الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي

الغدير في الكتاب والسنّة والأدب - ج ٨

المؤلف:

الشيخ عبد الحسين أحمد الأميني النجفي


المحقق: مركز الغدير للدّراسات الإسلاميّة
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مؤسسة دائرة معارف الفقه الإسلامي
المطبعة: محمّد
الطبعة: ٥
الصفحات: ٥٤٠

ـ ٥٨ ـ

عن عليّ مرفوعاً : نازلت ربّي فيك ثلاثاً فأبى إلاّ أبا بكر.

ـ ٥٩ ـ

عن عليّ : إنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يعهد إلينا عهداً نأخذ به في الإمارة ، ولكنّه شيء رأيناه من قبل أنفسنا ، فإن يكن صواباً فمن الله ، وإن يكن خطأ فمن قبل أنفسنا. ثمّ استخلف أبو بكر فأقام واستقام ، ثمّ استخلف عمر فأقام واستقام ، حتى ضرب الدين بجرانه.

ـ ٦٠ ـ

قال أبو بكر لعليّ بن أبي طالب : قد علمت أنّي كنت في هذا الأمر قبلك؟ قال : صدقت يا خليفة رسول الله ، فمدّ يده فبايعه.

ـ ٦١ ـ

قال أبو بكر بعد ما بويع له وبايع له عليّ وأصحابه فأقام ثلاثاً يقول : أيّها الناس قد أقلتكم بيعتكم ، هل من كاره؟ قال : فيقوم عليّ في أوائل الناس يقول : لا والله لا نقيلك ولا نستقيلك قدّمك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فمن ذا الذي يؤخّرك؟

وفي لفظ : ولولا أنّا رأيناك أهلاً ما بايعناك.

وفي لفظ سويد بن غفلة : لمّا بايع الناس أبا بكر قام خطيباً فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : أيّها الناس اذكر بالله أيّما رجل ندم على بيعتي لمّا قام على رجليه ، قال : فقام إليه عليّ بن أبي طالب ومعه السيف ، فدنا منه حتى وضع رجلاً على عتبة المنبر والأخرى على الحصى ، وقال والله لا نقيلك. الحديث.

ـ ٦٢ ـ

عن عليّ مرفوعاً : خير أُمّتي بعدي أبو بكر وعمر.

٦١

ـ ٦٣ ـ

عن عليّ : إنّه دخل على أبي بكر وهو مسجّى فقال : ما أحد لقي الله بصحيفة أحبّ إليّ من هذا المسجّى.

ـ ٦٤ ـ

عن عليّ : ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عرفنا أنّ أفضلنا بعد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبو بكر ، وما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى عرفنا أنّ أفضلنا بعد أبي بكر عمر رضي الله تعالى عنهما.

ـ ٦٥ ـ

عن عليّ : مرفوعاً : يا عليّ هذان سيّدا كهول أهل الجنّة من الأوّلين والآخرين إلاّ النبيّين والمرسلين ، لا تخبرهما يا عليّ. قال : فما أخبرتهما حتى ماتا.

ـ ٦٦ ـ

عن عليّ مرفوعاً : أوّل من يحاسب يوم القيمة أبو بكر. يأتي بطوله.

هذه غياهب الإفك والإحن ، وأغشية التمويه والدجل ، ظلمات بعضها فوق بعض ، أو قل : هي أساطير الأوّلين التي اكتتبوها ، أحاديث الغلوّ وقصص الخرافة لفّقتها يد الأمانة الخائنة على السنّة النبويّة تقوّلاً على مولانا أمير المؤمنين ، لقد فصّلنا القول فيها طيّات أجزاء (١) كتابنا هذا ، (وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً) (٢).

__________________

(١) تجد بسط المقال حول جلّها في الجزء الخامس : ص ٢٩٧ ـ ٣٧٥. (المؤلف)

(٢) المجادلة : ٢.

٦٢

ـ ٦٧ ـ

ليلة الغار والخليفة فيها

أخرج أبو نعيم الأصبهاني في حلية الأولياء (١ / ٣٣) عن عبد الله بن محمد بن جعفر ، عن محمد بن العبّاس بن أيّوب ، عن أحمد بن محمد بن حبيب المؤدّب ، عن أبي معاوية ، عن هلال بن عبد الرحمن ، عن عطاء بن أبي ميمونة أبي معاذ ، عن أنس ابن مالك قال : لمّا كان ليلة الغار قال أبو بكر : يا رسول الله دعني فلأدخل قبلك ، فإن كانت حيّة أو شيء كانت لي قبلك. قال : ادخل ، فدخل أبو بكر فجعل يلتمس بيديه ، فكلّما رأى جحراً جاء بثوبه فشقّه ثمّ ألقمه الجحر حتى فعل ذلك بثوبه أجمع ، قال : فبقي جحر فوضع عقبه عليه ، ثمّ أدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، قال : فلمّا أصبح قال له النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأين ثوبك يا أبا بكر؟ فأخبره بالذي صنع ، فرفع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده فقال : اللهمّ اجعل أبا بكر معي في درجتي يوم القيامة. فأوحى الله تعالى إليه : إنّ الله قد استجاب لك.

وقال ابن هشام في السيرة (١) (٢ / ٩٨) : حدّثني بعض أهل العلم أنّ الحسن البصري قال : انتهى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر إلى الغار ليلاً ، فدخل أبو بكر رضى الله عنه قبل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلمس الغار لينظر أفيه سبع أو حيّة ، يقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه.

وذكره ابن كثير في تاريخه (٢) (٣ / ١٧٩) فقال : فيه انقطاع من طرفيه.

وفي مرسل المحبّ الطبري في الرياض (٣) (١ / ٦٥) : دخل أبو بكر الغار فلم يرَ فيه جحراً إلاّ أدخل إصبعه فيه حتى أتى على جحر كبير فأدخل رجله فيه إلى فخذه

__________________

(١) السيرة النبويّة : ٢ / ١٣٠.

