إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١

محيي الدين الدرويش

إعراب القرآن الكريم وبيانه - ج ١

المؤلف:

محيي الدين الدرويش


الموضوع : اللغة والبلاغة
الناشر: اليمامة للطباعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٤
الصفحات: ٥٧١

لوجب أن يقال : فاكتبوا الدين ، وفي ذلك إخلال بحسن النظم ، وليدلّ على العموم ، أي : أيّ دين قليلا كان أم كثيرا.

٣ ـ وذكر «الى أجل مسمى» على سبيل التأكيد ، وليعلم أن من حق الأجل أن يكون معلوما بالتوقيت بالسنة والأشهر والأيام.

ولو قال الى الحصاد مثلا لم يجز لعدم التسمية.

٤ ـ وأناط الكتابة بكاتب بالعدل متّسم به.

٥ ـ ونهى عن أن يأبى من يطلب إليه الكتابة ما كلّف به.

٦ ـ وكرر الأمر بالكتابة بصيغة أخرى تشددا في الكتابة فقال :«فليكتب».

٧ ـ وأمر الذي عليه أن يملي على الكاتب بالعدل ، لئلا تبقى له حجة.

٨ ـ وتحوّط للأمر بأن أمره باتقاء الله بقوله : «وليتق الله ربه».

٩ ـ وعقب على الاتقاء بما يحتمه من عدم البخس ، واستعمل هذه اللفظة التي هي في الأصل اللغوي للعين العوراء ، يقال : بخست عينه ، أي عورت. ولا يخفى ما في هذا من التصوير المجسد الحاكي.

١٠ ـ واحتاط بما قد يطرأ على الأناسيّ من السأم والملالة ، وما يترتب عليهما من تفريط ، فتعم حينئذ الفوضى ، ويطرأ الخلل ، لأنهم لم يستوفوا كتابة ما شهدوا عليه ، سواء أكان كبيرا أم صغيرا.

١١ ـ وبعد أن أوصى بما أوصى ، نبّه الى أن ذلك هو السبيل الأقوم ، والطريق الأعدل ، صرح باسمه تعالى فقال : «عند الله» تبيانا للمصير المعلوم ، وتحذيرا من تفريط المفرط وافتئات المفتئت.

٤٤١

١٢ ـ وختم الآية بذكر الله ثلاث مرات متعاقبة ، لإدخال الروع في القلوب ، وإحداث المهابة في النفوس ، وترسيخ الحكم في الأذهان ، والإشعار بأنه تعالى مطلع على السرائر ، لا تغرب عنه همسات القلوب ، وخلجات الضمائر.

الفوائد :

مثّل الزمخشري لقوله تعالى : «أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى» بقولهم : أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه ، وأعددت السلاح أن يجيء عدو فأدفعه. فكأنه قيل : إرادة أن تذكر إحداهما الأخرى. وتساءل التفتازاني في حواشيه على الكشاف فقال : «ومما ينبغي أن يتعرض له وجه تكرّر «إحداهما» ولا خفاء في أنه ليس من وضع المظهر موضع المضمر ، إذ ليست المذكورة هي المناسبة إلا أن يجعل «إحداهما» الثانية في موقع المفعول ، ولا يجوز تقدم المفعول على الفاعل في موضع الإلباس. نعم يصح أن يقول : «فتذكر الأخرى» فلا بد للعدول من نكتة». ولم يتعرض التفتازاني للنكتة ، وترك قارئه في حيرة من أمره. على أن الدماميني ذكر في شرح المغني أن المقصود هو كون التذكير من إحداهما للأخرى كيفما قدّر لا يستقيم إلا كذلك ، ألا ترى أنه لو قيل : أن تضلّ إحداهما فتذكرها الأخرى ، وجب أن يكون ضمير المفعول عائدا على الضالة ، فيتعيّن لها ، وذلك مخل بالمعنى المقصود ، لأن الضالة الآن في الشهادة قد تكون هي الذاكرة لها في زمان آخر ، فالمذكرة حينئذ هي الضالة ، فإذا قيل : فتذكرها الأخرى لم يفد ذلك لتعيّن عود الضمير الى الضالة. وإذا قيل : فتذكر إحداهما الأخرى ، كان مبهما في واحدة

٤٤٢

منهما. فلو ضلت إحداهما فذكّرتها الأخرى فذكرت كان داخلا ، ثم لو انعكس الأمر والشهادة بعينها في وقت آخر اندرج أيضا تحته لوقوع قوله «فتذكر إحداهما الأخرى» غير معيّن ، فظهر الوجه الذي لأجله عدل عن «فتذكرها» الى «فتذكر إحداهما الأخرى».

