣) مسند أحمد : ٢ / ٨٢ ح ٤٦١٢.

(٤) مسند أبي داود : ٤ / ٢٠٦ ح ٤٦٢٨ ، المعجم الكبير : ١٢ / ٢٢٠ ح ١٣١٣٢.

(٥) فتح الباري : ٧ / ١٣ [٧ / ١٦] ، طرح التثريب : ١ / ٨٢ ذكر زيادة الطبراني. (المؤلف)

١١

وروى ابن سليمان في فضائل الصحابة من طريق سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن ابن عمر : كنّا نقول : إذا ذهب أبو بكر وعمر وعثمان استوى الناس. فيسمع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ذلك فلا ينكره (١).

وفي لفظ البزّار : كنّا نقول في عهد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبو بكر وعمر وعثمان ـ يعني بالخلافة (٢) ـ وفي لفظ الترمذي : كنّا نقول ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيّ (٣).

وفي لفظ البخاري في تاريخه (١ / قسم ١ / ٤٩) : كنّا نقول في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من يلي هذا الأمر بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ فيقال : أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نسكت.

قال الأميني : هذه الرواية عمدة ما تمسّك به القوم فيما وقع من الانتخاب الدستوري في الإسلام ، وقد اتّخذها المتكلّمون حجّة لدى البحث عن الإمامة ، واتّبع أثرهم المحدّثون ، ولهم عند إخراجها تصويب وتصعيد ، وتبجّح وابتهاج ، وجاء كثيرون وقد أطنبوا وأسهبوا في القول لدى شرحها ، وجعلوها كحجر أساسي علّوا عليها أمر الخلافة الراشدة ، واحتجّوا بها على صحّة البيعة التي عمّ شؤمها الإسلام ، وحُفّت بهنات ووصمات وشتّتت شمل المسلمين ، وفتّت في عضد الدين ، وفصمت عراه ، وجرّت الويلات على أُمّة محمد حتى اليوم ، فلنا عندئذ أن نبسط القول ، ونوقف القارئ على جليّة الحال (لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) (٤) ، والله وليّ التوفيق.

كان عبد الله بن عمر على العهد النبويّ الذي ادّعى أنّه كان يُخيّر فيه فيختار في

__________________

(١) فتح الباري : ٧ / ١٣ [٧ / ١٦]. (المؤلف)

(٢) تاريخ ابن كثير : ٧ / ٢٠٥ [٧ / ٢٣٠ حوادث سنة ٣٥ ه‍]. (المؤلف)

(٣) صحيح الترمذي : ١٣ / ١٦١ [٥ / ٥٨٨ ح ٣٧٠٧]. (المؤلف)

(٤) الأنفال : ٤٢.

١٢

إبّان شبيبته حتى إنّه كان لم يبلغ الحلم في جملة من سنيه ، ولذلك ردّه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن الجهاد يوم بدر وأُحد واستصغره ، وأجاز له يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة كما ثبت في الصحيح (١) ، وهو على جميع الأقوال في ولادته ، وهجرته ، ووفاته لم يكن مجاوزاً العشرين يوم وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وهو في مثل هذا السنّ لا يُخيّر عادة في التفاضل بين مشيخة الصحابة ووجوه الأُمّة ، ولا يُتّخذ حكماً يُمضَى رأيه في الخيرة ، لأنّ الحكم الفاصل في مثل هذا يستدعي ممارسة طويلة ، ووقوفاً على تجاريب متتابعة مقرونة بعقليّة ناضجة ، وتمييز بين مقتضيات الفضيلة ، وعرفان لنفسيّات الرجال ، وقوّة في النفس لا يتمايل بها الهوى ، وابن عمر كان يفقد كلّ هذه لما ذكرناه من صغر سنّه يوم ذاك المانع عن كلّ ما ذكرناه ، وروايته هذه أقوى شاهد على فقدانه تلكم الملكات الفاضلة. قال أبو غسان الدوري : كنت عند عليّ بن الجعد فذكروا عنده حديث ابن عمر : كنّا نفاضل على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فنقول : خير هذه الأُمّة بعد النبيّ أبو بكر وعمر وعثمان ، فيبلغ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا ينكر. فقال عليّ بن الجعد : انظروا إلى هذا الصبيّ هو لم يحسن أن يطلّق امرأته يقول : كنّا نفاضل (٢).