(٢) البداية والنهاية : ٣ / ٢٢٠.

(٣) الرياض النضرة : ١ / ٨٩.

٦٣

ثمّ قال : أُدخل يا رسول الله فقد مهّدت لك الموضع تمهيداً.

وبات أبو بكر بليلة منكرة من الأفعى ، فلمّا أصبح قال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ما هذا يا أبا بكر؟ وقد تورّم جسده فقال : يا رسول الله الأفعى ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فهلاّ أعلمتني؟ فقال أبو بكر : كرهت أن أفسد عليك ، فأمرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يده على أبي بكر فاضمحلّ ما كان بجسده من الألم وكأنّه أُنشط من عقال.

وقال في مرسل آخر عن عمر (١) في (ص ٦٨) : كان في الغار خروق فيها حيّات وأفاعٍ ، فخشي أبو بكر أن يخرج منها شيء يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فألقمه قدمه ، فجعلن يضربنه ويلسعنه الحيّات والأفاعي ، وجعلت دموعه تتحادر ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول له : يا أبا بكر لا تحزن إنّ الله معنا ، فأنزل الله سكينته وهي الطمأنينة لأبي بكر.

والذي صحّحه الحاكم في المستدرك (٢) من طريق عمر من الحديث قوله : فلمّا انتهيا إلى الغار قال أبو بكر : مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الحجرة ، فدخل واستبرأ ثمّ قال : انزل يا رسول الله ، فنزل ، فقال عمر : والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر. فقال الحاكم : صحيح لو لا إرسال فيه.

وفي حديث زيّفه ابن كثير بالإرسال أيضاً : قال أبو بكر : كما أنت حتى أدخل يدي فأحسّه وأقصّه ، فإن كانت فيه دابّة أصابتني قبلك. قال نافع : فبلغني أنّه كان في الغار جحر فألقم أبو بكر رجله ذلك الجحر تخوّفاً أن يخرج منه دابّة أو شيء يؤذي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفي لفظ : لمّا دخل الغار سدّد تلك الأجحرة كلّها وبقي منها جحر واحد ،

__________________

(١) الرياض النضرة : ١ / ٩٣.

(٢) المستدرك على الصحيحين : ٣ / ٧ ح ٤٢٦٨.

٦٤

فألقمه كعبه فجعلت الأفاعي تنهشه ودموعه تسيل ، تاريخ ابن كثير (١) (٣ / ١٨٠) فقال : في هذا السياق غرابة ونكارة.

وزاد عليه الحلبي في السيرة : قد كان صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وضع رأسه في حجر أبي بكر رضي الله تعالى عنه ونام فسقطت دموع أبي بكر رضي الله تعالى عنه على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : مالك يا أبا بكر؟ قال : لُدِغت فداك أبي وأُمّي ، فتفل رسول الله على محلّ اللدغة فذهب ما يجده.

وقال : زاد في رواية : وأنّه رأى على أبي بكر أثر الورم فسأل عنه فقال : من لدغة الحية ، فقال : هلاّ أخبرتني؟ قال : كرهت أن أوقظك ، فمسحه النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فذهب ما به من الورم والألم.

وقال : قال بعضهم : والسرّ في اتخاذ رافضة العجم اللباد المقصّص على رءوسهم تعظيماً للحيّة التي لدغت أبا بكر في الغار ، لأنّهم يزعمون أنّ ذلك على صورة تلك الحيّة.

السيرة الحلبيّة (٢) (٢ / ٣٩ ، ٤٠) ، السيرة النبويّة لزيني دحلان هامش الحلبيّة (٣) (١ / ٣٤٢).

قال الأميني : للباحث حقّ النظر في هذه الرواية من عدّة نواحٍ :

أوّلاً : من حيث رجال السند ولا إسناد لها منذ يوم وضعت ، ولا تروى في كتب السلف والخلف إلاّ مرسلة إمّا من الطرفين كرواية ابن هشام ، وإمّا من طرف واحد كإسناد الحاكم وأبي نعيم ، ومن الغريب جدّا أنّ القضيّة مشتركة بين اثنين ليس إلاّ ،

__________________

(١) البداية والنهاية : ٣ / ٢٢٠ ـ ٢٢١.

(٢) السيرة الحلبية : ٢ / ٣٥.

(٣) السيرة النبويّة : ١ / ١٦٣.

٦٥

وهما : رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبو بكر ، وروايتها بطبع الحال تنحصر بهما غير أنّها لم تنقل عنهما ولم يوجد لهما ذكر في أيّ سند ، والدواعي في مثلها متوفّرة لأن يذكر مع الأبد ، وتتداولها الألسن ، إذ فيها من أعلام النبوّة ، وكرامة مع ذلك لأبي بكر.

وإسناد أبي نعيم المذكور لا يعوّل عليه لمكان عبد الله بن محمد بن جعفر ، قال ابن يونس : خلط في الآخر ، ووضع أحاديث على متون معروفة ، وزاد في نسخ مشهورة فافتضح وحرقت الكتب في وجهه.

وقال الحاكم عن الدارقطني : كذّاب ألّف كتاب سنن الشافعي وفيها نحو مائتي حديث لم يحدّث بها الشافعي.

وقال الدارقطني : وضع في نسخة عمرو بن الحارث أكثر من مائة حديث.

وقال عليّ بن رزيق : كان إذا حدّث يقول لأبي جعفر بن البرقي في حديث بعد حديث : كتبت هذا عن أحد؟ فكان يقول : نعم عن فلان وفلان. فاتّهمه الناس بأنّه يفتعل الأحاديث ، ويدّعيها ابن البرقي كعادته في الكذب. قال : وكان يصحّف أسماء الشيوخ (١).