وفي النفس من هذا التقرير ما لا يحتمله هذا الكتاب.

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (٢٨٣))

الإعراب :

(وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ) الواو استئنافية وإن شرطية وكنتم فعل ماض ناقص في محل جزم فعل الشرط والتاء اسمها وعلى سفر جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر كنتم (وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً) الواو حالية ولم حرف نفي وقلب وجزم وتجدوا فعل مضارع مجزوم بلم وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل وكاتبا مفعول به والجملة حالية ويجوز لك أن تجعل الواو عاطفة فتكون الجملة معطوفة على فعل الشرط فهي في محل جزم (فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ) الفاء رابطة لجواب الشرط ورهان مبتدأ وساغ الابتداء بالنكرة لأنها وصفت ، ومقبوضة صفة والخبر محذوف تقديره تستوثقون بها ، ولك أن تعربها خبرا لمبتدأ محذوف تقديره : فالمعتمد عليه رهان ، لأن السفر مظنة لإعواز الكتب.

٤٤٣

وتفاصيل المسألة مبسوطة في كتب الفقه والجملة الاسمية في محل جزم جواب الشرط (فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) الفاء عاطفة وإن شرطية وأمن فعل ماض في محل جزم فعل الشرط وبعضكم فاعل وبعضا مفعول به (فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ) الفاء رابطة لجواب الشرط واللام لام الأمر ويؤد فعل مضارع مجزوم باللام وعلامة جزمه حذف حرف العلة والجملة في محل جزم فعل الشرط والذي اسم موصول فاعل واؤتمن فعل ماض مبني للمجهول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو والجملة صلة وأمانته مفعول به ليؤد (وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ) تقدم إعرابه بحروفه (وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ) الواو عاطفة ولا ناهية وتكتموا فعل مضارع مجزوم بلا وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والشهادة مفعول به (وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) الواو استئنافية ومن اسم شرط جازم مبتدأ ويكتمها فعل الشرط والهاء مفعوله والفاء رابطة لجواب الشرط وان واسمها ، وآثم خبرها وقلبه فاعل آثم لأنه اسم فاعل. ويصح في مثل هذا التركيب أن يكون الضمير في فإنه للشأن وآثم خبر مقدم وقلبه مبتدأ مؤخر والجملة الاسمية خبر إن. والجملة المقترنة بالفاء في محل جزم جواب الشرط ، وفعل الشرط وجوابه خبر من (وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وبما متعلقان بعليم وجملة تعملون لا محل لها لأنها صلة الموصول وعليم خبر «الله».

البلاغة :

١ ـ الاستعارة التصريحية التبعية في قوله تعالى : «على سفر» فقد شبه تمكنهم من السفر وارتياضهم عليه وتمرسهم به بتمكن الراكب من ركوبه.

٤٤٤

٢ ـ المجاز العقلي في قوله : «آثم قلبه» فقد أسند الإثم الى القلب ، والمقصود الإنسان كله لا قلبه وحده لسر عجيب ، وهو أن القلب بمثابة الرأس للأعضاء ، وهو المضغة التي إن صلحت صلح الجسد كله ، وقد تعلق الشعراء بأذيال هذه البلاغة وحسبنا أن نذكر تلفت القلب في قول الشريف الرضي البديع :

ولقد وفقت على ديارهم

وطلولها بيد البلى نهب

وبكيت حتى ضجّ من لغب

نضوي ولج بعذلي الركب

وتلفتت عيني فمذ خفيت

عني الطلول تلفت القلب

وصرح دعبل الخزاعي بجناية القلب والطرف بقوله :

أين الشباب وأية سلكا

لا أين يطلب ضلّ بل هلكا

لا تأخذا بظلامتي أحدا

قلبي وطرفي في دمي اشتركا

لا تعجبي يا سلم من رجل

ضحك المشيب برأسه فبكى

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٨٤) آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (٢٨٥) لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ

٤٤٥

وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (٢٨٦))

اللغة :

(الوسع) : ما يسع الإنسان ولا يضيق عليه.

(الطاقة) : المجهود والقدرة. وهي مصدر جاء على حذف الزوائد ، والأصل الإطاقة.