ومن عرف ابن عمر وقرأ صحيفة تاريخه السوداء عرفه بضؤولة الرأي ، واتّباع الهوى ، وبفقدانه كلّ تلكم الخلال (٣) يوم بلغ أشدّه وكبر سنّه فضلاً عن عنفوان شبابه ، وسيوافيك نزر من آرائه السخيفة.

دع ابن عمر ومن لفّ لفّه يختار ويتقوّل (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ

__________________

(١) صحيح البخاري : ٦ / ٧٤ [٢ / ٤٨ ح ٢٥٢١] ، تاريخ الطبري : ٢ / ٢٩٦ [٢ / ٤٧٧] ، عيون الأثر : ٢ / ٦ ، ٧ [١ / ٤١٠] ، فتح الباري : ٧ / ٢٣٢ [٧ / ٣٩٣]. (المؤلف)

(٢) تاريخ الخطيب : ١١ / ٣٦٣ [رقم ٦٢١٥]. (المؤلف)

(٣) جمع خَلّة ، وهي الخصلة.

١٣

لَهُمُ الْخِيَرَةُ) (١) (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) (٢).

ودع البخاري ومن حذا حذوه يصحّح الباطل ، ولا يعرف الحيّ من الليّ (٣) ، واسمع لغواهم ولا تخف طغواهم ، (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَ) (٤) ، (قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى) (٥).

قال أبو عمر في الاستيعاب (٦) في ترجمة عليّ عليه‌السلام (٢ / ٤٦٧) : من قال بحديث ابن عمر : كنا نقول على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم نسكت ـ يعني فلا نفاضل ـ وهو الذي أنكر ابن معين وتكلّم فيه بكلام غليظ ، لأنّ القائل بذلك قد قال بخلاف ما اجتمع عليه أهل السنّة من السلف والخلف من أهل الفقه والأثر : أنّ عليّا أفضل الناس بعد عثمان رضى الله عنه ، وهذا ممّا لم يختلفوا فيه ، وإنّما اختلفوا في تفضيل عليّ وعثمان.

واختلف السلف أيضاً في تفضيل عليّ وأبي بكر ، وفي إجماع الجميع الذي وصفنا دليل على أنّ حديث ابن عمر وهمٌ وغلط ، وأنّه لا يصحّ معناه وإن كان إسناده صحيحاً. انتهى.

وقال ابن حجر (٧) بعد ذكر محصّل كلام أبي عمر هذا : وتعقّب أيضاً بأنّه

__________________

(١) القصص : ٦٨.

(٢) الأحزاب : ٣٦.

(٣) يقال : لا يعرف الحيّ من اللي أي : لا يعرف الحقّ من الباطل.

(٤) المؤمنون : ٧١.

(٥) طه : ٤٧.

(٦) الاستيعاب : القسم الثالث / ١١١٦ رقم ١٨٥٥.

(٧) فتح الباري : ٧ / ١٧.

١٤

لا يلزم من سكوتهم إذ ذلك عن تفضيله عدم تفضيله على الدوام ، وبأنّ الإجماع المذكور إنّما حدث بعد الزمن الذي قيّده ابن عمر ، فيخرج حديثه عن أن يكون غلطاً. انتهى.