على أنّ عبد الله بن محمد توفي سنة (٣١٥) كما في لسان الميزان فلا تتمّ رواية أبي نعيم عنه وهو من مواليد (٣٣٦).

وفيه : محمد بن العباس بن أيّوب الحافظ الشهير بابن الأخرم ، قال أبو نعيم نفسه : اختلط قبل موته بسنة ، كما في لسان الميزان (٢) (٥ / ٢١٦) ، ولمّا لم يُعلم تاريخ صدور الرواية منه أهو قبل الاختلاط أم بعده؟ ـ إن لم تعدّ الرواية من بيّنات اختلاطه ـ سقطت عن الاعتبار كما هو الشأن في رواية كلّ من اختلط. عن :

__________________

(١) لسان الميزان : ٣ / ٣٤٥ [٣ / ٤٢٥ رقم ٤٧٧٢]. (المؤلف)

(٢) لسان الميزان : ٥ / ٢٤٤ رقم ٧٥٣٩.

٦٦

أحمد بن محمد بن حبيب المؤدّب ، أحسبه السرخسي ، أخرج الخطيب في تاريخه (٥ / ١٤٠) حديثاً من طريقه فقال : رجاله كلهم ثقات معروفون بالثقة إلاّ المؤدّب. عن :

أبي معاوية محمد بن خازم ، مرجئ مدلّس رئيس المرجئة بالكوفة كما في تهذيب التهذيب (١) (٩ / ١٣٩). عن :

هلال بن عبد الرحمن ، قال العقيلي (٢) : منكر الحديث ، وقال بعد ما ذكر له أحاديث : كلّ هذه مناكير لا أُصول لها ولا يتابع عليها. وقال الذهبي (٣) : الضعف على أحاديثه لائح فليترك. لسان الميزان (٤) (٦ / ٢٠٢). عن :

عطاء بن أبي ميمونة ، ثقة صالح قدريّ لا يحتجّ بحديثه. راجع تهذيب التهذيب (٥) (٧ / ٢١٥).

ولمّا لم يصحّ شيء من أسانيد الرواية ومتونها لم يوعز إليها السيوطي في الخصائص الكبرى في باب ما وقع في الهجرة النبويّة من الآيات والمعجزات ، وقد ذكر فيه أحاديث ضعيفة مع النصّ على ضعفها ، فكأنّه عرف بأنّ ذكر هذه الرواية تمسّ كرامة المؤلّف وتحطّ مكانة تأليفه عن الأنظار ، وهكذا لم يذكرها أحد ممّن ألّف في أعلام النبوّة ومعاجز النبيّ الأعظم.

ثانياً : إنّ الأُصول القديمة في القرون الأولى لا يوجد فيها إلاّ أنّ أبا بكر دخل

__________________

(١) تهذيب التهذيب : ٩ / ١٢١.

(٢) الضعفاء الكبير : ٤ / ٣٥٠ رقم ١٩٥٦.

(٣) ميزان الاعتدال : ٤ / ٣١٥ رقم ٩٢٧٣.

(٤) لسان الميزان : ٦ / ٢٤٣ رقم ٨٩٥٥.

(٥) تهذيب التهذيب : ٧ / ١٩٢.

٦٧

الغار قبل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لينظر أفيه سبع أو حيّة كما في سيرة ابن هشام (١) ، ولم يصحّ عند الحاكم من القصّة إلاّ هذا المقدار كما سمعت ، ولو صحّ شيء زائد على هذا لما فاتته روايته ولو مرسلة.

وزيدت في القرن الرابع قصّة الثوب وبقاء جحر واتّكاء أبي بكر عليه بعقبه ودعاء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم له لاتّقائه عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثوبه عن لدغ الحشرات المزعومة.

وجدّدت النغمات في قرن المحبّ الطبري المتخصّص الفنّان في رواية الموضوعات وجمع شتاتها ، فجاء في روايته ما سمعت ، غير أنّ ألفاظه مع وجازته مضطربة جدّا لا يلتئم شيء منها مع الآخر.

ثمّ جاء الحلبي فنوّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ورأسه في حجر أبي بكر ، وسقى وجه رسوله الكريم بدموع أبي بكر المتساقطة من الألم ، كلّ هذه لم يبرّد كبد الحلبي وما شفى غليله ، فوجّه قوارصه على الرافضة وألبس رءوسهم لباداً مقصّصاً على صورة تلك الحيّة الموهومة التي لم يُذعن رافضيّ قطّ بوجودها.

ثمّ لمّا أدخل أبو بكر رجله إلى فخذه في الجحر ونزل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجده قاعداً لا يتحرّك ، ورام أن ينام ، ووضع رأسه الشريف في حجره ، هلاّ سأل صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم صاحبه عن حالته العجيبة وجلوسه المستغرب الذي لا يقوم عنه؟ وهل يمكن له أن يستر على صاحبه كلّ ما فعل وهو معه ينظر إليه من كَثب؟

وأيّ لديغ هذا؟! وأيّ تصبّر وتجلّد؟! وأيّ منظر مهول؟! رجل الرجل في الجحر إلى فخذه ولا ثوب عليه ، ورأس النبيّ العظيم في حجره ، والأفاعي والحيّات تلدغه وتلسعه من هنا وهنا ، لا اللديغ يتململ تململ السليم ، حتى يحرّك رجله أو عقبه فتجد تلكم الحشرات مسرحاً فتبعد عنه ، ولا يئنّ ولا يحنّ ولا تُسمع له زفرة ،

__________________

(١) السيرة النبوية : ٢ / ١٣٠.

٦٨

وإنّ الدموع تتحادر حتى يستيقظ النبيّ الذي تنام عينه ولا ينام قلبه (١) فينجي صاحبه الذي اختاره لصحبته من لسعة الحيّات والأفاعي.