(الإصر) : العب ، وأصره حبسه ، وبابه ضرب. والمراد به التكاليف الشاقة التي ينوء بها الجسم ، وتعيا عنها النفس.

الإعراب :

(لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) كلام مستأنف لا محل له من الإعراب مسوق للاستدلال على قوله : «والله بما تعلمون عليم» وغلب غير العقلاء على غيرهم من العقلاء باستعمال «ما» لأنهم أكثر.

والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم ، وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وفي السموات جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له من الإعراب لأنه صلة الموصول ، وما في الأرض عطف على «ما في السموات» (وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ) الواو استئنافية والكلام مستأنف مسوق لبيان التكليف. والمؤاخذة تكون بالخواطر التي

٤٤٦

لا ندحة للمرء عنها. وقد نظم بعضهم مراتب القصد بقوله :

مراتب القصد خمس : هاجس ذكروا

وخاطر فحديث النفس فاستمعا

يليه همّ فعزم كلها رفعت

سوى الأخير ففيه الأخذ قد وقعا

وتفصيل ذلك مبسوط في المطوّلات فليرجع إليها من يشاء.

وإن شرطية وتبدوا فعل الشرط وعلامة جزمه حذف النون والواو فاعل والجملة لا محل لها وما اسم موصول مفعول به وفي أنفسكم جار ومجرور متعلقان بمحذوف لا محل له لأنه صلة الموصول (أَوْ تُخْفُوهُ) عطف على تبدوا والهاء مفعول به (يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللهُ) جواب الشرط مجزوم والكاف ضمير متصل في محل نصب مفعول به والجار والمجرور متعلقان بيحاسبكم ، والله فاعل والجملة لا محل لها (فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) الفاء استئنافية ويغفر فعل مضارع مرفوع ، أي فهو يغفر ، ويجوز أن تكون الفاء عاطفة ويغفر فعل مضارع مجزوم بالعطف على يغفر ، وكلتا القراءتين من السبع ، وقرىء أيضا بالنصب على إضمار «أن» فينسبك من ذلك مصدر مرفوع معطوف على متوهم ، أي تكن محاسبة فغفران. ويتخرّج على ذلك بيت النابغة الذبيانيّ :

فإن يهلك أبو قابوس يهلك

ربيع الناس والشهر الحرام

ونأخذ بعده بذناب عيش

أجب الظهر ليس له سنام

يروى بجزم نأخذ ورفعه ونصبه ، على أن سيبويه استضعف النصب لأن القارئ الزعفراني ليس من السبعة ، ولأنه موجب. ونص

٤٤٧

عبارة سيبويه «وقد يجوز النصب في الواجب في ضرورة الشعر وهو ضعيف في الكلام». ولمن جار ومجرور متعلقان بيغفر وجملة يشاء صلة (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) عطف على ما تقدم (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعلى كل شيء متعلقان بقدير ، وقدير خبر «الله» (آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ) جملة مستأنفة مسوقة للإخبار بأن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن بكل ما فرض الله على العباد ، من الصلاة والزكاة والصوم والحج والطلاق والإيلاء والحيض والجهاد ، وما ورد ذكره في السورة من قصص الأنبياء. وآمن الرسول فعل وفاعل وبما جار ومجرور متعلقان بآمن وجملة أنزل لا محل لها لأنها صلة الموصول ونائب الفاعل مستتر تقديره هو وإليه جار ومجرور متعلقان بأنزل ومن ربه جار ومجرور متعلقان بأنزل أيضا ، ولك أن تعلقهما بمحذوف حال أي حالة كونه نازلا من ربه لأنه يضمن السعادة للمجتمع البشري (وَالْمُؤْمِنُونَ) يجوز أن تكون الواو عاطفة والمؤمنون عطف على الرسول ، فيكون الوقف هنا. ويشهد لهذا الإعراب ما قرأه علي بن أبي طالب : «وآمن المؤمنون» فأظهر الفعل ، ويجوز أن تكون الواو استئنافية والمؤمنون مبتدأ أول (كُلٌّ آمَنَ) كل مبتدأ ثان وجملة آمن خبره والجملة الاسمية خبر المبتدأ الأول وهو المؤمنون والرابط محذوف على الوجه الثاني. وعلى الوجه الأول تكون جملة «كل آمن» مستأنفة. وساغ الابتداء بكل وهو نكرة لأنه بنية الإضافة أي كل واحد منهم والتنوين عوض عن الكلمة المحذوفة (بِاللهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) الجار والمجرور متعلقان بآمن وما بعده عطف عليه (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) هذه الجملة مقول قول محذوف وجملة القول في محل نصب على الحال أي قائلين لا نفرق ، ولا نافية ونفرق فعل مضارع مرفوع وبين ظرف مكان متعلق بنفرق