عزب عن ابن حجر ومن تعقّب أبا عمر أنّ الإجماع الحادث المذكور لم يكن إلاّ لتلكم السوابق التي كان يحوزها مولانا أمير المؤمنين يوم سكت ابن عمر عن اختياره ولم تكن لها جدّة ؛ وإنّما هي هي التي أثنى عليها الكتاب والسنّة ، فيلزم من سكوتهم إذ ذاك عن تفضيله بعد الثلاثة عدم تفضيله على الدوام ، فإن كان مدار الإجماع على اختياره عليه‌السلام يوم اختاروه هو ملكاته ، ونفسيّاته ، وسبقه في الفضائل والفواضل المفصّلة في الكتاب والسنّة فهي لا تفارقه عليه‌السلام وهو المختار بها على الكلّ في أدوار حياته يوم فارق النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الدنيا ، وهلمّ جرّا. وإن كان المدار غير ذلك من الشيخوخة والكبر وأمثالهما فذلك شيء لا نعرفه ، ولا نفضّله عليه‌السلام على غيره بهذه التافهات التي هي شرك القوم اقتنصت بها بسطاء أُمة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يوم بيعة أبي بكر حتى اليوم.

وليت من تعقّب ابن عبد البرّ إن لم يكن يأخذ بكلّ ما جاء في عليّ أمير المؤمنين من الكتاب والسنّة الصحيحة الثابتة كان يأخذ بما جاء به قومه عن أنس فحسب ثم يحكم فيما جاء به ابن عمر ، قال أنس : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ الله افترض عليكم حبّ أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ ، كما افترض الصلاة والزكاة والصوم والحجّ ، فمن أنكر فضلهم فلا تقبل منه الصلاة ولا الزكاة ولا الصوم ولا الحج (١).

الرياض النضرة (٢) (١ / ٢٩).

__________________

(١) أثبتنا في محلّه أنّ هذه المنقبة لا تصحّ في غير عليّ عليه‌السلام ، وهي فيمن سواه تخالف الكتاب والسنّة والعقل والمنطق ، ولا تساعدها سيرتهم مدى حياتهم الدنيا. (المؤلف)

(٢) الرياض النضرة : ١ / ٤٣.

١٥

وشتّان بين رأي ابن عمر وبين قول أبيه في عليّ عليه‌السلام : هذا مولاي ومولى كلّ مؤمن ، من لم يكن مولاه فليس بمؤمن. راجع ما مضى (١ / ٣٤١) الطبعة الأولى و (١ / ٣٨٢) الطبعة الثانية.

ولعلّ القوم ستراً على عوار اختيار ابن عمر ، وتخلّصاً من نقد أبي عمر المذكور ، اختلقوا من طريق جعدبة (١) بن يحيى عن العلاء بن البشير العبشمي ، عن ابن أبي أُويس ، عن مالك ، عن نافع ، عن ابن عمر أنّه قال : كنا على عهد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نفاضل فنقول : أبو بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعليّ.

واختلقوا من طريق محمد بن أبي البلاط (٢) عن زهد بن أبي عتاب ، عن ابن عمر أيضاً قال : كنّا نقول في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يلي الأمر بعده أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم عليّ ، ثم نسكت.

ولعلّ الواقف على أجزاء كتابنا هذا ، وبالأخصّ الجزء السادس وهلمّ جرّا ، يعلم ويذعن بأنّ اختيار ابن عمر ومن رأى رأيه باطل في غاية السخافة ، ولو كان معظم الصحابة لم يعدل بأبي بكر أحداً في زمن نبيّهم فما الذي زحزحهم عن رأيهم ذلك يوم السقيفة؟ وما الذي أرجأهم عن بيعته؟ ومن أين أتاهم ذلك الخلاف الفاحش الذي جرّ الأسواء على الأُمّة حتى اليوم؟ وقد عرّفناك في الجزء السابع (ص ٧٦ ، ٩٣ ، ١٤١) الطبعة الأولى (٣).