وهل من العدل والعقل والمنطق أن يحفظ الله نبيّه عن كلّ هاتيك النوازل؟ ويري له في الدرء عنه آية بعد آية في سويعات ؛ من ستره عن أعين مشركي قريش لمّا مرّ بهم من بين أيديهم ، وإنباته شجرةً في وجهه تستره بها ، وإيقاعه حمامتين وحشيّتين بفم الغار ، ونسج العناكيب باب الغار بأمر منه تعالى شأنه (٢) ، ويدع صاحبه الذي اتّخذه بأمره ، وتفانى في حبّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعرّض نفسه للمهالك دونه بدخوله الغار قبله ، فلم يدفع عنه لدغ الحيّات والأفاعي ، ولا يرحمه في تلك الحالة التي تكسر القلوب ، وتشجي الأفئدة ، وينظر إليه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ويقول له : لا تحزن إنّ الله معنا. والمسكين يبكي وتسيل دموعه.

وهلاّ كان يعلم أبو بكر أنّ الله الذي أمر نبيّه بالهجرة وأدخله الغار يكلؤه عن لدغ الحيات والأفاعي بقدرته كما أعمى عنه عيون البشر الضاري ، وقصّر عن النيل منه مخالب تلك الفئة الجاهلة؟

وهلاّ كان يؤمن بأنّ صاحبه المفدّى لو اطّلع على حاله لينجيه بمسحة مسيحيّة أو بدعوة مستجابة ، فكلّ ما حُكي عنه لما ذا؟

نعم ؛ أعمى الحبّ مختلق الرواية وأصمّه فجاء بالتافهات غلوّا في الفضائل.

__________________

(١) أخرج الشيخان في الصحيحين [صحيح البخاري : ١ / ٣٨٥ ح ١٠٩٦ ، صحيح مسلم : ٢ / ١٧٤ ح ١٢٥ كتاب صلاة المسافرين] مرفوعاً : «إنّ عينيّ تنامان ولا ينام قلبي» ، وأخرجا أيضاً [صحيح البخاري : ٣ / ١٣٠٨ ح ٣٣٧٧ ، صحيح مسلم : ٢ / ١٩٧ ح ١٨٦ بلفظ : أن النبيّ ٦ تنام عيناه ولا ينام قلبه] مرفوعاً : «إن الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم». (المؤلف)

(٢) طبقات ابن سعد : ١ / ٢١٣ [١ / ٢٢٩] ، الخصائص الكبرى : ١ / ١٨٥ ، ١٨٦ [١ / ٣٠٦]. المؤلف)

٦٩

ـ ٦٨ ـ

الشيطان لا يتمثّل بأبي بكرِ

أخرج الخطيب البغدادي في تاريخه (٨ / ٣٣٤) عن محمد بن الحسين قطيط أبي الفتح الشيباني الذي ترجمه في تاريخه ولم يذكره بثقة. عن :

٢ ـ خلف بن عامر الضرير ، قال الذهبي في ميزانه (١) : فيه جهالة ، قال ابن الجوزي (٢) : روى حديثاً منكراً ـ يعني هذا الحديث ـ (٣). عن :

٣ ـ محمد بن إسحاق بن مهران أبي بكر الشافعي قال الخطيب في تاريخه (١ / ٢٥٨) : حديثه كثير المناكير. وحسبك في عرفان حاله حديثه الذي أخرجه الخطيب في ترجمته مرفوعاً : إذا رأيتم معاوية يخطب على منبري فاقبلوه فإنّه أمين مأمون. فراوٍ يكون هذا حديثه لا يرتاب في كذبه ووضعه. عن :

٤ ـ أحمد بن عبيد بن ناصح النحوي ذكره ياقوت في المعجم (٣ / ٢٢٨) وقال : قالوا : كان ضعيفاً فيما يرويه. قال ابن عدي الحافظ (٤) : يحدّث عن الأصمعي والقرقساني بمناكير ، وقال أبو أحمد الحافظ : لا يتابع على جلّ حديثه.

وحكى ابن حجر في تهذيب التهذيب (٥) (١ / ٦٠) كلمة ابن عديّ وأبي أحمد وزاد عليها : قال الحاكم أبو عبد الله : سكت مشايخنا عن الرواية عنه ، وقال ابن حبّان (٦)

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ١ / ٦٦١ رقم ٢٥٤١.

(٢) كتاب الضعفاء والمتروكين : ١ / ٢٥٥ رقم ١١١٨.

(٣) لسان الميزان : ٢ / ٤٠٣ [٢ / ٤٩٢ رقم ٣١٧٧]. (المؤلف)

(٤) الكامل في ضعفاء الرجال : ١ / ١٨٨ رقم ٢٦.

(٥) تهذيب التهذيب : ١ / ٥٢.

(٦) الثقات : ٨ / ٤٣.

٧٠

ربّما خالف ، وقال الذهبي (١) : ليس بعمدة.

وقال السيوطي في بغية الوعاة (٢) (٥ / ١٤٤) : قال ابن عيسى (٣) : يحدّث بمناكير.

عن رجال ثقات عن حذيفة قال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من رآني في المنام فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي ، ومن رأى أبا بكر الصدّيق في المنام فقد رآه فإنّ الشيطان لا يتمثّل به.