٤٤٨

وأحد مضاف إليه ومن رسله جار ومجرور متعلقان بمحذوف صفة لأحد ، ولم يقل : بين آحاد ، لأن الأحد يتناول الواحد والجمع كما في قوله تعالى «فما منكم من أحد عنه حاجزين» فوصفه بالجمع لكونه في معناه ولذلك دخل عليه بين وسيرد في هذا الكتاب تفصيل ممتع عن أحد (وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا) الواو استئنافية وقالوا فعل ماض والواو فاعل وجملتا سمعنا وأطعنا مقول القول (غُفْرانَكَ رَبَّنا) مفعول مطلق بإضمار عامله ، ومنه قولهم : غفرانك لا كفرانك ، أي نستغفرك ولا نكفرك. وربنا منادى مضاف محذوف منه حرف النداء (وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ) الواو عاطفة والمعطوف عليه محذوف داخل في حيز القول أي :قائلين منك المبدأ وإليك المصير. وإليك جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم والمصير مبتدأ مؤخر (لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها) جملة مستأنفة مسوقة لإزالة الحرج عن النفوس ولبيان أن المؤاخذة قاصرة على ما في الوسع والطاقة فما عداه من خواطر النفس وهواجسها لا محاسبة عليه وبذلك يزول الإشكال الذي ساور بعض المفسرين فقد قالوا : إن الخطأ والنسيان مغفوران غير مؤاخذ بهما ، فما معنى الدعاء بذلك وهو يكاد يكون من تحصيل الحاصل؟ ولا نافية ويكلف فعل مضارع مرفوع والله فاعله ونفسا مفعول به أول وإلا أداة حصر ووسعها مفعول به ثان (لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ) الجملة مفسرة لما أجمله في قوله «وسعها» وسيأتي بيان ذلك في باب البلاغة.

ولها جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وما اسم موصول مبتدأ مؤخر وجملة كسبت لا محل لها لأنها صلة الموصول ، وعليها ما اكتسبت : عطف على ما تقدم وقد ذكر إعرابه (رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا) ربنا منادى مضاف ولا ناهية معناها هنا الدعاء وتؤاخذنا فعل مضارع

٤٤٩

مجزوم بلا ونا مفعول به والفاعل أنت والجملة داخلة في حيز القول المتقدم وجملة النداء استئنافية (إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا) إن شرطية ونسينا فعل ماض في محل جزم فعل الشرط ونا فاعل أو أخطأنا عطف عليه والجواب محذوف أي فلا تؤاخذنا وجملة الشرط وجوابه في محل نصب على الحال (رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً) تقدم إعرابه وتوسيط النداء بين المتعاطفين لإظهار مدى الضراعة والاسترحام والمبالغة في التذلل والاعتراف لله سبحانه بربوبيته (كَما حَمَلْتَهُ) تقدم في مثل هذا التركيب أنه مفعول مطلق أو حال وما مصدرية على كل حال (عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا) على الذين متعلقان بجملة ومن قبلنا متعلقان بمحذوف صلة الذين أي كانوا من الأمم السالفة (رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ) عطف على ما تقدم وما مفعول به ثان لتحملنا ولا نافية للجنس وطاقة اسمها المبني على الفتح في محل نصب ولنا جار ومجرور متعلقان بطاقة وبه جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر لا (وَاعْفُ عَنَّا) دعاء معطوف على ما تقدم وعنا متعلقان بأعف (وَاغْفِرْ لَنا) عطف آخر (وَارْحَمْنا) عطف آخر (أَنْتَ مَوْلانا) أنت ضمير منفصل في محل رفع مبتدأ ومولانا خبر والجملة مستأنفة بمثابة الاعتراف لله تعالى بأنه المولى ، لأن المولى مصدر ميمي من ولي يلي ، والمعنى أنت مولانا بك نلوذ ، وإليك نلتجىء ، وعليك نتكل ، ومن حق المولى أن ينصر من يليه ويجيره إذا خاف ويحوطه بعنايته ويكلأه برعايته. (فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) الفاء للتعليل والجملة مسوقة لتعليل ما تقدم ، فإن كونه مولانا سبب سبب لطلب النصرة منه ، وعلى القوم متعلقان بانصرنا وذكر لفظ القوم للتعميم لأن النصر على الأفراد لا يستلزم النصر على المجموع فدفع ذلك الإيهام بذكر لفظ القوم والكافرين صفة.