إنّ عيون الصحابة من المهاجرين والأنصار لمّا لم تكن تجد لأبي بكر يوم

__________________

(١) جعدبة : متروك يروي عن العلاء مناكير ، والعلاء ضعيف حديثه غير صحيح. راجع لسان الميزان : ٢ / ١٠٥ ، ٤ / ١٨٣ [٢ / ١٣٤ رقم ١٩٤٩ ، ٤ / ٢١٢ رقم ٥٦٨٦]. (المؤلف)

(٢) لا يعرف ولا يدري رجال الجرح والتعديل من هو. لسان الميزان : ٥ / ٩٦ [٥ / ١٠٩ رقم ٧١٠٧]. (المؤلف)

(٣) وفي : ص ٧٥ ـ ٨٢ ، ٩٣ ، ١٤١ الطبعة الثانية. (المؤلف)

١٦

تقمّص الخلافة فضيلة يستحقّ بها الخلافة ، وتدعم بها الحجّة على الناس في بيعته تقاعست وتقاعدت عنها وما مُدّت إليها منهم يد ، ولم تكن لهم فيها قدم ، وما بايعه يومها الأوّل إلاّ رجلان أو أربعة ، أو خمسة ، ثم حدت الأُمّة إليها الدعوة المشفوعة بالإرهاب والترعيب ، وما كان في أفواه الدعاة إليها إلاّ الترهيب بالقتل والضرب والحرق ، أو قولهم : إنّ أبا بكر السبّاق المسنّ ، صاحب رسول الله في الغار ، وكانت هذه غاية جهدهم في عدّ فضائل أبي بكر. قال ابن حجر في فتح الباري (١) (١٣ / ١٧٨) : وهي ـ فضيلة كونه ثاني اثنين في الغار ـ أعظم فضائله التي استحقّ بها أن يكون الخليفة من بعد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولذلك قال عمر بن الخطّاب : إنّ أبا بكر صاحب رسول الله ، ثاني اثنين ، فإنّه أولى المسلمين بأموركم. انتهى.

ألا مسائل ابن حجر عن أنّ صحبة يومين في الغار التي تتصور على أنحاء ، وللقول فيها مجال واسع ، صحبة ما أمكنت الرجل من أن يصف صاحبه لمّا جاءهُ اليهود وقالوا : صف لنا صاحبك. فقال : معشر اليهود لقد كنت معه في الغار كإصبعيّ هاتين ، ولقد صعدت معه جبل حراء وإنّ خنصري لفي خنصره ، ولكنّ الحديث عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شديد ، وهذا عليّ بن أبي طالب. فأتوا عليّا فقالوا : يا أبا الحسن صف لنا ابن عمّك ، فوصفه. الحديث (٢).

كيف استحقّ الرجل بمثل هذه الصحبة الخلافة وصار بذلك أولى الناس بأمورهم؟ وأمّا صحبة عليّ عليه‌السلام إيّاه منذ نعومة أظفاره إلى آخر نفس لفظه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عاد منه كالظلّ من ذيه ، وعُدّ نفسه في الكتاب العزيز ، وقرنت ولايته بولاية الله وولاية نبيّه ، وجعلت مودّته أجر الرسالة ، فلم تستوجب استحقاقه بها الخلافة والأولويّة بأمور الناس بعد قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كنت مولاه فعليّ مولاه» إنّ هذا لشيء عجاب!

__________________

(١) فتح الباري : ١٣ / ٢٠٩.

(٢) الرياض النضرة : ٢ / ١٩٥ [٣ / ١٤٣]. (المؤلف)