قال الأميني : لم يدع القوم خاصّة للأنبياء أماثل البشر إلاّ وقد أشركوا بهم فيها أُناساً ليسوا أمثالهم في العصمة والقداسة والنفسيّات الكريمة والملكات الفاضلة ، أخرج الشيخان (٤) حديث «من رآني في المنام فقد رآني فإنّ الشيطان لا يتمثّل بي» ورواه الحفّاظ من طرق صحيحة لا مغمز لها ، ونصّ السيوطي كما في شرح المناوي (٥) على تواتره ، ورآه أئمّة الفنّ من خاصّة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن فضائله التي تخصّ به ، وفصّلوا القول في بيان أسراره ، وعدّه السيوطي من خصائصه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الخصائص الكبرى (٦) (٢ / ٢٥٨) تحت عنوان ـ باب ومن خصائصه أنّ رؤيته في المنام حقّ ـ ولم أجد أحداً من شرّاح الحديث سلفاً وخلفاً يوعز إلى هذه الموضوعة التي جاء بها الخطيب في القرن الخامس ، فكأنّ الكلّ ضربوا عنها صفحاً وعرفوا أنّها مكذوبة مختلقة ، غير أنّ الخطيب راقه أن يرويها ويسكت عمّا في إسنادها من العلل شأنه في فضائل غير العترة الطاهرة ، وأعجب منه أنّ ابن حجر ذكرها في لسان

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٢ / ٦٦٢ رقم ٥٢٤٠.

(٢) بغية الوعاة : ١ / ٣٣٣ رقم ٦٣٢.

(٣) كذا في الطبعة التي اعتمدها المؤلف ، وفي الطبعة المحققة : عدي ، بدلاً من : عيسى ، وأشار محقّقها في الهامش إلى أن : عيسى ، تصحيف.

(٤) صحيح البخاري : ٦ / ٢٥٦٨ ح ٦٥٩٣ ، صحيح مسلم : ٤ / ٤٥١ ح ١٠ كتاب الرؤيا.

(٥) فيض القدير : ٦ / ١٣٢ ح ٨٦٨٨.

(٦) الخصائص الكبرى : ٢ / ٤٥٢.

٧١

الميزان (١) (٢ / ٤٠٣) في ترجمة خلف بن عامر فقال : روى عن محمد بن إسحاق بن مهران بسند صحيح. وهو الذي ترجم ثلاثة من رجال السند بما سمعت. هكذا تخطّ يد الغلوّ في الفضائل الجانية على ودائع العلم والدين (فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ) (٢).

ـ ٦٩ ـ

أبو بكر لم يسؤ النبيّ قطّ

أخرج الخلعي وابن مندة وغيرهما من طريق سهل بن مالك قال : لمّا قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من حجّة الوداع صعد المنبر فقال : أيّها الناس إنّ أبا بكر لم يسؤني قط فاعرفوا له ذلك (٣).

قال ابن منده : غريب لا نعرفه إلاّ من وجه خالد بن عمرو الأموي. وقال ابن حجر بعد نقله : قلت : خالد بن عمرو متروك واهي الحديث. إلى أن قال نقلاً عن أبي عمر : ومدار حديثه (٤) على خالد بن عمرو وهو متروك ، وإسناد حديثه مجهولون ضعفاء يدور على سهل بن يوسف أو مالك بن يوسف (٥).

وقال ابن حجر في تهذيب التهذيب (٦) (٣ / ١٠٩) في ترجمة خالد بن عمرو : قال أحمد (٧) : منكر الحديث ، ليس بثقة يروي أحاديث بواطيل ، وعن يحيى بن

__________________

(١) لسان الميزان : ٢ / ٤٩٢ رقم ٣١٧٧.

(٢) البقرة : ٧٩.

(٣) الرياض النضرة : ١ / ١٢٧ [١ / ١٦٠] ، الإصابة : ٢ / ٩٠ [رقم ٣٥٥٢]. (المؤلف)

(٤) يعني حديث سهل. (المؤلف)

(٥) الإصابة ٢ / ٩٠ [رقم ٣٥٥٢]. (المؤلف)

(٦) تهذيب التهذيب : ٣ / ٩٤.

(٧) العلل ومعرفة الرجال : ٣ / ٢٥٤ رقم ٥١٢٢.

٧٢

معين (١) قال : ليس حديثه بشيء ، كان كذّاباً يكذب ، حدّث عن شعبة أحاديث موضوعة. وقال البخاري (٢) والساجي وأبو زرعة : منكر الحديث. وقال أبو حاتم (٣) : متروك الحديث ضعيف. وقال أبو داود : ليس بشيء. وقال النسائي (٤) : ليس بثقة. وقال صالح بن محمد البغدادي : كان يضع الحديث. وقال ابن حبّان (٥) : كان يتفرّد عن الثقات بالموضوعات لا يحلّ الاحتجاج بخبره. وقال ابن عدي (٦) : روى عن الليث وغيره أحاديث مناكير وأورد له أحاديث من روايته عن الليث عن يزيد. ثمّ قال : وهذه الأحاديث كلّها باطلة ، وعندي أنّه وضعها على الليث ، ونسخة الليث عن يزيد عندنا ليس فيها من هذا شيء.

وله غير ما ذكرت وعامّتها أو كلّها موضوعة ، وهو بيّن الأمر من الضعفاء. وعن أحمد بن حنبل أنّه قال : أحاديثه موضوعة. إلى آخره.

قال الأميني : اقرأ ثمّ انظر إلى أمانة الحافظ المحبّ الطبري يروي هذه الأكذوبة محذوفة الإسناد مرسِلاً إيّاها إرسال المسلّم ويعدّها من فضائل أبي بكر ، وتبعه في جنايته هذه غير واحد من المؤلّفين ، (وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً) (٧) (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ) (٨).

__________________

(١) التاريخ : ٣ / ٥١٨ رقم ٢٥٣٦ ، معرفة الرجال : ١ / ٦٠ رقم ٨٥.

(٢) التاريخ الكبير : ٣ / ١٦٤ رقم ٥٦٣.

(٣) الجرح والتعديل : ٣ / ٣٤٣ رقم ١٥٥١.

(٤) كتاب الضعفاء والمتروكين : ص ٩٥ رقم ١٧٤.

(٥) كتاب المجروحين : ١ / ٢٨٣.