٤٥٠

البلاغة :

في هذه الأبيات طائفة من فنون البلاغة نجملها بما يلي :

١ ـ حسن الختام : وقد تقدّم بحثه ، ومن حق سورة البقرة وقد اشتملت على العديد من الأحكام ، وانطوت على التشريع البيان ـ أن يتناول ختامها شكر المنعم الذي منّ على الإنسان بالعقل ليفكّر ، ومن حق المنعم عليه أن

يعترف لمن أسدى إليه الآلاء أن يشكرها ولمن نصب أمامه محاريب الفكر ومجالي الإبداع أن يفكر فيها ويتدبرها ، ويشهد لمن أبدعها بالحول والطّول والانفراد بالوحدانية المتجلية على قلوب المؤمنين. فبالفكر وحده يحيا الإنسان وبالفكر استدل على وجوده وما أجمل قوله صلى الله عليه وسلم : «السورة التي تذكر فيها البقرة فسطاط القرآن فتعلموها ، فإن تعلمها بركة ، وتركها حسرة ، ولن تستطيعها البطلة» قيل : وما البطلة؟ قال : السحرة. ومعنى كونها فسطاط القرآن أنها اشتملت على معظم أمور الدين أصولا وفروعا ، والإرشاد الى ما فيه حسن المعايش في الدنيا والفوز في الآخرة.

٢ ـ المقابلة : في قوله : «لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت» فقد طابق بين لها وعليها ، وبين كسبت واكتسبت. فالفعل الأول يختص بالخير ، والفعل الثاني يختص بالشر فإن في الاكتساب اعتمالا ، والشر تتشهّاه النفس وتجنح إليه بالطبع بخلاف الخير فإنه يهبط على النفس كما يهبط الفيض من آلاء الله ، وكما يشرق اليقين في النفس.

إشراقا جعل من فلاسفة الإشراق مؤمنين ، ومن الغزالي وديكارت أوّابين متبتّلين ...

٤٥١

الفوائد :

١ ـ (بَيْنَ) ظرف للمكان أو الزمان لا يضاف إلا لمتعدّد ، وقد أضيف في الآية الى «أحد» لأنه اسم لمن يصلح أن يخاطب ، يستوي فيه الواحد والاثنين والجمع كما يستوي فيه المذكر والمؤنث. فمعنى لا نفرّق بين أحد من الرسل : لا نفرق بين جمع من الرسل. وقد اختلف علماء اللغة : هل تعاد بين بعد ورودها بين المتعاطفين أم لا؟نحو : جلست بين زيد وعمرو. هل يقال : جلست بين زيد وبين عمرو؟أجاز ذلك قوم على أن تكون بين للتأكيد.

ومن روائع النكت أنه لا يعطف بعدها إلا بالواو فلا يقال :جلست بين زيد فعمرو. وقد اعترض على ذلك بقول امرئ القيس في مطلع معلقته :

فقا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدّخول فحومل

قال الأصمعي : الصواب أن يقال : بين الدخول وحومل ، لأن البينية لا يعطف عليها بالفاء لأنها تدل على الترتيب ، وقال يعقوب بن السكيت في الدفاع عن امرئ القيس : إنه على حذف مضاف وأن التقدير : بين أهل الدخول فحومل. وقال المرادي : إنه على اعتبار المتعدّد حكما لأن الدخول مكان لا يجوز أن يشتمل على أمكنة متعددة ، كما تقول قعدت بين الكوفة ، تريد بين دورها وأماكنها.

هذا وتشبع حركة النون فتصير «بينا» و «بينما». وتضاف عندئذ الى الجمل ، قال أبو ذؤيب :

بينا تعنقه الكماة وروغه

يوما أتيح له جريء سلفع

٤٥٢

سورة آل عمران

مدنية وآياتها مائتان

(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦))

(الم) تقدم الكلام على فواتح السّور في أول البقرة.

(التوراة والإنجيل) : اسمان أعجميان ، وقيل عربيان. وعلى القول بعربيتهما فالتوراة مشتقة من قولهم : ورى الزّند إذا قدح فظهر منه نار. فلما كانت التوراة فيها ضياء يخرج به من الضلال الى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام الى النور سمي هذا الكتاب بالتوراة.