١٧

وإنّي لست أدري أنّ هذه المفاضلة المتسالم عليها بين الصحابة في حياة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما ذا نسيها أُولئك العدول بموته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟ ولما ذا لم يُصفقوا على ذلك الاختيار الذي كان يسمعه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلا ينكره؟ ووقع الخلاف والتشاحّ والتلاكم والتشاتم والنزاع ، حتى كاد أن يقتل صنو النبيّ الأعظم في تلك المعمعة ، ورأت بضعته الصدّيقة ما رأت ، ووقعت وصمات لا تنسى طيلة حياة الدنيا ، وأُرجئ دفن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثلاثاً ، وكانت الصحابة بمعزل عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن إجنانه (١) ، وما حضر الشيخان دفنه (٢). قال النووي في شرح صحيح مسلم (٣) : كان عذر أبي بكر وعمر وسائر الصحابة واضحاً لأنّهم رأوا المبادرة بالبيعة من أعظم مصالح المسلمين ، وخافوا من تأخيرها حصول خلاف ونزاع تترتّب عليه مفاسد عظيمة ، ولهذا أخّروا دفن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عقدوا البيعة لكونها كانت أهمّ الأُمور ، كي لا يقع نزاع في مدفنه ، أو كفنه ، أو غسله ، أو الصلاة عليه ، أو غير ذلك.

ثم لو كان الأمر كما زعم ابن عمر من الاختيار فتقديم أبي بكر يوم السقيفة الرجلين : عمر وأبا عبيدة على نفسه وقوله : بايعوا أحد الرجلين ، أو قوله : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين فبايعوا أيّهما شئتم. لما ذا؟

ولما ذا قول أبي بكر لأبي عبيدة الجرّاح حفّار القبور : هلمّ أبايعك فإنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : إنّك أمين هذه الأُمّة؟

تاريخ ابن عساكر (٤) (٧ / ١٦٠).

__________________

(١) يقال : أجنّه في قبره ، أي : دفنه.

(٢) راجع ما أسلفناه في الجزء السابع : ص ٧٥. (المؤلف)

(٣) [شرح صحيح مسلم : ١٢ / ٧٨] في كتاب الجهاد ، باب قول النبيّ لا نُورَث ما تركنا فهو صدقة ، عند قول عليّ عليه‌السلام لأبي بكر : لكنّك استبددت علينا بالأمر وكنّا نحن نرى لنا حقّا لقرابتنا من رسول الله. (المؤلف)

(٤) تاريخ مدينة دمشق : ٢٥ / ٤٦٣ رقم ٣٠٥١ ، وفي مختصر تاريخ دمشق : ١١ / ٢٦٩.

١٨

ولما ذا قول أبي بكر في خطبة له : أما والله ما أنا بخيركم ، ولقد كنت لمقامي هذا كارهاً؟ أو قوله : ألا وإنّما أنا بشر ولست بخير من أحد منكم فراعوني؟ أو قوله : إنّي ولّيت عليكم ولست بخيركم؟ أو قوله : أقيلوني أقيلوني لست بخيركم (١)؟

ولما ذا ورم أنف كلّ الصحابة يوم اختيار أبي بكر عمر بن الخطّاب للأمر بعده ، وأراد كلّ منهم أن يكون الأمر له دونه (٢)؟

ولما ذا جابه طلحة بن عبيد الله ـ أحد العشرة المبشّرة ـ أبا بكر يوم استخلف عمر فقال طلحة : ما تقول لربّك وقد ولّيت عليها فظّا غليظاً؟

ولما ذا ندم أبو بكر في أُخريات أيّامه على خلافته قائلاً : وددت أنّي يوم سقيفة بني ساعدة كنت قذفت الأمر في عنق أحد الرجلين ـ يريد عمر وأبا عبيدة ـ فكان أحدهما أميراً وكنت وزيراً؟ راجع (٧ / ١٧٠).

ولما ذا أتى عمر أبا عبيدة الجرّاح يوم وفاة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : ابسط يدك فلُابايعك فإنّك أمين هذه الأُمّة على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣)؟

وما الذي دعا عمر بن الخطّاب إلى قوله لابن عبّاس : أما والله يا بني عبد المطّلب ، لقد كان عليّ فيكم أولى بهذا الأمر منّي ومن أبي بكر؟ راجع (١ / ٣٤٦ الطبعة الأولى ، ص ٣٨٩ الطبعة الثانية).