(٦) الكامل في ضعفاء الرجال : ٣ / ٣١ رقم ٥٩٣.

(٧) الكهف : ١٠٤.

(٨) المجادلة : ١٨.

٧٣

ـ ٧٠ ـ

الآيات النازلة في أبي بكر

قال العبيدي المالكي في عمدة التحقيق (١) (ص ١٣٤) عن الشيخ زين العابدين البكري : لمّا قرأت عليه قصيدة جدّه محمد البكري ومنها :

لئن كان مدح الأوّلين صحائفاً

فإنّا لآيات الكتاب فواتحُ

قال : المراد بأوّل الكتاب : (الم ذلِكَ الْكِتابُ) فالألف أبو بكر ، واللام لله ، والميم محمد.

وذكر البغوي (٢) أنّ المراد من قوله تعالى (وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ) (٣) هو أبو بكر.

وذكر أهل التفسير في قوله تعالى : (وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ) (٤) أنّه الصدّيق. قال الشيخ محمد زين العابدين : كان للصدّيق ثلاثمائة كرسي وستون كرسيّا على كلّ كرسي حلّة بألف دينار.

قال الأميني : هاهنا نُنهي البحث عن فضائل أبي بكر ، ولا يسعنا الولوج في الكلام حول الآيات التي تقوّل القوم نزولها فيه ، وقد حرّفوا آياً كثيرة ، وقالوا في كتاب الله ما سوّلت لهم الميول والشهوات ، وراقهم الغلوّ في الفضائل لدة ما سمعت من المخازي ، كما لا نفيض القول في الغلوّ الفاحش فيه بالقريض مثل قول الشاعر العلاّمة

__________________

(١) عمدة التحقيق : ص ٢٢٨.

(٢) تفسير البغوي : ٣ / ٤٩٢.

(٣) لقمان : ١٥.

(٤) النور : ٢٢.

٧٤

الملاّ حسن أفندي البزّار الموصلي في ديوانه (ص ٤٢):

إنَّ قدرَ الصدِّيقِ جلَّ فأضحى

كلُّ مدحٍ مقصّراً عن عُلاهُ

ليت شعري ما قيمةُ الشعرِ فيمن

جاء في محكمِ الكتاب ثناهُ

كلُّ من في الوجود يبغي رضا

الله تعالى واللهُ يبغي رضاهُ

وقوله في مدحه أيضاً :

إنَّ ذكرَ الصدِّيقِ ما دارَ إلاّ

ملأَ الكونَ هيبةً ووقارا

صاحبُ الغار كان للسيّدِ

المختارِ واللهِ صاحباً مختارا

تاهَ في ذكره الوجودُ فلو لا

هيبةٌ منه أوقرته لطارا

نعم ؛ لنا حقّ النظر في ثروة أبي بكر التي منحوه إياها ، فكانت من جرّائها له المنن على رسول الله وعلى الدين والمسلمين ، تلك الثروة الطائلة التي هيأت له ألف ألف أوقية ـ كما جاء فيما أخرجه النسائي (١) عن عائشة قالت : فخرت بمال أبي في الجاهليّة وكان ألف ألف أوقية (٢) ـ ونضّدت له ثلاثمائة وستّين كرسيّا في داره ، وأسدلت على كلّ كرسي حلّة بألف دينار ، كما سمعته عن الشيخ محمد زين العابدين البكري ، وأنت تعلم ما يستتبع هذا التجمّل من لوازم وآثار ، وأثاث ورياش ، ومناضد وأواني وفرش ، لا تقصر عنها في القيمة ، وما يلزم من خدم وحشم ، وقصور شاهقة ، وغرف مشيّدة ، وما يلازم هذه البسطة في المال من خيل وركاب وأغنام ومواشي وضيعة وعقار ، إلى غيرها من توابع الجاه والمال.

أنا لا أدري أيّ باحة كانت تقلّ ذلك كلّه؟ ولم يفز بمثلها يومئذٍ أحد من ملوك الدنيا ، وهل كانت الكراسي المذكورة منضّدة في غرفة واحدة؟ فما أكبرها من غرفة!

__________________

(١) ميزان الاعتدال : ٢ / ٣٤١ [٣ / ٣٧٥ رقم ٦٨٢٣] ، تهذيب التهذيب : ٨ / ٣٢٥ [٨ / ٢٩١]. (المؤلف)

(٢) الأوقية : أربعون درهماً. (المؤلف)

٧٥

تضاهي ميادين القتال ، ومفازات البراري ، وما أكبر الدار التي هي إحدى غرفها! وأيّ يوم كان يوم قبول أبي بكر؟ تزدلف إليه فيه الرجال فتجلس على تلكم الكراسي ، ولِمَ لا نسمع من السير والتواريخ عن ذلك اليومِ ركزاً؟ أكان في أفواه الجالسين عليها أوكية عن نقل شيء من حديثه؟ وطبع الحال يقضي أن يكون في ذلك المحتشد العظيم المتكرّر في كلّ أسبوع ، وعلى الأقلّ في كلّ شهر. وأقلّ منه في كلّ سنة ، ولا أقلّ من انعقاده في العمر مرّة ، من الأنباء ما لا يلهو التاريخ عن ذكره ، ولا يستسهل المؤرّخ تركه ، لكنّك بالرغم من ذلك كلّه لا تجد عنه إلاّ همساً يتخافت به العبيدي بعد لأي من عمر الدهر.

ومن أيّ حرفة أو مهنة أو صنعة أو ضياع حصل الرجل على مليون أوقية من النقود؟ وكان يومئذٍ يوم فاقة لقريش ، وكانوا كما وصفتهم الصدِّيقة الطاهرة في خطبتها مخاطبة أبا بكر والقوم معه : «كنتم تشربون الطَّرَق (١) وتقتاتون الورق ، أذلّة خاشعين تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله» (٢).