وقيل : هي مشتقة من وريت في كلامي من التورية. وسميت التوراة لأن فيها تلويحات وإيحاءات ومعاريض. أما الإنجيل فهو على رأي القائلين بعربيته مشتق من النجل وهو التوسعة. ومنه قولهم : عين نجلاء أي واسعة. وسمي الإنجيل بذلك لأن فيه توسعة لم تكن في التوراة.

٤٥٣

الإعراب :

(الم) خبر لمبتدأ محذوف وقد تقدم القول فيه مفصّلا (اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) الله مبتدأ ولا نافية للجنس وإله اسمها وإلا أداة حصر وهو بدل من محل لا واسمها على الصحيح أو من الخير المحذوف أي لا إله موجود إلا هو ، والجملة خبر «الله» وقد تقدّم الكلام مفصلا في إعراب كلمة الشهادة (الْحَيُّ الْقَيُّومُ) خبر ثان وثالث لـ «الله» أو خبران لمبتدأ محذوف أي هو الحيّ القيوم (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ) الجملة خبر رابع لـ «الله» أو خبر ثان إن جعلنا الحي القيوم خبرين لمبتدأ محذوف. ونزل فعل ماض مبني على الفتح وعليك متعلقان بنزل والكتاب مفعول به وبالحق جار ومجرور متعلقان بمحذوف حال من الكتاب أي متلبسا بالحق (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) مصدقا : حال مؤكدة واللام حرف جر وما اسم موصول في محل جر باللام والجار والمجرور متعلقان بقوله مصدقا وبين ظرف مكان متعلق بمحذوف صلة الموصول ويديه مضاف إليه مجرور بالياء لأنه مثنى وحذفت النون للإضافة والهاء مضاف إليه (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) عطف على ما تقدم (مِنْ قَبْلُ) جار ومجرور متعلقان بأنزل (هُدىً لِلنَّاسِ) حال من التوراة والإنجيل ولم يثنّ لأنه مصدر أي هادين.

ويجوز إعراب هدى مفعولا من أجله أي أنزل هذين الكتابين لأجل هداية الناس. وللناس متعلقان يهدى (وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ) الواو حرف عطف وجملة أنزل الفرقان عطف على جملة أنزل التوراة والإنجيل.

من قبيل عطف العام على الخاص أي الكتب التي تفرق بين الحق والباطل (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ) جملة مستأنفة للتحدث عن وفد نجران والتفاصيل مبسوطة في المطوّلات. وإن واسمها. وجملة

٤٥٤

كفروا صلة الموصول وبآيات الله متعلقان بكفروا (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) الجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وعذاب مبتدأ مؤخر وشديد صفة والجملة الاسمية في محل رفع خبر إن (وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ) الواو استئنافية والله مبتدأ وعزيز خبر أول وذو انتقام خبر ثان (إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ) إن واسمها ، وجملة لا يخفى عليه شيء خبرها وفي الأرض متعلقان بمحذوف صفة لشيء ولا في السماء عطف على ما تقدم (هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ) جملة مستأنفة أيضا مسوقة لبيان علمه سبحانه واطلاعه على ما لا يدخل تحت الوجود وهو تصوير عباده في أرحام أمهاتهم وهو مبتدأ والذي خبره وجملة يصوركم صلة الموصول وفي الأرحام متعلقان بيصوركم (كَيْفَ يَشاءُ) كيف هنا أداة شرط في محل نصب على الحال ولم تجزم لعدم اتصال «ما» بها. ومفعول يشاء محذوف تقديره تصويركم والجملة حالية (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) تقدم إعرابه وكرره لتأكيد الكلام و (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) خبران لمبتدأ محذوف تقديره هو.

البلاغة :

١ ـ المجاز في قوله : «لما بين يديه» والمراد ما أمامه.

٢ ـ الطباق بين «الأرض» و «السماء».

٣ ـ الإيجاز بالحذف ، فقد حذف مفعول «يشاء» للغرابة وإظهار قدرة الله تعالى.

٤٥٥

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))

اللغة :

(مُحْكَماتٌ) : أحكمت عباراتها ، ووضحت دلالاتها ، وحفظت من الاحتمال والاشتباه.