__________________

(١) راجع الجزء السابع : ص ١١٨ الطبعة الأولى. (المؤلف)

(٢) جاء في صحيحة مرّت في ٥ / ٣٥٨ الطبعة الثانية و ٧ / ١٦٨ الطبعة الأولى. (المؤلف)

(٣) أخرجه أحمد في [مسنده : ١ / ٥٨ ح ٢٣٥] وابن سعد [في الطبقات الكبرى : ٣ / ١٨١] وابن جرير [في تهذيب الآثار : ص ٩٢٦ ح ١٣١٧ من مسند عمر بن الخطاب] وابن الأثير [في النهاية : ٣ / ٤٨٢] وابن الجوزي [في صفة الصفوة : ١ / ٢٥٦ رقم ٢] وابن حجر [في الصواعق : ص ١٢] والحلبي [في السيرة الحلبية : ٣ / ٣٥٧]. راجع كنز العمال : ٣ / ١٤٠ [٥ / ٦٥٢ ح ١٤١٤١] ، تاريخ الخلفاء : ص ٤٨ [ص ٦٥] ، الغدير : ٥ / ٣١٦ الطبعة الأولى ، ص ٣٦٩ الطبعة الثانية. (المؤلف)

١٩

ولما ذا قال عمر لمّا طعن : إن ولّوها الأجلح سلك بهم الطريق الأجلح [المستقيم] (١) ـ يعني عليّا ـ فقال له ابن عمر : ما منعك أن تقدّم عليّا؟ قال : أكره أن أحملها حيّا وميّتاً (٢).

ولما ذا قال لأصحاب الشورى : لله درّهم إن ولّوها الأصيلع ، كيف يحملهم على الحقّ ، قالوا : أتعلم ذلك منه ولا تستخلفه؟ قال : إن استخلف فقد استخلف من هو خير منّي ، وإن أترك فقد ترك من هو خير منّي (٣).

ولما ذا تمنّى عمر يوم طعن سالم بن معقل أحد الموالي قائلاً : لو كان سالم حيّا ما جعلتها شورى (٤)؟ وفي لفظ الطبري : استخلفته. وفي لفظ للباقلاني : لرأيت أنّي قد أصبت الرأي ، وما تداخلني فيه الشكوك.

ولما ذا كان يقول : لو أدركني أحد رجلين فجعلت هذا الأمر إليه لوثقت به : سالم مولى أبي حذيفة ، وأبي عبيدة بن الجرّاح (٥)؟

ولما ذا قال ـ للقائلين له : لو عهدت يا أمير المؤمنين ـ : لو أدركت أبا عبيدة الجرّاح ثم ولّيته ، ثم قدمت على ربّي فقال لي : لم استخلفته على أُمّة محمد؟ لقلت : سمعت عبدك وخليلك يقول : لكلّ أُمّة أمين ، وإنّ أمين هذه الأُمّة أبو عبيدة الجرّاح ، ولو أدركت خالداً ثم ولّيته ، ثم قدمت على ربّي فقال لي : من استخلفت على أُمّة

__________________

(١) من الاستيعاب.

(٢) الأنساب : ٥ / ١٦ [٦ / ١٢٠] ، الاستيعاب في ترجمة عمر : ٤ / ٤١٩ [القسم الثالث / ١١٥٤ رقم ١٨٧٨] ، فتح الباري : ٧ / ٥٥ [٧ / ٦٨] ، شرح ابن أبي الحديد : ٣ / ١٧٠ [١٢ / ٢٦٠ خطبة ٢٢٣]. (المؤلف)

(٣) الرياض : ٢ / ٢٤١ [٢ / ٣٥١]. (المؤلف)

(٤) التمهيد للباقلاّني : ص ٢٠٤ ، طرح التثريب : ١ / ٤٩ ، تاريخ الطبري : ٥ / ٣٤ [٤ / ٢٢٧ حوادث سنة ٢٣ ه‍]. (المؤلف)

(٥) طبقات ابن سعد طبع ليدن : ٣ / ٢٤٨ [٣ / ٣٤٣]. (المؤلف)

٢٠