ولعلّ في ذلك اليوم كان ما رواه الماوردي في أعلام النبوّة (٣) (ص ١٤٦) من طريق مالك بن أنس أنّه بلغه أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دخل المسجد فوجد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فسألهما فقال : ما أخرجكما؟ فقالا : أخرجنا الجوع. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : وأنا أخرجني الجوع فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيّهان فأمر له بحنطة أو شعير عنده يعمل. الحديث.

ثمّ متى أدركت عائشة العهد الجاهلي وقد ولدت بعد المبعث بأربع أو خمس

__________________

(١) الطرق بفتح المهملة : الماء المجتمع الذي خيض فيه وبيل وبعر فكدر. لسان العرب [٨ / ١٥١] (المؤلف)

(٢) بلاغات النساء : ص ١٣ [ص ٢٤] ، أعلام النساء : ٣ / ١٢٠٨ [٤ / ١١٧]. (المؤلف)

(٣) أعلام النبوة : ص ٢٢٠ باب ٢٠.

٧٦

سنين (١)؟ وهل كانت تفخر في دور الإسلام بثروة بائدة في الجاهليّة وصاحبها جائع في الحال الحاضر؟

ولست أدري ما الذي قضى على تلكم الآلاف المؤلّفة؟ وما الذي أفناها وأبادها وأفقر صاحبها؟ حتى أصبح ولا يملك شيئاً ، أو كان لا يملك يوم هجرته إلاّ أربعة أو خمسة أو ستة آلاف من الدراهم ـ إن كان ملكها ـ ولو كان أنفق أيّ أحد عشر معشار ذلك المال لدوّخ العالم صيته ، وكان يومئذٍ يُعدّ في الرعيل الأوّل من أجواد الدنيا ولم يوجد في صحيفة التاريخ ذكر من تلكم الآلاف والكراسي والحلل ، هب أنّ الذهبي قال في حديث عائشة : ألف الثانية باطلة قطعاً فإنّ ذلك لا يتهيّأ لسلطان العصر.

وأقرّ ابن حجر تعقيبه في تهذيب التهذيب (٢) ، فأين قصّة ألف أوقية الصحيحة في صحائف التاريخ؟

وإن صحّت الأحلام ، وصُدّقت هذه القصص الوهميّة ، وكان لأبي بكر ذلك المال الطائل الخيالي لما افتقر أبو قحافة والده لأن يكون أجير عبد الله بن جدعان للنداء على طعامه ، ولم يكن يقتني بتلك الخسّة لماظة من العيش كما قاله الكلبي في المثالب ، وأشار إليه أُميّة بن الصلت في قصيدة يمدح بها ابن جدعان بقوله :

له داعٍ بمكة مشمعلٌ

وآخر فوق دارته ينادي (٣)

__________________

(١) الإصابة : ٤ / ٣٥٩ [رقم ٧٠٤] ، ويستفاد ذلك من صحيح البخاري في باب زواج عائشة [٣ / ١٤١٥ ح ٣٦٨٣] ، وتاريخ ابن عساكر : ١ / ٣٠٤ [٣ / ١٩٧] ، والاستيعاب [القسم الرابع / ١٨٨٢ رقم ٤٠٢٩]. (المؤلف)

(٢) ميزان الاعتدال للذهبي : ٢ / ٣٤١ [٣ / ٣٧٥ رقم ٦٨٢٣] ، تهذيب التهذيب : ٨ / ٣٢٥ [٨ / ٢٩١]. (المؤلف)

(٣) اشمعلّ الرجل : ارتفع وشرف.

٧٧

إلى رُدُحٍ من الشيزى عليها (١)

لبابُ البُرِّ يُلبَكُ بالشهادِ (٢)

قال الكلبي : المشمعل هو : سفيان بن عبد الأسد. وآخر : أبو قحافة ، وفي تعليق مسامرة الأوائل (ص ٨٨) يقال : إنّ الداعي هو أبو قحافة والد الصدّيق.

بل يحقّ على صاحب ألف ألف أوقية ، وثلاثمائة وستّين كرسيّا محلّىً بالديباج أن ينادي على الطعام في دور ضيافته عشرة مثل أبي قحافة ، فضلاً عن أن يكون أجير أُناس آخرين بدراهم زهيدة ، أو بشبع من الطوى.

وإن كان لأبي بكر عندئذٍ ما حسبوه من الثروة أو شطر منها لما احتاج إلى أن يبتاع للهجرة مع صحابة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم راحلتين بثمانمائة درهم (٣) ثمّ قدّم إحداهما لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يقبلها إلاّ بالثمن ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لا أركب بعيراً ليس لي ، قال أبو بكر : فهو لك يا رسول الله بأبي أنت وأُمّي. قال : لا ، ولكن ما الثمن الذي ابتعتها به؟ قال : كذا وكذا قال : قد أخذتها بذلك (٤).

ولم يكن ردّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيّاها إلاّ لضعف حال أبي بكر من ناحية المال ، أو أنّه لم يرقه أن يكون لأحد عليه منّة حتى لا يُفتعل عليه بعد ملاوة من الدهر بقول من افتعل عليه : إنّ أمنّ الناس عليّ في صحبته وماله أبو بكر. كما مرّ في (ص ٣٣) من هذا الجزء.

__________________

(١) الردُح : جمع رداح وهي القصعة. الشيزى : خشب أسود تصنع منه القصاع.