(مُتَشابِهاتٌ) فيها احتمال للتأويل. وفي هذه الكلمة إيهام ، فإن مفردها متشابه ، وكيف يتشابه الشيء مع نفسه؟ وإنما يقع التشابه بين الاثنين. ومثله يقتتلان ، والمفرد لا يقتتل ، فكيف يقتتل الواحد مع نفسه؟ وقد وجه هذا الاعتراض الى تقي الدين بن تيمية الإمام المشهور فقال لمن سأله : «هذا ذهن جيد». ثم عدل عن الجواب. والذي يبدو للخاطر أن العرب نطقت بألفاظ من هذه الصيغة ولم ترد بها المفاعلة كقولهم : طابقت النّعل ، وعاقبت اللص ، وخامرت الحبّ ، وعاقرت الخمر. ولو فرضنا أن الصيغة على أصل المفاعلة كان الجواب أن التشابه لا يكون إلا بين اثنين فما فوقهما ، وإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحد متشابها للآخر ، فلما لم يصح التشابه إلا في حالة الاجتماع وصف بالجمع لأن كل واحد من مفرداته يشابه الآخر.

الحكمة في المتشابه :

فإذا خطر لك أن تسأل عن السر في الجنوح الى ذكر المتشابه به في القرآن ، والعدول عن تعميم الحكم؟ قيل إن القرآن في الأصل نزل على أسلوب العرب وبألفاظهم ووفقا لكلامهم ، وهو على ضربين :

٤٥٦

منه المحكم الذي لا يخطئه السامع ، ولا يغرب عن الفهم ، ومنه ما حفل بضروب المجازات ، وأنواع الكنايات والإشارات والتلويحات.

وقد كان هذا الضرب الثاني ، أفعل في نفوسهم ، وأكثر استهواء لهم ، فأنزل القرآن مفرغا في الأسلوبين ، حاويا للنوعين ، ليكون التحدي أعم وأشمل ، ولو نزل كله محكما لما ترددوا في التماس المطاعن ، ولما أحجموا عن المكابرة واللجاج والاعتراض ، ولقالوا : هلّا نزل بالضرب الذي نستحسنه ، ونميل إليه؟ هذا من جهة ، ومن جهة ثانية لما يتميّز به المتشابه من كدّ القرائح في استخراج المغالق واكتناه المرامي ، وحسر الستار عن الطرائف التي تتعالى على النظرة السطحية البدائية ، حتى إذا فتح الله عليه وتمكن من سبر أغوار المتشابه ، كان إيمانه أرسخ ويقينه أقوى من أن تعصف به الشبهات.

(الزيغ) الميل عن الحق والجنوح الى الباطل. والزاي والياء إذا وقعتا فاء وعينا للكلمة أفادتا هذا المعنى وسمي الزيت زيتا لأنه سائل يميل بسرعة ، وزاغت الشمس تزيغ مالت ، وقس على ذلك.

الإعراب :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ) كلام مستأنف مسوق لتفصيل آيات الكتاب وأنها قسمان : قسم يفهمه الناس ، وقسم لا يفهمونه لقصورهم وعجزهم. وهو مبتدأ والذي خبره وجملة أنزل عليك الكتاب لا محل لها لأنها صلة الموصول وعليك متعلقان بأنزل والكتاب مفعول به (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) الجملة حال من الكتاب والجار والمجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وآيات مبتدأ مؤخر ومحكمات صفة لآيات (هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ) الجملة صفة ثانية لآيات وهن ضمير منفصل في محل

٤٥٧

رفع مبتدأ وأم الكتاب خبره ، وأخبر عن الجمع بالواحد لأن كل واحدة بمثابة أم واحدة (وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) عطف على آيات محكمات (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) الفاء استئنافية مسوقة لتفضيل موقف الناس منه ، وأما حرف شرط وتفصيل والذين مبتدأ وفي قلوبهم جار ومجرور متعلقان بمحذوف خبر مقدم وزيغ مبتدأ مؤخر والجملة صلة الموصول (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) الفاء رابطة لجواب أما وجملة يتبعون خبر الذين واستغنى عن الجواب اكتفاء بالفاء وما اسم موصول مفعول به وجملة تشابه صلة الموصول ومنه متعلقان بتشابه وابتغاء مفعول لأجله والفتنة مضاف إليه (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) عطف على ابتغاء الفتنة (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ) الواو حالية وما نافية ويعلم فعل مضارع مرفوع وتأويله مفعول به مقدم والجملة في محل نصب على الحال (إِلَّا اللهُ) إلا أداة حصر والله فاعل يعلم مؤخر (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ) تكلم المعربون والمفسرون كثيرا وأطالوا حول هذه الآية ، والقول الفصل فيها أنه يجوز أن تكون الواو عاطفة والراسخون معطوفة على «الله» والمعنى : لا يهتدي الى تأويله إلا الله وعباده الذين رسخوا في العلم وتمكنوا منه ، ويجوز أن يتم الوقوف على قوله : «إلا الله» وتكون الواو استئنافية والراسخون مبتدأ خبره جملة يقولون. وعلى القول الاول تكون جملة يقولون : حالية أي قائلين ، وقد نشأ عن هذا الاختلاف في التفسير انقسام العلماء الى فريقين : أصحاب تأويل وأصحاب ظاهر ، ولستا في صدد الترجيح والمفاضلة بين الآراء المتضاربة ولكننا سنورد لمحة عنه في باب الفوائد (آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) الجملتان مقول القول وآمنا فعل وفاعل وبه متعلقان بآمنا وكل مبتدأ ساغ الابتداء به لما في «كل» من معنى العموم والتنوين عوض عن كلمة ، ومن عند ربنا الجار والمجرور