(٢) مثالب الكلبي ، الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني : ٨ / ٤ [٨ / ٣٤٢] ، مسامرة الأوائل : ص ٨٨. (المؤلف)

(٣) طبقات ابن سعد : ١ / ٢١٢ [١ / ٢٢٨] ، تاريخ ابن كثير : ٣ / ١٧٧ ، ١٧٨ [٣ / ٢١٨ ، ٢٢٠]. (المؤلف)

(٤) صحيح البخاري : ٦ / ٤٧ [٣ / ١٤١٩ ح ٣٦٩٢] ، تاريخ الطبري : ٢ / ٢٤٥ [٢ / ٣٧٦] ، سيرة ابن هشام : ٣ / ٩٨ ، ١٠٠ [٢ / ١٣١] ، طبقات ابن سعد : ١ / ٢١٣ [١ / ٢٢٨] ، تاريخ ابن كثير : ٣ / ١٨٤ ، ١٨٨ [٣ / ٢٢٥ ، ٢٣١]. (المؤلف)

٧٨

على أنّ للنظر في رواية الراحلتين مجالاً واسعاً بما رواه ابن الصبّاغ في الفصول المهمّة (١) والحلبي في السيرة (٢) (٢ / ٤٤) من أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمر أسماء بنت أبي بكر أن تأتي عليّا وتخبره بموضعهما ، وتقول له يستأجر لهما دليلاً ويأتي معه بثلاث من الإبل بعد مضيّ ساعة من الليلة الآتية وهي الليلة الرابعة ، فجاءت أسماء إلى عليّ ـ كرّم الله وجهه ـ فأخبرته بذلك ، فاستأجر لهما رجلاً يقال له الأُريقط بن عبد الله الليثي ، وأرسل معه بثلاث من الإبل ، فجاء بهنّ إلى أسفل الجبل ليلاً ، فلمّا سمع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رغاء الإبل نزل من الغار هو وأبو بكر فعرفاه.

وفيه صراحة بأنّه لم تكن هناك راحلتان لأبي بكر معبّأتان لركوبهما ، وإنّما جيء بالرواحل مستأجرة ، وقد جمع الحلبي بين هذا وبين حديث الراحلتين بأنّ المراد باستئجار عليّ رضى الله عنه إعطاؤه الأجرة. وهذا الجمع يأباه لفظ الحديثين كما ترى.

ولقد روي كما يأتي أنّ الذي استصحبه أبو بكر من المال ـ يوم هاجر من المدينة ـ وهو كلّ ما يملكه أربعة أو خمسة أو ستّة آلاف درهم ، فأين هذا من الألف ألف أُوقية؟ والكراسي المذكورة وحللها المقوّمة بثلاثمائة وستين ألف دينار وما يتبعها؟ وأيّ نسبة بين صاحب تلك الثروة وبين ما لا يملك إلاّ هذه الدراهم المعدودة؟

وأيّ نسبة بينها وبين أيّامه وأيّام أبيه بمكة وبين ما كان يحترف به في المدينة من بيع الأبراد والأقمشة على عنقه وعلى ساعده ، حرفةً ضئيلة يدور بها في الأزقّة والأسواق من دون أن يستقرّ في متجر أو حانوت.

أخرج ابن سعد من طريق عطاء قال : لمّا استخلف أبو بكر أصبح غادياً إلى السوق وعلى رقبته أثواب يتّجر بها فلقيه عمر بن الخطّاب وأبو عبيدة الجرّاح ، فقالا

__________________

(١) الفصول المهمّة : ص ٤٨.

(٢) السيرة الحلبيّة : ٢ / ٤٠.

٧٩

له : أين تريد يا خليفة رسول الله؟ قال : السوق. قالا : تصنع ما ذا وقد وليت أمر المسلمين؟ قال : فمن أين أطعم عيالي؟ قالا له : انطلق حتى نفرض لك شيئاً. فانطلق معهما ففرضوا له كلّ يوم شطر شاة وماكسوه في الرأس والبطن.

وروى من طريق عمير بن إسحاق : إنّ رجلاً رأى على عنق أبي بكر الصدّيق عباءة فقال : ما هذا؟ هاتها أكفيكها. فقال : إليك عنّي لا تغرّني أنت وابن الخطّاب من عيالي.

وفي لفظ آخر لابن سعد أيضاً : إنّ أبا بكر لمّا استخلف راح إلى السوق يحمل أبراداً له وقال : لا تغرّوني من عيالي.

وفي لفظ الحلبي : لمّا بويع أبو بكر بالخلافة أصبح رضى الله عنه على ساعده قماش وهو ذاهب إلى السوق ، فقال له عمر : أين تريد؟ إلى آخره (١).

ثمّ متى كان إنفاقه لثروته الطائلة على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وفي مناجحه ومصالحه ، حتى كان به أمنّ الناس عليه بماله؟ وكيف أنفق ولم يره أحدّ ولا رواه أيّ ابن أُنثى؟ ولِمَ لم يذكر التاريخ مورداً من موارد نفقاته؟ وقد حفظ له تقديم راحلة واحدة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ردّه إيّاها وأخذه ثمنها ، كما حفظ لكلّ من أنفق شيئاً في مهمّات الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغزواته ومصالح الإسلام والمسلمين.

ولم يكن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يحتاجه في شخصيّاته وما يتعلّق بها بمكة قبل الهجرة ، فإنّ عمّه أبا طالب سلام الله عليه كان متكفّلاً لذلك كلّه قبل زواجه بخديجة ، وبعده كان مال خديجة تحت يده وهي في طوعه ، وإنّما وقعت الحاجة بعد الهجرة لتوسّع نطاق الإسلام ، وتمطّط أمره فكان يحتاج إلى تجهيز الجيوش وقيادة العساكر ، وهؤلاء

__________________

(١) راجع طبقات ابن سعد طبع ليدن : ٣ / ١٣٠ ، ١٣١ [٣ / ١٨٤ ، ١٨٥] ، صفة الصفوة لابن الجوزي : ١ / ٩٧ [١ / ٢٥٧] ، السيرة الحلبية : ٢ / ٣٨٨ [٣ / ٣٥٩]. (المؤلف)

٨٠