٤٥٨

متعلقان بمحذوف خبر (وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) الواو حالية أو مستأنفة وما نافية ويذكر فعل مضارع مرفوع وإلا أداة حصر وأولو فاعل يذكر مرفوع بالواو لأنه ملحق بجمع المذكر السالم والألباب مضاف إليه.

الفوائد :

١ ـ أفرد بعضهم هذه المسألة بكتاب خاص لسعة الكلام فيها ، وقد استدل القاضي البيضاوي والزمخشري قبله على اختيارهما الوقوف على «العلم» لأن في ذلك حفزا للعقول على التفكير والإبداع ، وقال الحشويّة ما خلاصته : الوقف على قوله تعالى :

«وما يعلم تأويله إلا الله» واجب حتى يكون قوله : «والراسخون» كلاما مستأنفا ، فاذا لم يقف عليه بل وقف على قوله «والراسخون في العلم» ليكون عطفا على قوله : «إلا الله» كان لا بد أن يبتدىء بقوله :

«يقولون آمنا به» أراد به : قائلين ، وهو حال ، وهو باطل ، لأنه لا يخلو إما أن يكون حالا عن «الله» أو عن الراسخين في العلم ، كان كان الله سبحانه والراسخين في العلم قالوا : آمنا به كل من عند ربنا.

وذلك في حقه تعالى محال ، أو يكون حالا عن الراسخين في العلم فقط ، وعندئذ يتخصص المعطوف بالحال دون المعطوف عليه ، وهو أيضا غير جائز ، لأنه مناف للقاعدة المقررة في العربية ، وهي أن المعطوف في حكم المعطوف عليه ، فثبت أن الوقف على قوله : «إلا الله» واجب. وإذا كان الوقف عليه واجبا فقد خاطبنا الله بما لا نفهمه وهو المهمل. قلت : لا يخفى ما في حذلقة الحشويين من براعة مبنية على المغالطة فهم يجيزون الخطاب بالمهمل ، فإنه يجوز تخصيص المعطوف بالحال حيث لا لبس ،

٤٥٩

وهو كثير في القرآن. ومنه : «ووهبنا له إسحق ويعقوب نافلة» فإن «نافلة» حال من المعطوف فقط ، وهو «يعقوب» لأن النافلة هو ولد الولد وإنما هو يعقوب دون إسحق.

ما يقوله الرازي :

واستدل الامام فخر الدين الرازي في مفاتيح الغيب على أن الوقف الصحيح على قوله «إلا الله» بستة أوجه ، ملخص الثاني منها أن الآية دلت على أن طلب التأويل مذموم لقوله تعالى : «فأما الذين في قلوبهم زيغ» الى آخر الآية ، ولو كان التأويل جائزا لما ذمّه الله. وملخص الرابع : أنه لو كانت الواو في قوله : «والراسخون» عاطفة لصار قوله : «يقولون آمنا به» ابتداء ، وهو بعيد عند ذوي الفصاحة ، بل كان الأولى أن يقولوا : وهم يقولون آمنا به ، أو يقال : ويقولون : آمنا به ، ولهذا كله أسغنا الوجهين.

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠))

الإعراب :

(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) الجملة مقول قول محذوف وربنا منادى مضاف ولا ناهية وهي هنا بمعنى الدعاء وتزغ فعل مضارع مجزوم بلا والفاعل أنت وقلوبنا مفعول به والظرف الزماني متعلق بتزغ

٤٦٠